أبحاث ودراساتصلاح الدين مسلم

الثورات الأوروبيّة في القرن الواحد والعشرين، وتعامل الدول معها

صلاح الدين مسلم 

صلاح الدين مسلم 

صلاح مسلم
صلاح مسلم

تمهيد

أسيسمّي التاريخ الثورات التي قامت في العالم العربيّ في الألفية الثالثة ثوراتٍ أم حرباً أهليّة أم أعمال شغب…؟ أهي نزاعات أم تمردات أم أعمال شغب أم حرب أهليّة أم أحداث أم انتفاضات أم عصيان مدنيّ…؟ أهي ثورة برتقالية أم ثورة الزهور أم  ثورة الأرز أم ثورة أرجوانيّة أم ربيع دمشق أم الربيع العربيّ…؟

لا شكّ أنّ الطرف المحارب ينعت تلك الثورة بالنعوت السلبيّة، وينعت الطرف الذي يؤيّد تلك الثورة بالنعوت الإيجابيّة، ونجاح الثورة أو فشلها يحدّد التسمية، فإذا نجحت الثورة سمّيت ثورة، وإذا فشلت سُمّيت أعمال شغب.

لقد نشأ الوعي الزائف بعد انتهاء الحضارة المجتمعية في العصر النيولوتي وتشكّلت حضارة الدولة الناهبة للحضارة المجتمعية، وذلك من خلال تفضيل الطبقات الحاكمة في الدولة فكرة من الفكر الثّلاث التّالية على بعضها البعض: ( الله – الطبيعة – الإنسان ) فعلى سبيل المثال، قدّمت الحضارة اليونانيّة القديمة مفهوم الإنسان على باقي المفاهيم، وقدّمت الحضارة الغربية الحاليّة مفهوم الطبيعة بينما قدّمت الحضارة الإسلاميّة مفهوم الله على المفهومين الآخرين. ولستُ بصدد نقاش أيّ الحضارات أصحّ، فهي بمجملها ناهبة الحضارة الأولى (الثورة الزراعيّة) التي نشأت في موزوبوتاميا، لكن يمكننا استشفاف تدهور الحضارة الشرق أوسطية من خلال تطعيمها بعدّة حضارات غربية وشرقية، فنشأت الحضارة الهجينة، التي لا تمتّ بصلة إلى الحضارة المجتمعيّة الأصيلة الحقيقيّة الطبيعيّة.

يقول ماركس “ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعيّ هو الّذي يحدّد وعيهم.” إلّا أنّ ماركس لم يعتبر الوعي انعكاساً سلبياً للواقع، لأنّه آمن بوجود علاقة جدليّة فيما بين الوعي والواقع، والعلاقة الجدليّة هي علاقة صراع الأضداد ونفي النفي وتحوّل الكم إلى كيف، فالوعي يمكنه أن يؤثّر في الواقع؛ فإمّا أن يساهم في تغييره، وإمّا أن يساهم في تكريسه، وبالتالي يعدّ وعياً مفروضاً من الأعلى، أي من النخبة التي تعدّ عالة على تطوّر المجتمع بصيرورته الطبيعيّة، التي لا تؤمن بالطبقات قط، وبالتالي يمكن مناقشة قول كارل ماركس الذي أنتج نظريّة لم يطبقها اليساريّون الماركسيون، بل ابتعدوا عن جوهر تطبيق هذا الفكر الذي افتقر إلى الحلّ أو التركيبة من خلال الطرح السليم للكثير من التناقضات الثنائيّة التي تتمثّل في الأطروحة والأطروحة المضادّة.

عندما قامت هذه الثورات في العالم العربيّ كانت ربيعاً ترى فيه الشعوب خلاصها الأزليّ، وكانت الحرّيّة هدفاً، والصدق أسلوباً، وظهرت روح الجماعة، وكانت لغة الحوار والمنطق والعقل هي السائدة، لكن سرعان ما سرق الأخوان المسلمون الأضواء، وحوّلوا كلّ جميل إلى قبح، ودمار وقتل، وتحوّلت اللغة الجميلة إلى أسوأ أسلوب عرفه التاريخ.

