الباحث: محمد البسفي
تعريف الدستور
– التعريف اللغوي:
“الدستور” كلمة فارسية تعني الدفتر الذي تكتب فيه أسماء الجند، والذي تجمع فيه قوانين الملك، وتطلق أيضاً على الوزير، وهي مركبة من كلمة “دست”؛ بمعنى قاعدة، وكلمة “ور”؛ أي صاحب، وانتقلت إلى العربية من التركية بمعنى (قانون، وإذن)، ثم تطور استعمالها حتى أصبحت تطلق الآن على القانون الأساس في الدولة.
– التعريف الاصطلاحي:
يُعرف “الدستور” بأنه أعلى قانون في الدولة، وهو القانون الأساس الذي يُحدد بناءً عليه جميع الأسس التي ستقوم عليها الدولة، سواء كانت هذه الدولة بسيطة أم تتكون من اتحاد عدد من الدول، وبغض النظر عن نظام الحكم سواء كان ملكياً أم جمهورياً، وبغض النظر أيضاً عن شكل الحكومة إن كانت حكومة رئاسية أم برلمانية، وأهم مهمة له هي أنه ينظم شؤون الدولة العامة، ويفرض سلطته على جميع القوانين فيها، كما أنه ينظم العلاقة بين السلطات المختلفة، كما يضمن جميع الحقوق للجماعات والأفراد، ويفرض ضمانات عديدة على السلطة، ويحدد الواجبات والحقوق للمواطنين، وفي هذا المقال سنذكر معلومات توضح ما هو الدستور..
الأساليب التي ينشأ من خلالها الدستور
أهم الأساليب التي تنشأ بها الدساتير حول العالم؛ فهي كما يلي:
الاستفتاء الدستوري: يقوم الشعب بانتخاب من يمثله ليتولى مهمة وضع القانون الأساس.
الجمعية التأسيسية المنتخبة: تتولى هذه الجمعية صياغة جميع بنود القانون العام للدولة.
أنواع الدستور:
يمكن تصنيف أنواع الدساتير بناءً على عدة معايير، وهي كما يلي:
من حيث التدوين وعدم التدوين، يمكن تقسيمه إلى قسمين وهما: المدون وغير المدون، والمدون هو: الذي يتضمن قواعد وقوانين مكتوبة في وثائق، أما غير المدون فهو: مجموع القواعد العرفية التي يستمر العمل فيها لسنوات عديدة، حتى تصبح بمثابة قانون عام وملزم، ومن أشهر الأمثلة على هذا؛ القانون الذي وضع في العام 1958م، والذي أتاح للنساء بأن يكنّ عضوات في “مجلس اللوردات”.
من حيث المحتوى يُقسم إلى نوعين وهما المرن والجامد، أما بالنسبة للمرن فهو: الذي يحتوي على قوانين يمكن تعديلها عن طريق السلطة التشريعية، ومن أهم أمثلته القانون الإنكليزي، أما الجامد : فيلزم لتعديله إجراءات مشددة، ومن بينها “قانون أستراليا الفيدرالي”.
من حيث الطول فيمكن تقسيمة إلى المطول والمختصر، أما المطول فهو: الذي يتولى مهمة نقاش العديد من المسائل والقضايا التفصيلية، ومن الأمثلة عليها “قانون الاتحاد السوفييتي” الذي وضع في عام 1977م، و”قانون الهند” الذي وضع في عام 1950م، أما المختصر فهو: الذي يناقش الموضوعات المهمة فقط، ومن الأمثلة عليه “قانون الكويت” الذي وضع في عام 1961م.
من حيث المدة الزمنية فيقسم إلى المؤقت والدائم، أما المؤقت فهو: الذي يوضع في الظروف الطارئة، حيث يكون مؤقتاً وطارئاً كأن يوضع لدولة حصلت على استقلالها حديثاً، أما الدائم فهو: يوضع دون أن يكون مقيداً بمدة زمنية معينة، ويمكن تغييره فقط عند الحاجة لتعديل أحد البنود أو إلغائها.
