الأسس الفكرية لبناء الدولة
سنتحدث في بحثنا هذا عن تطور المجتمعات البشرية حتى وصولها إلى الآلية الناظمة لها والمتمثلة في قيام الدولة ككيان سياسي وقانوني وإداري، ولذا لابدّ فيه من مقدمة تمهيدية.
ثم سننتقل بالحديث إلى مفهوم بناء الدولة وما رافقه من إشكالات وجدل.
وبعد ذلك سنخوض في النظريات والأسس الفكرية لبناء الدولة، وسنتطرّق إلى:
ـ النظرية المثالية.
ـ النظرية الواقعية.
ـ النظرية الماركسية (الاجتماعية).
ـ النظرية الرأسمالية (الاقتصادية).
تمهيد
منذ بداية تطور المجتمعات الإنسانية وأخذها بالانتقال من أشكال بدائية إلى شبه مستقرة وانتهاءً بالاستقرار والركون حين استقرّت تلك المجموعات البشرية البدائية على ضفاف الأنهار في البداية، وإلى أن بدأت بالتنامي والتقدم وصولاً إلى تجمعات أكثر تحضّراً واستقراراً، منذ ذلك الوقت ومشكلة الحكم موجودة ومازالت قائمة، ومنذ انطلاقة البشرية الأولى والخلاف على السلطة حاصل، وكبار المفكرين والفلاسفة أمثال أرسطو وأفلاطون وابن خلدون وهوبز وروسو والكواكبي على اختلاف عصورهم وتباعدها، قد خاضوا في هذا المضمار، وحاولوا أن يطرحوا أشكالاً لبناء الدول والمجتمعات، فأحياناً أخذوا على عاتقهم مسؤولية إيجاد أفضل النماذج لنظام الحكم، فمنهم من دخل في الطوباوية بحثاً عن عالم مثالي خالٍ من المظالم والقسوة كجمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، ومنهم من حاول أن يكون أكثر واقعية بطرح أمثلة تاريخية بغية محاولة تطبيقها وإسقاطها على مجتمعات باتت تعيش خارج تلك العصور وظروفها الموضوعية مثل أطروحة الكواكبي في كتابه (أم القرى)، التي طالب فيها بمجتمع إسلامي موحّد عاصمته مدينة مكة.
فإذاً؛ تاريخ الفكر السياسي وشكل الحكم تاريخ قديم رافق ظهور المجتمعات البشرية منذ نشأتها البدائية الأولى، لأنها كانت من الضرورات التي تنظم الوجود الاجتماعي، وبفضل هذا التنظيم انتقل الإنسان من طور التوحش إلى طور الرقي والتحضّر بشكل نسبي حسب المراحل الزمنية التي مرّ بها، وهذا الأمر ومع التقدم في الزمن وتوالي العصور دفع الأفراد في كل مجتمع إلى البحث عن إيجاد جهاز أو آلية لتدبّر هذا الشكل الحديث من التعايش وضمان استمراره وتحسين صورته ما أمكن، فنتج عن ذلك ولادة جهاز يسمى “الدولة”، وهذه التسمية لم تخلُ من الجدل والاختلاف بين المدارس السياسية والفلسفية منذ ولادتها.
وتوالت المحاولات بعد ذلك وكلها كانت ومازالت تهدف إلى الوصول للصيغة الفضلى التي ينبغي أن يعيش فيها الإنسان، فجاءت الأفكار الوسطية من جهة والمتطرفة من جهة ثانية، وتعددت الدعوات المطالبة بتغيير أشكال المجتمعات أو الدول، منها ما كان ومازال يطالب بفكرة الدين كأساس لبناء الدول وقيادة المجتمعات، ومن المطالبين من رفع صوته بالطرح لفكرة القبلية، ومنهم من كان من أنصار الفكر القومي كأساس لذلك البناء، ولكل فريق آراؤه ومنطلقاته ونظرياته التي تشدّق بها واتخذها أساساً لأفكاره، والحقيقة أنّ جميع تلك الأسس لاقت تطبيقاً حقيقياً في مختلف الأماكن والدول على وجه الأرض، ولذا فإننا نرى الدولة القومية في مكان ما ونجد الدول المبنية على الأسس القبلية في أماكن أخرى، والدول القائمة على الأسس الدينية، وخاصة الدول القائمة على أساس الشريعة الإسلامية.