ما يميّز ثورات الشرق في الألفية الثالثة أنّها انتقلت إلى الغرب، وهذا كان عكس لما احتكرته الثورة الفرنسيّة 1789 التي كانت رمزاً لكلّ ثائر في الشرق، وكذلك الثورة البلشفيّة في 1917، فقامت ثورات في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها من المدن الأوربيّة، بعد الربيع العربيّ (ربيع الشعوب).

بعض الثورات الأوروبيّة

أدّت حادثة إطلاق النار على مارك دوغان البالغ 29 عامًا من قبل شرطة لندن ما أدى إلى مصرعه، إلى اندلاع ثورة عارمة في البلاد، في 7 آب 2011 من توتنهام شمالي لندن وصولاً إلى مناطق مختلفة من المملكة البريطانيّة، بالطبع كان هذا السبب المباشر، لكنّ السبب الحقيقيّ يكمن في ارتفاع معدلات البطالة، وخفض الخدمات العامة كجزء من خطة التقشف البريطانية ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، الفقر، وازدياد الهوّة ما بين الفقراء والأغنياء، وانتهازية الشرطة في استخدام صلاحياتها، وسوء العلاقة بين الشرطة والجالية السوداء في لندن وانتشار ثقافة العصابات.

بالطبع لدى إنكلترا خبرة واسعة في مجال تحوير الثورة من خلال بثّ مثيري الشغب وإفساح المجال لهم، وتحويل هذه الثورة إلى أحداث وإطلاق تسميات أخرى عليها، واستخدام القوّة الناعمة، والضخّ الإعلامي المحترف الذي استطاع أن يقضي على هذه الثورة، واستخدام مصطلحات (أعمال الشغب، التدمير، مثيرو الشغب…) وبأنّهم جشعون وليس غاضبين، وهم يفتقرون إلى المسؤولية الاجتماعيّة، وشعب غوغاء، ديماغوجيّ، ولا يمثّلون القيم العليا للمجتمع.

وقد استعاد الشعب الفرنسيّ مجد الثورة الفرنسيّة في أيلول عام 2005، فتدخّلت خبرة الدولة الفرنسيّة في قمع المظاهرات بتحويلها إلى أعمال عنف وشغب, فعبر 19 ليلة تمّ إحراق 7800 سيارة، وعدة مبانٍ عامة، وأوقفت الشرطة  2700 شخص. ووصف نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسيّ ومن المفترض أن يكون خريج مدرسة الثورة الفرنسيّة، وصف المتظاهرين بالحثالة، وقال: “إنّ العديد من الضواحي تحتاج إلى “تنظيف صناعي، وأنّ الحكومة لن تسمح “لمثيري الاضطرابات، ولحفنة من المجرمين، أن يظنوا أنّ بإمكانهم فعل ما يريدون”. واستخدمت الدولة أسلوب الدعاية المضادة، وتصيّد الأخطاء، واستخدام آليات الخوف ضد نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي.

واندلعت احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا، وكانت لسبب مباشر يتمثّل في معارضة الضريبة على الوقود، حيث كانت ردّ فعل على قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بزيادة الضرائب على الوقود. وجاء اختيار “السترة الصفراء” من قبل الحركة نظراً لأن القانون الفرنسي يفرض منذ عام 2008 على جميع سائقي السيارات حمل سترات صفراء داخل سياراتهم عند القيادة كإجراء وقائي، حتى يظهر للعيان في حالة اضطرار السائق الخروج من السيارة لسبب ما، والانتظار على قارعة الطريق.

ثم كبرت هذه الاحتجاجات وتضخّمت، وزادت المطالب حتى وصلت إلى مطالبة الرئيس الفرنسي بالتنحي عن منصبه. وبعدها زادت الاحتجاجات وانتشرت لأسباب مختلفة في مدن ودول أوروبية أخرى، شملت هولندا وبلجيكا والنمسا وصربيا وهنغاريا وألمانيا.

