أبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتمحمد العزوملف العدد 60

حركة الصقارة والصقور في براري “الرقة” و”الجزيرة السورية” .

محمد العزو

محمد العزو

محمد العزو
محمد العزو

لسنا ندري اليوم متى بدأ الصيد بواسطة “الصقور”، لكن هناك إشارات أركيولوجية تشير إلى أنّ الأوائل كانوا يعرفون طير “الصقر”، حيث أثبتت التحليلات المخبرية لبقايا عظام الطيور، التي تم العثور عليها في مواقع أثرية هامة على “الفرات” الأوسط مثل، تل “عناب السفينة”، وكذلك تل “الخويرة” شمال مدينة “الرقة”وفي تل” حمو كار” في الجزيرة السورية أنّ بعضها يعود إلى طير “الصقر”، ومع ذلك يبقى هناك تساؤل مفاده؛ ما هي الوسائل والطرق التي كان يستعملها القدماء أثناء موسم الصيد..؟

يرى بعض المختصين في هذا المجال، أنّ قدماء أهل”الصين” برعوا في صيد “الصقور”، وأنّ مقاطعة “سكيانج” الصينية هي الموطن الأصلي لصيد “الصقور”، ومنها انتقل إلى منطقة الشرق الأوسط. كما أنّ “الآشوريين” قديماً، عرفوا الصيد بالصقور أيام حكم ملكهم “سارحون الثاني”، وكان ملوك “آشور” أول من أسس الزينة في احتفالات الصيد إرضاءً لإلههم الشهير “نابو”.

وعرف قدماء أهل” مصر” أيضاً الصيد بالصقور، وكان الإله “حورس” محبباً لهم، وهو طائر من نوع “الصقور. أما في القارة الأوربية ليس هناك من مؤشرات تدل على الصيد بهذا الطائر، إلاّ بعد زوال النفوذ الروماني، لكن اليوم بإمكان الصقّارة، امتلاك أحدث الأجهزة العلمية التي توفر لهم الفرص الطيبة في إرسال واستقبال كافة المعلومات التي يحتاجونها عن أنواع الطيور، وتحركها وهجرتها، كما أنّ الشركات العالمية “الأوربية” و”الأمريكية” ذات الصلة بالموضوع، قد طورت أجهزة المستقبلات، والمرسلات التي يثبتها “الصقارة” بسهولة على ريش ذيل الصقر، وهي لا تؤثر على حركة طيران الصقر إطلاقاً.

في الماضي، وقبل ربع قرن من الآن لم يعرف “الصقارة” مثل هذه الأجهزة العلمية المتطورة في “سورية”، التي تشتهر بطيور “الحررة”، وكل أنواع الصقور التي تهاجر إليها من الجنوب ومن “1 تركيا” وجبال “كردستان” المجاورة. كما تشتهر “الرقة” بصيادي “الحررة” وكافة أنواع الصقور، وشيخ الكار فيهم هو السيد “داود الخاجو” الشيخ العرفي للطائفة “الأرمينية” في “الرقة”..

“الصقر” في اللغة، هو من الطيور الجوارح الذي يُصطاد به، وجمعه “أصقر”، و”صقور”، و”صقار”، و”صقورة”، و”صقارة”، وعن سيبوية: «إنما جاءوا بالهاء في مثل هذا الجمع للتوكيد نحو بعولة، وكل كلمة فيها “ص” بعدها “ق”، ففيها اللغات الثلاث، فيقال: “صقر”، و”زقر” بإبدال “الصاد” “زايا”، و”سقر” بإبدالها “سيناً”، والأنثى “صقرة”، و”زقرة”، و”سقرة”. (تيسير دياب”، “أسرار الصقور).