وإلى جانب ما تقدّم من أسس ثمة الأساس الفكري في بناء الدولة والمجتمع وتحديد شكل الحكم والإدارة فيهما، والواضح أن هذه مشكلة قديمة جديدة على مرّ التاريخ، وفي ذلك يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد): “قضية الحكم هي أكبر مشكلة عبر التاريخ”.
وهذه المشكلة التاريخية الكبيرة قديماً وحديثاً تولدت عنها تساؤلات كبيرة لا تقلّ عن حجم المشكلة وأهميتها، ولا سيما عندما تخرج عن إطارها وسياقها المجتمعي والتاريخي ليمتزج الاجتماعي بالسياسي، فتبدأ الأسئلة تطرح نفسها:
ـ هل من الضروري وجود السلطة في كل تجمّع إنساني؟
ـ وهل وجود هذه السلطة يتطلب وجود مؤيّد ومعارض لها؟
ـ وكيف يمكن أن يكون شكل الحاكم؟ أهو ذو طبيعة بشرية أم إلهية؟
ـ وكيف يمكن تنظيم العلاقة ما بين الحاكم والشعب؟
وغيرها الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول مشكلة الحكم ونظرية السلطة وأشكالها، وما تولّد عنها من انقسامات في الفكر السياسي، وكثيراً ما دخلت الفلسفة على هذا الخط من خلال النظر في طبيعة النفس البشرية، وما بين من يراها خيّرة في فطرتها ومن يراها شريرة، انقسمت الرؤى حول قيام السلطة في هذا المكان أو ذاك، فالذي وجد النفس البشرية شريرة بطبيعتها وفطرتها طالب بسلطة مستبدّة تقمع الوحش البشري المستبدّ بالنفس البشرية والمتحكّم بها، وأصحاب النظرة الخيّرة إلى طبيعة النفس البشرية، وجدوا أن هذه النفس هادئة ومهذبة وأن الشرّ ما هو إلا أمر طارئ عليها ويمكن التغلب عليه.
ومهما يكن من أمر شكل الحكم والسلطة في مكان ما، فإنه لا بدّ من توفر أسس تُعتبر بديهية في العصر الحديث، على رأسها تحقيق الحريات العامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، وبغيابها لا يمكن أبداً الخوض في الحديث عن الدولة الحديثة ونظام الحكم فيها وحتى أسس بنائها.
مفهوم بناء الدولة:
لطالما شكّلت مفاهيم بناء الدولة تحديات كبيرة تمثلت في الرؤية النظرية ما بين وجود الدولة كشكل وهيكلية نظرية، وبين وجودها الواقعي الفعلي على الأرض، وظلت مشكلة بناء الدولة ما بين الثابت والمتحوّل متأرجحة بين هذه الثنائية وعقدة مزمنة وعالقة إلى اليوم، وخاصة فيما يتعلق بسيادة الدولة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومدى توافق كل ذلك مع القانون الدولي.
ثم إنّ مسألة ادّعاء الدولة أنها تقوم على أسسٍ بعينها وأنها تلتزم بتلك الأسس شكلت من جهة أخرى معضلة أمام حقيقة قيام الدولة، ومدى جدّيتها في احترامها لميلها أو ادّعاءاتها بالميل والاستناد إلى تلك المعايير أو الأسس التي تنطلق منها، وليس بخافٍ على أحد أن دولاً كثيرة تدّعي الديمقراطية وهي نفسها أحوج ما تكون إلى الديمقراطية، ودولاً أخرى ترى في نفسها أنها تقوم على أسس دينية في قيامها ولكن ربما تميل إلى العلمانية أكثر في سلوكها ونهجها، وأخرى تطرح نفسها دولاً ليبرالية تجدها راديكالية أو متطرفة في سلوكياتها وعلاقاتها ضمن الأسرة الدولية، وكثير من دول العالم اليوم تدّعي الحداثة مع أنها في الحقيقة تعود إلى أسسها القبلية والعائلية.