كانت وسائل التواصل الاجتماعي سبباً لازدياد حدّة هذه المظاهرات، ولم تكن هناك منهجيّة واضحة في قيادتها، فكانت تضمّ الشرائح الاجتماعيّة كافّة، ومجمل القول: إنّ هذه المظاهرات عبارة عن نزوع نحو التغيير، ورفض لهذا النظام القائم، الذي فيه تفاوت اقتصاديّ هائل وفادح، وتغيير في البيئة الثقافيّة والفكريّة والمنهجيّة، واعتبر بعض المحلّلين أنّ المظاهرات عبارة عن تحرّك جماهيريّ لا ممثّلين ولا شخصيّات ولا قائد لها، وهي حركات عشوائيّة غير منظّمة التنظيم الدقيق، لكن لم يعوا أنّ المجتمعيّة ترتقي في غياب السلطة والدولة، فهي كفيلة بتنظيم نفسها، لكن إلى حدّ ألّا يحوّرها المتطرّفون عن مسارها، وبالطبع ضمن البيئات الحاضنة لها.

إنّ الترسانة الإعلاميّة للنظام القائم تحارب هذه المظاهرات بالقوّة الناعمة والإعلام، وتبثّ روح اليأس في الجمهور وتحاربه اقتصاديّاً، وقد ساعد المفكّرون الداعون للنظام على قمع هذا الانفجار التاريخيّ المستدام من خلال نزع الفكر عن هذا المجتمع، ومحاربة الأيديولوجيا، وجعلها بعبعاً يجب أن يخاف منه الجميع، ويجب أن يحاربه الجميع، فالأيديولوجيا عبر نضالها التاريخيّ هي السلاح الذي هدّ أركان النظام القائم أبداً، وبما أنّ هذا النظام العالميّ هو نظام لا يرتضي أن يهدر أمواله وفائض إنتاجه على الفكر، فيروّج للنظريّات المضادة للمجتمعيّة، وينسف تاريخ المجتمعات ونضالها.

إنّ نظام الدولة ينزع الفكر عن المجتمع، ثمّ ينعت هذا المجتمع الثائر بالشعبوية والديماغوجية والفوضوية… على الرغم من أنّه قد يكون السبب في بثّ جهات مخرّبة وتشجيعها لتصوير هذا الصراع على أنّه عبارة عن تخريب وليس ثورة.

قد يقول قائل: إنّ  السبب الرئيسي لاحتجاجات السترات الصفر في أوروبا هو الضائقة المعيشيّة، والشقاء الاقتصاديّ، لكن ليس هذا هو السبب فحسب، بل السبب في النظام الرأسماليّ القائم، وغول الحداثة الرأسمالية الذي ينهش في جسد المجتمع، ويقطّعه إرباً إرباً.

بالطبع إنّ أزمة الكساد الاقتصادي عام 2008 كانت السبب الرئيس في ازدياد الفقر، وانتشار الغنى الفاحش بين طبقة معيّنة، وتهدّم الطبقة الوسطى التي كانت سائدة ما قبلها، وازدادت حاجة الدولة إلى الأثرياء كي يرفعوا من أسهم الدولة اقتصاديّاً، فباتوا يتمتّعون بامتيازات ضريبيّة، وازدادت الضرائب على أفراد المجتمع الذين لا يعلمون من أين جاءتهم هذه المصائب؟! فالطبقة المسحوقة تدفع ضريبة هذا النظام الإقصائيّ.

الحرب الباردة الكونية

لقد شكّلت الحرب الباردة العالم الذي نعيشه اليوم؛ سياسته واقتصاده وشؤونه العسكريّة. ونشأت معظم الصراعات التي نراها اليوم من الحرب الباردة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في القرن الأخير وسياستها تجاه الشرق الأوسط، بما فيها الحرب على الإرهاب.

وكان من المفترض أنّ الحرب الباردة كانت سجالاً بين قوّتين عظيمتين من أجل القوّة العسكريّة والسيطرة الاستراتيجية التي من المفترض أن تكون أوروبا، لكنّ (أود آرن وستاد) يوضّح في كتابه (الحرب الباردة الكونيّة) أنّ أهمّ جوانب الحرب الباردة لم تكن عسكريّة ولا استراتيجيّة، ولم ترتكز في أوروبا؛ بل كانت مرتبطة بالتطوّر السياسيّ والاجتماعيّ في العالم الثالث (أي الشرق الأوسط) فالعمليات المزدوجة لإنهاء الاستعمار وتثوير العالم الثالث حسب نظرة الكاتب لم تكن نتاج الحرب الباردة، ولكنّها أثّرت فيها بأساليب أصبحت مهمّة جدّاً، وساهمت في تكوين العالم كما نعرفه اليوم. فقد كانت الحرب الباردة استمراراً للاستعمار لكن بأساليب ووسائل مختلفة، على شكل مشاريع اجتماعيّة واقتصاديّة عملاقة، ووعود بالحداثة لمسانديهم، ووعيد بالموت للمعارضين أو من يقفون في طريق التقدّم.

فالمعسكران الاشتراكي والرأسمالي اللذان كانا معاديين للاستعمار أصبحا جزءاً من شكل أقدم للهيمنة، بسبب كثافة الصراع فيهما، والمخاطر التي انطويا عليها، والمخاوف الكبرى من العواقب التي قد تقع فيما لو انتصر الخصم. فإنّ الأساليب التي انتهجها كلاها في فرض رؤيته للحداثة على دول العالم الثالث، كانت قريبة الشبه بأساليب الإمبراطوريات الأوروبية الزائلة من قبل

وبما أنّ القطب الواحد قد سيطر على العالم في نهاية القرن الماضي، فقد عادت الإمبراطوريّة الأميركيّة كقوّة عظمى وحيدة، وصارت تتدخل في شؤون العالم بأسره، وبالتالي ازدادت المقاومة العالمية لهذا التدخّل الأميركيّ، وأصبحت ممارساتها الديمقراطيّة أكثر عرضة للضغوط الداخلية كما حصل عندما انسحبت القوات الأميركية من الشمال السوريّ وسمحت لتركيا بالتوغّل في سرى كانيه (رأس العين) وكرى سبي (تل أبيض) وهذه المعارضة الداخلية للتوغّل الأميركيّ هي التي تساعده على الحفاظ على ديمقراطيتها، وإلّا ستنتهي الديمقراطيّة الأميركية وستلقى نفس مصير الاشتراكيّة السوفيتية.

ثورة الشوارع في المدن (ديمقراطية الشوارع)

“الحرّية لا توجد إلّا في لحظة الثورة. وتلك اللحظات ليست نادرة بقدر ما تظنّ. فالتغيير، التغيير الثوري، يجري باستمرار وفي كلّ مكان, وكلّ واحد يلعب دوراً فيه، عن وعي أو عن غير وعي” ويمكننا أن نستشفّ الثورة في اللحظات الانتفاضيّة والمظاهرات, حيث تقوم العملية الديمقراطيّة المستخدمة خلال المظاهرات والاحتجاجات على تحويل مركزية السلطة العنيفة إلى لا مركزية السلطة، فينخفض نسق السلطة وخطابها أثناء عملية التظاهر، فتتحوّل سلطة التدمير إلى الإدارة الخلّاقة وإنْ مرحليّاً في فترة التظاهر، فيستطيع الجمع المتجمّع اتّخاذ قرارات تؤثّر على المجتمع بأسره بطرق تشاركيّة، تعاضدية، وأخلاقيّة، لكن على الرغم من النوايا والأغراض تظلّ هذه الاحتجاجات واقعة في شراك السيطرة والاستغلال من قبل قوى متمرّسة على التخريب والراديكالية كجماعة الأخوان المسلمين التي حوّرت مسار ثورات الربيع العربيّ إلى العنف واستخدام وسائل السلطة والدولة، وبالتالي لم تختلف عن الدولة، ووقع الثائرون في فخّ تحوير مسار الثورة وانخراطها في فخّ الدول التي تستخدم هكذا جماعات مضادّة.