والصقور عند العرب، تشمل “الصقر”، و”الشاهين”، و”الباز”، و”الباشق”، و”الحر”، و”الزرق”، و”البيدق”، لكن العرب قديماً، أخذوا يفرقون بين هذه الجوارح، وميزوا كل نوع باسم خاص، ومنها “الصقر” الذي هو موضوع هذا البحث. فسموه، “الأجدل” لشدته، و”الأكدر” للونه المائل إلى السواد، و”المضرحي” نسبة لطول جناحيه وكرمه، وبـ”الحر” كونه كريم الأصل، و”القطامي” لهرسه وقطعه اللحم بمنسره، و”الأسفع” لسواده الضارب إلى الحمرة، و”الزهدم”، والهيثم”. وكنى العرب “الصقر” بـ”أبي شجاع”، و”أبي الإصبع”، و”أبي الحمراء”، و”أبي عمران”، و”أبي عوان”.

والصقر بشكل عام جميل الشكل والمنظر ويمثل القوة والرشاقة، وكامل جسمه مغطى بالريش الصغير والكبير، ويتكوّن جسمه من رأس وعنق وجذع وذيل، ورأسه بيضوي الشكل مزوّد بعينين كرويتين سوداوين ومتسعتين، تمكنه من الرؤية على مسافات كبيرة، وهو أقدر على الرؤية من الإنسان بثلاث مرات تقريباً، وعيناه مجهزتان بثلاثة أجفان هي: الجفن العلوي، والجفن السفلي، والغشاء الرامش، الذي يحمي عيون الصقر من الغبار، وللصقر أذنان صغيرتان وخفيتان لكنهما رهيفتا السمع، وله منقار من النوع المسمى بالخطافي القوي جداً، وهناك جدعه الذي يتميز بشكله الانسيابي، ويحمل هذا الجدع قدمين قويتين تتكون الواحدة منها، من فخذ مكسو بالعضلات القوية القابضة، وساق مغطى بجلد حرشفي قوي ومتين، أما الأصابع فعددها أربعة تنتهي بمخالب حادة ومعقوفة، ومجوفة من الداخل، ثلاثة منها متجهة إلى الأمام، وتسمى “الكاشح”، والوسطى، والخنصر، أما الإصبع الرابع فهي متجهة إلى الخلف، وتسمى “الصيادة”، وأخيراً ذيل “الصقر”، فهو مروحي الشكل مكوّن من اثنتي عشر ريشة تسمى “الذنابي”.

تعيش “الصقور” في الطبيعة عيشة انفرادية، وتمارس نشاطها في الصباح الباكر جداً، وما أن تحصل على الفريسة حتى تراها تحط فوق صخرة مرتفعة، وفي المساء تعود الصقور إلى مكان هجوعها، حيث تخلد إلى النوم وهي دافنة رأسها وسط ريشها خلف ظهرها، دون حراك يذكر حتى ظهور خيوط الفجر الأولى.

تتميز الصقور عن غيرها من الجوارح بأنها لا تأكل إلاّ من صيد مخالبها، ولا تصطاد إلاً إذا جاعت، وتمتاز بعزة النفس، وباردة المزاج أكثر من سائر الجوارح، ومن طبعها أنها لا تأوي إلى الأشجار، أو إلى رؤوس الجبال، بل تسكن الكهوف وصدوع الجبال، كما أنها هادئة النفس والطباع، وأكثر أنساً بالناس من غيرها من الجوارح، ولا تقبل الإهانة، وتجمع بين الوداعة والإلفة للإنسان.

تعود الصقور إلى منطقتي “الرقة” و”الجزيرة السورية” في الشهر الرابع، وفي الشهر الخامس من السنة، تبدأ بالتزاوج، ووضع البيض من “ثلاث” إلى “ست بيضات” ، ثم تتناوب الأنثى مع الذكر بالرقاد فوق البيض لمدة أربعة أسابيع، وفي الشهر السادس يفقس البيض على فترات، حيث تخرج الفراخ التي يسميها أهل “الرقة” و” الجزيرة” “جلاعيط” عمياء وعاجزة، وعارية، ماعدا الزغب الناعم، كما أنها تكون واهنة جداً. بعد الفقس يقوم الذكر بجلب الطعام لصغاره، حيث تقوم الأنثى بإطعامهم. بعد النمو والاكتساء تغادر الصغار عشها، وتتهيأ لمرحلة جديدة، هي الاعتماد على النفس، ولهذه الصغار مسميات عند “الصقارة”، فالأول وهو أكبر الفراخ يسمى “نادراً”، و”البكر” بلهجة أهل “الرقة”، والثاني “لزيراً”، والثالث “ثلوثاً”، والرابع “مهجوراً” وهو الأضأل والأقصر بين الصقور.

للصقور ألوان عديدة منها، “الأبيض” مع بعض الألوان الخفيفة مثل، اللون “الذهبي”، أو “الرمادي”، أو” الأسود”، ولكن أجملها وأغلاها؛ هي الصقور البيضاء الموشّاة باللون الذهبي. وهناك “الأشعل”، واللون الرئيسي فيه الأبيض مع الرمادي، أو الذهبي، أو الأحمر. أما الأشقر، فهو بدرجة الأبيض، والأشعل مع درجة أقل بياضاً عند حواف ريش الظهر، وكذلك الأحمر، وهو على ثلاثة أنواع، الأحمر الفاتح، والعادي، والأحمر الصافي، أما الأسود، فيبدو سواده متدرجاً، لكن صدره موشحاً بالسواد الخالص، وآخر الألوان هو “الجرودي” نسبة إلى دقات ريش الظهر ذات الشكل الهندسي البديع.

تقسم مناطق الصيد في منطقة “الرقة” إلى أربعة أقسام على النحو التالي:

  • المنطقة الشمالية، والشمالية الشرقية التي تمتد من الحدود الإدارية للمحافظة في الشرق، ولغاية منطقة “كوباني” المعرّبة إلى “عين العرب” في الغرب، وهي المنطقة الحدودية مع “تركيا”، وأهمها؛ منطقة “تل أبيض” والطريفاوي”، و”طوال العبا” ثم أرض الجزيرة.
  • المنطقة الغربية، وهي منطقة “الجرنية” التي تشاطئ الضفة اليسرى لبحيرة “سد الفرات”.
  • المنطقة الجنوبية، التي تمتد من منطقة “رحوب” في “البادية” حتى الامتداد الشرقي لجبال “البشري”، ومن ظهور “الرصافة” في الجنوب حتى منطقة “أثريا” غرباً.. في الماضي، وقبل أكثر من ربع قرن كانت الصقور تجوب هذه المناطق، وكان “الصقارة” يظهرون فيها بكثرة، لكن بعد قيام الدولة بتنفيذ المشاريع الإنمائية في هذه المناطق، قلَّ فيها تواجد الصقور، لذلك نجد أنّ أغلب “صقارة” محافظة “الرقة” يذهبون إلى الأراضي “التركية” وبرية “الجزيرة الفراتية”(جبل عبد العزيز) التي يكثر فيها تواجد الصقور، وتنطلق رحلات “الصقارة” عادة على شكل مجموعات منظمة، يرأسها شيخ الكار، حاملين معهم كل اللوازم من طعام وخيام وآليات، وخيمة خاصة للصقور.

أما أدوات الصيد، فهي مجموعة من الأدوات الضرورية لكل من يمارس هذه الهواية وهي: “البرقع”، غطاء وجه الصقر، و”السبوق” على شكل خيط متين طوله /3/سم يربط في رجلي الصقر بواسطة قطعتين من الجلد اللين بطول /3/سم. وهناك “المرسل” وهو على شكل خيط متين أطول من “السبوق”، و”التبلاقة” وهي أيضاً قطعة من الجلد أو الحرير يربط طرفها بالمرسل، والطرف الآخر بالوكر. و”الوكر” هو مجثم الصقر. أما “الدس” فهو “الكف” على شكل قفاز من الجلد يلبسه “الصقار” للوقاية، و”التلواح” عبارة عن حزام من ريش طير الحبارى يستعمل لإيهام الصقر، أما “المخلاة”، فهي حقيبة من القماش تعلق على كتف “الصقار” يضع فيها طيور الحمام. وأخيراً “الكتاف”، ويخاط من القماش الأبيض على شكل مستطيل على شكل جيوب تستخدم لوضع كتفي الطائر داخلها.

وبالنسبة لشباك صيد “الصقور” وهي شبكة “الظل” مريعة /70×70/سم توضع قي ظل صخرة، وتغطى بالرمال، فإذا ما لجأ إليها الصقر ليستظل من الحرارة علق بها.

شبكة”الرجم” وهي تشبه الأولى، والشبكة الهوائية، وشبكة “الكوخ”، والشبكة الميكانيكية. وأخيراً “المخداجة” وهي شبكة على شكل سلّة تستخدم لالتقاط الطير ليلاً.

يقول المرحوم “داود الخاجو” طيب الله ثراه عن صيد “الصقور”: (.. إنّ صيد “الصقور” يحتاج إلى خبرة طويلة) ، لذلك ينطلق الصيادون بآلياتهم مع خيوط الفجر الأولى إلى أماكن الصيد المناسبة، وفي حالة أنهم شاهدوا صقراً جاثماً على نشز أو على عامود أو محلقاً في الجو، أطلقوا عليه حمامةً وقد ثُبِّتت على ظهرها شبكة الصيد، وهذه الشبكة مستعملة بشكل واسع لدى صيادي منطقة “الرقة”.. ومن الشباك الأخرى المستعملة في صيد الصقور نستذكر شبكة “اليربوع”، وهي تشبه شبكة مرمى كرة القدم لكنها مائلة إلى الأمام، وهناك طرق أخرى لصيد الصقور، مثل طريقة الصيد بواسطة الغراب الأسود، وهذه الطريقة من أقدم طرق صيد الصقور، ويسميها صيادو منطقة “الرقة” باسم “الكوخ” أو “النوجة”.

للقنص بالطير محطات شعرية شعبية هي وليدة مراحل الولع الشديد، حيث يكون المقناص هو الشيء الوحيد الذي يزيح عن الهواة الهموم ويهوّن عليهم ما بنفوسهم من مشاكل وعناء، وهذا أحد الشعراء يقول:

– لولا القنص بالطير وين المفرا/ والهم ما يجلاه كثر القعادي.

وفي الشعر النبطي ذكر للصيد وللصقور، وقد فضلها الكثير من الشعراء على غيرها من طرق الصيد الأخرى، لما لها من ميزة الربط والجمع التي يسودها نوع من روح الجماعة، والخصال الحميدة، وفي ذلكم قال أحد الشعراء:

– يا طير وظبتك بتدريـب/ أبغي أصاوع بك هدادي

– لي طارن الربد المهاريب/ لي ذايرات من العوادي

وهناك بين “الصقارة” شعراء، ومن شدة ولعهم بالطير “الحر” أو الصقر، وعشقهم لهذه الطيور قالوا في ذلك أشعاراً شعبية جميلة ذات صور في غاية البلاغة، وهذا أحد الشعراء الشعبيين من شدة ولعه بالطير، وعشقه له، يفتخر ويعتز به ليعانق الغيم وراء فريسته، حيث يقول في ذلك:

  • يا عاشق المقتر تحدى المجاهيم/ الفعل خله لشقر اللون صافي
  • إلى قلـب للي تعلت ورى الغيـم/ كنه حول لو مل بعينيه خلافي.

أخيراً وليس آخراً؛ إنّ صيد الصقور والحررة هواية وشغف مارسته الشعوب السورية مند القدم بالإضافة إلى أنه هناك مكسب مادي في حال حالفهم الحظ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى