الحضارات الشرقية وأسباب اندثار بعضها
أحمد دالي
تمهيد:
نهدف من خلال هذا البحث الوصولَ إلى معرفة ما يمكن معرفته، ولو بإيجاز، عن حضارات بعض الأمم الشّرقيّة ومقوّماتها البشريّة وصلاتها بجيرانها، وخاصّة العلاقات التّجاريّة، والمواقف التي عملت، ومازالت، بشكل دؤوب لتفسير حوادث التّاريخ والمراحل التي تطوّر الإنسان خلالها منذ أولى الحضارات لإيضاح الطبيعة الاجتماعيّة. ومن هنا تكون معرفة فهم الحضارات من الأمور الضروريّة والملحّة لفهم حاضر اليوم، فما من غصن إلا وقد خرج من جذع أصيل.
ويذهب فريق كبير من النّاس وحتّى الدّارسين، إلى اعتبار كلمة حضارة مرادفاً حقيقيّاً للمدنيّة، على اعتبار أنّ المصطلحين يحملان معنى التمركز والاستقرار والتقدم؛ أي التحضّر والتمدّن. وبهذا المعنى البسيط؛ نرى أنّ جميع الأمم والشّعوب قد مرّت بمرحلة سابقة للاستقرار والثّبات، قبل أن ينتهي بها الطريق للركون في بقعة جغرافيّة معيّنة، ثمّ اتّخذت تلك البقعة مكاناً ثابتاً راسخاً لأوجه نشاطاتها وعيشها. وبعد مرور سنين طويلة على استقرارها حتّى بدأت تتوضّح بعض الملامح والصور التي تميّز جماعة بشريّة بذاتها عن غيرها، لتترك أثراً من شأنه أن يميّز بين شعب وآخر، وصولاً إلى بروز تباينات واضحة إلى حدّ الاختلاف أحياناً بين جماعة وأخرى ومنطقة جغرافيّة وأخرى.
وإذا كانت الحضارة في مفهومها العام ذات معنى تقدّمي وتطوّري؛ أي أنّها مفهوم ذو معنى ارتقائيّ، فإنّها في الوقت عينه عمل ذو بعد تراتبيّ وتسلسليّ زمنيّ، والإنسان هو محور تلك الحضارة وهو الفاعل فيها والمنتج لها، وبالتّالي كان الإنسان، ولا يزال المحرّك الطبيعيّ والعفويّ لكلّ فعلٍ تطوّريّ وارتقائيّ. وإن لم يكن ثمّة فكر مدروس ممنهج يبحث عن ذلك التطوّر والارتقاء، لكن الفطرة والغريزة كانتا تدفعانه – أي الإنسان – إلى سلوك سُبُل البحث عن الأفضل.
مع طول فترة الاستقرار، والاعتياد إلى ممارسة أفعال متكرّرة على بقعة واحدة؛ برزت التجمّعات البشريّة المتماسكة – إلى حدّ كبير – مقارنة مع أجدادها، لتتحوّل المجموعة البشريّة إلى ظاهرة سكنيّة وحالة اجتماعيّة أكثر تكاتفاً وتعاوناً من ذي قبل، ضمن أسس وقواعد مرعيّة ومحترمة من قبل جميع أفرادها. ومع مرور الزمن توسّعت وكبُرت القرى وأصبحت مدائن، ومن المدينة خرج مصطلح “التمدّن”.
في العقود الأخيرة تمّ تداول مصطلح “صراع الحضارات” وتناحرها بشكل واسع، على أنّ هناك حضارات إنسانيّة مختلفة ومتباينة، وفي نفس الوقت هي حضارات متصارعة متضاربة متناحرة. ولكن يرى فريق آخر من علماء الاجتماع والمفكّرين ومنهم الدّكتور “علي حرب” من لبنان، أنّ الحضارة الإنسانيّة واحدة، وهي نتاج البشريّة جمعاء، ولكن هناك صراع ثقافات، فهناك ثقافات إنسانيّة متنوّعة في إطار حضارة إنسانيّة واحدة.
ومهما يكن من أمر الحضارات في التسمية والاتّفاق والاختلاف؛ فإنّ واقع الحال يقرّ بوجود الشّرق والغرب، الشّمال والجنوب، واختلاف النتاجات الإنسانيّة، عبر سيرورتها الزّمانيّة وظروفها المكانيّة وتنوّع إبداعاتها البشريّة. ومن هنا كان لا بدّ من التقسيم والفصل بين ما هو شرقيّ وما هو غربيّ، وبين آخر شماليّ ومختلف عنه جنوبيّ. فكان للشرق دائماً حصّته الغنيّة من الحضارة الإنسانيّة الشّاملة. لقد كان الشّرق، ولا يزال، غنيّاً بشعوبه وتنوّع ثقافاته ودياناته وآثاره وأساطيره وملاحمه وفنونه، فالشّرق هو شرق ألف ليلة وليلة وجلجامش وأبي الهول وسومر وبابل و…
في رحلة البحث عن الحضارة؛ لا بدّ من المرور بواحة التّاريخ، لأنّ التّاريخ واجهة الحضارة الإنسانيّة، ولذلك انصبّ اهتمام الباحثين على دراسة مراحل تطوّر الشعّوب ورقيّها وربط النتائج بالأسباب، فكان الاستلهام الأكبر من الآثار والنّقوش والرّسوم التي هي أصدق شاهد على تلك المراحل القديمة والغامضة، والتي لا تعكس الكتب والأقوال في كثير من الأحيان الحقائق فيها، حيث تُرجعها إلى شخص أو قائد أو شعب قويّ كتب تاريخه وفق أهوائه.
لقد جرت العادة لدى المؤرّخين والباحثين في حديثهم عن الحضارات أن يمهّدوا لها بالكلام عن تاريخ تلك البلاد التي يبحثون في حضارتها، وعن جغرافيّتها وتركيبتها السكّانيّة، مع التنويه إلى أنّ العامل الجغرافيّ ليس هو الأساس في تشكيل وتسيير الحضارات. إلا أنّه ينبغي إدخال هذا العامل في الحساب، لأنّه وإن كان صحيحاً أنّ الإنسان هو العامل الفاعل والحاسم في الموضوع، إلا أنّه لا يمكن تجاهل أثر الإنسان في تشكيل حضارته وتسييرها من مبدأ التّفاعل بينه وبين بيئته، وإيجاد الطرق والوسائل التي ابتدعها لترويض الطبيعة واستغلال موجودات البيئة وتسخيرها، وهذا ما يمكن أن يُطلق عليه تسمية “الجغرافيّا التّاريخيّة”، وهي تغيّرات جغرافيّة مهمّة تؤثّر في حركة التّاريخ لدى شعب ما، كتغيير مجرى نهر مثلاً أو شقّ طريق في جبل أو إغلاق ممرّ طبيعيّ، فكلّ ذلك يمكن أن يعكس آثاره سلباً أو إيجاباً على حركة وفاعليّة ذلك الشعب وعلى مدى تفاعله مع واقعه ومحيطه الجغرافيّ الجديد، وبالتّالي قد تتغيّر طرق التّجارة والسّياحة، فينعكس أثرها على تلك المنطقة الجغرافيّة بما تحتويها من سكّان وعلى تفاعلهم مع جغرافيّتهم، وما ينتج عن ذلك من أحداث قد تؤثّر في تاريخهم وتنعكس مع الأيّام على حضارتهم.
ومن عوامل التأثير الثقافي الأخرى بين الحضارات؛ الاحتكاك فيما بينها نتيجة الحروب عندما يغزو شعب من حضارة معيّنة شعباً آخر من حضارة أخرى ويزيله من الوجود أو يخضعه له، وربّما كان من أمثلة الانتشار الثّقافي – كنوع ومثال – هو انتشار البوذيّة في الصّين بعد مئات الأعوام من نشأتها في شمال الهند.
