احمد داليأبحاث ودراساتمانشيتملف العدد 56

الإيكولوجيا

أحمد دالي

الإيكولوجيا

النشأة والدوافع والمبادئ – القوة القانونية والأخلاقية

أحمد دالي

أحمد دالي
أحمد دالي

من حيث المبدأ لا يمكن اعتبار ولادة أي شيء جديد سواء كان علماً أو فناً أو نظرية أمراً اعتباطياً، ومع أنه صحيح أننا لا نستطيع أن ننكر اكتشاف أشياء كثيرة عن طريق الصدفة، لكن تبقى مسألة قوننة (تقنين) قضية ما شيئاً خاضعاً للدراسة والتمحيص، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بوضع أسس علم جديد أو قانون أو فن أو نظرية علمية وما شابه، والأمر ذاته ينسحب على ظهور علوم كثيرة مثل العلوم القانونية والإدارية والحوكمة على سبيل المثال، وأستشهد بهذه العلوم ليس تمييزاً لها عن غيرها، لكن لأنها وُجدت نتيجة إرهاصات كثيرة سبقت ولادتها ومن ثم تقنينها، بعد أن كانت موجودة قبل ذلك ولكن بصور بدائية وتقليدية أو على الأقل بشكل لا يخضع للتقنين والقوالب العلمية، إلّا أنّ الحاجة دفعت بالمهتمّين والباحثين إلى نقلها من أطرها وسياقاتها القديمة إلى أطوار أكثر حداثة وفاعلية وخدمة وفائدة من ذي قبل.

إن الشيء نفسه ينطبق على الإيكولوجيا، لأن المسائل البيئية والمناخية لم توجد هكذا على غفلة من أمرها، ولم تخرج علينا هكذا بمحض الصدفة والاعتباطية، ولم تولد لأن رجالاً مكثوا في زواياهم العلمية والبحثية، وفكّروا في ابتداع شيء جديد، فقد سبق ظهور الإيكولوجيا كعلم وحاجة أنْ أدرك الإنسان المخاطر التي تحيق بالطبيعة من حوله، وأيقن أن ما يحدث للطبيعة من شرور ومفاسد هو نتيجة أفعال الإنسان نفسه، ولا بدّ أن تلفّه تلك الأخطار يوماً ما إذا لم يتحرك ـ أي الإنسان ـ لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من براثن التلوث الصناعي الذي يسعى جهده لإرضاء جشع الربح وأصحابه.

من هنا جاءت الحاجة الملحّة والضرورية إلى النظر في موضوع البيئة والمناخ والطبيعة على محمل الجدّ، فانطلقت المؤتمرات الدولية التي سبقتها نقاشات ولقاءات كثيرة بهذا الخصوص، وكانت جميعها على دراية ويقين بأهمية الحفاظ على سلامة الكوكب الأزرق من التلوث والدمار، هذا على الأقل من الناحيتين النظرية والأخلاقية، ولكن ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها في حالة من فقدان الثقة، وفي ظروف تحكمها اللا شفافية تجاه درجة القبول التي تحظى أو ستحظى بها مواضيع على هذه الدرجة من الأهمية (البيئة والطبيعة والمناخ والتلوث ووو…) في ظل عالم طغت عليه النزعة المادّية والهيمنة الصناعية والعلاقات التجارية والشهوة الربحية.

فإذاً والصورة هكذا؛ وفي خضمّ كل تلك التعقيدات والمصالح:

ـ هل يمكن أن تستجيب الدول الصناعية الكبرى للمطالب الأخلاقية بخصوص الحفاظ على البيئة نظيفةً؟

ـ هل يمكن أن تتمتع المؤتمرات واللقاءات في هذا الميدان بالقوة القانونية الملزمة؟

ـ وهل تستطيع الدول الصغيرة والنامية أو ما يُعرف بدول العالم الثالث والمجتمعات المستهلِكة، أن تتحمّل نصيبها من الإضرار الحاصل في الطبيعة والبيئة والثروات والموارد في حين أنه لا بدّ لها فيما يحصل، أو على أقلّ تقدير ليست صاحبة الذنب الأكبر؟

ـ وكيف يمكن للمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة أن تتصدى للدول التي تخرق القوانين التي تدعو إلى حماية الكوكب؟

ـ ثم ما قيمة المؤتمرات التي تُعقد بهذا الشأن إذا لم تتحقق الغاية المرجوّة منها في الحدّ من الانبعاثات الغازية، والتقليل من دخان المصانع الكبرى، ووضع حلول سريعة لمشكلة الاحتباس الحراري؟

للخوض في غمار هذا الموضوع لا بدّ لنا في البداية توضيح خطة البحث فيه:

1ـ حول مفهوم الإيكولوجيا: النشأة والدوافع

2ـ الإيكولوجيا العميقة والإيكولوجيا الضحلة

3ـ بعض أنواع الإيكولوجيا (الإيكولوجيا البشرية، الإيكولوجيا الاجتماعية، الإيكولوجيا الحضرية، الإيكولوجيا السياسية)

4ـ المبادئ التي يعتمد عليها الإيكولوجيون

5ـ القوة القانونية والأخلاقية التي يتمتع بها علم الإيكولوجيا

1ـ حول مفهوم الإيكولوجيا: النشأة والدوافع

يُقال: وُجدِتِ البيئة في بداية نشأتها على أسس متوازنة من حيث توزع وتواجد الكائنات الحية على جميع أصنافها وأشكالها، ومن حيث مدى وكيفية تلاؤمها وتكيّفها مع بيئاتها المختلفة، والتفاعلات القائمة بينها، وبالتالي دراسة تدفقات الطاقة والمادة المنتشرة في النظام البيئي. وإذا ما بدأنا من مصطلح الإيكولوجيا فهو مكوّن من مفردتين باللغة اليونانية؛ فكلمة (Oikos) تعني البيئة، وكلمة (Logos) تعني العلم، وقد استُخدم هذا المصطلح المركّب لأول مرة من قبل العالم البيولوجي “أرنست هايكل” في العام 1874.

يدرس علم البيئة بشكل خاص الخلل الناتج في التوازن البيئي بسبب ممارسات الإنسان اللا مسؤولة تجاه الطبيعة والبيئة، تلك الأفعال والتصرفات التي لا تراعي قدرة الطبيعة على تحمّلها، ولا تأخذ في حسبانها أن بيئة الكوكب ليست ملكاً أو حكراً على دول أو مجتمعات دون أخرى، ويركّز علم البيئة على إيجاد السبل التي من الممكن أن تعيد تلك العلاقة التي كانت بريئة ذات يوم بين الإنسان ومحيطه وبيئته، أو على الأقلّ محاولة الحدّ من الغوص أكثر في هدم الطبيعة ودمارها، وذلك بسبب التلوث الناجم عن تقدم العالم الصناعي والمادي والانبعاثات الغازية من جهة، وحرق الغابات وامتداد التصحّر من ناحية ثانية، حتى غدا الإنسان الذي ساهم في تلوث محيطه هو نفسه الضحية التي وقعت في شر أعمالها.

وبعبارات مقتضبة يمكن توصيف الإيكولوجيا وتقديمها على أنها حالة من الانضباط وتنظيم العلاقة بين الإنسان والبيئة، ولكن حتى يتحقق هذا لا بدّ من إعادة النظر في العلاقات المنعقدة والتفاعلات الناتجة بينهما، والأنشطة الصادرة عن الإنسان بشكل خاص، فالإنسان هو المسيطر بل المستعمر لجميع القارات والمحيطات والبحار على وجه الأرض، وهو الذي لم ولن يقف عند حدود معينة، لأنه دائم التطور والتغيّر، فهو الذي يغيّر أنماط الحياة ويخطط المدن ويستثمر الأرض ويستغل الطبيعة إلى أقصى الحدود الممكنة، ولذا فإن علم البيئة يسعى إلى احترام الطبيعية ويهدف إلى حماية الموارد الطبيعية والحياة البرية والبحرية على السواء، ومكافحة التدهور الذي بدأ ينخر في الحياة الإنسانية ولاسيما موضوع التلوّث، كما يمكن إضافة عبارة أخرى جوهرية حول الدراسات الإيكولوجية؛ وهي أن هذه الدراسات تركز على التفاعل بين البشر مع مختلف جوانب البيئة.

