دراسة في نظرية المفكر موراي بوكتشين
عواس علي
حين بدأت أخوض أفكار الفيلسوف والمفكّر موراي بوكتشين تذكرت روايةَ الكاتبة غادة السمان “السباحة في بحيرة الشيطان” ففي الحقيقة الخوض في فلسفة هذا الرجل مرعبٌ بسبب الأفكار المتجدّدة والمتطورة التي قدّمها وفق ما يواكب تطوّرات العصرمن الرأسمالية إلى العولمة وعالم الشركات الكبرى التي باتت تتحكم في مصير العالم، وربما سيأتي اليوم الذي تعجز فيه الدول على السيطرة على تلك الشركات العملاقة في ظل ثورة التكنولوجيا العصرية.
لكن القوة كانت تستمد من مجموع الأفكار التي تجسّدت في مؤلفات المفكر عبد الله أوجلان، والتي تعتبر امتداداً وتطويراً لأفكار بوكتشين.
نستطيع أن نقول: إنّ بُوكتشين استطاع أن يستخلص من بين حقول الماركسية بذور نضرة قام ببذرها في حقل ضيق سرعان ما نبتت تلك البذور وأينعت، لكن مصدّات الرياح الماركسية منعتها من الانتشار على وجه المعمورة، وتُضاف إليها أن أفكاره كانت معادية للرأسمالية التي نصبت في وجه البذور التي زرعها مصدّات رياح قوية، فتقوقعت تلك البذور في ذات التربة التي زرع فيها بوكتشين بذوره.
كانت بداية أفكار بوكتشين مع النظرية الماركسية التي كانت تنظر إلى حتمية انهيار الرأسمالية على أيادي الطبقة العاملة التي تتكون في رحمها، فصرحت في مقولة: “الرأسمالية تحفر قبرها بيدها” لكن سرعان ما انشقّ عنها بعض روّادها مثل تروتسكي الذي راح يصيغ نظرية الماركسية، وفق ما هو يراها، فكان أول الخلافات مع ستالين الذي كان يرى فيه تروتسكي دكتاتوراً فظّاً، فطالب بإقالته، وثانيها كانت بنظرته إلى ضرورة استمرار الثورة على صعيد دوليّ، وعدم الاكتفاء بالثورة في روسيا، فلا يمكن أن تنتظر الثورة حتى ولود البرجوازية في بعض الدول فالبرجوازية العصرية ذات الأعداد القليلة يمكن أن تتحالف مع الفلاحين في الدول ذات النظام الاقطاعي وتقود الثورة، وكانت نهاية تروتسكي على يد ستالين وأنصاره بعد انتقاده الحاد للنظام السوفيتي واعتبره قمّة في الدكتاتورية والسلطوية والفساد الإداري.
في حقيقة الأمر كان فشل الماركسية من جانبين؛ من جانب كنظام سياسي ومن جانب كنظام اقتصادي، فمن الجانب السياسي كانت الماركسية عبارة عن استبدال سلطة دكتاتورية بسلطة دكتاتورية أخرى، فالدكتاتورية تبقى دكتاتورية مهما بدّلنا من اسمها، ويضاف إليها التفرد بالسلطة التي فرضته الماركسية من قبل الأحزاب الشيوعية التي لم تقبل غيرها في السلطة، ويضاف إليها الجانب الإنساني الذي مارسته الماركسية ضد معارضيها، فتولدت أبشع أنواع الاعتقالات والاغتيالات السياسية.
من الجانب الاقتصادي كان محور فشل الماركسية في القطاع العام الذي تحوّل إلى مركز للبيروقراطية والفساد الإداري، فقدان التصنيع في القطاع العام لروح المنافسة، ممّا أدى إلى تدنّي نوع المصنعات، ويضاف اليها الاهتمام بالجانب العسكري على مصلحة الجانب المدني للشعب خاصة في مرحلة الحرب الباردة.
إن فشل تدويل أو استمرار الثورات الماركسية في العالم كانت بدايته في بناء الولايات الأمريكية المتحدة اقتصاداً منيعاً في وجه تلك الثورات، واجتمعت في مشروع المرشال الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1947 وكان تقديم الأموال لاستنهاض أوربا التي خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية للوقوف في وجه الطوفان الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي، فعلا استطاعت امريكا من استجرار الدول الاوربية إلى حلفها وتحويلها إلى سوق مفتوحة امام صناعتها المتعافية والتي كانت بعيدة عن اثار الحرب العالمية الثانية وتجسدت فكرة الليبرالية الاقتصادية، في فتح الأسواق العالمية أمام التجارة والشركات، فكانت بداية الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية، وكانت النتيجة لصالح فوز الرأسمالية على الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي 1991، وتحوّل العالم من عالم ثنائي القطب إلى عالم أحادي القطب.
من هذه الطروف الدولية نشأت فلسفة موراي بوكتشين.
فمن هو بوكتشين؟
ولد موراي بوكتشين في نيويورك عام 1921 من أب يهودي مهاجر من روسيا إلى أميركا، وترعرع وتعلم في أميركا وكان ميالاً إلى الأفكار العلمانية، فدأب على البحث في الفلسفة المثالية، ثمّ تحوّل إلى فلسفة فورباخ وهيغل اللتين بُنيت عليهما أسس الماركسية التي استند عليها ماركس، واستمد منها نظريته الماركسية، فانجرّ موراي بوكتشين إلى الماركسية كنظرية فلسفية ومن ثم كنظام سياسي، وسرعان ما ظهرت الانشقاقات بين منظري الفلسفة الماركسيّة، ومن هؤلاء المنظرين تروتسكي الذي أثنى عليه لينين أكثر من مرة في مؤلفاته وخطاباته، لكن سرعان ما انشقّ عن الاتحاد السوفيتي كأولّ نظام سياسي ترجمة للماركسية على الواقع العملي، بعد خلاف مع ستالين الذي ورث لينين في قيادة الحزب والدولة، وعلى إثرها حادَ موراي بوكتشين عن الماركسيية اللينينية إلى الماركسية التروتسكية، وانخرط في العمل في صفوفهم، وتحول إلى داعية لتلك النظرية التي كانت تنتقد الاتحاد السوفيتي كنظام سياسي، وتطالب بإعادة النظر في أفكار الماركسية اللينينية، وطالبت باستمرارية الثورة الماركسيّة على مستوى عالمي، لكنّ تلك النظرية سرعان ما أصيب اتباعها بالخيبة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ كانت النظرية التروتسكية ترى بأنّ الثورة ستندلع في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية بناء على فكرة الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية التي خاضت الحرب، وأثبتت فشلها في النصر، سرعان ما تحول موراي بوكتشين عن تلك النظرية التروتسكية إلى نظرية جديدة قام ببنائها على أساس الجدلية الماركسية والصراع الطبقي، وتحول إلى نظريته التي ترى بأن الرأسمالية لن تنهار على أساس الصراع الطبقي مع الطبقة العاملة، بل نتيجة سوء استثمارها اللا أخلاقي للطبيعة، وتعاملها واستثمارها للطبيعة على اساس تحقيق الربح بدل السعي إلى الحفاظ على الطبيعة من أجل إسعاد الإنسان، فكانت نظريته التبيّؤ الاجتماعي التي يرى فيها بأن التلاعب وسوء الاستثمار الرأسمالي للطبيعة ينعكس بشكل مباشر على المجتمع، وربّما جاءت البداية مع ظهور فيروس كورونا، فالنظرة التي ينظر فيها موراي بوكتشين إلى الكون على أنّه وحدة متكاملة، ولا يمكن عزل مكوناته عن بعضها البعض من الطبيعة حتى الإنسان والكائنات الحية والهواء والتراب، فكل ما في الطبيعة يكمل بعضه البعض وفق تراتبية منتظمة، يقوم بها كلّ مكون على حدا، هذا ما يدعى بالتوازن البيئي، بين المادة والطاقة باعتبار الطاقة ليست إلّا حالة من حالات تحوّل المادة، ويرى موراي بوكتشين أنّ تدخّل الإنسان وتلاعبه بالطبيعة يجعلها تفقد توازنها، ممّا ينعكس بالدرجة الأولى على حياة الإنسان الذي بات يحفر قبره بيده، فالظلم المتولّد عن الإنسان للطبيعة ينعكس على الإنسان بحد ذاته، فظلم الطبيعة المتكاملة يعني ظلم مكوّن من مكوّناتها، وهو الإنسان، ما يعني أنّ ظلم الانسان بمكوِّنه العام ينعكس من الطبيعة إلى الإنسان، ويرى بوكتشين أنّ هذا الظلم تمّت صياغته على شكل نظام فكريّ هرميّ متكامل يتمثّل في الرأسمالية التي باتت تنظم ظُلمها في استغلال الطبيعة والإنسان، ولن ينجو هذا العالم إلا بمحاربة مفاهيم الرأسمالية التي تقوم على أساس استغلال الطبيعة بأقصى حدٍّ ممكن، والإنسان بأكبر قدر ممكن لتحقيق أكبر قدر من الربح، وهذا ما يدعوه بوكتشين بالمجتمع اللا عقلاني، فحسب ما يراه بوكتشين أنّ جميع المشاكل التي تظهر في الطبيعة بما فيها الإنسان أساسها المجتمع الهرمي أي المجتمع المنظّم وفق عقلية الرأسمالية، فنتيجة الرأسمالية كدولة هي ذاتها رأسمالية المجتمع الذي يؤدي إلى مجتمع لا عقلاني.
مفهوم التبيُّؤ الاجتماعي عند بوكتشين
إن بحثنا عبر الأزمنة الفلسفية فلا نجد فلسفة حاولت أو اقتربت من الربط بين الطبيعة والمجتمع، فجُل كتّابها كانوا مهتمّين برصد تطور الإنسان في حياته الاجتماعية ككائن يسعى إلى الحرية سواء من محاولته السيطرة على الطبيعة التي كانت تهدّد حياته وتدفعه إلى المخاطر، إلى سعيه الدؤوب للتخلص من ظلم أقرانه من البشر في مرحلة ظهور السلطة المطلقة، ولو تتبّعنا مراحل الفلسفة لوجدنا بأنّ ظهورها كان لخدمة الإنسان، لكن سرعان ما ظهر من طوعها لخدمة السلطة، فجان لوك بصياغته نظرية الليبرالية في القرن السابع عشر كان يسعى إلى حثّ الإنسان لينتزع حريته من براثن السلطات الفردية المطلقة التي راحت تستعبده، لكنّنا نجد سرعان ما انحرفت تلك النظرية، ووضعت في خدمة الدولة وأعوانها في إباحة القوانين التي تجعل من الفرد كائناً متوحّشاً همّه جني الربح، فتحوّلت الليبرالية في نهايتها إلى خدمة قضايا الرأسمالية، من حرية التجارة إلى حرية التصنيع إلى حرية الاستثمار، وربما بوكتشين هو الفيلسوف الوحيد الذي حاول أن يربط ما بين الطبيعة والحياة الاجتماعية، فحاول ان يبرهن على انعكاس البيئة الطبيعية على الحياة الاجتماعية، فاستثمار البيئة بطريقة غير أخلاقية هو بحد ذاته استثمار للإنسان بطريقة غير أخلاقية، فهناك تناسُب ما بين الحياة الاجتماعية والحياة البيئية، وكلاهما يتأثر بالآخر، فقطع الأشجار من الغابات عمل غير أخلاقي له انعكاساته على الحياة الاجتماعية على الإنسان، وكذلك حقن بعض المزروعات بمواد كيماوية له تاثيره على الحياة الاجتماعية، وتكديس رؤوس الأموال لدى فئة مجتمعية يخلق صراعاً بين تلك الفئة والفئة الفقيرة ممّا يجعل المجتمع منقسماً، وفي صراع دائم، وانعدام الاستقرار والأمن، فمفهوم التبيؤ الاجتماعي هو التأثير المتبادل بين البيئة والمجتمع.
أهم المفاصل التي تطرق لها بوكتشين في نظريته
1 ـ السلطة
وهي المفسدة الحقيقية للإنسان الذي يعتبر نواة المجتمع، وبالتالي حارب بوكتشين السلطة التي تقوم على القوة المتمثلة في القوانين التي تضعها الدولة للحفاظ على ذاتها وجلها في القواعد والأنظمة الإدارية، والتي تشكّل السلطة الهرمية، فلابد من إيجاد نظام خال من السلطة التي تقوم على القوة والبديل الذي طرحه بوكتشين هو النظام الأفقي للسلطة، والتي تعني سلطة الشعب الحقيقية، وليست السلطة المزيفة المتمثلة في ديمقراطية البرلمان الهرمية، فالسلطة الحقيقية تأتي من خلال تقسيم المجتمع الطبيعي من القرية إلى المدينة عبر التنظيم الكومونالي، أي تنظيم المجتمع في كومونات صغيرة تشكل أصل القرار، وهي من يقترح المطالب والحلول، ثم تنظيم مجتمع المدينة التي دعاها بوكتشين بالمقابر الجماعية التي بنتها الرأسمالية، والتي شجعت على تدمير الريف الذي كان يحتفظ ببقايا المجتمع الطبيعي، ويرى أنّ الرأسمالية لم تكتفِ باستغلال الطبيعة والإنسان فقط بكل تحوّلات التلاعب بالزراعة الطبيعية، فقد حولتها إلى مزارع هرمونية خالية من الطاقة المتجددة، عبر التلاعب بتركيبتها الطبيعية، وأضافت إليها مواد غيّرت من طبيعتها، لذلك يجب محاربة السلطة القائمة على القوة عبر تشكيل الكوموناليّة في القرى والأرياف والمدن، والعمل على الحفاظ على البيئة عبر خلق مجتمع خلوق وعقلاني يحكم من الأدنى إلى الأعلى.
وربما أراد بوكتشين من مقولته عن المدينة “مقبرة جماعية شجعت عليها الرأسمالية” تقديم الدعم والمساندة للريف للخروج من بوتقة المقبرة الجماعية إلى الانفتاح والحياة الطبيعية التي تكمن في الريف، بدون تقديم الدعم للريف لن تتهدّم تلك المقابر، فلابد من تقديم الخدمات للريف والتشجيع على الحياة الطبيعية، والكل يعلم بأنّ الريف كتكوين اجتماعي جله من الفلاحين، فبدون تقديم الدعم للفلاح لن يزدهر الريف، ولن تتفتت المقابر الجماعية، والحقيقة أنّ الكومينات التي اقترحها بوكتشين كنواة لإدارة الدولة لا تجد لها تربة خصبة في المدينة بل تربتها الخصبة تكمن في الريف حيث استغلال الإنسان للإنسان في درجاته الدنيا.
2 ـ محاربة الدولة القومية
يرى بوكتشين أن الدولة القومية ليست إلا حالة من حالات الرأسمالية التي تسعى إلى فرض سلطتها على القوميات الأخرى، وبالتالي نجد أن فرض سلطة قومية على قومية أخرى ليس إلا حالة من حالات المجتمع اللاعقلاني، الناتج عن مفهوم الرأسمالية، فالقوميات والاثنيات ليست إلا حالة من حالات تنوع الطبيعة في نباتاتها ومياهها وأشجارها، فالتنوع الاجتماعيّ بين المجتمعات الإنسانية من حيث اللغات والديانات والمعتقدات واللون ليس إلا حالة من حالات التنوع الطبيعي، ويجب الحفاظ على هذا التنوع الطبيعي الاجتماعي عبر بناء فيدراليات بين تلك المكونات، ويرى بوكتشين أنّ الفيدرالية هي حالة من حالات الكومونالية في مفهومها الضيق، وبالتالي تقوم تلك الفيدرالية على الحفاظ على خصوصية كل مكوّن، ممّا ينفي الصراع القومي والأثني بين المجتمعات، وربما سبق بوكتشين العديد من المنظرين الذين رأَوا أنّ الصراع الدولي أساسه الصراع القومي والأثني، وأسندوا الصراع التاريخي عبر الزمن إلى ظهور الدولة القومية والقوميات والأثنيات.
ربما أراد بوكتشين أن يقول: إنّ سبب الصراع الدولي يقوم على انعدام المساواة بين التنوّع البشري المدعوم من قبل الرأسمالية التي تشجع استغلال الإنسان للإنسان في تحقيق الربح واستغلال الطبيعة، فالحفاظ على خصوصيّة كلّ مكوّن طبيعي بشري من أصغر مكون إلى أكبر مكون هو الذي يدعم انتفاء الصراع العالمي بين الدول التي بنيت على أساس قومي.
3 ـ المجتمع البدائي
يرفض بوكتشين مفهوم المجتمع البدائي أو المشاعي عبر مراحل تطور المجتمع حسب المفهوم الماركسي، والعديد من النظريات التاريخية، ويطلق بوكتشين على تلك المرحلة من مراحل تطوّر المجتمع بالمرحلة الطبيعية، كون المجتمع في تلك المرحلة كان عبارة عن مجتمع طبيعي في كل تصرفاته الاجتماعية، وإن كانت بداية انحرافه مع ظهور القبيلة والعشيرة والدين والقومية وانقسامه إلى فئات ثم طبقات، ويرى بوكتشين أنّ الخلاص هو العودة إلى الحياة الطبيعية التي كان الإنسان يعمل ويكدّ من أجل تأمين قوتِه والحفاظ على حياته، وعلى عكس ماهو عليه الآن يسعى إلى امتلاك القوة والسلطة التي يهدد بها حياة الآخرين، يجب العودة إلى الإنسان الذي همه تأمين الرفاهية بالقدر الذي يحتاجه، والابتعاد عن التصنيع المكدس للربح والمدمر لصحة الإنسان، فبالقدر الذي يتّجه به إلانسان إلى الحفاظ على الطبيعة، ستحافظ عليه الطبيعة وتمنحه كل ما يحتاجه، وكلما تلاعب بالطبيعة واستغلّها ستقوم هي الأخرى بمحاربته واستغلاله وتدميره.
بذلك يرى بوكتشين أن جلّ الأمراض التي تتطوّر وتظهر ناتجة عن تلاعب الإنسان بالطبيعة من حيث التجارب اللا أخلاقية التي يقوم بها الإنسان بغاية الحروب والقتل والاستغلال.
4 ـ الايكولوجيا الاجتماعية
تعني دراسة علاقة الكائن الحي بالبيئة التي يعيش فيها، وعندما نقول الكائن الحي نعني جميع الكائنات التي تعيش في الكون من الضفدعة حتى الإنسان، وحين نتحدث عن الطبيعة فهي تشمل الهواء والماء والتراب والنار، فهذا العلم له جذوره المتجذرة مع ظهور بوادر الفلسفة في اليونان وكانت بدايته تتناول العلاقة المتبادلة بين البيئة والكائنات الحية من حيث درجة التأقلم مع البيئة التي وجدت فيها تلك الكائنات، وسرعان ما أعطى بوكتشين مفهوماً أوسع لذلك العلم، فأظهر فيه دور الكائنات الحية في التوازن البيئي، فلا يمكن أن ننفي دور أيّ كائن مهما صغُر في الطبيعة من الدودة التي تفتّت التربة إلى العصافير إلى الأفاعي فالإنسان، فقد نوّه بوكتشين “إلى أنّ الإنسان يقوم بالحفاظ على تلك الكائنات لتقوم بدورها الفعال في البيئة” فالقضاء على أي نوع من تلك الأنواع سيؤدي إلى اختلال في البيئة الطبيعية، وربما أهمها على الإطلاق الأشجار التي يقوم الإنسان بقطعها وتعتبر رئة الطبيعة، وثانيها الهواء الملوث الذي تلوّثه معامل الرأسمالية بإنتاجها الطافح في سبيل تحقيق الربح، وتلويث البحار والأراضي بالنفايات النووية ومشتقات النفط السامة، وقد شجع بوكتشين على القيام بثورة ضد ذلك الاستغلال الجائر للطبيعة، عبر ثورات متكاتفة أسماها الثورات الكومينالية التحررية.
5 ـ الطاقة البديلة
ربما لم تتوقف أفكار بوكتشين عند حدّ معين، فظهر من يتابع ويعمل على تجسيد أفكار بوكتشين، وكانت البداية مع جانيت بيل الفنانة الأمريكية التي عملت على نشر أفكار بوكتشين وتشكيل تجمعات تنادي بأفكاره، وتعمل على محاربة الاستغلال اللا أخلاقي للطبيعة والبيئة، والالتزام بالاتفاقات الدولية التي تعمل على الحفاظ على البيئة، غير أنّه من المؤسف أننا رأينا الولايات المتحدة الأمريكية تنسحب من تلك الاتفاقات والمعاهدات الدولية في عهد الرئيس ترامب، فكلنا يعلم النظرة التي ينظر بها الرئيس ترامب للعالم من منظور شركة تدار، ويجب أن تحقق تلك الشركة الأرباح بكافة الوسائل والطرق المتاحة.
فالمقترح عبر مفهوم الطاقة البديلة هو الاستغناء عن الطاقة الناتجة عن الحرق والانفجار وتصاعد غاز الكربون بالطاقة البديلة المقترحة وهي طاقة الشمس والرياح والمياه، فكلّها طاقة طبيعية لا تنتج عنها أضرار بيئية.
6 ـ الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية وأفكار بوكتشين
من خلال الرسائل التي تم تبادلها بين المناضل المعتقل لدى السلطات التركية المفكرعبد الله أوجلان وبوكتشين تم تطوير أفكار بوكتشين على يد المناضل والمفكر عبد الله أوجلان في مجملها، وكانت أول تجربة لتطبيق تلك الأفكار في شمال وشرق سورية عبر ترجمة أفكار المناضل والمفكر عبد الله أوجلان إلى وقائع عملية ضمن نهج متكامل، هو نهج فلسفة الأمّة الديمقراطية، فكانت البداية من دراسة مستفيضة للكوانتم الذي يعتبر أصغر مكوّن في الذرة من حيث حركتها وتنظيمها الذاتي ضمن مجال حركي في الزمان والمكان وتطبيق تلك الدراسة على المجتمع من حيث تكوينه من أبسط كائن حي إلى الإنسان والمجتمع والطبيعة، فلو ترك الإنسان الطبيعة دون تلاعب واستغلال لوجدها تنظم ذاتها بذاتها، وتوازن ذاتها، من بداية تركيب الذرة والخلية مروراً بالمجتمع الذي محتم تنظيمُه ذاته، وإعادة توازنه ذاته دون التدخّل القسري للإنسان، وتلاعبه في جعله مجتمعاً يتلاءم مع متطلبات الرأسمالية، فنجد من خلال تدخل الإنسان تم استنبات نباتات قسرية، وخلق إنسان بثقافة وأخلاق بعيدة كلّ البعد عن الأخلاق البشرية، وتقرّبه الأخلاق من الوحشية، ثقافة القتل والتدمير والربح السريع والاستغلال وهناك آلاف المعامل التي تعمل على إنتاج ذلك الإنسان، جُلّها يتمركز في الإعلام والأفلام والدعايات.
هناك تجربة يتيمة ووحيدة تنمو وتترعرع في شمال وشرق سورية تعمل على تطبيق تلك الأفكار برمّتها ضمن نهج فلسفة الأمّة الديمقراطية، وهي تجربة وحيدة تعصف بها الرياح من جميع الجهات، وحتى من داخلها تجربة وحيدة “يتيمة تتربى في كنف زوجة الأب” هناك آمال معقودة على تلك التجربة في جميع أنحاء العالم لكنها آمال متخفية لا تجرؤ على مواجهة الرأسمالية التي راحت تطحن رحاها الأخضر واليابس.