نمنمات صوفية أو الصوفية الثورية
ريما خليل
كنت صغيرة وكانت أمي ترسلني أنا وأخي إلى الصوفي في القرية المجاورة لقريتنا، كنا نخاف الكلاب وننظر من فوق الجبل المشرف على القرية حتى نرى أحدهم فنركض باتجاه بيت الصوفي، وكنا ندعوه بصوفي عيشه، وعيشه هي زوجة الصوفي، الرجل الملتحي ذي الملامح السمحة، فنسرد مطلبنا على زوجته، فتحدثه بطلبنا: “أخي الصغير يبكي كثيراً، وأختي تفز من نومها”، فكان يأتي بقلمه، ويمرره على ورقة بيضاء عدها لهذا الغرض، فنحبس أنفاسنا نرقب شفاه الصوفي وهي تتحرك بصمت ونستمع لصرير القلم وهو يخط تعاريجه على الورقة البيضاء، ثم يطويها على شكل مثلث، وتوصينا زوجته نقلاً عنه: قل لأمك أن لا تدع الماء يلامس الورقة، فيكز أخي يده عليها وننطلق.
منذ تلك الأيام ارتسم في مخيلتي معنى الصوفي، فهو كلّ رجل ملتحٍ كبيرٍ في السن، كبرتُ وكبُرت معي المعأني وتعرّفت على الصوفية من خلال ما قرأته عن جلال الدين الرومي والحلاج وفقي طيرأن و ملا جزيري و رابعة العدوية.
إن المتعارف عليه في المصطلح عن معنى الصوفية هو التفاني في النفس والعيش الزاهد والتقشف، ومن خلال لقائي بأحد رجال الصوفية سألته عن معنى الصوفية فكان جوابة: “الصوفية هي صفاء الروح لله سبحأنه وتعالى”.
وقد اختلف النقاد والباحثون في تعريف الصوفية ومراجعها، حتى أن الصوفيين بحد ذاتهم اختلفوا فيما بينهم على ذلك، ويرجح أن مصدر التسمية يعود إلى لباس الصوف، فمن المعروف أن الصوف ذو خشونة في ملمسه على الجسد، وهذه الحقيقة ربما هي الأقرب إلى الواقع، فالذي عرف عن الصوفيين أنهم يقومون بتعذيب الجسد من أجل أنصياعه للروح التي يعتبرونها شيئاً من الله، فكان أتباع هذه الطريقة يلبسون لباس الصوف صيفاً شتاء لتعذيب الجسد وعدم منحه الراحة والتفاته إلى الشهوات والملذات الدنيوية، وانصياعه للروح، ونجد ذلك في حياة أباطرة الصوفية من الحلاج إلى سمنون المحب و فقي طيران و جلال الدين الرومي، وعبد القادر الجيلاني، وقد تربّع الحلاج على قمة الهرم عند الصوفية، فهو الذي كان يرى الله يتجلى في كل ما خلق، فقد كان يرى الحلاج بأن الخط هو مجموعة من النقاط، و الخط بدون النقاط لا شيء وكذلك النقطة بدون الخط لا تعني شيئاً، أي أن الله لا معنى له بدون الخلائق، لذلك نجده توصل إلى ما فحواه “أنا الله” ويقصد بذلك أن الله يتجلى في ذات الإنسان، وأشهر فلاسفة المتصوفين على الإطلاق الفيلسوف جلال الدين الرومي، الذي ذاع صيته في الفلسفة الصوفية، فهو القائل “تعلمت التفكير، وبعدها تعلمت التفكير داخل قوالب، بعدها تعلمت أن التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب. “ويرى المتصوفون أن الإنسان يرتقي بعشقه للوجود الذي يتجلى فيه الخالق، فنجد أن جلال الدين الرومي يتحول إلى كائن لا مرئي من خلال حبه: “وفي بحر العشق ذبت كالملح لم يبق كفر ولا إيمان، فنجد الصوفيين يبتعدون عن كسب رضا الآخرين، “النفس من كثرة المديح تتحول إلى فرعون، إنّ الأشياء الخفية تجعلها لأضدادها مرئية ” إنّ الله لا معنى له بدون الكائنات والمخلوقات التي خلقها، وإن الله يتجلى في ما خلق، وهو القائل “ما رأيتُ شيئاً إلّا رأيت الله فيه”. ويرى الصوفيون أن الله يتجلى في قدسيته في قدسية الإنسان ” أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم لِمَ هذا التيه من أجل معشوق وأحد، ما تبحثون عنه في هذا العالم ابحثوا في دواخلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق”. فالحضّ على عشق الذات الإلهية تكمن عند الصوفيين في الخلائق، فعشق الإنسان والبحث عن الجنة التي وعد الله بها عباده وجودها بين المخلوقات، فالشاعر ملا جزيري يرى انعكاس الذات الإلهية في وجه الحبيبة وهو ينظر إليها، كيف لا وهو الخالق والمبدع لذلك الجمال، ولا يتوانى الصوفيون عن محاكاة الذات الإلهية، فيقول أحد الصوفيين ما معناه “يا الله أنت تعدنا بجنتك و الحواري وتمنعنا من الحواري على الأرض، وأنا عبدك أفضّل الدينار النقد على مئات الدنانير المؤجلة، فكيف يفوتك ذلك؟ ويقول عمر الخيام “يا ربّ هل يرضيك هذا الظمأ والماء ينساب أمامي”، ونجد الخيام يستغبي الخمّار فيقول له: “هل في مجال السكون شيء بديع أحلى من الكأس وزهر الربيع، عجبت للخمّار هل يشتري بماله أحسن ممّا يبيع”. ولاذ الصوفيون إلى الحكمة (عندما نحب نعشق حتى عيوب المعشوق وحينما نكره نكره حتى كمال المكروه). ونجد الصوفيين ينظرون إلى تقديس المبدأ، فالإنسان بدون مبدأ في هذه الحياة لا معنى له وإن كان مبدأ الصوفي الأول والأخير هو عشق الذات الإلهية “إذا كنت مثل القشة لا مبدأ لك تميل مع كل نسمة فإنك لن تعدل قشة حتى ولو صرت جبلاً “.
ويحث الصوفيون على التعلم والتفكير والبحث، و لا يكتفون بالأقاويل والنقل. “على المرء أن ينفذ إلى قلبه بنور العقل ويرى واقعه لا أن يكون عبداً للنقل”. ويدّعي الصوفيون أنهم وصلوا إلى مرتبة تعلو مرتبة الأنبياء واقتربوا من الله حتى أنهم اتحدوا روحياً مع الله، وانكشف لهم الغيب وزيل الستار بينهم وبين الله، وهم يسعون إلى عبادة الله حباً به فقط وليس خوفاً من عقابه أو طمعاً في جنانه، فيقول جلال الدين: “أيهما أصدق في الطاعة، من أطاع الملك في الغيب أم من أطاعه في الحضور” ويسعون جاهدين إلى عدم الالتفات إلى الغير من أجل الفوز برضاه أو طمعاً في مدحه أو خوفاً من ذمه، وكل غايتهم هي الاتحاد مع الذات الإلهية، أي محاربة بناء الأنا الخاصة بين البشر، والقناعة بأن كلّ ما وهبه الله من روح وجسد لله وحده، وكل ما يسعى إليه الصوفي هو حبه الله فقط لاتخوفاً ولا طمعاً، وقد حاول الصوفيون أن يضعوا قواعد لطريقتهم وفتحوا لذلك مدارس يعلمون بها أتباعهم ومريديهم، ويدعونها بالتكية.
والمتمعن في حياة وأفكار أباطرة الصوفية يجد التباين واضحاً بينهم من حيث الأفكار والإيمان، وربما تجد كل واحد منهم يشكل مدرسة منفصلة عن الآخر، وربما يأتي من يبحث في التفاصيل الخاصة بكل مفكر صوفي على حدة، وسيجد الفارق واضحاً بين كل مفكر منهم ونهجه في التفكير والأفكار التي يطرحها وتصوره للذات الإلهية.
الصوفية الثورية
هي الالتزام بخط الثورة المنشودة في أهدافها وبرامجها إلى حدّ التفاني من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.
ربّما ظهر ميراث الصوفية الثورية في شرق آسيا بين الثوار الفيتناميين الذين حاولوا الوقوف بوجه أعته دولة في العالم، ولم يكن بحوزتهم ما يكفي للوقوف بوجه تلك الدولة سوى الإيمان بحقهم، فتحوّلوا إلى التفاني من أجل ذلك الحق، فكانوا يحملون بيدهم الأسلحة الخفيفة وفي قلبهم إيمانهم المطلق بقضيتهم، وربما هم من سطّروا مقولة “أقوى الجيوش في العالم على الإطلاق هو الجيش الذي يمتلك الحق”. والمتمعن في تاريخ الحركات الثورية في الخمسينيات من القرن الماضي يجد أنّ التاريخ شمل بمراحله مرحلة خاصة بحركات التحرر في العالم بنهجها الماركسي الداعم لتحرّر الشعوب من الاستعمار، من فيتنام إلى تشيلي مروراً بالدول الإفريقية، وكلّ تلك الدول كان جلّ اعتمادها على سلاحها الوحيد؛ إيمانها بقضيتها وحقها، فكانت بداية صقل الشخصية الثورية التي تؤمن إيماناً مطلقاً بقضيتها، والتفاني في سبيل ذلك الهدف والعيش حياة متقشفة في سبيل تحقيق الهدف المنشود، فالبحث عن الملذات والانجرار على إثرها يبعد الإنسان عن مراميه وأهدافه، فكل ما يطلبه العقل ويسمو إليه تناقضه النفس الباحثة عن الملذات، فبالقدر الذي يسيطر به الإنسان على نفسه بالقدر الذي يتحرر من السعي وراء الملذات، و يأتمر بعقله الذي يقوم على التفكير المنطقي والأقرب للواقع، وتعدى ذلك الإيمان حدود الوطن الواحد إلى نظرية النضال الأممي ليشمل جميع دول العالم المستعمَرة، وظهر ذلك في شخصية المناضل الأممي كيفارا، الذي جسّد في شخصيته شخصية المناضل الثوري المتصوف، المؤمن بالنضال المتفاني من أجل رفع الظلم عن العالم، وكان نهجه في ذلك؛ الإيمان بالنظرية الماركسية، فكما كان نهج الصوفيين هو الإسلام كان نهج الثوريين الصوفيين هو الماركسية، فظهرت أحزاب ماركسية ربما كانت منفردة فيما قدمته للمجتمع من أخلاق مميزة في الثقافة والأدب، وما زلنا نجد أن الشخض الذي يحمل الأفكار الماركسية يمتاز عن غيره في أسلوب التعامل والأخلاق، وربما يعود الفضل لوجود الأدب الواقعي في الشرق الأوسط للفكر الشيوعي، فنجد أكثر الروايات والشعر في فترة انتشار الفكر الماركسي تجسّد الواقع الذي يعيشه المجتمع، من فقر وظلم واستغلال، ومن المؤسف أن فشل الماركسية في تطبيقها كنظام سياسي انعكس على وجودها كنظرية كانت كل الشعوب المستعمَرة تنتهجها، وربما يعود السبب إلى الجمود والشمولية التي حقنت بها الماركسية، فتحوّلت من نظرية سياسية تدعو إلى الحريات العامة للفرد وتناهض الدكتاتورية، فوجدناها تنتج أعته الأنظمة الدكتاتورية في العالم، وقد يكون ذلك ناتجاً عن الشخصيات التي جعلت الفكر الماركسي فكراً جامداً لا يتعامل مع الواقع ولا يربو إلى التسامح، فبدلاً من أن تقضي على الظلم والاستغلال، نجدها تقضي على أشخاص كانوا يحملون أفكاراً تطالب بالماركسية الواقعية، الماركسية التي تحاكي الواقع، فتحوّلت الأحزاب الشيوعية إلى أحزاب دكتاتورية بدل الطبقات التي كانت تحكم بدكتاتورية، فتم استبدال الطبقات الدكتاتورية بالأحزاب الدكتاتورية الشمولية، فبدل أن تتحوّل الدولة إلى دولة تخدم المجتمع، نجد المجتمع قد تحوّل إلى مجتمع يخدم الدولة، بينما كان من المتوجّب أن يتمّ تحويل المجتمع إلى مجتمع ديمقراطي ينعم الجميع فيه بالحريات العامة بدون تمييز، بينما يتحول الاقتصاد إلى اقتصاد تعاوني، بين الدولة والمجتمع، فكون اقتصاد الملكية العامة أثبت فشله في الإدارة والإنتاج، وربما يعود السبب إلى انتفاء روح التنافس في إنتاج القطاع العام، فنجد أنّ النظام الماركسي انهار من جانبيه السياسي والاقتصادي، بينما ظل الجانب الثقافي طافياً على السطح، فنجد ما كان ترشد إليه الماركسية من أسلوب التعامل مع الغير والاهتمام بالطبقة الفقيرة، وتقديم العون للمحتاجين، وتقديس العمل بدل الإنتاج.
ظهرت الصوفية الثورية بين صفوف عدد من الشباب الكرد في بلاد لا تعترف بغيرها من الشعوب، وساهمت عبر عصور طويلة في القضاء على عدد من الشعوب ومحو وجودها وهي الدولة التركية، إرث الامبراطورية العثمانية الطورانية، وكان للدولة العثمانية باع طويل في تصفية الشعب الأرمني، واتجهت في أهدافها إلى القضاء على الشعب الكردي، وكان شعارها أنها قضت على الشعب الكردي وردمت قبره في قمة جبل آغري.
والباحث في تاريخ الشعب الكردي لن يجد عدواً أعته من الدولة التركية، وربما يجاريها في ذلك صدام حسين، فالمتمعن في تاريخ الشعب الكردي يجد أن الشعب الكردي في تركيا وصل إلى مرحلة لم يعد لديه الرجاء في الحصول على حقوقه، واتجه باتجاه الانحلال التام في بوتقة الدولة القومية التركية، فالأشخاص الذين عايشوا فترة الجرائم المرتكبة من قبل الدولة التركية بحق الشعوب المحتلة من قبل تركيا لم يعد لديهم القدرة حتى مجرد التفكير في حقوق الشعب الكردي، وقد رفع الشعب الكردي راية الاستسلام للدولة التركية واتجه إلى الانخراط مع أهداف الدولة القومية التركية.
في هكذا أوضاع ظهرت مجموعة من الشباب المثقف في الجامعات التركية، بعد دراسة مستفيضة لأوضاع الشعب الذي يعيش في شرق تركيا أو ما يدعونه بأتراك الجبال، ووجد هؤلاء الشباب أن هذا الشعب يختلف كلياً عن الشعب التركي، وتنطبق عليه خصائص الشعب بحد ذاته، وهو مقسّم بين عدة دول، ونتيجة هذا الانقسام أصبح شعباً متفككاً متأثراً بثقافة الدول المستعمرة من قبلها، ولكنه مازال محافظاً على الروابط القومية التي تربطه ببعضه البعض، فراحوا يعدّون العدّة إلى إحياء هذا الشعب عن طريق وضع قواعد ثورية صارمة تجاري الوضع الذي يعيشه هذا الشعب، ولا تقل صرامة عن القوانين المطبقة من قبل الدولة التركية الهادفة إلى محو هذا الشعب من الوجود وتحويله إلى رديف للقومية التركية، فلم يجدوا بداً غير التحول إلى نهج ثوري قريب من الطريقة الصوفية، فتم وضع قواعد لتلك الشخصية التي تريد النضال من أجل إحياء هذا الشعب ونبش القبور بحثاً عمّا تبقّى من أشلاء هذا الشعب، غير أنه سرعان ما اكتُشف أمرهم من قبل الدولة التي سارعت إلى تشتيت شملهم وملاحقتهم واستخدام الطريقة الفردية في القتل بحق قياداتهم، مما اضطرهم إلى اللجوء إلى أقوى المناطق الساخنة في الثورية وكانت في تلك الأيام البقعة التي يعيش فيها الثوار الفلسطينيون، الجبال على الحدود السورية اللبنانية، حيث المعسكرات المنتشرة للثوار الفلسطينيين.
لجأ هؤلاء الثوار إلى تلك المنطقة الساخنة، وبدؤوا بالتحضير للثورة عن طريق إعداد الكادر القادر على مواجهة مصاعب الحياة بين الجبال، و القدرة على القتال في أصعب الظروف وبأقل الإمكانيات المتاحة.
ومن الأيام التي عايشنا فيها حزب العمال الكردستاني ذا الكوادر الثورية المتصوفة من أجل قضيتهم، إذ في بداية عام 1985 تعرفت على حزب العمال الكردستاني، وكانت المعرفة بعناصر ذلك الحزب وهم في قمة الأدب والأخلاق، وليس لهم همّ سوى القراءة والمطالعة المستمرة، فكانوا إذا حلوا في بيت لا تشعر بوجودهم على الإطلاق، ولو قدمت لهم رغيفاً من الخبز لوجدتهم أكلوه بكل شراهة، وقاموا إلى تنظيف المكان وغسلوا صحونهم، وعادوا إلى قراءة ما بيدهم، ولم يصدف أن رأينا عنصراً من عناصره يرتدي لباساً رفوهاً أو ثميناً، أو ينتعل حذاء سوى البوط ماركة المِقاب، وتجدهم يتخذون الدروب الطويلة سيراً على أقدامهم، ونادراً ما يلجؤون إلى وسائط النقل، وغالباً ما يكتفون بالقليل من الطعام، كثيرو الحفاظ على عدم إزعاج الآخرين، يحافظون على هدوئهم، يحدثونك عن مأساة شعبهم، يسردون لك وقائع تاريخية بطريقة سهلة وبسيطة، معتمدين قواعد الصوفية الثورية التي تم وضعها عام 1983وهي عبارة عن قواعد يجب على المناضل الثوري اتباعها ليصل إلى روح الثوري الحقيقي المناضل من أجل قضيته، وكانت تحت مسمى (خصائص المناضل الثوري) حتى أنها أصبحت قواعد لجميع المناضلين الثوريين في العالم، وعندما نقول المناضل الثوري لا نعني الثائر الذي يحمل السلاح بيده، فالمناضل الثوري هو إنسان يجد في نفسه المسؤولية في رفع الظلم عن الآخرين وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع البشر، فيثور ضد كل ما هو مانع من الوصول للأهداف الإنسانية المنشودة، ويختار الطريق أو النهج الذي سيسلكه للقيام بالثورة ضد كل ما هو منبوذ من قبل العالم البشري.
وأهم ما عرفناه عن المناضل الثوري من صفات الثوري المناضل؛ ثوري متكامل في كل ما يحمل من صفات بدءاً من المأكل والمشرب، وقوله مرتبط بفعله، متفانٍ في التضحية من أجل الإنسانية.
1 ـ إنه مفعم بالحب الشديد لوطنه: فالإنسان الذي يريد أن يصل إلى روح المناضل الثوري، لابد له من أن يحب وطنه للدرجة التي تجعله يقدّم روحه في سبيل هذا الوطن، وحسب مفهوم الثورة والفلسفة الثورية لحزب العمال، فالوطن ليس هو كما يدعونه الأرض والأحجار والأشجار، الوطن هو مجموعة الأرواح التي تعيش في ذاكرة المناضل الثوري، الوطن هو ذاكرة المناضل الثوري والتي اتخذها هدفاً له من أجل تحريرها ممّا هو يراها من إجحاف وظلم، فلو كان الوطن يعني التراب والأحجار والأشجار فهناك في بقعة ما على وجه البسيطة ما هو أفضل من التراب الذي نعيش عليه، ومناظر خلابة من الأشجار والحقول، أفضل وأجمل من الأشجار التي نعيش في ظلها، إذ إنّ الوطن هو ذاكرة الفرد، هو مجموعة الأرواح التي عايشها ويعايشها في ذاكرته التي لا يمكن التخلّص منها، فنجد المهاجر يظل يكابد ويعاني من الموروث الروحي الذي نقله معه، فالوطن هو ذاكرة المناضل الثوري، وحتى يستطيع المناضل الثوري أن يحب وطنه، لابد له من التعرف على تاريخ وطنه وحاضره وتصوره لمستقبل هذا الوطن، لابد له من البحث في تاريخ هذا الوطن بحثاً ممنهجاً ومفصّلاً، والتعرف على معالم هذا الوطن شبراً شبراً حتى يستطيع أن يرسم أهداف وطنه المستقبلية.
2 ـ إنه في صف النظام الديمقراطي: المناضل الثوري الذي يناضل من أجل رفع الظلم لابد أن يكون مؤمناً بحريته وحرية شعبه، وحرية الآخرين، و إلا أصبح مرتزقاً يناضل من أجل تحقيق سلطة الحزب أو هدفاً لفئة معينة من الأفراد، أو طبقة ما، وما أكثر الأمثلة على ذلك، فنجد الكثير من الثورات التي أطاحت بسلطة جائرة أو دكتاتورية ثم جاءت بسلطة أكثر دكتاتورية من السلطة السابقة، وربما يكمن فشل الدول ذات النهج الشيوعي في هذا المضمار، فالدكتاتورية التي مارسها “فيدل كاسترو” كانت أكثر دكتاتورية من نظام “باتيستا”، إذ لا بدّ للمناضل الثوري من أن يمنح ما يسعى إلى تحقيقه للشعب في نهاية الأمر.
3 ـ إنّه أممي يكافح من أجل الاشتراكية: المناضل الثوري يطالب بحقوقه وحقوق شعبه وحقوق جميع الشعوب، فالمناضل الثوري الذي لا يؤمن بحرية الآخرين لا يمكن أن يكون حراً، فغاية المناضل الثوري هو رفع الظلم عن نفسه و عن شعبه وعن الآخرين، فلن يكون مناضلاً ثورياً المناضل الذي يناضل من أجل رفع الظلم عن نفسه واستبداله بظلم الآخرين، يجب ألا يكون هدفه رفع الظلم عن نفسه و تطبيقه على الغير، وربما وجدنا ذلك الفشل الذريع في كومونة باريس، وكيف تم قطع رؤوس الأطفال عبر المقاصل، بحجة أنّهم أبناء الطبقة الحاكمة، يجب على المناضل الثوري أن يكون متسامحاً، و إلّا تحوّل هو الآخر إلى دكتاتور لا يفرق عمن قام بالنضال ضدهم، وهذا لا يعني التسامح مع من كان بيده دفة القرارات وأصرّ على ظلمه والإسهاب في ممارسة الظلم، فهؤلاء لا يمكنهم التخلص من أمراضهم النفسية التي تدفعهم إلى ممارسة الظلم بدون حدود، فهناك حقائق علمية تشير إلى أن بعض الأفراد لديهم هواية القتل والتمتع بقتل الآخرين، فلابد من أن ينال هؤلاء جزاءهم العادل، فالحقيقة العلمية تشير إلى أنّ الأرض تتسع للجميع ومن حق كل فرد أو مكون أن يعيش عليها وفق خصوصيته بدون أن يتطاول على وجود الآخر الذي يختلف عنه، فيجب على المناضل الثوري أن يناضل من أجل الديمقراطية له ولغيره.
4 ـ إنه مفعم بالحب والاحترام لرفاقه وللشعب: المناضل الثوري إذا كان خالياً من الحب لن يستطع أن يضحي وبالتالي لن يحقق النصر، فالحب هو المحرك الأساسي للتضحية التي تقودنا إلى النصر، فنجد الكثير من المناضلين الثوريين يتحول حبهم للشعب إلى عشق، ويترافق هذا الحب بالاحترام الذي يعتبر منبع الأخلاق، فالأخلاق هي إحدى سمات الثوري الذي يطالب البشر بتحقيقها والتي تتناقض مع القواعد القانونية الملزمة والتي يترتب على مخالفتها عقوبات.
5 ـ إنه ممثل الأخلاق الاشتراكية الجديدة: إن أهم ما يميز المناضل الثوري هو تمتعه بالأخلاق التي لا تقبل استغلال الغير والتطفل و سرقة مجهود الغير، والتطاول على حقوق الغير، كيف لا وهو الإنسان الذي يقدم روحه في سبيل تحرير الآخرين من الظلم، فلا يمكن أن يكون إنساناً تسمح له أخلاقه الثورية بالتعدي على حقوق الغير، وليس من المعقول أن يبتعد عن الشعب في مأكله ومشربه، فهو فرد من أفراد المجتمع الذي يعيش بينه، يأكل أكله ويشرب مشربه، ويلبس لباسه.
6 ـ ليس جباناً ولا أنانياً، بل شجاع ومستعد للتضحية: فالحقية لا يمكن أن يكون الإنسان الأناني والجبان ثورياً، فالثورية تتطلب التضحية بما هو أغلى ما في الوجود وهي الروح، فالثوري هو المناضل الحقيقي الذي لا يتوانى عن التضحية من أجل تحقيق ما يسمو إليه، فوجدنا الكثير من الثوريين الذين أحرقوا أنفسهم أو تقدموا من أعواد المشنقة وهم مرفوعو الرأس، وكل ذلك من أجل أن ينعم الآخرون بحريتهم وكرامتهم.
7 ـ غير منكمش بل مندفع وحماسي: الثوري المتصوف إنسان مبادر يمتلك زمام المبادرة، ولا ينتظر الآخرين حتى يقدموا له المعونة بل هو من يقدم المعونة للآخرين، و يبث روح المبادرة في الآخرين، ويحضهم على النضال ويعتبر مثالاً وقدوة لهم.
8 ـ إنه يتقن الجمع بين المرونة والصلابة: الثوري المتصوف مرن في تعامله مع الجماهير وصلب مع أعدائه ولا يتنازل عن أهدافه ومبادئه، فليس من المعقول أن يهب بوجه الجماهير، وهو لا يقدم على إرهابهم أو تخويفهم.
9 ـ إنه يقظ وحساس وموزون في حساباته: يجب على المناضل الثوري المتصوف أن يمتلك بعداً نظرياً في ترجيح وتحليل ما يحيط به من مصاعب وأن يمتلك بعداً عميقاً في تحليل الأمور السياسية وترجيح الأفضل والمناسب، والعدول عما لا يخدم قضيته، ويتوجب عليه أن يكون ماهراً في التنبؤ بالمستقبل بشكل صحيح.
10 ـ إنه يقظ وحساس ومتنبئ: يتوجب على المناضل الثوري المتصوف أن يتنبأ بالمخاطر التي تحيط به وأن يعرف متى يبدأ النضال ومتى يتوقف، يتطلب منه أن يحمي نفسه من المخاطر ويحمي رفاق دربه، و يبتعد عن المغامرات والمخاطر التي قد تذهب بحياته وحياة رفاقة دون تحقيق النتيجة المرجوة من تضحيته.
11 ـ إنه باحث ومدقق في التعليم: الثوري المتصوف مثابر على التعلم والتعليم، لا يتوقف عن تعليم نفسه بالشكل الصحيح، وهو يعي ما يتعلمه وكيف يجعل كل ما يتعلمه في خدمة أهدافه بالشكل الصحيح.
12ـ إنه مبدع وخلاق لا يقبل بالقوالب: يجب على المناضل المتصوف أن يكون إنساناً منفتحاً على العالم المحيط به، وأن يبتعد عن الجمود الفكري، وأن يتصرف حسب الزمان والمكان المناسبين دون التحجر في أفكاره، قابلاً للتغير والتأقلم حسب الظروف التي تحيط به، لا يتّخذ من القواعد التي تعلّمها قالباً يطبقه في كل مكان وزمان، فالأفكار قابلة للتغيير وكلّ ما في الكون متحرّك ومتجدّد، ويجب عليه أن يطوّر قواعده حسب التطوّر والتجدد الذي يناسب المرحلة التي هو فيها.
13 ـ المناضل بوصفه طليعة للشعب: يجب على المناضل الثوري أن يكون مثالاً يحتذي به الشعب، وأن يكون في صفّ الجماهيرالتي تتّخذه مرشداً لها، ولا يبتعد عن الجماهير ولا يتعالى عليها، بل أن يكون في الصفوف الأمامية التي تقود الجماهير نحو الهدف، ولا يكون في المؤخرة حيث يصبح تابعاً بدل أن يكون متبوعاً، وأن يعيش معها ويحسّ بآلامها ويأكل من أكلها ويشرب من مشربها، ولا يختلف عنها سوى في تصرفاته التي تعتبر مثالاً للإنسان الخلوق والمضحّي، والدليل والمرشد نحو الهدف الذي يحوّله هدفاً للجماهير، ففي النتيجة المناضل الثوري تحميه الجماهير عندما تشعر بأنه مرشدها ودليلها، وإلا ستنفضّ من حوله وسيجد نفسه وحيداً في مواجهة أعدائه.
14 ـ على المناضل معرفة كيفية صنع الحياة من الموت: أحياناً تكون الحياة في حد ذاتها موتاً عندما تفتقد إلى مقومات الحياة، وتصبح الحياة بحد ذاتها عائقاً أمام الحياة، وتتطلب الموت في سبيل صناعة حياة جديدة تليق بالإنسان الحر، عندها يجب ألّا يتوانى المناضل عن تقديم حياته من أجل حياة أفضل، فالتمسك بالحياة في بعض الأحيان يتحوّل إلى موت حينما يقبل المناضل الثوري بالاستسلام مقابل الحفاظ على حياته، فتتحوّل حياته إلى حياة خالية من الكرامة والشرف، فتتحول إلى موت حقيقي.
لمحة عن حياة بعض الكوادر في حزب العمال الكردستاني:
بعد عدة سنوات راح كوادر من حزب العمال الكردستاني يغزون العالم، فتجد القادم من السعودية يحدّثك عنهم، ومن ليبيا وتونس والجزائر ثم جميع دول أوربا، اتخذوا لهم معسكرٌ في البقاع يتلقى عناصرهم التدريب في تلك البقعة، يستيقظون باكراً ويمارسون الرياضة، ثم يتناولون إفطارهم على عجلة وأكثره من الشوربات، يستلمون عشرة سجائر لكل عنصر، فينتقلون إلى التدريب العسكري، يستمر التدريب العسكري حتى ساعة الغداء، يتناولون غداءهم على الأغلب من البرغل أو العدس والحمص، فتليه فترة الاستراحة، ثم التدريب السياسي في قاعة معدة لتلك المهمة، وقبيل الغروب يتم توزيع الحرس على قمم الجبال المحيطة بمعسكر التدريب في نقاط تم تحديدها، لا تتعدى نوبة الحراسة الساعة، ويتخذون من الحطب الذي جمعوه في الصيف وقوداً للتدفئة، وقد يتعرض أحدهم لعقوبة ناتجة عن إهمال أو تقصير، فتكون العقوبة إعفاؤه من نوبة الحراسة أو حرمانه من الدروس العسكرية أو الثقافية، فيبقى وحيداً في المهجع.
مركز التدريب عبارة عن ساحة تستخدم للاجتماعات الصباحية أو لعبة كرة القدم، تتوزّع على أطرافها أبنية مطلية بالطين، وهو محاط من جميع جهاته بجبال، فلا يجد السائر نفسه إلا وهو ضمن تلك الساحة، لا تُبان له سوى الجبال والسماء الساترة لتلك الساحة، وعلى سفوح الجبال المحيطة تجد كهوفاً واسعة مطلية من الداخل بالإسمنت، تم حفرها بطريقة هندسية، إلى جانبها تجد بعض المهاجع الإسمنتية التي يخال لك أنها نبتة في الجبل بنيت على شاكلة نصف دائرة.
يعيشون حياة سبات فترة الشتاء ويعدّون العدة لحملات الربيع، بأسلحة خفيفة حازوا عليها من أحد المخافر التركية التي باغتوها في هجومهم، وأكثر الشخصيات التي نتذكرها والتي تعبر عن الشخصية الثورية المتصوفة “العم شوكت” الذي كان يطوف القرى على ظهر دراجة نارية مسخراً أحد الشباب في نقله، وكان إذا حلّ ضيفاً على بيت يسأل صاحب البيت عن وجبة الأكل، وغالباً ما يقول له صاحب البيت: سأقدم لك دجاجة مطهوة أو مرقة، فكان جوابه حاضراً، أعطني ثمن الدجاجة و قدّم لي من الطعام المتوفر في البيت، فكان يجمع ثمن أكله ويقدمه كتبرعات لحزبه.
وما أذكرة عن تلك الفتاة المناضلة الثورية المتصوفة “شرفين”، حينما كانت تنتعل حذاء مكشكشاً وقد تلفت الخيوط المكشكشة لبوز الحذاء وكان على أبواب فصل الشتاء، وكان بحوزتها أموال للحزب تقارب 20 ألف دولار، طلبتُ منها أن أشتري لها حذاءً فرفضت، وكنت أعلم أنها تعلم بوضعي المادي، فقررت أن تشتري لنفسها حذاء، وفي الصباح أخذتها مع رفيقتها إلى السوق، وانتظرتهن، وبعد ساعة عادت وهي تقول: لا يمكن شراء شيء من السوق فسعر الحذاء أصبح 600 ليرة، وفي اليوم التالي أرتني حذاءها وقد خاطته بيدها، فقلت لها: لطالما بين الحزب أشخاص مثلك، فمن المؤكد أنكم ستنتصرون على العالم كله.
كنا مجموعة من الشباب نرافقها في جولاتها بين بيوت الفقراء، كانت تحمل في جزدانها كل ما يحتاجه البيت، من الإبرة والسلك حتى لفافات من النقود الورقية، كانت تتلقاها من الشعب على سبيل التبرعات.
ومما أذكره كذلك عن الشهيد هوكر، الرجل العجوز الذي كان يشرف على الأمور المالية، وعندما تعرضت كوباني للاجتياح من قبل داعش حمل بندقيته وقال: جئت للنضال من أجل الشعب، ولم آتِ لأكون محاسباً مالياً، واستشهد على أبواب كوبأني.
حزب العمال والرياح الدولية التي عصفت به:
من الخطأ المتعمد إلصاق اسم حزب العمال الكردستاني على كل من يحمل أفكار ومبادئ وصفات هذا الحزب، فهذا الحزب خلق قواعد عامة ومبادئ وصفات لكل ثوري يريد أن يتحرّر ويحرّر شعبه أو العالم بأسره، فنجد ثواراً منتشرين في جميع أصقاع المعمورة، تعلّموا وحملوا صفات المناضل الثوري المتصوف التي أوجدها وصاغها حزب العمال الكردستاني، فنجدهم ملاحقين في جميع أصقاع العالم، وتم إلصاق صفة الإرهاب بهؤلاء العناصر الذين اعتبروا قدوة لثوار العالم بأسره، وما عثرت عليه في إحدى المجلات عام 1994 التي أوردت تقييماً للمرأة المناضلة المتصوفة بين صفوف حزب العمال الكردستاني، حيث ورد فيها تقييم للاستخبارات الأمريكية تصف فيه حزب العمال الكردستاني على أنه أنشط حزب على وجه المعمورة، لذلك وجدنا أن جميع الدول التي تتناقض أفكارها و مصالحها ومبادئها مع أفكار حزب العمال تجتمع وتتفق على اعتقال قائد ومنظرهذا الحزب، وتسعى إلى تحويله من حزب ثوري إلى حزب إصلاحي عن طريق إدراج عناصر من رجالاتها في صفوف هذا الحزب، فنجدها حققت ما تسعى إليه في بعض الأماكن والصفات وفشلت في أماكن وصفات أخرى.
ولكن مهما قلنا ومهما صمد أعضاء هذا الحزب المتصوف من أجل تحقيق الحرية والعدالة لشعبه وشعوب المنطقة، نجد أن الرياح الدولية عصفت به و استطاعت أن تغير في صفات كوادره في الحد الذي طالته أياديهم، غير أن الجبال كانت وما تزال منيعة على كل الرياح العاتية، ومازال أعضاء وكوادر هذا الحزب الذين يعيشون بين الجبال يحافظون على صفات المناضل الثوري المتصوف.