الرافقة (الرقة) حصن عسكري من العصر العباسي الأول
محمد عبد الله العزو
محمد عبد الله العزو
لقد أدرك الخليفة المنصور أنَّ بني “أمية” لم يلحظوا الخطورة في عدم تحصينهم للمدن التي أنشؤوها, وخاصة المدن الواقعة عند منطقة الثغور على الخط الحدودي مع الدولة “البيزنطية”, وهذا كان أحد الحوافز الرئيسة التي دفعته لبناء وإقامة المدن الحصينة، ومن ضمنها مدينة “الرافقة”, “الرقة”, التي شيدها “المنصور” بالقرب من “الرقة البيضاء” على أن تكون رفيقةً لها, والتي جاءت أشبه ما تكون بقلعة حصينة قوية.
لقد جاء تصميم “الرافقة”، “الرقة” على شاكلة مدينة “بغداد” في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وخندقها, لذلك نجد أنَّ “الرافقة” بمخططها شبه الدائري مشاكلة لمدينة “بغداد”, إلاَّ أنَّ الضلع الجنوبي لسور المدينة جاء بشكل مستقيم كونه يشاطئ “الفرات” من جهة الجنوب, ولعدم حصول الدائرية في سور المدينة، واتخاذه لشكل نعل الفرس, فإن ذلك عائد في الأصل لطبيعة وجغرافية الأرض, ووجود النهر بمحاذاة الضلع الجنوبي للسور, وهذا الشكل أقرب الأشكال عامة للشكل الدائري, الذي يحافظ على الشكل العام لتوزيع المباني داخل الدائرة.
وكما أسلفنا سابقاً للرافقة”، “الرقة” سور مزدوج, أي أنه لها سورين, تفصل بينهما مساحة من الأرض بعرض/20.80/ متراً على مسافة امتداد ضلعَي السورين الخارجي والداخلي ابتداءً من الزاوية الجنوبية الشرقية لضلع السور الجنوبي، وحتى الزاوية الجنوبية الغربية للضلع ذاته. لقد أخذ كامل السورَين شكل نعل الفرس, أما الضلع الجنوبي للسور الداخلي فقد أخذ شكلاً مستقيماً وقاعدة لهذا الشكل، وهو يشاطئ “الفرات” من الناحية الجنوبية, وهذا الواقع تطلّب وجود خندق مائي كان يحيط بالسورين من كل الجهات باستثناء الجهة الجنوبية.
حالياً لم يتبقَّ من ضلع السور الجنوبي سوى ستة أبراج تتجه بشكل مستقيم من برج الزاوية الواقع خلف باب “بغداد” غرباً. ويبلغ طول السور الإجمالي /5/كم، يحصر ضمنه مساحة من الأرض تقدَّر بـ/5/ كم2, وتتكئ عليه أبراج كبيرة تقوم على قواعد من الحجر الكلسي، يبلغ محيط كل برج بين /15ـ16/م، وأكبر هذه الأبراج وأهمها، هي تلك التي تقع خلف البوابات الرئيسة, وقد بقي منها برج واحد يقع خلف “باب بغداد” في الزاوية الجنوبية الشرقية. شُيَّدَ السور كاملاً من مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس، ويبلغ أبعاد الواحدة منها /40×20×11/ سم، والبعض منها لها حجم مضاعف, أمّا النواة الطينية فقد لفِّحت بمادة الآجرّ المشوي المعروف بمقاسات /27×10×7/سم.
باب بغداد (باب السبال):
أحد أهم المنشآت المعمارية في الرقة, إنَّ مجمل السور مع أبراجه يرتكز على قاعدة من الحجر الكلسي، وهذه القاعد مكوَّنة من طبقتين من الحجر الكلسي مرصوفة فوق بعضيهما بمقاسات من /60/سم إلى/65/سم, أما مقاسات الحجارة المشكّلة لهذه القاعدة فهي بأطوال /85/سم، و/55/سم عرضاً، و/90/سم ارتفاعاً. إنَّ وقوع هذه القاعدة الكلسية مباشرة على الأرض الحرة والمرتبطة معها بمادة الربط القوية والصلبة, هو الذي منح هذه المنشأة المعمارية هذا الرسوخ، وعدم الانهيار خلال فترة زمنية طويلة تقَّدر بـأقل من:/1400/سنة تقريباً, ويقدّر ارتفاع السور بـ/9/م وعرضه بـ/590/سم عند القاعدة و/580/سم في الأعلى.
بـوابات المدينة: بالقياس إلى مدينة “بغداد” المدوَّرة، كون “الرافقة” بُنيت على شاكلتها، وكلاهما من عهد الخليفة “المنصور”، فإنه لابدّ أن يكون للرافقة “الرقة” ثلاثة أبواب, ويشير ابن “حوقل” في معرض حديثه عن مدينة “المهدية” فيقول: «ولها بابان ليس لهما فيما رأيته عن الأرض شبه ولا نظير غير البابين على سور “الرافقة”، وعلى مثالهما عملا ومثل شكلهما اتُّخذا».
وحول هذين البابين يذكر “ابن شداد”، فيقول: «ولمّا كان سنة/180/هـ خرج الرشيد من بغداد وسار إلى “الرقة” فاتخذها موطناً وبنى سورها، واسمه مكتوب على “باب السبال” من الجانب الشرقي, يذكر فيقول: «أمر بعمارته أمير المؤمنين “هارون الرشيد” أطال الله بقاءه بتولي الفضل بن الربيع مولاه». ويُفهم من قول “ابن شداد” “وبنى سورها”، أنَّ المقصود بذلك تلبيس السور بمادة الآجر، كما هي عادته مع المنشآت المعمارية التي شيَّدها جدّه الخليفة “المنصور”.
ولم يبقَ من بوّابات “الرافقة” سوى أطلال “باب بغداد”، عند الزاوية الجنوبية الشرقية, ولكن في الوقت الحاضر، وبعد إجراء الحفريات الأثرية في هذه المنشأة المعمارية نستطيع إعطاء وصف لهذه البوابة على النحو التالي: شيدت البوابة من مادة الآجرّ الرقّي المعروف بمقاساته /27×10×7/سم مع مادة الجبس. ولهذه البوابة مدخل واحد بقوس مدبّب, وبجواره على اليمين وعلى اليسار يوجد قوسان مجزوءان ومدبّبان على شكل محرابين واسعين لتزيين واجهة البوابة على شكل زخارف هندسية بواسطة الآجرّ “الهزار باف”، وتعني الألف حنية وحنية.
وهذه الزخارف الهندسية تبدو على شكل معينات من الجبس في قسمه العلوي, بينما القسم السفلي له شكل أصم وبدون زخارف, مما أضفى عليه مشهداً بديعاً وجميلاً, واليوم لم يبقَ إلاَّ القوس الذي على يسار البوابة, وفي الجزء العلوي من واجهة البوابة وعلى علوّ ستة أمتار من القوس المدبّب يوجد أحد عشر محراباً جميلاً عليها من الداخل زخارف بالآجرّ والجبس زال منها ثلاثة محاريب, وبقي منها ثمانية فقط, وبمجرد الولوج من البوابة يُشاهد قاعة أبعادها /15×15/م (ولعلها كانت مقبّبة)، لها عقود منفّذة بالآجرّ والجبس.
مازالت آثار هذا العقد تشاهد مع آثار الأعمدة الخشبية في الجزء المتبقي من المنشأة, ويُلاحظ أيضاً بقايا المقرنصات حيث يوجد فوق هذه القاعة طابق ثانٍ تعلوه قبّة مرتفعة, حسب التقاليد المعمارية في كل من “بغداد” و”سامراء”, ويتخلّل السور مجموعة من الطوق “طاقات”، وظيفتها تحقيق حرية الحركة، والاتصال للعسس المرابطين على السورين, وإلى جانب ذلك من كل طاقة من الداخل كان يمتد شارع بشكل مستقيم ويخترق المدينة إلى ساحة مركزية تتوسطها, وكان يوجد داخل الساحة “قصر الإمارة” و”المسجد الجامع”, وكانت هذه الشوارع مكتظة بالدكاكين والحوانيت.
خنـدق المدينة (الرافقة):
كان للمدينة خندق مائي يلفّها من الجهات الثلاثة, الشرقية والشمالية والغربية, أما في الجهة الجنوبية فكان الفرات, وكان الخندق يتقدم السور الخارجي، ويشكل مانعاً مائياً للمدينة, وكان هذا الخندق يُزوَّد بالماء من نهر الفرات عبر قناة جدد حفرها الخليفة “هارون الرشيد” من مكان يبعد عن “الرقة” مسافة /17/كم غرباً “دامان”. وقبل التوسع العمراني العشوائي للمدينة باتجاه الشمال، كنا نشاهد آثار هذه القناة والفرع الذي كان يزوّد الخندق بالماء من القناة. وكانت أرضية الخندق مبلطة بمادة الآجر، من نوع آجر “الرقة”، تبلغ أبعاده/40×40×5/سم، وكانت نهايات القناة من الجهتين الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية مزَّودة بقساطل فخارية لتصريف المياه الزائدة من القناة إلى النهر.
وكان للقناة أو الخندق أبعاد, فعرضه في الأعلى /15،90/م، وعند القاع /9،5/م. وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي كانت القناة موجودة، لكن بعد ذلك رُدمت من قبل مجلس مدينة “الرقة”، وجُعل مكانها شارع معبَّد يطوف المدينة من جهاتها الثلاث, والمساحة القائمة بين الشارع المنشأ والسور نُظِّمَ فيها حديقة خضراء على امتداد كامل السور المتبقي. وبعد أن انتهى المهندس المعماري من بناء السورين التفت إلى بناء ثلاث منشآت معمارية أخرى داخل السور الأول، وهي: المسجد الجامع “مسجد المنصور” و”قصر الإمارة”, لكن هذا القصر دمِّر وأزيل في بداية القرن العشرين, وكان قائماً عند تقاطع شارع “سيف الدولة” مع شارع /23/شباط الحالي. والمنشأة المعمارية الثالثة هي ما يسمى اليوم بـ”قصر البنات”.
قصــر البنات:
إلى الشمال من بوابة “بغداد” الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية من سور المدينة القديمة “الرافقة”، وعلى بعد /500/ م من هذه البوابة, تقع منشأة معمارية كانت حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين الماضي تشكل أطلالاً ظاهرة للعيان فوق سطح الأرض. ويطلق أهل “الرقة” على هذه المنشأة اسم “قصور البنات”، أو “قصر البنات”, ولماَّ لم يتسنَّ لأحد العثور على هذا الاسم في كافة المراجع، والمصادر التاريخية العربية الوسيطة والمتأخرة, فإنه من المفترض بأن تكون هذه التسمية محلية، وليس لها أيُّ أساس وثائقي.
في المصادر التاريخية من العصر الإسلامي لم يُعثر على أي ذكر لوجود قصر داخل أسوار “الرافقة”, لكن “ابن شداد” يتحدث في أيامه عن وجود مدرستين واحدة “شافعية” وأخرى “حنفية” و”بيمارستان” من بناء “نور الدين زنكي”، وتشير المصادر الآنفة الذكر إلى أنَّ “عماد الدين أصفهاني” وزير “قطب الدين مردود” بنى في “الرقة” “خانقاه”. إلاَّ أنَّ “ابن شداد” لا يحدد ما إذا كانت هذه المباني موجودة في “الرقة” القديمة، أم في “الرافقة”, كما أنَّه لا يحدد موقعها أو ما يجاورها. في الأعوام /1977/ و/1982/م, قام الأستاذ “قاسم طوير” الباحث والمنقب الأثري المعروف بحملة عمل منهجية في أعمال الترميم والتنقيب الأثري, حيث ظهرت للعيان منشأة ضخمة لم تتوضح لحينه حدودها من الجهات الجنوبية والشمالية والشرقية.
إنَّ مادة البناء هي الآجرّ المشوي قياس /24×24×5/سم مصنّع من تربة لحقية محلية مجلوبة من نهر “الفرات”, وكانت مادة الربط من مادة الجص الأبيض بسماكة تتراوح بين /1- 3/ سم. ولهذه المنشأة جدران سماكتها /100/سم، أما الجدران الفاصلة فهي تتراوح بين /75-90/سم, ويبدو أنَّ كامل المنشأة كانت مطلية بمادة الجص الأبيض من الداخل والخارج أيضاً بسماكة /2-3/سم, وأنَّ بعض الغرف كانت مدهونة بالدهان الأحمر القرميدي، مع وجود بعض الرسوم الملوّنة فوق مادة الجص الأبيض، والتي ما زالت آثارها مرئية حتى اليوم, كما أنَّ كامل أرضية المنشأة مبلطة بمادة الآجر المشوي قياس /28×28 ×7/ سم, كما أنَّ بعض الغرف مبلطة بالآجر المشوي لها طبعات محزوزة بالإصبع لأحرف “يونانية”, وهذا النوع من الآجر مأخوذ من أطلال مبانٍ سابقة على الفتح الإسلامي لمدينة “الرقة”, كما أنَّ مداخل المنشأة مبلطة بألواح حجرية من نوع الصخر “الجمي” البراق المستعمل في بناء مدينة “الرصافة” الأثرية, ولهذه الألواح الحجرية مقاسات مختلفة تبدو من /20×90×70/سم و/50×60×80/سم، وبسماكة من/6ـ7/سم.
ومن خلال دراسة الجدران وطبيعة بنائها, تبيّن أنَّ المياه داخل هذه المنشأة كان يجري تصريفها عبر قساطل فخارية متوضّعة داخل جدران المنشأة بقطر /15/سم، تصب تحت بلاط الأرضيات في مجارٍ مبنية من الآجر بعرض حوالي/60/سم، وعمق يصل إلى /80 و100/ سم, وجميع هذه القساطل تصب في بئر مستدير الشكل بُني بمادة الآجرّ, ولابد أنه مرتبط بشبكة تصريف تقع خارج المنشأة عُثر على عقدتها أثناء التنقيبات الأثرية في عام /2002/م أثناء قيام أمين متحف “الرقة” (محمد العزو) بحفريات أثرية طارئة عند تقاطع شارع /23/ شباط مع سور المدينة, على بعد/100/م شمال شرق “قصر البنات”.