وعن موقع الإيكولوجيا في السياسة الدولية ومدى أهمية الفكرة في المحافل الدولية ومنظماتها ومؤتمراتها، فقد أصبحت ـ أي الإيكولوجيا ـ جزءاً أساسياً من السياسة العالمية منذ العام 1971 وذلك بفضل منظمة اليونسكو التابعة للأمم، فهذه المنظمة شرعت وقتها في برامج وأبحاث تهدف إلى التوسيع في علاقة الإنسان بالطبيعة وبمحيطه البيئي بشكل موسّع، وقد بدأ ذلك العمل ببرنامج بحث تحت اسم “الإنسان والمحيط الحيوي”، وعلى ذلك عقدت الأمم المتحدة أول مؤتمر للبيئة والإنسان في العام 1972 في مدينة ستوكهولم، ثم تبع ذلك انعقاد “قمة الأرض” عام 1992 في ريو دي جانيرو في البرازيل، وقد ساهمت هذه الخطوات المتتالية في تطوير مفهوم المحيط الحيوي، واستمرت الجهود الدولية على هذا المنوال إلى أن جاء الاعتراف الدولي في العام 1997 بمخاطر الاستخفاف بالتنوع البيئي وبخطر الأنشطة الإنسانية  على البيئة والطبيعة، وخاصة الغلاف الجوي الذي بدأ يتهدد بشكل مباشر.

2ـ الإيكولوجيا العميقة والإيكولوجيا الضحلة

ثمة من لا ينظر إلى علم البيئة نظرة شاملة، فهؤلاء العلماء يفرّقون بين نوعين من علوم البيئة من ناحية فلسفية ونظرية أكثر منها مادية أو عضوية، وعلى هذا فالإيكولوجيا العميقة بهذا المصطلح انطلقت لأول مرة على يد الفيلسوف النرويجي “آرني نيس” في العام 1972على أنها حركة بيئية، وهي بذلك تبحث في أعماق مكانة الحياة الإنسانية وتطرح أسئلة عن ذلك، وتبحث عن إجابات أبعد من مسألة كيفية الحفاظ على البيئة سليمةً ونظيفة، بل هذه الإيكولوجيا العميقة تسعى إلى شرح ماهية العلاقة البشرية بالطبيعة من الناحيتين المعنوية والروحية، وانطلاقاً من هذه الفكرة يرى أصحاب فلسفة الإيكولوجيا العميقة أن الإنسان ليس بذلك الاصطفاء الذي يصنف نفسه فيه، وأن الإنسان ليس كائناً فريداً مختاراً من الله على أنه أفضل الخلق، وإنما هو خيط داخل في نسيج الحياة وتركيبة الطبيعة.

كما يعتقد الإيكولوجيون أصحاب النظرية العميقة أنه من المهمّ جداً أن يفهم الإنسان أنه بحاجة إلى التوصل لصيغة وحالة جديدة في تعامله مع الطبيعة والبيئة، بطريقة أقلّ وحشية وهيمنة وسطوة على براءتها وفطرتها، بل إن الإنسان يجب عليه أن يكون أقلّ عدائية تجاه الأرض، وأكثر حكمة ورأفة ورحمة بالكوكب إذا أردنا أن ننجو جميعاً.

إذاً: فالإيكولوجيا العميقة قائمة في أساسها على فكرتين:

الأولى هي إحكام العقلانية والحكمة والتبصّر والتفكّر بشكل علمي وموضوعي في تواؤم وتلاقي جميع منظومات الحياة على الأرض، واعتبار التفكير البشري المركزي غير معصوم في نظرته إلى الأشياء وتصرفه حيالها، وبالتالي ليس في محله إعطاء كل هذه القيمة للتفكير البشري وتمجيده على أنه الصورة المثلى للحياة، وهذا التفكير بصورته القائمة لا ينبغي اصطفاؤه أو منحه درجة الحكمة والعقلانية.

والثانية هي حاجة الإنسان إلى المراجعة الذاتية والتصالح مع النفس، بمعنى أن الإنسان بقدر ما يتواءم ويتماهى مع ذاته وأصدقائه وعائلته ومحيطه القريب، بالقدر نفسه ينبغي عليه أن يأخذ البيئة بالحسبان؛ إذ عليه أن يتماهى مع الشجر والحجر والحيوان والهواء والمياه، ومع محيطه البيئي عموماً، ثم إن التعامل مع النطاق الإيكولوجي على هذه الصورة يتطلب تغييراً جذرياً في الذهنية والوعي ورفع سوية المسؤولية، وبعبارة مختصرة وواضحة؛ تعتمد الإيكولوجيا العميقة على المعيار الإنساني في التعامل مع الطبيعة، وهو معيار يبدو فضفاضاً في كثير من الأحيان، إذ يمكن ليُّ عنقه كلما اقتضت الحاجة بالنسبة لمن قد يتضرر من إنسانية المعايير وأخلاقية الموازين.