برزت إلى الوجود في حقل بناء الدولة نظريتان: تقليدية وحديثة، فالنظرية التقليدية تفترض أنّ الدولة هي أكبر وحدة قياس سياسية في المجتمعات الإنسانية؛ لأنّ الدولة بشكلها المعروف هي الجامع لكافة المؤسسات والإدارات المنظمة داخل المجتمع، فالمفاهيم دائماً تؤدي إلى خلق وبروز نظريات، والنظريات ما هي إلا انعكاسات للممارسات، وهذه الممارسات العملية لجميع نواحي الحياة قد أصبحت متركزة في الدولة بجميع مؤسساتها، وبالتالي هي تمثّل الوحدة السياسية الكبرى الناظمة للمجتمعات باعتبارها تشكل بناءً دستورياً وقانونياً وإدارياً.
بينما تركز النظريات الحديثة للسياسة في بناء الدولة على ترشيد السلطة والمشاركة السياسية واحترام مبدأ المساواة وبناء سلطة سياسية موحّدة وقوية بدل السلطة الأسرية أوالدينية أوالعرقية بأشكالها وصورها التقليدية، وهذه النظرة الحديثة تنظر بشكل أساسي إلى المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في عملية بناء الدولة، بالإضافة إلى تطوير أنظمة الترشيد والحوكمة والتخصص الوظيفي، وفي هذا سعيٌ حثيث للوصول إلى بناء دولة الرخاء والرفاهية، وعلى ذلك برزت منذ دخول الألفية الثالثة فكرة المؤسساتية الجديدة بمدارسها الفكرية الثلاث: (المؤسساتية التاريخية، المؤسساتية الاجتماعية، مؤسساتية الخيار العقلاني):
ـ المؤسساتية التاريخية لبناء الدولة: تدعو إلى تكوين الأهداف وتحديدها وبناء الخيارات بواسطة الأفكار والأعراف.
ـ المؤسساتية الاجتماعية: تتمحور حول خيارات وحسابات المصلحة من خلال الإجراءات والهياكل الروتينية المتبعة في الدولة.
ـ مؤسساتية الخيار العقلاني: وهذا النوع من المؤسساتية يعتبر عملية بناء الدولة عملية بناء خيارات من خلال قواعد الخلاف والجدل.
وهذه الرؤية بالنسبة للعملية المؤسساتية في بناء الدولة خلقت اختلافاً في التعاطي مع مشكلة اختيار الآلية المؤسساتية الأنسب لشكل الدولة.
النظريات الفكرية لبناء الدولة:
1ـ النظرية المثالية:
هناك من يعرّف المثالية على أنها توجّه فلسفي مقابل للمادية، ولا تخلو الفلسفة الإغريقية من عديد المؤلفات التي تدور حول مفهوم الدولة وماهيتها، وقد يكون أفلاطون على رأس أولئك الفلاسفة والمنظّرين في هذا الميدان، لأنه ومن خلال تمييزه بين حاجات كل من الفرد والمجتمع أدرك أنه يمكن الوصول إلى شكل لحياة منظمة، وهذا الشكل الناظم والمثالي الذي يؤمّن حاجات الجميع هو “الدولة”، لأنه ـأي أفلاطون ـ أخذ يؤمن بضرورة إخراج المجتمع والناس من حياة الصراعات والحروب والتنافس والقسوة إلى حياة التعايش والتكامل والانسجام، وهذا من شأنه أن يوصل البشرية إلى مجتمع مثالي فاضل.
والجدير بالذكر ههنا أن المجتمع اليوناني في أثينا كان يعرف الديمقراطية ومعنى القوانين قبل أفلاطون، لأن (صولون) وهو من مشاهير وعباقرة الفكر والفلسفة قد سنّ القوانين في القرن السابع قبل الميلاد، إذْ سنّ القوانين الاجتماعية بعد الحرب الأهلية التي خاضها الفقراء ضد طبقة المُلّاك والأسُر الأرستقراطية وهو ما كان يُعرف بحكم النبلاء، نتيجة أزمة اقتصادية عصفت باليونان، حيث عمد الأثرياء إلى مصادرة أراضي جيرانهم الفقراء وضمّها إلى إقطاعاتهم بسبب عمليات الرهن، ما دفع صولون إلى سنّ وتشريع القوانين لإعادة العدالة الاجتماعية وكبح جماح الأقوياء ورفع شأن الطبقات الفقيرة والمستضعفة.
ثم كان ظهور نخبة السفسطائيين (المعلمين) الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تعليم المجتمع اليوناني، ما فتح الأبواب أمام الشعب على مصاريعها للخوض والمشاركة في العمل السياسي، فلعبوا بذلك دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية والسياسية وإرساء قواعد الديمقراطية. ثم جاء “سقراط” ليُعلي من شأن القوانين الوضعية ويفرض احترامها على المجتمع، لأنها قوانين صادرة عن العقل وهي عادلة، ويجب احترامها بوصفها صورة عن القوانين الإلهية التي أودعها الله في قلوب البشر، ومن يحترم هذه القوانين ويلتزم بها فإنه يحترم النظام الإلهي والعقل الإلهي.
الأسس المثالية لدى أفلاطون:
أفلاطون كان يرى أن سوء النظام السياسي سببه هو انخفاض المستوى الثقافي لدى الطبقة الحاكمة، وهو بذلك يشاطر سقراط، ولذلك جسّد أفكاره حول نظام الحكم والدولة في ثلاثة كتب (القوانين، السياسي، الجمهورية) لكن مشروعه الأساسي يكمن في كتاب الجمهورية، لأنّه جامع بين السياسة والاجتماع والفضيلة والأخلاق والفن، وقد قدّم هذا الكتاب كدستور لبناء مجتمع إنساني فاضل.
ومن أهم محاور الجمهورية:
ـ يتحدث فيه عن العدالة: والعدالة عنده هي المبدأ المثالي أو الطبيعي الذي يحدد معنى الحق.
ـ ويعالج كذلك الفضيلة والأخلاق وعالم المُثل العليا الراسخة في النفس.
ـ ثم ينتقل إلى علاقة الأخلاق بالسياسة: حيث يرى أنهما مرتبطان ارتباطاً شديداً، ويرى أنّ “العدالة” هي حلقة الوصل بينهما لأنها تنتمي إلى الأخلاق بنفس القدر الذي تنتمي إلى السياسة، وإذا كانت السياسة تدبيراً لأحوال الناس في الدولة فإن الأخلاق استكمال لفضائل النفس الإنسانية، والذي يجمع بين الأخلاق والسياسة هو الخير، وتطلّع الإنسان إلى الخير يعني التطلع والبحث عن السعادة.
ـ تقسيم النفس لدى أفلاطون تديرها ثلاث قوى:
أ ـ النفس العاقلة: فضيلتها الحكمة، وتقابلها طبقة الحكّام في الدولة.
ب ـ النفس الغضبية: فضيلتها الشجاعة، وتقابلها في الدولة طبقة الحرّاس.
ج ـ النفس الشهوانية: فضيلتها العفّة، وتقابلها طبقة الشعب وعامة الناس.
ـ التربية في الجمهورية: يرى أفلاطون أن التربية تعني بلوغ الشيء حدّ الكمال، ولذلك عمل على أن يكون في الدولة فلاسفة توكل إليهم الأمور بعد الوصول إلى الاكتمال العقلي، وعلى ذلك وضع نظاماً تربوياً وتعليمياً طويل المدى عن التربية النفسية والبدنية، وعلى ذلك نهى في منهجه الموسيقي عن الألحان المخلّة كألحان السكر والكسل والنواح والأنين.
ومن أهداف التربية التي نادى بها أفلاطون في جمهوريته، الإعلاء من شأن العقل فوق الأمور الحسية، وإحاطة الأطفال بالمثل العليا الصالحة وتعريفهم بالخير الأسمى، وبناء شخصية تشعر بالولاء للمثل السياسية العليا في المجتمع والدولة لتحقيق وحدة الدولة، وذلك عن طريق هدم الروح الفردية السلبية، كلّ ذلك إلى جانب الإحساس بالجمال والحق والخير.
هذا جانب مختصر جداً من نظرية أفلاطون المثالية في بناء الدولة من خلال جمهوريته.
أمّا عن المثالية في العصر الحديث فيما يتعلّق بالعلاقات الدولية، فيعتقد كثيرون أنها نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تبسيط السياسة الدولية وتيسيرها حتى تكون أقرب إلى فهم الناس وإدراكهم لها، وتستند هذه المثالية إلى أولوية الأخلاق في العلاقات الدولية ووجوب خضوع الأفراد للقوانين التي وُضعت في الأصل لخدمة الجماعة. ويرى كثير من الباحثين أن الفترة الذهبية التي ازدهرت خلالها الأفكار النظرية المثالية كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما تمخّض عنها من إنشاء عصبة الأمم والأفكار المثالية للرئيس الأمريكي “ويلسن” في جعل العالم أكثر أماناً، ونبذ الحروب أو اللّجوء إليها لحل المشكلات السياسية، ورفض المعاهدات السرية بين الدول، والدعوة للّجوء إلى الأدوات القانونية والسياسية في العلاقات والمشاكل الدولية، تلك الأفكار طرحَها “ويلسن” في مؤتمر فرساي في فرنسا عام 1919.
2ـ النظرية الواقعية:
للمدرسة الواقعية بصمات صريحة وواضحة في ميادين الممارسة السياسية والتنظير السياسي، فالواقعيون يرَون أن الوحدات الأساسية المكوّنة للعلاقات الدولية هي الدول نفسها، والدول وفق هذا المنظور إنما هي كيانات أو تجمعات بشرية عقلانية يحكمها الوعي والإدراك السليمين في التعاطي مع أقرانها ضمن المجتمع الدولي، ويُفترض بها أن تكون بعيدة كلّ البعد عن المزاجية والفوضى لتأمين مصالحها وتعظيم قوتها ودورها.
ولكن هذا التنظيم الدولي وفقاً للنظرية الواقعية ليس بمنأى عن حالة الفوضى والشكوك بين الدول، فالواقعية الكلاسيكية لا تنكر أن الدول تحمل بطبيعتها ميلاً للعدوانية ونزوعاً إلى استخدام القوة وخاصة في المجال العسكري، وهذا هو سبب الفوضى في رأي أصحاب هذه الواقعية.
بينما ترى الواقعية الجديدة أن غياب الضمانات التي من شأنها أن تكبح الدول القوية عن التوسع وتمنعها من العدوان، هو السبب في النهاية الذي يخلق أزمات أمنية ومشاكل دولية، وهي التي تعود إليها الفوضى في العلاقات الدولية في نهاية المطاف، وهؤلاء الواقعيون الجدد يُرجعون أسباب الأزمات الدولية إلى غياب سلطة دولية مركزية موحّدة وقوية تعلو سلطة الدولة.
والاتجاه الواقعي بشكل عام يرى صعوبةَ تطبيق الأخلاقيات والقيم في السياسة الدولية، وهو يربط كذلك بين السياسة الدولية للدول والطبيعة الإنسانية للأفراد، لأن كلا الطرفين (الدول والأفراد) يسعَون جاهدين إلى تحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى، وهنا تفرض الأنانية نفسها سواء الأنانية الدولية أو الأنانية الفردية، وإذا كان بالإمكان ضبط الأنانية الفردية من خلال بعض القوانين والأعراف، فإنّ الأمر غير ذلك بالنسبة للأنانية الدولية التي حكماً تؤدي إلى خلق الفوضى الدولية، وبالتالي تنتج عنها الأزمات الدولية، وحينها تصبح قيم الخير والشر قيماً نسبية في عالم الدول.
هذه هي المدرسة الواقعية من الناحية العملية، ولكن من الناحية الأكاديمية النظرية يحاول الواقعيون إصلاح الحال وتلطيف الآثار، ويبرّرون كلّ ذلك بأن جميع الدول تسعى لزيادة قوّتها ونفوذها لتحمي بقاءها ومصالحها، والذي يحكم هذه العلاقة بين الدول هما معياران ثابتان: “القوة والمصلحة”.
3ـ النظرية الماركسية (الاجتماعية):
ترى الماركسية أنّ التاريخ البشري يدور في فلك صراع دائم بين الطبقات الاجتماعية؛ الطبقة المُسيطِرة والطبقة المُسيطَرة، الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، الطبقة الظالمة والطبقة المقهورة، وحسب رؤية ماركس وتحليله للتجمعات البشرية الحديثة والقديمة، فإنّ الدولة تُعتبر البنية الفوقية في المجتمع وهي في الوقت نفسه انعكاس ونتاج للبنية التحتية التي تقوم وتنشأ في أساسها على طرق الإنتاج، وطرق الإنتاج هذه هي التي تحدد العلاقات بين طبقات المجتمع كافة، وهذه العلاقات هي التي حددت في وقت لاحق أطر وأسس البنية الفوقية في المجتمع وهي (الدولة والقانون والإيديولوجية والأخلاق والدين).
وترى الماركسية أن الدولة بهذا المعنى ما هي إلا أداة اضطهاد من قبل الطبقات القوية المسيطرة على الطبقات الضعيفة المغلوب على أمرها، وخاصة أنّ طبقة المستثمِرين والمستغلين جعلت من الأطر التي تم تحديدها ملزمة وواجبة الاتباع والانصياع لها للمحافظة على سيطرتها وقي ادتها للمجتمع وديمومة تلك السيطرة.
وبعبارة مختصرة: قامت الماركسية كإيديولوجية ومدرسة فكرية وكمذهب سياسي على أساس التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ والإنسان وهو ما يُعرف بالمادية التاريخية.
وبما أن البشرية مرت بعهود طويلة من القهر والويلات، وبما أنه من المعروف أن آثار تلك الويلات والصراعات لم تكن بالدرجة نفسها على جميع طبقات المجتمع وأفراده، بدأت بعض الأصوات تتعالى من أجل إعادة كرامة الإنسان وحقوقه وحريته، وبالتالي انطلقت بعض الأصوات التي نادت بضرورة اختفاء وزوال الدولة بشكلها القائم آنذاك، لأنّ الدولة بتلك الصورة أصبحت وبالاً على أكثرية الفئات في المجتمع من أجل خدمة طبقات محدودة، ومن أجل حل تلك الأزمة يجب هدم الدولة وذلك عن طريق هدم الأسباب التي خلقت الدولة على هذه الصورة ألا وهي طرق الإنتاج، فعن طريق تغيير طرق الإنتاج في المجتمع سوف تُلغى الملكية الفردية كوسيلة وحيدة للإنتاج، وعندما تصبح أدوات ووسائل الإنتاج جماعية، وسوف تختفي الطبقات المستغلة، والدولة حينها لن تكون أداة اضطهاد.
لكنّ ماركس لا يريد من فكرة زوال الدولة هدمها والقضاء عليها بشكل كامل، ولكن هو يريد زوال وظيفتها الاضطهادية والاستغلالية وتغيير بنيتها هذه، لأن الدولة بمفهومها التقليدي هذا هي أداة لحكم الناس، بينما يريد ماركس للدولة أن تكون خادمة للناس وأداة لحكم وإدارة الأشياء لا الناس.
4ـ النظرية الرأسمالية (الاقتصادية):
يمكن فهم النظام الرأسمالي ببساطة شديدة عند قلب النظام الاشتراكي رأساً على عقب، فهما ضدّان متناقضان، لأنّ الرأسمالية تقوم على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج والحرية الفردية في إدارة العملية الإنتاجية، وأيضاً الحرية الاقتصادية في تسيير وممارسة الأنشطة الاقتصادية.
فهو نظام اقتصادي يرتكز على فلسفة اجتماعية وسياسية تدعم مفهوم الملكية والحرية الفردية، وهما من صميم الفطرة البشرية، ومؤسس هذه النظرية هو “آدم سميث” في كتابه (ثروة الأمم) الذي نشره عام 1776.
لقد أسس سميث نظريته على قاعدتين أساسيتين:
الأولى: الحرية الاقتصادية وما يتبع ذلك من حق التملك للأفراد “الملكية الفردية” وحرية الربح والزيادة في الثروة.
الثانية: قوانين السوق التي تقوم على المنافسة الحرة.
ومن الأسباب المبررة لطرح هذه النظرية من قبل أصحابها والمؤمنين بها، أن تشجيع الملكية الفردية يدفع الأفراد إلى حفظ الثروة لا تبديدها، وزيادتها لا هدرها، لأن الفرد في هذه الحالة سيبذل كلّ جهده للحفاظ عليها بدل الإسراف فيها باعتبارها تعود بالنفع عليه قبل الآخرين، ولذلك لا مانع من حق الملكية الخاصة طالما لا يتعارض ذلك مع القوانين السائدة.
وبالنسبة إلى الحرية الاقتصادية فإنّ الدولة لا ينبغي عليها أن تملك، بل هي تحكم، فالحكم للدولة والملكية للأفراد وفق القوانين السائدة في الدولة والمجتمع، والحرية الاقتصادية تطلق يد الفرد في العملية الإنتاجية وتحدّ في المقابل من يد الدولة وتدخّلها في أضيق نطاق.
ثم إن النظام الرأسمالي يفتح الباب واسعاً أمام المنافسة الحرة، وهذا من أهم العوامل لزيادة الكفاءة الاقتصادية والجودة الإنتاجية وانخفاض الأسعار، وهذا ينتج عنه أيضاً الاستخدام الأفضل للموارد وتقليل الهدر.
ومن جانب آخر هناك حافز الربح الذي يُعتبر بمثابة الدافع والمحرك لزيادة الإنتاج، وبما أنّ الربح هو الفارق بين التكاليف والإيرادات، فإن المنتجين يختارون الأنشطة الاقتصادية الملائمة لاستثمار مواردهم بأفضل الطرق المتاحة والممكنة، وبالتالي يحصل المجتمع على أقصى دخل ممكن من موارده وعلى أفضل إنتاج، لأنه في النهاية زيادة الأرباح تعني زيادة في الإنتاج.
وعلى هذا الأساس من النظر إلى وسائل الإنتاج وشكل الملكية وطريقة إدارة الاقتصاد وتسيير الإنتاج، نسمع على الدوام بالدولة الاشتراكية والدولة الرأسمالية، والنظام الرأسمالي منذ نشوئه ارتبط بالدولة، وبالمقابل لعبت الدولة دوراً في دعم رأس المال وتوفير فرص نموّه، كما سعت الدول الرأسمالية دائماً إلى فرض سيطرتها على غيرها من الدول، ومدّ نفوذها خارج حدودها لزيادة مصادر الثروة لديها.
ومع بروز المجتمع الطبقي وظهور رأس المال كطبقة مسيطِرة بدأت تبرز أكثر فأكثر الصلة الوثيقة بين الدولة وهذه الطبقة، وهذا هو السبب الذي يدفع الماركسيين إلى وصف الدولة الحديثة بـ (الدولة الرأسمالية)، وقد ساهمت هذه الدولة إلى حدّ كبير في التضييق على الطبقات العاملة وحرمانها من الحصول على أجر أعلى أو تقليل ساعات العمل، كان هذا في فترة نشوء الرأسمالية الصناعية في انكلترا عندما أصدرت تشريعاً عام 1799 بذلك الخصوص، ثم إن تركيز وتمركز رأس المال في أيدي الشركات العملاقة يزيد من توثيق العلاقة بينها وبين الدولة، لأنه حين ذاك يتعلق اقتصاد الدولة نفسها بتلك الشركات، فتدهور اقتصاد تلك الشركات يعني انهيار اقتصاد الدولة، وهذا يؤدي مرة أخرى إلى تقديم الدولة الدعم لهذه الشركات.
خاتمة
تبقى فكرة العيش الإنساني في سلام ورخاء ورفاه تحاكي خوالج الإنسان على مرّ الزمان، ولكن يبدو أنه لم تستطع أي من الشرائع سواء السماوية منها أو الوضعية أن تصل بالإنسان إلى تلك الآمال المشروعة والأحلام المنشودة بعالم مثالي يرقى فوق عالم المظالم، وعجزت معظم النظريات بشكل أو بآخر عن إرساء قيم الخير والمحبة والعيش المشترك الآمن بين جميع البشر، وما يتحقق من ذلك هو تحقيق نسبيّ ليس إلّا، إمّا لأسباب موضوعية متوقفة على أنظمة الحكم والسلطة، أو لظروف ذاتية تتبع لمجتمعات بعينها، أو قد ترتبط بظروف فوق الإرادة البشرية.