العهد الأعظم (الماغناكارتا) وما تبعه من تطورات دستورية (1215 – 1322م):
يعتبر “العهد الأعظم” أساس الحريات التي يتمتع بها العالم الناطق باللغة الإنكليزية في هذه الأيام، والحق أنه خليق بهذه الشهرة. نعم أنه مقيد ببعض القيود فهو ينص على حقوق النبلاء ورجال الدين أكثر مما ينص على حقوق الشعب كله، ولم تبين فيه الوسائل الكفيلة بتنفيذ ما جاء فيه، ولقد كان “العهد” انتصاراً للإقطاع لا للديمقراطية. كل هذا صحيح؛ ولكنه نص على الحقوق الأساسية وحماها وقرر عدم إطالة حبس إنسان بلا محاكمة كما أقر نظام المحلفين وأعطى البرلمان الناشيء سلطة على المال اتخذتها الأمة فيما بعد سلاحاً لمقاومة الاستبداد وبدّل الملكية المطلقة بملكية دستورية مقيدة.
من “جون” ملك إنكلترا بعناية الله تعالى.. إلى كبار أساقفة، وأساقفة ورؤساء أديرة، وحملة ألقاب: إرل، وبارون.. وجميع رعاياه الأوفياء تحية.. أعلموا أننا بهذا العهد الحاضر نؤكد عنا وعن ورثتنا إلى أبد الدهر:
- أن ستكون كنيسة إنكلترا حرة لا يتعدى على شيء من حقوقها وحرياتها.
- أننا نمنح جميع الأحرار في مملكتنا عنا وعن ورثتنا إلى أبد الدهر جميع الحريات المدونة فيما بعد.
- ألا يفرض بدل خدمة أو معونة.. إلا المجلس العام لمملكتنا.
- لكي يجتمع المجلس العام المختص بتقدير المعونات وبدل الخدمة سنأمر باستدعاء كبار الأساقفة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة وحملة ألقاب إرل، وكبار البارونات في البلاد.. وغيرهم ممن هم تحت رياستنا.
- لن نجيز في المستقبل لكائن من كان أن يأخذ معونة من مستأجريه الأحرار؛ إلا إذا كان ذلك لافتدائه أو تنصيب أبنه الأكبر فارساً أو مرة واحدة لزواج أبنته الكبرى ولن تكون المعونة في هذه الحالة إلا معونة معقولة.
- لن تعرض الشكاوى العادية على محكمتنا بل ينظر فيها في مكان محدد.
- لن يعطى أو يؤخذ بعد الآن شيء نظير أمر يطلبه شخص ببحث حاله.. بل يجب أن يعطى هذا الأمر بغير مقابل، (أي أنه يجب ألا يطول حبس إنسان من غير محاكمة).
- لا يقبض على رجل حر أو يسجن أو ينزع ملكه أو يخرج من حماية القانون أو ينفى أو يؤذى بأي نوع من الإيذاء.. إلا بناء على محاكمة قانونية أمام أقرانه، (أي المساوين له في المدينة)، أو بمقتضى قانون البلاد.
- لن نبيع العدالة أو حقاً من الحقوق لإنسان ما ولن نحرم منها إنسان ما.
- يتمتع جميع التجار بحق الدخول إلى إنكلترا والإقامة فيها والمرور بها براً أو بحراً سالمين مؤمنيّن للشراء والبيع.. دون أن نفرض عليهم ضرائب غير عادلة.
كل العادات والحريات السالفة الذكر.. يجب أن يراعيها أهل مملكتنا كلهم؛ سواء منهم رجال الدين وغير رجال الدين، فيما يخصه نحو أتباعه.
وقعناه بيدنا بحضور الشهود في المرج المعروف باسم “اينميد” في اليوم الخامس عشر من شهر يونيه من السنة السابعة عشر من حكمنا.
الفصل الأول
ظهور الدساتير
تنشأ الدساتير بأساليب مختلفة ومتعددة، وقبل التعرض لأساليب نشأتها يتوجب علينا بحث تاريخ، مكان وأسباب ظهورها والتطور الذي عرفته بفعل تزايد مهام الدولة.
- تاريخ ومكان ظهور أول دستور:
إذا رجعنا لتاريخ العالم الإسلامي نجد أن أول دستور عرف بالمفهوم الفني الحديث في عهد الرسول، (صلى الله عليه وسلم)، ويعرف بـ”الصحيفة”، تلك الوثيقة التي أعدها رسول الإسلام لتنظيم أحوال دولة المدينة بعد أن انتقل إليها من “مكة”.
البعض يرى أن الحركة الدستورية، أو أول بداية لظهور الدستور تعود إلى القرن الثالث عشر، وبالتحديد سنة 1215، عندما منح الملك “جان ستير” الميثاق الأعظم للنبلاء الإنكليز الثائرين عليه. والبعض الآخر يؤكدون بأن تاريخ ظهور الحركة الدستورية الأولى بدأت تظهر معالمها في القرن السابع عشر؛ عندما وضع الجناح المؤيد لـ”كرومويل” في المجلس العسكري دستوراً، وإن كان البرلمان و”كرومويل” ذاته لم يساندا ذلك المشروع؛ فبقي كذلك، بحيث لم يعرض على الشعب، وإن كانت بعض نصوصه اعتمدت فيما بعد لتنظيم السلطة وعادت فيما بعد مصدراً لتنظيم السلطة في “الولايات المتحدة الأميركية”.
أما أول الدساتير المكتوبة ظهرت في المستعمرات البريطانية بـ”أميركا الشمالية” كرد فعل للانفصال عن إنكلترا، فأول دستور عرفه العالم الغربي في ولاية “فرغينيا”؛ دستور “جوان” 1776، وقد سبقه الإعلان للحقوق الذي يعتبر القاعدة الأساسية لأي حكومة في “فرغينيا”، ثم تلى ذلك في عام 1781 صدور دستور “الاتحاد التعاهدي”، وفي عام 1787 صدر الدستور الاتحادي لـ”الولايات المتحدة الأميركية”. فالمثل الأميركي كان سبباً لإقتداء العديد من الدول به كـ”فرنسا” مثلاً، عرفت أول دستور مكتوب عام 1791، وقد سبقها قبل ذلك “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الذي صدقت عليه “الجمعية الوطنية” في أوت 1789. فقد أصبحت الدساتير المكتوبة من خصائص الدول الحديثة، نتيجة لرواج الأفكار الديمقراطية والحركات السياسية التي نادت بمبدأ السيادة الشعبية، وبلورة فكرة العقد الاجتماعي، ومبدأ الفصل بين السلطات.. أمام هذه المزايا العديدة انتقلت فكرة الدساتير المكتوبة إلى العديد من الدول الأوروبية، فصدر دستور “السويد” سنة 1809، و”النرويج” و”بلجيكا” سنة 1831، وعلى إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية للحد من التعسف في استعمال السلطة، فصدر دستور “روسيا” يوم 10 تموز/يوليو 1918، فدستور “تركيا” 1924، ودستور “النمسا” 1 تشرين أول/أكتوبر 1920.
- أسباب ودوافع وضع الدساتير:
إن انهيار الحكم الملكي المطلق بعد الثورات الأوربية وسيطرة البرجوازية على السلطة، إلى جانب ظهور فكرة القومية وانحسار الاستعمار، كانت من الأسباب والدوافع الرئيسة في دسترة أنظمة الحكم، وكان غرض شعوب تلك الأنظمة إثبات سيادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظيم الحياة السياسية بوضع دستور يبين السلطات وعلاقاتها في الدولة الجديدة وعلاقاتها بالمحكومين والدول الأخرى. وأن هذه الدول بوضع الدستور تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة والحرية فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي، ولها الحق في الانضمام للمجتمع الدولي. وكما أشرنا سابقاً على إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية، بحيث حددت اختصاصات الحكام ومدى السلطات التي تحت أيديهم والواجبات المفروضة عليهم حتى لا تتكرر نفس التجربة، (التعسف في استعمال السلطة)، كما أن حركة التحرر، ساهمت بشكل فعال في انتشار هذه الظاهرة، بالأخص إذا علمنا أن أغلب هذه الدول تفتقر إلى رصيد دستوري، كانعدام حياة دستورية سابقة.. أو عدم وجود أعراف سابقة.. كل هذا كان سبباً مباشراً لوضع دستور مكتوب إلى جانب ضرورة إقتناء وتدوين وثيقة دستورية للإنضمام في المجتمع الدولي مثل “غينيا”، قد أعلن عن استقلالها يوم 2 تشرين أول/أكتوبر 1958، وفي ذلك الوقت كانت “الجمعية العامة للأمم المتحدة” منعقدة، ولكي يضمن الرئيس، “سيكوتوري”، الحصول على الموافقة، أصدر دستور في 10 تشرين ثان/نوفمبر 1958، وأعلنت “الأمم المتحدة” عن قبولها كعضو في 12 تشرين ثان/نوفمبر 1958. وفي “الكويت” دستور 1962؛ إذ كانت قد قبلت في “جامعة الدول العربية”، في 30 تموز/يوليو 1961، بمجرد إعلان استقلالها في 19 حزيران/يونيو 1961، فإنها لم تقبل في “الأمم المتحدة” ولم تنضم إلى المجتمع الدولي إلا في 14 آيار/مايو 1963، أي بعد صدور دستورها في 11 تشرين ثان/نوفمبر 1962. وإذا كانت حركة الدساتير المكتوبة قد سادت الدول العربية، إلا أن بعض دول الخليج تفتقر إلى دستور مكتوب، ولا يوجد فيها دستور مدون على نسق الدساتير المعاصرة.