وفي المقابل هناك أصحاب فكرة الإيكولوجيا الضحلة، وهي تتعامل مع النطاق البيئي ومع الطبيعة بطريقة رياضية فيزيائية، في محاولة حثيثة منهم للحدّ من التلوث الناجم عن دخان المصانع العملاقة والانبعاثات الغازية، ووضع القيود أمام الأعمال البشرية التي من شأنها أن تضر بالبيئة، وحل المشاكل البيئية التي تواجه البشرية، فهذه الإيكولوجيا الضحلة في نتيجتها تبدو براغماتية وعملية دون أن تتطرق للأبعاد التي ينبغي على الإنسان أن يرتقي إليها، وبعيداً عن مزاجية المعايير الأخلاقية الفضفاضة.

3ـ بعض أنواع الإيكولوجيا (الإيكولوجيا البشرية، الإيكولوجيا الاجتماعية، الإيكولوجيا الحضرية، الإيكولوجيا السياسية)

ـ الإيكولوجيا البشرية أو علم البيئة البشرية

يركز علم البيئة البشرية على دراسة البيئات المحيطة بالبشر والتأثيرات التي تخلقها وتعكسها هذه البيئات على حياة البشر بشكل عام، ويعود ظهور مصطلح “علم البيئة البشرية” أول مرة إلى العام 1907 على يد “إلين ريتشاردز” من خلال كتابه (الإصحاح في الحياة اليومية).

تسعى الإيكولوجيا البشرية ما دامت على هذه الصورة إلى البحث في الموضوعات التي تسلط الضوء على الانفجار السكاني للبشرية، وطرح سبل العلاج والحلّ لهذا الانفجار، ومعرفة حدود الموارد العالمية والتلوث، ووضعها تحت المجهر الحسابي، كما تسعى إلى انتزاع الاعتراف من الدول، والمجتمعات المتّهمة بأن معظم النظم البيئية المعاصرة قد تأثرت بالأفعال البشرية الضارّة التي لم يعترف أصحابها باقترافهم لها، وربما لن يعترفوا أبداً لطالما كانت غاياتهم تبرّر وسائلهم.

ـ الإيكولوجيا الاجتماعية

تعود نشأة هذا النوع من فروع الإيكولوجيا إلى علم الاجتماع، لأنّ علم الاجتماع يتصوّر البيئة الاجتماعية على أنها نهج وسلوك يركز على دراسة الإنسان والطريقة التي يتأثر بها ببيئته، فموضوع ومحور الإيكولوجيا الاجتماعية هو الإنسان من حيث علاقته بالبيئة، ومن ناحية تأثير البيئة عليه، فمن هذا المنظور أخذ “موراي بوكتشين” بعين الاعتبار بعض العناصر والتصرفات من الأفعال البشرية التي من شأنها أن تكون سبباً في خلق اختلال في التوازن البيئي، لأن سلوك الإنسان بقدر ما هو مسؤول عن الحفاظ على بيئة نظيفة بالقدر نفسه هو المسؤول عن الإضرار بها وتدميرها، ثم إن هذه السلوكيات البشرية السلبية المهدِّدة للبيئة تنعكس في قلة الوعي وأزمة انحلال القيمة وتدنّي الأخلاق وانعدام المسؤولية، وعلى هذا الأساس فإن الإيكولوجيا الاجتماعية تركّز على حياة البشر ضمن أنواع أخرى مختلفة من الحيَوات التي يتكون منها النظام البيئي، بغية الحدّ مما قد تسبّبَ وما يزال يتسبّب بانقراض العديد من الأنواع واختفاء مساحات شاسعة من الغابات، وامتداد التصحّر بسبب عمليات التصنيع اللا محدودة واللا مسؤولة، وكذلك التحضّر في المدن الكبيرة  بشكل عام والذي بلغ درجة الانفجار في مدن أخرى باتت الحياة فيها أشبه بلعبة الدهاليز.

 

ـ الإيكولوجيا الحضرية

مقياس تصنيف الدول المتحضّرة هو النسبة المئوية لسكانها الذين يعيشون في منطقة حضرية، أي في التجمعات السكانية التي تشكل البلدات الكبيرة والمدن، على حساب اضمحلال أو غياب الحياة والمظاهر الريفية، وفي هذا الميدان نجد أن بعض الدول تحدد الحدّ الأدنى لاعتبار المنطقة حضرية أو لا من 10.000 إلى 50.000 شخص.

النمو الحضري هو الزيادة في عدد سكان المدن، والذي عادةً ما يقع بإحدى طريقتين؛ إما الزيادة الطبيعية وإما الهجرة من الأرياف إلى المدن، والتحضّر والتجمّع في المدن كما هو معروف يغيّر المناخ نحو السيئ، لأن المدن تكون أكثر تلوّثاً وحرارة، وبالتالي تكون أكثر تلويثاً لما حولها، وكذلك تكون أقلّ شجراً وهواءً نظيفاً، وهذا الوضع بطبيعة الحال تتولد عنه مظلة غبارية حرارية فوق معظم المدن.

 

ـ الإيكولوجيا السياسية

في إطار مفهوم أن البيئة هي مجموع العلاقات التي تربط الكائنات الحية بالوسط الحيوي والعضوي وغير العضوي المحيط بها، تُطرح المشكلات البيئية الناجمة عن التصنيع والجشع والربح السريع والتجمعات السكانية الضخمة، وفي هذه اللحظة يدخل مصطلح “الإيكولوجيا السياسية” على الخط ليقف في وجه من يدعو إلى التكيّف مع المشكلة، بدلاً من أن يدعو إلى حلّها، والقضاء عليها، فالإيكولوجيا السياسية ترفض الدعوات المطالبة بالتدخل لتنظيم الخراب الناجم عن التلوث البيئي أو التحكم في هذا الخراب، بل على العكس من ذلك كله، فهي تطلب الحرص على الموارد الطبيعية وحمايتها بدلاً من ترقيع الأزمة بمحاولة مراقبة وتنظيم الدمار والخراب الذي يصيب الطبيعة ومواردها.

يوجّه روّاد الإيكولوجيا السياسية اللوم إن لم نقل أصابع الاتهام إلى النظام العالمي القائم، لأنه نظام قائم على التحكم في الشركات الكبرى العابرة للقارات، ولا يهمّ تلك الشركات إلا الربح السريع كما هو معروف عنها، ولأنه نظام يسعى إلى استغلال الطبيعة ومواردها إلى أقصى درجة ممكنة، غير آبهٍ بم قد ينتج عن ذلك من كوارث وندرة للموارد الطبيعية واغتناء قارّة على حساب قارة أخرى، لأنه نظام يستخرج ثروات الشعوب الفقيرة وبأيدي تلك الشعوب نفسها ليستفيد منها أناس آخرون يديرون الشركات والمصانع، ويتحكمون برؤوس الأموال وطرق التجارة وقوانينها التي وُضعت لحمايتهم.

في هذا الصدد نشأت أحزاب صديقة للبيئة مثل حزب الخضر الألماني، وقد تبوّأت هذه الأحزاب مراكز متقدّمة في مجال الحفاظ على البيئة والطبيعة، ومن الواضح أن الإيكولوجيا السياسية تتّهم القوى الرأسمالية بالمسؤولية إزاء ما يحدث لكوكبنا من أزمات بيئية، وتصوّب سهامها نحو النظام الاقتصادي الحاكم في عالم اليوم، ولذلك فإن الأحزاب والحركات اليسارية هي التي تحرك هذه السياسة الإيكولوجية، فهي مناهضة للعولمة وجميع تبعاتها، وهي تعلن صراحة أن جميع الأزمات البيئية والمشاكل في الطبيعة سببها ظهور الرأسمالية والثورة الصناعية وتطور التكنولوجيا الصناعية والحربية، وبالتالي أدى كل ذلك إلى زيادة التنافس الاقتصادي بين الدول وزيادة حجم الاستهلاك العالمي، ما انعكس بصورة تلقائية على زيادة نشاط المصانع والإنتاج وكذلك زيادة النشاط الاستخراجي وبكميات هائلة دون حسيب أو رقيب، وكل هذا بطبيعته أوصل الكوكب إلى تلوث في الغلاف الجوي بسبب أدخنة المصانع الكبرى والمحركات والآليات وما تنفثه من غازات وإشعاعات، ولم يسلم من ذلك لا البرّ ولا البحر، فقد وصل الأمر إلى التلوث البرّي والبحري من خلال طرح النفايات والقاذورات فيه، وخاصة النفايات والمخلّفات البلاستيكية.

 

4ـ المبادئ التي يعتمد عليها الإيكولوجيون

 

1ـ مبدأ الكفاح ضد التلوّث واستنزاف الموارد الطبيعية: وهذا أقلّ ما يمكن أن يستند عليه أصدقاء البيئة وحُماتها، وأن يتخذوه مبدأً ومطلباً يسعون إلى تحقيقه.

2ـ مبدأ الموقف اللا طبقي: هم يرون تحت هذا المبدأ أن تنوع الأساليب الحياتية للناس ناجم عن استغلال بعض الفئات للفئات الأخرى، وهذا يعني أن هناك استغلالاً من البعض للبعض الآخر، وبالتالي هناك اغتناء طبقة على حساب افتقار طبقة أخرى، ولكن كلتا الطبقتين ستتأثران وستتضرران من الممارسات المسيئة والمضرّة بالبيئة، وباستنزاف الموارد الطبيعية، فالضرر لن يصيب الفقراء دون الأغنياء ولا المستضعفين دون الأقوياء.

3ـ مبدأ التعقيد: إن التكامل بين وحدات أو منظومات أو حتى بين فعاليات يومية في إطار العمل اليومي، وكذلك بين الكائنات الحية، وأساليب الحياة المختلفة والتفاعلات ضمن المحيط الحيوي بشكل عام، هذا التكامل بين جميع هذه الأمور يفصح عن كمّ ومستوى عالٍ من التعقيد، وهذا يلفت نظر الإيكولوجيين ويخيفهم، ولذلك فإن مبدأ التعقيد يدعم تقسيم العمل وتنظيمه، والجمع بين الأعمال الزراعية والأعمال الصناعية في إطار عملية تكاملية، وكذلك الجمع بين الأعمال الفكرية والأعمال اليدوية، والجمع بين النشاطات والفعاليات المدنية والريفية.

باختصار: هذه الفكرة تدعو إلى التقنيات اللينة.

4ـ مبدأ التنوع والتعايش: يرى هذه المبدأ أن التنوع يعزز من إمكانية البقاء، وأنه يقدم فرصاً متعددة لنماذج الحياة المستجدة وثراء أشكالها، وهذا يستدعي التصاحب في العيش والوجود بدلاً من الاقتتال والبطش والاستغلال.

5ـ المساواتية: إذ يكون الحق المتساوي في العيش من المسلّمات، وهذا يُنزل على القلوب نوعاً من الطمأنينة والمتعة والمسرّة من خلال الشراكة المتساوية مع أشكال الحياة الأخرى، وبالتالي لا يغدو الإنسان غريباً عن ذاته، بل تجده في حالة من التصالح مع ذاته، ما ينعكس على تعامله مع من حوله بشكل إيجابي وفاعل بما في ذلك عناصر الطبيعة والبيئة.

 

5ـ القوة القانونية والأخلاقية التي يتمتع بها علم الإيكولوجيا

في ظلّ أهمية الفكرة وإدراك خطورتها، تسعى الدول الأوروبية وبشكل حثيث إلى معالجة مشكلة التلوث والانبعاثات الغازية التي تسبّبت ومازالت تتسبّب في مشكلة الاحتباس الحراري، وهي ـ الدول الأوروبية ـ تدرك حجم مسؤوليتها عن هذه الأزمة، ولذلك تحاول أن يكون العلاج على قدر الداء، وأن تأتي الحلول متوازنة مع حجم المسؤولية، وانطلاقاً من هذا الشعور بالمسؤولية؛ هذا الشعور الذي تمخّض في أساسه عن المخاوف التي يمكن أن تنجم عن المشكلة نفسها، جاء إعلان مجلس دول الاتحاد الأوروبي على الموافقة الرسمية على مشروع قانون معدّ لمكافحة تغيّر المناخ، حيث أعرب المجلس عن استعداده مع مؤسساته لاتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق الهدف المنشود في الحدّ من التلوث، ومحاولة إعادة التوازن للبيئة، كما أنه وضع مجموعة من التدابير التي ينبغي الأخذ بها في هذا الإطار، منها تخفيض الانبعاثات الغازية الدفيئة إلى 55 بالمئة بحلول عام 2030.

إن مصادقة دول الاتحاد الأوروبي على مشروع “قانون المناخ” يجعل من هدف الاتحاد المتمثل بالحياد المناخي لغاية عام 2050 “ملزماً قانونياً”.

كما أنّ المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، كلاهما مهتمّ من أجل إيجاد مصدر موضوعي وحقيقي وحيادي للمعلومات اللازمة، بهدف إصلاح التوازن البيئي على كوكب الأرض، حيث تعدّ الأمم المتحدة في طليعة الجهات التي تبذل الجهود الرامية التي تهدف إلى إنقاذ كوكبنا، ففي عام 1992 ومن خلال قمة الأرض التي انعقدت حينذاك، أنتِجت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ كخطوة أولى على طريق التصدي لمشكلة التغيير هذه، واليوم تتمتع هذه الاتفاقية بعضوية شبه عالمية، ولقد صدّقت 197 دولة على الاتفاقية، وهي بالتالي وبشكل طبيعي طرف فيها، والهدف النهائي للاتفاقية هو منع التدخل البشري الخطير في النظام المناخي.

لقد أدرك الاختصاصيون حجم الكارثة التي تنتظر الأرض وسكانها، حيث أدى التدهور الإيكولوجي إلى خفض إنتاجية ما يقارب من ربع مساحة الأرض، وباتت المشكلة أقوى من أن تواجهها دولة بمفردها، بل أصبحت المشكلة المستعصية أصلاً تتفاقم أكثر فأكثر، ولذلك دخلت الأزمة إلى ميدان الدول والأمم المتحدة، وفي العام 1995 بدأت البلدان بكل جدية المفاوضات من أجل تعزيز الاستجابة العالمية لتغير المناخ وإدراك الخطر القادم، وبعد عامين اعتُمد بروتوكول كيوتو، وقانونياً يلزم بروتوكول كيوتو جميع الأطراف من البلدان المتقدمة بأهداف خفض الانبعاث، ولقد بدأت فترة الالتزام الأولى للبروتوكول في عام 2008 وانتهت في عام 2012، في حين بدأت فترة الالتزام الثانية 2013، وانتهت في عام 2020. ويوجد الآن 197 دولة طرفاً في الاتفاقية وموقّعة عليها، و192 دولة طرفاً في بروتوكول كيوتو.

يُضاف إلى الجهود الدولية السابقة اتفاقية باريس عام 2015، ومؤتمر القمة المعني بالمناخ 2019، وقمة المناخ في غلاسكو الإسكوتلندية 2021عام، هذا وقد أعلنت الأمانة العامة لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن المناخ اختيار مصر ممثلاً عن قارة إفريقيا لاستضافة مؤتمر المناخ القادم في نوفمبر 2022 في مدينة شرم الشيخ.

خاتمة

من الواضح أن مشكلةً من هذا النوع لا تستثني أحداً على سطح كوكبنا الأزرق، إذ لا يُقبل ولا يمكن أن ينأى أي أحد بنفسه عن رؤية ما ينتظر الأرض ومستقبل البشرية عليها، ومن السذاجة أن تلقي الدول المتقدمة هذ الحمل الثقيل على عاتق المجتمعات والشعوب الضعيفة والمستهلِكة.

إن المسؤولية القانونية والأخلاقية تتطلب اليوم أن تتساوى نسبة المسؤولية عن تحمّل تبِعات هذه الأزمة، بمعنى أن تتحمّل كل دولة حجماً من المسؤولية يتناسب مع حجم الأضرار التي لحقت بالبيئة بسبب ممارساتها وتصرفاتها وجشعها، ولا يُخفى على أحد أن الدول الصناعية ستتصدّر قائمة المسؤولية هذه، وأن الدول النامية لا تتعدى مسؤوليتها عن الكارثة قدْر استهلاكها وليس صناعتها.

وتبقى مسألة القوانين والبروتوكولات والمؤتمرات المنعقدة بهذا الخصوص؛ أن تكون جادّة وصارمة، وأن تكتسب قوة الإلزام، وألّا تتغاضى من باب المحاباة والمجاملة الدخول في لعبة الحسابات عما تتحمّله الدول الصناعية من حجم المسؤولية عما تعانيه بيئتنا على كوكبنا الأرض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى