مصطفى شيخ مسلم
لكل حربٍ نَشَبتْ بين طرفين، سواءً قديماً أو في الوقت الحاضر، جملة من الأسباب
والدوافع التي أدت إليها،كما أنّ لكل صراع أسباب وخلفيات أجَّجَتْ وصعَّدتْ مِنه ليبلغ
مرحلة الحرب، عدا التبعات السياسيةوالاقتصادية التي تتزامن وبداية الحرب، لتطول إلى
ما بعد التعافي من آثار الحرب بعشرات السنين.
غالباً يعيد الكثير من المؤرّخين جذور الكُرْد إلى العرق الآري، ويعتبرونهم أحفاد شعوب
سكنت جبال زاغروس وطوروس والمناطق المحاذية لها، منذ الألف الثالثة قبل الميلاد.
ويرى الباحث والمؤرّخ الكُرْدي محمد أمين زكي (1880 – 1948) في مؤلّفه “خلاصة تاريخ
الكُرْد وكردستان” أن أصول الكُرْد تشكّلت من طبقتين، الأولى سكنت جبال زاغروس
وطوروس وهي: لولو، كوتي، كورتي، جوتي، جودي، كاسي، سوباري، خالدي، هوري، ميتاني. والطبقة الثانية، هي الشعوب
الهندو – أوروبية التي أتت فيما بعد واستقرّت في المنطقة، كالميديين والكاردوخيين، واندمجت بشعوبها ليتشكّل منها فيما
بعد الكُرْد.
كما أتى المؤرّخون اليونانيون على ذكر الكُرْد، بخاصة أثناء الحروب اليونانيّة – الفارسيّة وتقهقر جيش
الإسكندر في جبال زاغروس. ومن ذلك، المؤرّخ اليوناني زينفون (427 – 355) الذي أشار الى شعب
وصفهم “بالمحاربين الأشداء ساكني الجبال”، وسمّاهم بـ”كاردوخ” الذين هاجموا الجيش اليوناني أثناء عبوره
للمنطقة عام 400 قبل الميلاد. كما أتى هيرودوت (484 – 425) على ذكر الكُرْد في مؤلفاته. وجاء
المسعودي (896 – 975) في كتابه “مروج الذهب” على ذكرهم أيضاً. ما يعني أنّهم من أقدم شعوب المنطقة
وليسوا طارئين أو وافدين.
كلمة كردستان (وطن الكُرْد) كمصطلح جغرافي – إداري ذي دلالة قوميّة وديموغرافيّة، لم يبتدعها الكُرْد، بل
جاءت على عهد السلطان سنجار السلجوقي (1118 – 1157) حين فصل القسم الغربي من إقليم الجبال
وجعله ولاية تحت حكم قريبه سليمان شاه وأطلق عليه اسم كردستان. وشملت هذه الولاية الأراضي الممتدة
بين أذربيجان ولورستان (مناطق سناه، دينور، همدان، كرمنشاه.. في إيران) والمناطق الواقعة غرب جبال
زاغروس، كشهرزور وكوي سنجق في كردستان العراق. كما جاء ذكر الكُرْد وكردستان في الوثائق
والمراسلات الرسميّة العثمانيّة أيضا. ومؤسس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال أتاتورك نفسه، وأثناء خدمته
في المناطق الكُرْديّة، كان يشير الى انه في كردستان.
نتيجة مشاريع الصهر القومي التي مارستها الأنظمة المتعاقبة على الحكم في تركيا وإيران والعراق سورية،
وإنكارها وجود القوميّة الكُرْديّة، لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الكُرْد، بشكل علمي ومحايد. وبحسب الموقع
الإلكتروني لمشروع جوشوا للمجموعات الإثنيّة (JOSHUA PROJECT) يصل عدد الكُرْد الى 27,380,000 نسمة، 56% في تركيا، و%16 في إيران، و%15 في العراق، و6% في سورية. بينما يرى
الباحثون والساسة والمثقفون الكُرْد أن عددهم يتجاوز ذلك بكثير، ليصل الى أربعين مليون نسمة، نصفهم في
تركيا. كما يقدّر هؤلاء مساحة كردستان بـ 550000 كيلو متر مربّع، تتوزّع على تركيا وإيران والعراق
وسورية ومساحة صغيرة في منطقة “لاجين” بإقليم ناغورنو كراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان.
وبحسب إحصاء أجرته وزارة الداخليّة التركيّة سنة 2011، بلغ عدد سكّان تركيا 74.724.269، منهم
15,016,000 كردي، ما نسبته 20% من عدد سكّان تركيا، و56% من أجمالي عدد الكُرْد في العالم. لكن
الكُرْد لا يثقون بهذه الإحصائيات كونها صادرة من جهات رسميّة تركيّة، لا تريد إبراز الأرقام الحقيقيّة،
لغايات سياسيّة. ويؤكدون أنّ عددهم في تركيا يتجاوز 20 مليون نسمة، يشكّلون الأكثرية في 21 محافظة من
المحافظات التركيّة التسعين.
والمحافظات ذات الغالبيّة الكُرْديّة، تقع في شرق وجنوب شرق تركيا ويطلق عليها الكُرْد اسم كردستان تركيا،
أو كردستان الشماليّة، اعتماداً على ان اتفاقيّة سايكس – بيكو، قسّمت كردستان الى أربعة أجزاء. والمحافظات
التركيّة ذات الغالبيّة الكُرْديّة هي: أرزنجان، أرضروم، قارص، ملاطية، ديرسم (ـتونجَلي)، آلعزيز (ألازغ)،
جَولك (بينغول)، موش، آغري، باطمان ـ آدييَمان، آمد (ديار بكر) سيرت، بدليس، وان، أورفا، عنتاب،
مرعش، ماردين، جولامريك، (هكّاري)، شرناخ.
كما يوجد عدد كبير من الكُرْد في محافظات سيواس، أنقرة، قونية كايسري، أزمير، ميرسين، اسكندرون. في
حين يقدّر النشطاء الكُرْد عدد القاطنين في إسطنبول من الكُرْد بأربعة ملايين نسمة، بخاصة بعد حملات
التهجير التي قام بها الجيش التركي أثناء صراعه مع الكُرْدستاني.
أسباب المشكلة الكُرْديّة في تركيا
الصراع الكُرْدي – التركي، يمتدّ بجذوره بحسب بعض المؤرخين إلى نهايات الدولة العثمانيّة، بالتزامن مع
انتفاضة عبيد الله النهري عام 1880، ثم تلتها انتفاضات البدرخانيين في جزيرة بوطان في الداخل التركي.
واتّسعتْ الهوّة أكثر فيما بين طرفي الصراع مع ولادة الجمهوريّة التركيّة على يد مصطفى كمال أتاتورك
(1881 – 1938)، وتعمّق واتسع نطاقه أكثر فأكثر مع انطلاقة حزب العمال الكُرْدستاني PKK نهاية عام
ما يعني أن الصراع الكُرْدي – التركي هو الأطول من نوعه ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل في العالم،
وإبَّان حقبة الصراع هذه، عانى كرد تركيا معاناةً مظلمة وقاتمة، قوامها القمع والترهيب والصهر والإنكار،
والتذويب العرقي في بوتقة القوميّة التركيّ بلغت بالكُرْد حد التنصُّل مِن أصلهم ولغتهم وثقافتهم وهويّتهم
القوميّة.
فبعد تقسيم تركة “الرجل المريض” بين الإنكليز والفرنسيين في اتفاقيّة سايكس – بيكو سنة 1916، قلقتْ
النخب التركيّة الحاكمة، من زيادة اضمحلال ما تبقى من الإمبراطورية العثمانيّة أكثر فأكثر. ويشير د. إبراهيم
الداقوقي في كتابه “كُرْد تركيا” إلى أن: تصريح كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا، الذي قال فيه إن “إدارة
العثمانيين سيّئة، ومظالمهم متنوّعة من عصور عديدة، وهم عديمو الكفاءة والأهليّة في إدارة العناصر غير
التركيّة، فيجب ألاّ نترك أمّة ما في إرادتهم”، هذا التصريح، وارتفاع وتيرة النشاطات القوميّة للجمعيّات
الكُرْديّة، أقلق الساسة الأتراك وقتذاك، من أن يؤدّي الى انفصال كردستان عن الإدارة التركيّة.
فأخذت الآلة الإعلامية العثمانيّة تذكّر الكُرْد بالإخاء الإسلامي والوطنيّة العثمانيّة وتعمل بشكلٍ مُنتظم على
تمكين الأواصر الكُرْدية التركية من منطلق ديني وآخر وطني.
ثم سرعان ما بادر الأتراك لتشكيل هيئة وزاريّة لدراسة القضيّة الكُرْديّة، مؤلّفة من شيخ الإسلام حيدري زاده
إبراهيم أفندي، عيوق باشا وزير الأشغال، عوني باشا وزير البحريّة، الأمير علي بدرخان عضو جمعيّة تعالي
كردستان، ومراد بدرخان وعبد القادر أفندي من أعضاء مجلس الأعيان. واتفقت الهيئة على:
1 ــ منح كردستان الاستقلال الذاتي، شريطة قبولهم البقاء تحت المظلة العثمانيّة.
2 ــ اتخاذ التدابير الفعالة لإعلان هذا الاستقلال والشروع في تنفيذ مقتضاه حالاً.
ويضيف الداقوقي: لم ينفّذ الصدر الأعظم فريد باشا مقررات الهيئة. ويشير الى انه “بعد تنصيب مصطفى
كمال رئيساً لمؤتمر (جمعية الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكُرْديّة، تحرّك سريعاً لتعبئة جماهير
شرقي الأناضول للانخراط في حركة التحرير.
فيما راح يقول الباحث الكُرْدي محمد ملا أحمد (1934 – 2009) عن الكاتب الإنكليزي _ الكابتن هـ. س.
آرمسترونغ، من كتابه “الذئب الأغبر.. مصطفى كمال أتاتورك” قوله: “كانت الوعود دائماً في نظر مصطفى
كمال وسيلة لغاية، وسلّماً إلى هدف. لذا اتصل مع زعماء العشائر الكُرْديّة، وحاورهم باسم الوطنيّة والدين.
حتى أنه ارتدى زيّ رجال الدين المسلمين، واتصل بهم وطلب منهم الوقوف في وجه مؤامرات الأرمن،
والأوربيين المسيحيين (الكفار). فجذبهم إليه. وتقوّى بمساعدتهم. وكان الاتحاديون قد جذبوا العديد من
القوميين الكُرْد، من أعضاء النوادي السياسيّة في ديار بكر وماردين وغيرها إليهم. مقابل وعود بإعطائهم
الاستقلال الذاتي، إذا ساعدوهم ضد الحلفاء والأرمن. واستطاع مصطفى كمال إبعاد الكُرْد عن دعم حكومة
إسطنبول وقطع لهم الوعود الكثيرة بإعطائهم الاستقلال، فيما لو ساعدوه في التخلّص من الأعداء. وبيّن للكُرْد
لزوم “إرجاء القضيّة الكُرْديّة إلى أن يطهّر البلاد من الأعداء… قاطعاً لهم الوعود الصريحة باعتراف تركيا
للكُرْد وكردستان بالاستقلال، بمساحة أوسع من التي وردت في معاهدة سيفر.
ووثق الكثير من زعماء الكُرْد بمصطفى كمال، لأنه كان يتكلم باسم الدين والوحدة الوطنية”. لكن، لم تقتنع
بعض الزعامات الكُرْديّة بوعود مصطفى كمال، بخاصّة بعد “رفضه وقادته العسكريين تشكيل الكُرْد فرقة
عسكريّة كرديّة في أرضروم للدفاع عن الولايات الشرقيّة، ورفضهم قيام أية حركة باسم الكُرْد، فانقسم الكُرْد
الى فريقين. الأول: يؤيد التعاون مع مصطفى كمال، وإرجاء مسألة الحقوق القوميّة الكُرْديّة.
والثاني: رفض التعاون معه ودعا للاتصال بدول الائتلاف للحصول على الحقوق القوميّة. وعلى رأسهم
جمعيّة تعالي كردستان وعائلة بدرخان باشا” بحسب ما أورده إبراهيم الداقوقي في كتابه “كُرْد تركيا”.
وشارك الفريق الأول في مؤتمر سيواس المنعقد في 4 الى 12/09/1919 الذي دعا اليه مصطفى كمال مع
وفد لممثلين عن (جمعية الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكُرْديّة، هم؛ مصطفى كمال، رؤوف بيك،
العالم الديني رائف أفندي الكُرْدي، الشيخ فوزي أفندي الكُرْدي، الشيخ سامي بيك.
ثم انتخب مصطفى كمال بمساعدة ومساندة المندوبين الكُرْد رئيساً، مع معارضة آخرين! وانتخب المؤتمر
تسعة أعضاء جدد للهيئة التأسيسيّة، هم الذين وضعوا مبادئ الميثاق الوطني وأيديولوجية الدولة الجديدة
واتجاهاتها السياسيّة والاجتماعيّة. مع اتخاذ العديد من القرارات منها إرجاء القضيّة الكُرْديّة الى ما بعد
التحرير. وتغيير اسم (جمعيّة الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكُرْديّة الى (جمعية الدفاع عن حقوق
الأناضول وبلاد الروم). ومعارضة كافة أشكال الدويلات التي تحاول دول الائتلاف أقامتها. وينقل الداقوقي
عن الباحث الكُرْدي محمد أمين زكي قوله: “عندما انعقد المجلس الوطني التركي في أنقره 1920، كان فيه
72 نائباً يمثلون كردستان، هم الذين تعاونوا مع مصطفى كمال، وأبرقوا الى الحلفاء بأنهم لا يرغبون في
الانفصال عن الأتراك”.
وفي سياق الصراع على السلطة بين حكومة إسطنبول برئاسة الصدر الأعظم الدماد فريد باشا وجماعة
الاتحاد والترقي والخليفة العثماني محمد وحيد الدين (1861 – 1929) من جهة، وحكومة مصطفى كمال في
أنقره من جهة أخرى، حاول كل طرف استمالة الكُرْد الى جانبه. وتجدر الإشارة الى أن حكومة فريد باشا
الأولى هي التي أوفدت مصطفى كمال إلى المناطق الكُرْديّة بمنصب المفتش العام على الجيوش التركيّة،
لاستمالة الكُرْد وإعلان الثورة. بينما أصدرت حكومة فريد باشا الثانية قراراً بإقالته بتهمة العصيان والتمرّد
على السلطان.
معاهدة سيفر
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالميّة الأولى، وفي إطار الحفاظ على السلطة وقطع الطريق على حكومة
مصطفى كمال في أنقرة، وبالتوازي مع مساعي استمالة الأقليّات القوميّة في السلطنة بخاصّة الكُرْد والأرمن،
وكنوع من تبرئة الذمّة من مذابح الأرمن، وقّعت حكومة إسطنبول برئاسة علي رضا باشا يوم 10/08/1920
على معاهدة سيفر والتي نصّت على الاعتراف بأرمينيا، وبالعراق وسورية تحت الانتداب الفرنسي
والبريطاني.
كما نصّت البنود 62، 63، 64 من الفقرة الثالثة على منح المناطق الكُرْديّة الحكم الذاتي، واحتمال حصول
كردستان على الاستقلال، والسماح لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان، طبقاً للبند 62. ونصّت البنود
الثلاث على التالي:
62 ــ تشكل الحكومة لجنة يكون مقرها القسطنطينية – إسطنبول – تتألف من أعضاء ثلاثة تعيّنهم الحكومة
البريطانيّة والفرنسيّة والإيطالية. وعلى هذه اللجنة أن تضع في غضون ستة أشهر من التوقيع على هذه
المعاهدة مشروعاً للحكم الذاتي المحلي للمناطق التي تسكنها غالبيّة كرديّة والواقعة شرق الفرات وجنوب
الحدود الجنوبيّة لأرمينيا، كما ستقرر فيما بعد، وشمال حدود تركيا مع سورية، وبلاد ما بين النهرين.
63 ــ توافق الحكومة العثمانيّة من الآن على قبول وتنفيذ القرارات التي تتخذها الهيئة المقرر تشكيلها في
المادة 62 أعلاه خلال ثلاثة أشهر من تاريخ إخطارها بتنفيذ تلك القرارات.
64 ــ في غضون سنة واحدة من هذا التاريخ، إذا ظهر الشعب الكُرْدي القاطن ضمن المناطق المحددة في
المادة 62، أن اغلبيه سكان تلك المناطق ترغب في الاستقلال عن تركيا، وإذا رأى المجلس (مجلس عصبة
الأمم) أن هؤلاء جديرون بهذا الاستقلال، وإذا أوصى بأن تمنح لهم، فعلى تركيا أن توافق على تنفيذ مثل هذه
التوصية، وان تتنازل عن كل حقوقها وامتيازاتها في تلك المناطق. رفضت حكومة أنقرة هذه المعاهدة،
واعتبرتها إذلالا للسلطنة العثمانيّة وظلماً بحقّها، وتخاذلاً من حكومة إسطنبول والسلطان محمد وحيد الدين،
وان الفريق الحاكم في إسطنبول قد خان الوطن. ففي 30/10/1922 قدّم مصطفى كمال مشروع قرار الى
البرلمان يطالب فيه بإلغاء السلطنة واتهام السلطان بالخيانة العظمى.
ووافق البرلمان على ذلك في 01/11/1922 بفصل السلطنة عن الخلافة وإلغاء الأولى. ونجحت حكومة أنقرة
في إقناع الكُرْد بإرجاء مطالبهم القوميّة، عبر قطع الوعود لهم، كما ذكرنا آنفاً، فأرسل مصطفى كمال وفداً الى
مؤتمر لوزان، برئاسة صديقه عصمت إينونو (1884 _ 1973). وأثناء تواجد الوفد هناك، طلب مصطفى
كمال من النواب الكُرْد في البرلمان، الرد على الاستفسار، الذي وصله من إينونو (كردي الأصل)، في مؤتمر
لوزان، حول رغبة الكُرْد في البقاء ضمن الدولة التركيّة الجديدة. فردّ النائب الكُرْدي عن أرضروم، حسين
عوني بيك، قائلاً: “إن هذه البلاد هي للكُرْد والأتراك. وإن حقّ التحدّث من هذه المنصّة، هو للأُمتَين، الكُرْديّة
والتركيّة”. وأيده النواب الكُرْد في البرلمان. وبموجبه، أعلن إينونو في مؤتمر لوزان، أن “تركيا هي للشعبَين،
التركي والكُرْدي، المتساويَين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قوميّة متساوية”.
وحين وجد المشاركون، أن الكُرْد، لا يريدون الانفصال عن تركيا، وأن الأخيرة وعدت بتلبية مطالبهم
القوميّة، وافقوا على غض النظر عن أي فكرة لاستقلال كردستان، وحذفوا ذكر الكُرْد من وثائق المؤتمر. وتمّ
التوقيع على معاهدة لوزان بين الحلفاء وحكومة أنقرة في 24/07/1923.
ونسفت هذه المعاهدة ما جاء في معاهدة سيفر، عبر تقديم التنازلات المتبادلة بين تركيا والإنكليز والحلفاء فيما
يخصّ المسألة الكُرْديّة. ولم يُذكر في نصّ المعاهدة أي شيء عن استقلال الكُرْد وحقوقهم القوميّة، سوى ما
جاء تلميحاً في المواد 38، 39، 44 من الفصل الثالث. حيث جاء في المادّة 38: تتعهد الحكومة التركيّة بمنح
جمع السكان الحماية التامّة والكاملة، لحياتهم وحريتهم، من دون تمييز في العِرق والقوميّة واللغة والدين.
وفي المادة 39: “لن تصدر أية مضايقات في شأن الممارسة الحرة لكل مواطن تركي لأية لغة كانت، إن كان
ذلك في العلاقات الخاصة أم في العلاقات التجارية، أم في الدين والصحافة، أم في المؤلفات والمطبوعات، من
مختلف الأنواع أم في الاجتماعات العامة.
وتقول المادة 44: إن تعهدات تركيا هذه، هي تعهدات دولية، لا يجوز نقْضها، في أي حال من الأحوال، وإلا
فيكون لكل دولة من الدول الموقعة معاهدة لوزان، والدول المؤلفة منها عصبة الأمم، الحق في الإشراف على
تنفيذ تركيا هذه التعهدات، بدقة، والتدخل ضدها، لحملها على تنفيذ ما تعهدت به أمام العالم. وبعد إعلان
مصطفى كمال – أتاتورك ولادة الجمهوريّة التركيّة في 29/10/1923، وضمانه دعم الغرب، والقوى
العظمى، وتغاضيها عن مذابح الأرمن وحقوق الكُرْد، بدأ أتاتورك التنصّل مما جاء في معاهدة لوزان،
ووعوده للكرد. بدأت مرحلة مريرة ومظلمة في حياة كُرْد تركيا. وكردّة فعل على “خيانة” أتاتورك لوعوده
التي قطعها للكرد، اندلعت انتفاضة الشيخ سعيد بيران، سنة 1925، وساندها الأرمن والشركس والعرب
والأشوريين في مناطق جنوب شرق تركيا.
ومشاركة الأرمن والآشوريين في الانتفاضة، يعني بأنها لم تكن إسلاميّة صرفه، تدعو لعودة دولة الخلافة،
كما يرى البعض. وانتهت هذه الانتفاضة بالسحق واعتقال الشيخ سعيد وإعدامه مع رفاقه في 30/05/1925.
ثم اندلعت انتفاضة جبل آغري، بقيادة الجنرال في الجيش العثماني، إحسان نوري باشا (1893 – 1976)
سنة 1926 واستمرّت لغاية 1930. وأيضاً تمّ سحقها. ثمّ أتت انتفاضة الكُرْد العلويين في محافظة ديرسم،
بقيادة سيد رضا، سنة 1937 – 1938.
وتمّ سحقها عبر استخدام الطيران. وكانت ابنة أتاتورك بالتبنّي، صبيحة غوكتشن (أوّل امرأة تقود طائرة
حربيّة في تركيا والعالم. ويقال إنها من أصول أرمنيّة، بحسب الكاتب التركي الأرمني الراحل هرانت دينك)
هي التي تقصف مدينة ديرسم بالقنابل. وراح في المجازر التي ارتكبت في سحق الانتفاضات الكُرْديّة عشرات
الألوف من الكُرْد، ومئات الألوف من المشرّدين والمهجّرين قسراً.
وهكذا، كانت خاتمة السلطنة العثمانيّة مذابح الأرمن (1915 – 1917)، وكانت بداية العهد الجمهوري –
العلماني، الاتاتوركي، المجازر بحق الكُرْد.
أثناء ذلك، أرسى أتاتورك مبادئ الدولة – الأمّة في تركيا، ارتكازاً على عمليّات الأنكار والصهر والتذويب
لكل الأقليّات القوميّة، وفي مقدّمتها الكُرْد، ضمن بوتقة القوميّة التركيّة. وجرى إنكار كل شيء له علاقة او
يوحي بوجود الكُرْد في تركيا. وتمت تسميتهم بـ “أتراك الجبال”.
وحوربت اللغة والثقافة الكُرْديتين، الى درجة جرى تغيير ألوان إشارات المرور؛ الأخضر والأحمر والأصفر
(ألوان العلم الكُرْدي). وتفاقمت سياسات الصهر والقهر والمنع والقمع والتذويب بحقّ الكُرْد في الانقلابات
العسكريّة الثلاث التي شهدتها تركيا (1960، 1971، 1980) حيث ازدادت الدولة الكمالية (الاتاتوركيّة) في
تشددها وتطرّفها القومي. وفي نهاية السبعينات، وتحديداً 27/11/1978، اجتمعت مجموعة من الشبيبة
الكُرْديّة، بقيادة عبد الله أوجلان (الطالب في كليّة العلوم السياسيّة وقتئذ) في قرية فيس التابعة لمنطقة “لجه”
بمحافظة آمد / ديار بكر، وأعلنت عن تشكيل حزب العمال الكُرْدستاني PKK (الأحرف الثلاث الأولى من
الاسم الكُرْدي للحزب). كان شعار الحزب: تشكيل كردستان المستقلّة الاشتراكيّة الموحّدة. والخطوة الأولى في
هذا المسار هو التمهيد لإعلان الثورة والكفاح المسلّح. وبخصوص أيديولوجيته فكانت خليط من اليساريّة
والقوميّة كردّة فعل على اليسار التركي الذي انشق عنه أوجلان. ذلك أنّ هذا اليسار طالب الكُرْد بإرجاء
مطالبهم إلى حين تحقيق الاشتراكيّة في تركيا. تماماً كما فعل أتاتورك سابقاً، وكما كان يطالب اليساريون
والإسلاميون العرب والفرس من الكُرْد في العراق وسورية وإيران، حتّى الآن.
عقد العمال الكُرْدستاني مؤتمره الثاني سنة 1982 في سورية، واتخذ قرار التمهيد للعمل المسلّح. وقام بأوّل
عمليّة عسكريّة ضدّ الجيش التركي في منطقة أروه التابعة لمحافظة شرناخ في 15/08/1984. وبحلول
2013، يكون قدّ مرّ على الصراع المسلّح بين تركيا والكُرْدستاني 29 سنة، لم يستطع كلا الطرفين حسم
الحرب لصالحه، رغم تفاوت ميزان القوى لصالح تركيا والدعم الإقليمي والدولي الذي حظيت به من الغرب
والناتو وإسرائيل.
مع استلام تورغوت أوزال (1927 – 1993) رئاسة الجمهوريّة في 09/11/1989، بدأت تلوح في الأفق
بوادر إصلاحات في سياسات الدولة تجاه الكُرْد. منها؛ إصدار عفو عن السجناء السياسيين، شمل آلاف الكُرْد،
بينهم قيادات بارزة في الكُرْدستاني (مصطفى قره سو، ساكنة جانسيز، كاني يلماز، محمد شنر…)، ثمّ استبدل
الحظر الكلّي عن التكلّم باللغة الكُرْديّة بحظر جزئي، سنة 1991.
كما أشار أوزال إلى أنه ينحدر من أصول كرديّة. وبموت أوزال المفاجئ والغامض في 17/04/1993، دخل
الصراع الكُرْدي – التركي نفقاً شديد العنف والدمويّة، شمل كلَّ الموالين للحلّ السلمي بين الساسة والعسكر
التركيين.
مفاوضات قديمة – جديدة
حدثت أولى المفاوضات غير المباشرة بين حزب العمال الكُرْدستاني وتركيا عام1993، بوساطة الرئيس
العراقي الراحل وزعيم الاتحاد الوطني الكُرْدستاني جلال طالباني، بتكليف من تورغوت أوزال. حيث أعلن
أوجلان نهاية آذار 1993 وقفاً لإطلاق النار، كبادرة حسن نيّة وتجاوباً مع مبادرة أوزال. وصلت المفاوضات
الى مرحلة الإعلان عنها للرأي العام. ويشير أوجلان في كتبه التي ألّفها في السجن، أنّه كان من المفترض أن
يتصل به أوزال هاتفياً يوم 17/04/1993، للاتفاق على موعد الإعلان عن التفاهم المبرم بين الطرفين،
ولكن، تفاجأ العالم بخبر (وفاة) أوزال في نفس اليوم، تلك المفاوضات باءت بالفشل نتيجة ممانعة مراكز القوى
القوميّة التقليديّة (الدولة الخفيّة في تركيا) لحلّ القضيّة الكُرْديّة سلميّاً.
المفاوضات الثانيّة، غير المباشرة، كانت عام 1997، حين أرسل رئيس الوزراء التركي، وقتئذ، نجم الدين
أربكان، رسائل إلى عبد لله أوجلان، عبر الحركة الإسلاميّة اللبنانيّة. وانتهت هذه المبادرة، حين أطاح العسكر
بأربكان، عبر الانقلاب الأبيض الذي قام به الجيش التركي في نفس العام، وإبعاد أربكان عن الحياة السياسيّة
وحظر حزبه بقرارٍ من المحكمة الدستوريّة العليا.
الجولة الثالثة من المفاوضات كانت مباشرة، بدأت بلقاءات أجرتها السلطات التركيّة مع أوجلان، بعد اختطافه
من العاصمة الكينيّة نيروبي في 15/02/1999 ومحاكمته وسجنه في جزيرة إيمرالي. وذكر أوجلان أكثر من
مرّة أن هذه اللقاءات كانت تتمّ بشكلٍ رسمي، وبعلمٍ وتفويض من حكومة بولند أجاويد (1925 – 2006)
وهيئة الأركان التركيّة، وأن هذه المفاوضات انقطعت فجأة. ثمّ طالب أوجلان مراراً بعودتها، أثناء لقاءاته مع
محاميه، لإيجاد منفرج سلميّ للقضيّة الكُرْديّة. وجرت جولات جديدة من اللقاءات -المفاوضات، على زمن
حكومة حزب العدالة والتنمية. كانت تنقطع وتبدأ من حينٍ إلى حين.
عوائد الحلّ السلمي
الصراع بين الكُرْدستاني وتركيا كان داخل وخارج الأراضي التركيّة، بشكليه السياسي والعسكري. وإذا كانت
تركيا قد نجحت في توجيه ضربات سياسيّة ودبلوماسيّة للكردستاني، وخاصّة على صعيد إدراج الكُرْدستاني
في لائحة المنظمات الإرهابيّة في أمريكا والاتحاد الأوروبي، فإن الكُرْدستاني، استنزف تركيا لثلاثة عقود،
وقادر على استنزافها لثلاثة عقود أخرى، بالنظر الى القوة العسكريّة والجماهيريّة والإعلامية التي ما زال
يمتلكها، ليس في تركيا وحسب وبل في كامل منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. علاوةً على أن الكُرْدستاني
وبالتزامن مع ولادته، حقق نقلة نوعية في التاريخ الكُرْدي كانت بمثابة النهضة على كافة الأصعدة، فلم يكن
كما باقي التيارات الكُرْدية بشكلٍ نمطي كلاسيكي، بل على النقيض من ذلك، جاء العمال الكُرْدستاني بشكلٍ
مغاير لكل ما سبقه من حركات كردية.
وقد حاولت تركيا حثيثاً التبرير لـ”غزو” المناطق الكُرْديّة شمال وشمال شرق سورية، تارةً بحجّة إقامة منطقة
عازلة لحماية المدنيين من بطش النظام السوري، وتارةً أخرى بحجّة حماية حدودها من تواجد عناصر
الكُرْدستاني، أو التنظيمات السياسيّة المواليّة له، بين كُرْد سورية، وهو ما يراه مراقبون بأنه امتداد للصراع
التاريخي بين الكُرْد والترك.
خلال فترة الصراع، قام الكُرْدستاني بطرح العديد من مبادرات السلام، وتخفيض سقف المطالب، لتصل الى
المطالبة بما يشبه الحكم الذاتي في المناطق ذات الغالبيّة الكُرْديّة، والاعتراف بالوجود القومي الكُرْدي في
الدستور التركي. وتحسين وضع أوجلان من السجن الانفرادي المعزول في جزيرة ايمرالي الى الإقامة
الجبريّة، بحيث يمنع عليه الحياة السياسيّة والخروج من تركيا، ولكن يسمح له بالتواصل مع الخارج. هذه
المطالب معقولة ومعتدلة بحسب الكثير من القانونيين والمحللين السياسيين، ويعتبرونها أنها من صلب اتفاقيّة
لوزان التي وقّعت عليها تركيا سنة 1923، وانتهكتها طيلة هذه العقود. سابقاً، كان رئيس الحكومة التركيّة
يبرر تباطؤ أو تلكؤ حكومته في إيجاد حل سلمي للقضيّة؛ بأن “الجيش والقوى النافذة في تركيا هي التي تمانع
وليس هو وحكومته وحزبه”!
المصادر
– مركز العربية للدراسات الاستراتيجية.
– الموقع الإلكتروني لمؤسسة البيت الكُرْدي.
– كتاب “كُرْد تركيا” للدكتور إبراهيم الداقوقي _ دار المدى للثقافة والنشر – 2003
– الموقع الإلكتروني للباحث والسياسي الكُرْدي محمد ملا احمد.
– موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، ص 403، المجلد 3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت
ط 2 سنة 1993.
– صحيفة الحياة اللندنيّة: “كُرْد تركيا بين الحلم المندثر والصحوة الثائرة”. عدد الثلاثاء / ٣ يناير / ٢٠١٢
– أسبوعيّة روداو الكُرْديّة الصادرة في كردستان العراق.. عدد 13/07/2012
– النشرة العربيّة لصحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسيّة.. عدد اكتوبر 2012: تركيا والعمال الكُرْدستاني
– من دولة الكهنة السومريّة نحو الحضارة الديمقراطيّة: عبد الله أوجلان – دار آماردا/ بيروت 2002
– دفاعاً عن شعب: عبد الله أوجلان / منشورات حزب العمال الكُرْدستاني / 2005