سوف نتطرّق في هذا البحث إلى بعض الحضارات الشّرقيّة، على سبيل المثال وليس الحصر، لنتعرّف على بعض الصور والجوانب لدى الشّعوب أصحاب تلك الحضارات، مع التنويه إلى أنّه لا يمكن الإحاطة بجميع شعوب وحضارات الشّرق من خلال بحث كهذا ولا التعمّق فيها.
حضارة بلاد ما بين النّهرين “ميزوبوتاميا”:
كعادته يستند التّاريخ في ظهوره على الوثائق المكتوبة، بصرف النّظر عن شكل وطريقة كتابتها والمادة التي كُتبت عليها سواء كانت حجراً أو جلداً أو بُرديّاً. وتثبت الدّراسات أنّ أقدم الوثائق التّاريخيّة التي عثر عليها كانت في وادي الرّافدين ووادي النيل، وتعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
“ميزوبوتاميا” هي التسمية الإغريقيّة التي شاع استعمالها عند الكتّاب الأوروبيّين، وهي ذات مصطلح “بلاد ما بين النّهرين” الجغرافيّ الذي استخدمه اليونان والرّومان في الفترة ما بين القرنين الرّابع والثّاني قبل الميلاد، والذي يُطلق على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات. وقد جاء في التّوراة بعد ترجمته إلى اليونانيّة مُسمّى “آرام نهرايم” الذي يعني “بلاد ما بين النّهرين” وتُرجِمَ المصطلح بكلمة “ميزوبوتاميا” اليونانيّة، وبعد ذلك شاع استخدام “بلاد ما بين النّهرين” ليُطلق على العراق بأكمله من النّاحية الجغرافيّة.
ومع أنّ البيئة الطبيعيّة للمنطقة اشتهرت بتدفّق ثرواتها المائيّة الكبرى وغناها بالمحاصيل الزّراعيّة، إلا أنّها كانت فقيرة بشكل كبير بالمواد الأوّليّة التي تلزم لبناء وتوطيد الحضارة، مثل الأخشاب والمعادن والحجارة، ولذلك كان الاضطرار إلى تأمين تلك المواد من الأقاليم المجاورة القريبة منها والبعيدة، وهذا ما أضفى صفة التّجارة على حضارة “ميزوبوتاميا” إلى جانب بروزها كحضارة زراعيّة. وكونها أصبحت حضارة تجاريّة؛ فقد استلزم ذلك تنظيم شؤون التّجارة الخارجيّة، مثل الحفاظ على الطرق وتأمينها وتسيير القوافل وتنظيم وتطوير المعاملات التّجاريّة، وهذا بدوره استدعى من النّاحية السّياسيّة توحيد الجهود وتكاتف القوى للوصول إلى دولة مركزيّة قويّة قادرة على حماية التّجارة الخارجيّة وازدهارها. فكان الاتّحاد بين المدن الكبيرة المتضاربة في مصالحها التّجاريّة، بهدف توزيع الفائدة على الجميع، بدلاً من التّناحر والتّضارب في المصالح، ومن هنا كان ظهور البذور الأولى لأنظمة الحكم، وتطوّرها فيما بعد إلى الوحدة السّياسيّة والاقتصاديّة الشاملة، وخاصّة من جهة تنظيم شؤون الريّ والزّراعة والسيطرة على الأنهار وإقامة مشاريع الريّ الكبيرة.
أمّا الحملات العسكريّة والحروب الخارجيّة التي كانت تشغل حكّام البلاد منذ أقدم العصور؛ فكانت لهدفين اثنين، الأوّل من أجل حماية وسلامة الطرق التّجاريّة، وذلك بالسّيطرة على المناطق التي تمرُّ منها تلك الطرق وإخضاع سكّانها لسيطرتها، وإقامة الحصون والحاميات العسكريّة في النّقاط الإستراتيجيّة فيها. والثّاني من أجل ضمان الحصول على المواد الأوّليّة التي تفتقر إليها المنطقة من الخارج، ولهذا السّبب اشتهر وادي الرّافدين بالموانئ على الأنهار وتطوّرت المعاملات التّجاريّة والقوانين المكتوبة، ومنها شريعة حمورابي الشّهيرة.
هذا الأمر تطلّب اهتماماً كبيراً بالطرق والاتّصالات الخارجيّة، ولذلك أخذ هذا الموضوع بُعداً وحيّزاً واسعاً لدى أهل الخبرة، فوضعوا ما يشبه دليل الطرق والمسالك التّجاريّة الخارجيّة، وقسّموها إلى:
– الطرق المؤدّية إلى الأقاليم الغربيّة، أي إلى بلاد الشّام وسواحل البحر المتوسّط.
– الطرق المؤدّية إلى الأقاليم الشّرقيّة والشّماليّة الشّرقيّة، وكانت أكثر صعوبة ووعورة من الطرق الغربيّة بسبب الطبيعة الجبليّة لتلك المناطق.
– الطرق المائيّة: من خلال الأنهار التي تصل إلى الخليج الذي يربط بدوره العراق بالجزيرة العربيّة والهند وشرقيّ آسيا.
أمّا من ناحية العبادة والجوانب العقائديّة؛ يلمس المتتّبع ذلك جليّاً في أساطير المنطقة، إذ تبرز صفة الصراع والاحتراب في تلك العقائد، وما يتطلّب ذلك من صراع وكفاح للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، وترويض عناصر البيئة لخدمة الإنسان، حيث نجد التفكير إلى أبعد الحدود في الحياة الدنيا والانشغال بها. وتبدو سمة الصراع والقوة والعنف واضحة في أساطير ميزوبوتاميا، وموضوع الطوفان الذي يحتلّ مكانة مرموقة في حضارتها، وجدت تعبيرها بشكل قويّ في ملحمة جلجامش، كحدث مهمّ.
حضارة وادي النيل:
كلّما ذُكِر اسم الشّرق وحضاراته؛ قفزت إلى الأذهان حضارة وادي النيل، وكلّما حضر اسم النيل وحضارته؛ فرض الفراعنة أنفسهم كأصحاب إحدى أهمّ وأرقى وأقدم حضارات المنطقة برمّتها. وصدق من كنّى مصر بـ “أم الدنيا” نظراً لموقعها الجغرافيّ وإشرافها على البحرين المتوسّط والأحمر ونهرها العظيم (النيل)، وأهراماتها وجميع آثارها وفراعنتها، إلى جانب تنوّعها الإثني والبشريّ عبر التّاريخ وإلى اليوم.
ولا يمكن إغفال فنون وادي النيل ونحن نخوض في حضارته، ففي مصر عُثر على رسوم لأشكال حيوانيّة وآدميّة تعود إلى الألف الخامسة قبل الميلاد شبيهة إلى حدّ كبير بمثيلاتها في بلاد ما بين النّهرين، كما كشفت البعثات الأثريّة والأبحاث التّاريخيّة عن رسومات وأشكال لقوارب الصيد والملاحة لدى القبائل التي سكنت على ضفاف النيل. كما تدلُّ آثار تلك المناطق على أنّ سكّانها عرفوا صناعة المنسوجات والسّلال واستخدموا العاج والصدف والعظم للزينة والتجمّل. وما من شكّ أنّ ما تتميّز به مصر في عصرنا من فنون الموسيقا والغناء والرّقص، قد استمدّت عظمتها من سابقاتها وأسلافها ممّن برعوا وأبدعوا في تلك الفنون، “فمن لا ماضي له لا جديد له” على رأي المثل الشّعبيّ.
حضارة الآشوريّين:
من الطبيعي أن يُنسب التّاريخ بما يحتويه من حضارات إلى الأقوام والشّعوب التي أوجدتها وابتدعتها فتُذكر باسمها، واسم الآشوريّين مأخوذ من النّسبة إلى “آشور”، كما تشير التسمية. و”آشور” كلمة أطلقت على أقدم مراكز الآشوريّين وهي عاصمتهم التّاريخيّة، ونفس التسمية كانت تُطلق على إلههم القوميّ، وبالتّالي فإنّ نسبة الأقوام إلى المدن والأماكن كان ومازال استخداماً مألوفاً وشائعاً مثل نسبة البابليّين إلى مدينة بابل، ونسبة الأكاديّين إلى أكاد وهكذا. والموطن الذي حلّ فيه الآشوريّون هو الجزء الشّماليّ الشرقيّ من العراق، وهم من الأقوام السّاميّة الذين تكلّموا السّاميّة الشّرقيّة.
اشتهرت حضارة وادي الرّافدين كمثيلاتها بالصلات والعلاقات التّجاريّة مع جيرانها منذ عصور ما قبل التّاريخ، وكان ازدهار التّجارة في عصر دول المدن، حيث كانت المتاجرة بموادّ مهمّة مثل الفضّة والصوف. واتّسعت دائرة العلاقات التّجاريّة أكثر مع بلاد الأناضول في العصر الآشوريّ القديم (2000 – 1500 ق.م)، حيث أقام التُّجار الآشوريّون مستوطنات وجاليات تجاريّة في الأناضول، وأقدم الأخبار المدوّنة عن تلك الحقبة، بحسب المؤرّخين، تعود إلى زمن الملك الآشوريّ “إيريشيم” الأوّل (1941 – 1902 ق.م). وقد اشتهر من تلك المراكز التّجاريّة مدينة “كول تبه” إذ ورد اسمها في النّصوص المسماريّة وكذلك مدينة “علي شار”.
وأهمّ ما يميّز الحضارة الآشوريّة من ناحية الفنون؛ الاهتمام بالتّماثيل وخاصّة تلك التي تُكرّس قوّة الحضارة الآشوريّة مثل الثيران المجنّحة، وكانت تُبنى أمام قصور الملوك، كما اشتهرت هذه الحضارة بتزيين جدران القصور والبيوت، على السّواء، بالرّسوم والنّقوش التي تعبّرُ عن طبيعة ومعالم الحياة في الحضارة الآشوريّة، ومنها رحلات الصيد. ويُعرف عن الاشوريّين أنّهم كانوا من أعظم البنّائين ولذلك أقاموا وأشادوا أروع المدن والقصور والمعابد، وفي الحرب ابتكروا المنجنيق واستخدموا المركبات الحربيّة والخيول، لأنّها في أساسها كغيرها من دول عصرها قامت على أساس عسكريّ وحربيّ.
ومن أشهر ملوك آشور وآخرهم هو الملك “آشور بانيبال” وعُرف عنه علمه وثقافته، ويُقال إنّه في فترة حكمه أنشأ مكتبة ضخمة ليحفظ فيها السجلّات القديمة والنّقوش الأدبيّة والتّاريخيّة والرّياضيّة والفلكيّة.
الحضارة السّومريّة:
تُعتبر الحضارة السّومريّة من أشهر حضارات بلاد الرّافدين، وهي من أقدم الحضارات في تاريخ الإنسانيّة، وتحوي الكثير من الأسرار، حيث يعود بها التّاريخ إلى خمسة آلاف قبل الميلاد، إذ أنشئت في الألف السّادس قبل الميلاد على أرض سومر – وهو سبب تسميتها – في المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات، لتمتدّ بعد ذلك إلى سوريّا ومنطقة الخليج العربيّ.
أولى الحِرَف التي امتهنها السّومريّين كانت الزّراعة إلى جانب الصيد في مرحلة لاحقة، كما امتهنوا دباغة الجلد والخياطة وغزل الصوف، والبراعة في الهندسة كانت إحدى ميّزات هذه الحضارة، ومن نتائجها تخطيط وبناء المدن الشّهيرة مثل مدينة “أور”، والقصور الفارهة الضخمة، وعرفت الحضارة السّومريّة كذلك الموسيقا والفنون التشكيليّة.
برع السّومريّون في علوم الفلك بشكل لا يُضاهى، فَهُمْ أوّل مَنْ وَضَعوا التقويمين الشّمسيّ والقمريّ، ومن خلال معرفتهم العميقة بالفلك؛ اكتشفوا الفصول الأربعة ومواعيدها بدقّة، ولعلّ من الاختراعات الفريدة التي تفرّد بها السّومريّون في زمانهم هو ابتكار الدّولاب الذي أحدث ثورة في الصّناعة ووسائل النّقل، ومن اختراعاتهم أيضاً المحراث.
والحديث يطول ويطول عن كلّ حضارة شرقيّة على حدة وخاصّة السّومريّة، وكما نوّهت في البداية أنّه سيقتصر حديثنا على الإلمام ببعض أشهر حضارات الشّرق وذِكرِ بعض الجوانب التي تميّزت بها، وليس هدفنا الخوض والتعمّق في حيثيّات وتفصيلات جميع حضارات المنطقة.
أسباب اندثار الحضارات.. سقوط الحضارات:
الديمومة والاستمرار صفات يبحث عنها الإنسان منذ الأزل، سواءً على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ، وكذا الحضارات الإنسانيّة حاولت، ولا تزال تحاول، الحفاظ على ديمومتها واستمرارها ما أمكن من الزّمن. وكما أنّ هناك أسباباً موضوعيّة وذاتيّة تساهم في نشوء دولة أو حضارة ما، فإنّ أسباباً معاكسة، إن وُجدت، تؤدّي بتلك الدّولة أو الحضارة إلى الاندثار والزّوال. ولكي نفهمَ عوامل السّقوط والزّوال؛ لا بُدَّ من التأمّل في عوامل الازدهار. فإذا ما جُفّت منابع التطوّر والعطاء لدى أمّة ما انهارت على أثَرِها، وليس بالضرورة أن تكون تلك الأسباب نتيجة لعوامل خارجيّة، سواءً من فعل الإنسان نفسه، مثل الحروب والتّحالفات المضادّة والمؤامرات، أو من فعل الطبيعة كالزّلازل والفيضانات وما شابه، فقد تكون تلك الأسباب نابعة من الضعف فتؤدّي بالنهاية إلى السّقوط فالزّوال، وهي أسباب عائدة إلى عوامل ذاتيّة داخليّة مرتبطة بطبيعة المجتمعات التي تعيش وتُحكم داخل تلك الحضارات، ومنها أيضاً المؤامرات الدّاخليّة والانقلابات داخل الأسر الحاكمة، أو فساد نظام الحكم، بشكل أو بآخر، نتيجة الانجرار وراء المصالح الشّخصيّة والاستبداد بالحكم والتفرّد بالسُّلطة، والتحكّم بخيرات البلاد والانفصال عن الشّعب.
تلك الأسباب العامّة التي تمّ طرحها؛ تكادُ تكون واحدة على صعيد المجتمعات الصغيرة منها والكبيرة بما فيها المدينة والدّولة وحضارة شعب ما، وحتّى على صعيد العائلات والمقاطعات وجميع أنظمة الحكم وأشكال التجمّعات الإنسانيّة منذ نشأتها. ولكن عندما يتعمّق المرء أكثر في أصل ولادة الاستبداد، ويبتعد عن حديث العموميّات؛ سيرى أنّه ثمّة أسباباً عمليّة وواقعيّة تطرح نفسها على طاولة المناقشة حيال سقوط واندثار حضارة من الحضارات، ومنها العامل السكّاني (الدّيموغرافيّ) والعوامل الاقتصاديّة من حيث تأمين التّجارة والغذاء والوحدة الثقافية وتقسيم العمل ووجود حكومة مركزيّة قويّة وجيش لا يُهزم، وهذه العوامل تعمل فيما بينها بطريقة متلازمة ومتطلّبة، وأيُّ سقوطٍ في عامل منها سيؤدّي إلى اهتزاز وزحزحة في بقيّة العوامل، وإذا استمرّ الاهتزاز؛ سيصل مع الزّمن إلى زلزال نتيجته السّقوط، وبذلك تتداعى الحضارة وتؤول إلى الزّوال والاندثار، لتقوم ثقافة أو حضارة أخرى مقامَها.
ويرى العلماء أنّ من أسباب اندثار الحضارات أيضاً العوامل الطبيعيّة مثل تغيّر المناخ والأوبئة والأمراض والمجاعات الكبرى، ويؤكّد علماء اليوم أنّ التغير المناخيّ أدّى بشكل مباشر أو غير مباشر لاختفاء بعض الحضارات القديمة، ويستشهدون باندثار حضارة وادي السّند (باكستان) التي تُعتبر من الحضارات العالميّة القديمة إذ نشأت قبل حوالي 4500 سنة.
ويضرب العلماء أمثلة أخرى لانقراض الحضارات وزوالها، مثلما حصل في أوروبا أثناء المجاعة الكبرى في أوائل القرن الرّابع عشر الميلادي، بسبب ارتفاع مستوى الأمطار بشكل غير مسبوق وطبيعيّ ودمار الأراضي الزّراعيّة. وتشير بعض الدّراسات التي توصّل إليها علماء المناخ أنّ الجفاف والعواصف التّرابيّة كانت السّبب في اختفاء الحضارة السّومريّة بصورة مفاجئة قبل نحو 4200 عام، بحسب مقال صدر عن فريق علميّ متخصّص من جامعة أكسفورد، وكذلك الحضارة الأكّاديّة بعد حوالي 200 سنة على قيامها على يد سرجون الكبير، حيث اختفت مع عاصمتها “أكّاد” رغم أنّها كانت أعظم حضارة وأقوى دولة في وقتها، وبقي اختفاؤها موضع جدلٍ بين المؤرّخين والعلماء، فمنهم من يرى أنّ شعوب ومدن بلاد ما بين النّهرين لم تكن راضية عن السُّلطة المركزيّة، فناضلت وثارت على سرجون وأحفاده، وآخرون يرون أنّ أسباب اختفائها مرتبط بالحروب والغزوات. إلا أنّ بعض الجيولوجيّين وعلماء المناخ يتحدّثون في الفترة الأخيرة عقب الحفريّات في سوريّا، عن كارثة مناخيّة ضربت المدن الكبيرة في بلاد ما بين النّهرين قبل حوالي 2200 سنة قبل الميلاد، وبدأت على أثرها مرحلة جفاف شديد في الشّرق الأوسط، وبسببها دُمّرت حضارة سومر.
خاتمة:
تبرز الحضارة بصورة واضحة في نمط حياة الشّعوب والقبائل البدائيّة، من حيث هي جماعات منظّمة، وفي أسلوب توجّههم ونظرتهم إلى الكون، وخصوصاً في النّسيج الاجتماعيّ وجملة العلاقات التي تترسّخ بينها، ولكن هذا لا يعني أنّ الجماعات غير المنظّمة تاريخيّاً لا تتميّز بخصوصيّة ثقافيّة معيّنة.
وينبغي الاعتراف أنّه ليس في هذا الكون حقيقة واحدة وثابتة، فالحقائق التّاريخيّة والسّياسيّة ليست دائماً هي وجه الحقيقة النّاصع، ثمّ إنّها تتغيّر على الدّوام بتطوّر الوعي المعرفيّ للإنسان وقدرته المتزايدة على كشف الحقيقة المزيّفة. والحقيقة التي كانت صحيحة في يوم من الأيّام قد تصبح في زمن آخر حقيقة مزيّفة، لأنّه لا توجد حقيقة بأحرف كبيرة لا تشوبها شائبة ولا يصيبها الشكّ، بل جميع الحقائق هي صحيحة بقدر ما يحمل أصحابها من قوّة على الأرض وثبات في الكتب ورسوخ التّاريخ. وفي هذا الصدد لا بد من إجراء التبادلات الثّقافيّة بين الشّعوب لدفع تطوّر الحضارة الإنسانيّة إلى الأمام بصورة سليمة ومنسجمة، فالتّبادل الثّقافيّ هو القوّة المحرّكة للحضارات، وهو من ساهم بشكل أو بآخر في خلق الاندماج الثّقافيّ بين الشّعوب.
المراجع:
________________
– اللّغات والحضارات الشّرقيّة نظر وتطبيق – تنسيق أحمد شحلان وإدريس عبيزة.
– مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – طه باقر.
– الدين في الحضارات الشّرقيّة القديمة – د. محمود أيّوب الشنّاوي.
– الحضارات القديمة – ترجمة: نسيم اليازجي.