نشأة الدساتير وتطورها التاريخي
لقد عرفت بعض المدنيات القديمة الدساتير؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك دستور “المدينة اليونانية”، وعلى وجه التحديد دستور “آثينا”. وفي مرحلة العصور الوسطى لم يعد هنالك مجال للكلام عن دستور، ولم يعد هناك كلام عن نظم سياسية تعترف بالحقوق والحريات أو تعترف للإنسان بالمساهمة في الحياة السياسية. وساد الجهل الذي شمل سائر مرافق الحياة، وهو ما عرف بـ”عصر الإقطاع”، وكان هذا الواقع، وهو واقع خاص بالدول الأوروبية، تسبب في نهضة فكرية شاملة تلتها نهضة صناعية كبيرة، فظهرت الفلسفات والأفكار السياسية التي نادت بالحقوق والحريات وفصل السلطة عن الأشخاص الذين يمارسونها، ومن هنا بدأت مرحلة تقييد الحكام بوثائق أطلق عليها فيما بعد بـ”الدساتير”، وهي مرحلة يحددها الكثير من الكُتاب في القرن التاسع عشر؛ وفي مراحل تالية لهذه الحقبة الزمنية، أصبحت الشعوب صاحبة السيادة ومصدر السلطة وفق الاتجاهات الفكرية السائدة .
- المبحث الأول
الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير
يمكن تعريف الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير بأنها الأساليب التي لا يستأثر الشعب وحده في وضعها، وإنما الذي يضعها هو الحاكم وحده، (منحة)، أو بالإشتراك مع الأمة أو الشعب، (عقد). وهما أسلوبان تزامنا مع تطور الملكية من ملكية مطلقة إلى ملكية مقيدة.
- أسلوب المنحة:
صدور الدساتير بطريقة المنحة :
صدرت بعض الدساتير بطريقة المنحة، باعتبار الملوك هم أصحاب السيادة، وتحت ضغط الشعوب وخشية نتائج هذه الضغوط تم تسامح الملوك بإصدار الدساتير بهذه الطريقة. وهذه الطريقة لا تقيد الاعتراف بسلطة الشعوب وحقهم في السيادة، وقد صدر الدستور المصري عام 1923 بهذه الطريقة.
يصدر الدستور في شكل منحة إذا تنازل الحاكم بإرادته المنفردة عن بعض سلطاته للشعب، أو أن يحددها ببعض القيود، بواسطة قواعد قانونية يمن بها على شعبه في صورة دستور. والأصل في هذه الدساتير أن الحاكم هو مصدر السلطات، ومنبع الحقوق والحريات، يجمع بين يديه الوظائف والاختصاصات، ومن بينها الاختصاص التأسيسي. غير أن انتشار الأفكار الديمقراطية، ونضج وعي الشعوب بحقوقها، والدعوة إلى الحد من السلطان المطلق، دفع الحكام إلى منح شعوبهم دساتير، تنازلوا بموجبها عن جزء من سيادتهم، ليظهروا بمظهر المتفضلين على شعوبهم، قبل أن تجبرهم الأوضاع على التنازل عن جٌل سيادتهم، وبالتالي يفقدون هيبتهم وكرامتهم.
وهكذا؛ وعلى الرغم من أن الشكل الخارجي للدستور الصادر، بطريق المنحة، يظهر على أنه عمل قانوني صادر بالإرادة المنفردة للحاكم، فإن الدستور لم يكن ليصدر إلا نتيجة لضغط الشعوب على حكامها، ووعيها بحقوقها، وخوف الحاكم من ثورتها وتمردها. ويسجل لنا التاريخ أمثلة كثيرة لدساتير صدرت بطريق المنحة.. ومنها “الدستور الفرنسي” لعام 1814؛ الذي أصدره “لويس الثامن عشر” للأمة الفرنسية، وجدير بالذكر إن معظم دساتير الولايات الألمانية في القرن التاسع عشر صدرت بهذه الطريقة. وكذلك: “الدستور الإيطالي” لعام 1848، و”الدستور الياباني” لعام 1889، و”دستور روسيا” لسنة 1906، و”إمارة موناكو” لعام 1911، وكذلك “الدستور المصري” لعام 1923، و”دستور إثيوبيا” لعام 1931، و”القانون الأساسي لشرقي الأردن” لعام 1926، و”دستور الإمارات العربية المتحدة” لسنة 1971، وكذلك “الدستور القطري” لسنة 1971.
ونتيجة لصدور الدستور، بطريقة المنحة، يثور تساؤل هام، حول قدرة الحاكم الذي منح الدستور هل له الحق في سحبه أو إلغائه ؟.. وللإجابة على هذا السؤال انقسم الفقه إلى اتجاهين:-
* يذهب أولهما إلى قدرة الحاكم على استرداد دستوره، طالما كان هذا الدستور قد صدر بإرادته المنفردة، على شكل منحة، لأن من يملك المنح يملك الاسترداد. يساند هذا الرأي أمثلة حدثت فعلاً، حيث أصدر “شارل العاشر”، ملك فرنسا، قراراً ملكياً عام 1830، بإلغاء دستور عام 1814، تحت حجة أن المنحة أو الهبة في الحقوق العامة تشبه الهبة في الحقوق الخاصة.
* ويذكر ثانيهما ما دام هذا الدستور قد صدر، فلا يحق للحاكم المساس به إلا بالاستناد إلى الطرق القانونية المقررة بالدستور نفسه، حتى التسليم بأن صدور الدستور كان وليداً للإرادة المنفرد للحاكم، وجدير بالإشارة أن الدستور الصادر بطريقة المنحة يدرس على اعتبار أنه مرحلة تاريخية، تمثلت بالانتقال من الملكيات المطلقة إلى الملكيات المقيدة، وقد انقضت وانتهت هذه المرحلة منذ زمن، نتيجة لزوال الحكم الفردي، واستعادة معظم الشعوب لكامل حقوقها في السيادة والسلطة.
- أسلوب العقد أو الاتفاق:
ينشأ الدستور وفق طريقة العقد بناء على اتفاق بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى. أي يصدر الدستور تبعاً لهذه الطريقة بتوافق إرادتي كل من الحاكم والشعب. ويترتب على ذلك ألا يكون بمقدور أي من طرفي العقد الانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو تعديله. وعلى هذا النحو تٌمثل طريقة العقد أسلوباً متقدماً على طريقة المنحة، لأن الشعب يشترك مع الحاكم في وضع الدستور في طريقة “العقد”، بينما ينفرد الحاكم بوضع الدستور في طريقة “المنحة”. وبناء على ذلك؛ يعد أسلوب “العقد” مرحلة انتقال باتجاه الأساليب الديمقراطية. خاصة وأن ظهور هذا الأسلوب -لأول مرة- كان نتيجة لنشوب ثورات، في كل من “إنكلترا” و”فرنسا”. ففي “إنكلترا” ثار الأشراف ضد “الملك جون”، فأجبروه على توقيع “العهد الأعظم” في عام 1215، الذي يعتبر مصدراً أساسياً للحقوق والحريات. وبنفس الطريقة؛ تم وضع وثيقة الحقوق لعام 1689؛ بعد اندلاع ثورة ضد “الملك جيمس الثاني”، حيث اجتمع ممثلون عن الشعب، ووضعوا هذه الوثيقة، التي قيدت سلطات الملك، وكفلت الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وتمت دعوة “الأمير وليم الأورنغي” لتولي العرش، على أساس الالتزام بالقيود الواردة بالوثيقة. وتشكل هاتان الوثيقتان جزءاً هاماً من الدستور الإنكليزي الذي يتكون معظمه من القواعد العرفية.
أما في “فرنسا”؛ فقد صدر أول دستور فيها بطريقة العقد إثر ثورة سنة 1830، ضد “الملك شارل العاشر”، ووضع مشروع دستور جديد من قبل جمعية منتخبة من قبل الشعب، ومن ثم دعوة “الأمير لويس فيليب” لتولي العرش، إذا قبل بالشروط الواردة بالدستور الجديد. وبعد قبول الأمير بهذه الشروط نودي به ملكاً على “فرنسا”.
ويشار كذلك؛ إلى أن جميع الدساتير التي صدرت بطريقة “العقد” كانت من عمل جمعيات منتخبة، والأمثلة على هذا النوع من الدساتير عديدة؛ نذكر منها “الميثاق الأعظم” في إنكلترا سنة 1215، الذي هو جزء من دستور إنكلترا، وكذلك “قانون الحقوق” الصادر سنة 1688 في نفس البلد، ودساتير كل من “اليونان” لسنة 1844، و”رومانيا” لسنة 1864، و”بلغاريا” لسنة 1979، و”القانون الأساسي العراقي” لعام 1925، والدستورين “الكويتي” لسنة 1962، و”البحريني” لسنة 1973. حيث وضعت المجالس التشريعية في هذه الدول الدساتير المذكورة، ثم دعت أمراء أجانب لتولي العرش على أساس الالتزام بأحكامها. وعلى الرغم من أن أسلوب العقد يعد أسلوباً تقدمياً أكثر من أسلوب المنحة، فإنه لا يعد أسلوباً ديمقراطياً خالصاً، لأنه يضع إرادة الحاكم على قدم المساواة مع إرادة الشعب، بينما تفترض الديمقراطية أن يكون الشعب هو صاحب السيادة، لا يشاركه فيها ملك ولا أمير.
- المبحث الثاني
الأساليب الديمقراطية لنشأة الدساتير
يمكن تعريف الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير، بأنها الأساليب التي تستأثر الأمة وحدها في وضعها دون مشاركة الحاكم ملكاً كان أو أميراً أو رئيساً للجمهورية. وبغض النظر عن التفصيلات والإجراءات المتبعة في وضع الدساتير داخل إطار هذا المفهوم الديمقراطي في وضع الدساتير، يمكن جمع هذه الأساليب في أسلوبين رئيسيين؛ هما “الجمعية التأسيسية” وأسلوب “الاستفتاء الشعبي”.
- أسلوب الجمعية التأسيسية:
تعد نشأة الدساتير وفقاً لهذا الأسلوب منطلقة من مبدأ السيادة الشعبية، كما ينظر إليه أيضاً على أنه من الأساليب الديمقراطية لخلق الدساتير، حيث يمثل مرحلة أكثر تقدماً في نضال الشعوب ضد الحاكم المطلق.
ويصدر الدستور، وفقاً لأسلوب “الجمعية التأسيسية”، من مجلس أو جمعية تنتخب بصفة خاصة من الشعب ونيابة عنه، يعهد إليها بمهام وضع وإصدار دستور جديد يصبح واجب النفاذ. ولذا فإن هذه “الجمعية التأسيسية” أو كما يطلق عليها البعض اسم “الجمعية النيابية التأسيسية”؛ هي في الواقع تجمع كل السلطات في الدولة، فهي سلطة تأسيسية تشريعية وتنفيذية. وهذا الأسلوب في وضع الدساتير هو الذي تم إتباعه في وضع معظم الدساتير التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. وكأمثلة تاريخية على أسلوب “الجمعية التأسيسية” نذكر دساتير “الولايات المتحدة الأميركية” عقب استقلالها عن إنكلترا، عام 1776م، كما اتخذته “أميركا” أسلوباً في وضع وإقرار دستورها الاتحادي لعام 1787م، وقد انتشرت هذه الطريقة فيما بعد فاعتمد رجال “الثورة الفرنسية” هذا الأسلوب، من ذلك “دستور فرنسا” لعام 1791م، وعام 1848م، وعام 1875م، وقد انتهج هذه الطريقة كل من “اليابان” عام 1947م، و”الدستور الإيطالي” عام 1947م، و”الدستور التشيكوسلوفاكي” عام 1948م، و”الدستور الروماني” عام 1948م، و”الدستور الهندي” 1949م، و”الدستور السوري” عام 1950، وتعد هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من الطريقتين السابقتين، إذ أن الدستور يقوم بوضعه في هذه الحالة جمعية منتخبة من الشعب.
كما أن هذه الطريقة تحتوي على العديد من المخاطر يمكن تلخيصها كالآتي:
- احتمال انحراف “الجمعية التأسيسية” عن غرضها المنشود، بتفوق السلطة التشريعية على باقي السلطات الأخرى، لكون أغلب الأعضاء فيها تراودهم فكرة الترشح للمرة الثانية.
- الاعتماد على فكرة “الجمعية التأسيسية” يحتمل فيها إستحواذ هذه الأخيرة على جميع الاختصاصات، مما قد يخلق عجزاً وانسداداً أثناء معالجة المشاكل الشائكة وقت الأزمات.
- احتمال رفض الشعب للجمعية التأسيسية بعد إقرارها للدستور، وهذا فعلاً ما حدث في دستور “الجمعية الفرنسية الرابعة” سنة 1946م، مما بدد الطاقات والمجهودات.
- أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري:
ينشأ الدستور، وفقاً لهذا الأسلوب، من خلال الإرادة الشعبية الحرة، إذ يفترض أن يقوم الشعب أو يشترك بنفسه في مباشرة السلطة التأسيسية، في هذه الحالة يصدر الدستور مباشرة من الشعب الذي يوكل الأمر إلى جمعية منتخبة تكون مهمتها وضع مشروع الدستور أو إلى لجنة معينة من قبل الحكومة أو البرلمان إن وجد، ومن أجل أن يكون استفتاء دستوري يجب أن تكوّن أولاً “هيئة” أو “لجنة” تقوم بتحضير مشروع الدستور وعرضه على الشعب لاستفتائه فيه، لأخذ رأي الشعب في مشروع الدستور، ولكن هذا المشروع لا تصبح له قيمة قانونية إلا بعد عرضه على الشعب واستفتائه فيه وموافقته عليه ولكي تحقق تلك الميزة أهدافها يجب أن يكون الشعب واعياً ومدركاً للعمل العظيم الذي يقوم به. ومثال ذلك “الدستور المصري” الصادر سنة 1956، أو “دستور الجمهورية الخامسة” 1958.
طريقة المعاهدات الدولية: بعض الدساتير يمكن أن ترجع في نشأتها إلى معاهدات دولية مثل “الدستور البولندي” لعام 1815، و”الدستور الألماني” لعام 1871، حيث يكون الدستور مستمداً من معاهدة دولية.
الخاتمة
من هذا العرض الموجز لأساليب نشأة الدساتير يمكننا التعليق عليها بالتالي أن نشأة الدساتير قد تتباين وفقاً للظروف التي يوجد فيها كل دستور، وهذا بالتالي يعتمد على النظام السياسي القائم ونوع الحكم السائد في البلاد. ومن ثم فقد مرت عملية نشأة الدساتير بعدة مراحل: المرحلة الأولى كان الملوك ينفردون بالسلطة التأسيسية من الناحية القانونية وهو ما أطلقنا عليه أسلوب المنحة، المرحلة الثانية وهى المرحلة التي تبرز فيها جهود الشعب عن طريق هيئات تعمل باسمه لحمل الملوك على الاعتراف بحق الشعب في المشاركة في السلطة التأسيسية، وهو ما يعرف بأسلوب التعاقد، المرحلة الثالثة وهى مرحلة إنفراد الشعب بالسلطة التأسيسية وهو أسلوب الجمعية التأسيسية، والذي قد أدى إلى ظهور أسلوب الاستفتاء الدستوري، في الحالات التي لا يباشر فيها الشعب بنفسه السلطة التأسيسية ويوكلها إلى هيئة أو لجنة مختصة، تضع مشروع الدستور الذي لا يتحول إلى دستور إلا بعد موافقة الشعب عليه في الاستفتاء العام.