مع مطلع القرن الجديد، تجدّدت آمال البشر، التي أجهضها القرن العشرون، في المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية, وتوالت الحركات الجماهيرية الكبرى من انتفاضة فلّاحي الزاباتيستا في المكسيك، إلى حركات مناهضة العولمة، وثورات العالم العربيّ.

لقد رفع المشاركون راية الأناركية، التي تجمع بين أفضل ما في الليبرالية وما في الشيوعيّة. فأصبح الموقف الثوريّ الصريح مشبعاً بتوجّه أخلاقيّ بارز، مع نزعة طوباوية، وديمقراطية مباشرة. رفعوا شعار السلميّة، والتنظيم الأفقي الطوعي، وصارت الثورة أفعالاً يوميّة صغيرة يمكنها حين يُضاعفها ملايين البشر أن تغير العالم.

وبالنسبة للمظاهرات الأوروبيّة فقد جوبهت بالقوّة الناعمة، فيرى النظام العالميّ ألّا مبرّرَ لاستخدام القوّة، فالنظام الرأسماليّ مستتبّ وقد أرسى قواعده في جسد الاتّحاد الأوروبيّ، ولا حاجة لتدمير بلدٍ كفرنسا لترسيخ النظام العولميّ، ونشر الليبرالية فيها، فقد صارت الشعوب الأوروبيّة تابعة للنظام الرأسماليّ رغماً عنها. فقد ضاقت الثورات، وبدأ احتكار كلّ شيء بيد الدولة والسلطة، وهناك ضريبة على كلّ شيء، هكذا رأى الشارع الأوروبي نفسه محاطاً ومحاصراً من قبل النظام الرأسمالي الذي يراقب أنفاسه حتّى، وبات “إغلاق الشوارع مؤقّتاً خلال الأعمال المباشرة يقدّم فضاءات لحظيّة تُمارس فيها العمليّة الديموقراطيّة، وتتيح حسّاً بالتمكين، لكن تلك الأحداث تترك السلطة من أجل السلطة… وبذلك نفتح طرقاً لتحدّي الرأسماليّة، والدول القوميّة، وغيرها من أنساق السيطرة ”

لقد عرّف الأناركيّون النيوليبرالية على أنّها أصولية السوق أو ستالينية السوق؛ التي ترى أنّ اتّجاهاً ممكناً واحداً فحسب موجود للتطوّر التاريخي البشري، فالخريطة في قبضة نخبة من الاقتصاديين والمروّجين للشركات الكبرى، التي ترتبط بصندوق النقد الدولي IMF أو منظمة التجارة العالمية WTO أو اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA وهي مؤسسات بعيدة كلّ البعد عن المحاسبة الديمقراطيّة، إذ أنها غير منتخبة من الشعب، بل هي في يد عمالقة التجارة والتي صارت تقود دفّة العالم وليس دفّة أميركا فحسب، من هنا نشأت الأزمة الاقتصادية في العالم، ولم يفهم المواطن العادي معنى هذه الأزمة, فأعلنت شركات إفلاسها وازدادت البطالة… حتى ثارت أوروبا.

القوة الناعمة

يعرف الناس جميعاً القوّة الصلبة، وكلّنا نعلم أنّ الجبروت العسكريّ والاقتصاديّ غالباً ما يجعل الآخرين يغيّرون مواقفهم. ويمكن أن تتركّز القوة الصلبة على المغريات أو التهديدات، “والطريقة غير المباشرة للحصول على ما تريد، وتسمّى أحياناً (الوجه الثاني للقوّة) فقد يتمكّن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية؛ لأنّ هناك بلداناً أخرى – معجبة بمثله وتحذو حذوه، وتتطلّع إلى مستواه من الازدهار والانفتاح – تريد أن تتبعه. وبهذا المعنى، فإنّه من المهم أيضاً وضع جدول الأعمال واجتذاب الآخرين في السياسة العالمية، وليس فقط لإرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوّة العسكريّة أو العقوبات الاقتصاديّة. فهذه القوّة الناعمة – جعل الآخرين يريدون ما تريد – تُختار بدلاً من إرغامهم”

وهذا كان دأب الدولة على مدار خمسة آلاف عام، حيث استخدمت القوّة الناعمة عبر اعتناق مذاهب وطقوس وأديان أي (الثقافة) لدى شعب ما وتحويله إلى عقيدة الدولة، ثمّ التحكّم بالمجتمع عبر هذه الألعوبة، وظلّت هذه القوّة الناعمة مستمرة إلى يومنا هذا، بالطبع ظلّت الدولة تستخدم القوّة الناعمة إلى أن يشتدّ عودها، فلا تضطر إلى القوّة الناعمة، بل تعمد إلى القوة الصلبة، فتصبح دينها وديدنها.

بالطبع وقعت الحركات الثورية والأديان أيضاً في فخّ القوّة الناعمة، فبدأت بالإقناع والتأثير إلى أن وصلت إلى فرض الحدود والقوانين الصارمة، فقد كانت أسماء الله الحسنى التي تدلّ على الجمال هي الطاغية في بداية الدعوة (الرحمن – الرحيم…) وبعد استقرار الدولة في المدينة باتت أسماء الله الحسنى التي تدلّ على الجلال هي الطاغية (المنتقم – شديد العقاب..).

وتلجأ كلّ الدول الديمقراطيّة (أو التي تدّعي الديمقراطيّة) إلى القوّة الناعمة في سياستها الداخليّة، في أميركا وأوروبا على أقلّ تقدير، وبالطبع فإنّ كلفة القوّة الناعمة أكثر من القوة الصلبة، لكنّ الرئيس على سبيل المثال يحتاج إلى الأصوات، وبالتالي يلجأ إلى القوانين، وإلى الدولة العميقة، وكان استيعاب هذه الثورة التي استمرت تندلع في أوروبا منذ عام 2008 حتّى العام المنصرم خيرُ دليل على استخدام القوّة الناعمة.

لا تلجأ الولايات المتّحدة دائماً إلى القوة الناعمة بالنسبة لسياستها الخارجيّة، فهي تشعر بأنّها ليست مضطرّة إلى ذلك، فهي القوّة الضاربة، والغرور الأميركي يمنع من استخدام القوّة الناعمة في سياستها الخارجيّة، وكذلك الحسابات الاقتصاديّة، فبالتالي تلجأ إلى التهديد المباشر وفرض العقوبات الاقتصاديّة، وقد استطاعت العولمة أن تجعل القوّة تزداد في يد الولايات المتّحدة يوماً بعد يوم، يقول الكاتب جوزيف س ناي: “يقول لنا المتشكّكون بالقوة الناعمة: ألّا نقلق. فالشعبيّة شيء مؤقّت زائل ويجب ألّا تكون دليلاً على السياسة الخارجية بأيّ حال. والولايات المتّحدة تستطيع العمل دون تصفيق العالم. فنحن أقوياء إلى درجة نستطيع معها أن نفعل ما نشاء. فنحن القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ولابدّ حتماً أن تولد هذه الحقيقة حسداً وغيظاً. وقد قال فؤاد عجمي مؤخّراً: “لا تحتاج الولايات المتّحدة إلى القلق حول القلوب والعقول في أراضٍ أجنبيّة …. فالقول المتعارف عليه دائماً في السياسة الأميركيّة: لسنا بحاجة إلى حلفاء ولا مؤسسات بصورة دائمة. فباستطاعتنا دائماً أن ننتقي ائتلافاً من المستعدّين لمعاونتا عندما نحتاج إلى ذلك”. ومن عادة دونالد رمسفيلد أن يقول: “إنّ القضايا هي التي ينبغي أن تقرّر الائتلافات وتبتّ بها، وليس العكس”.

كلمة لا بدّ منها

لقد استخدمت الدول العربيّة كلّ أنواع القوّة (الناعمة والقاسيّة والوحشيّة)، واستفادت من خبرة الأوروبيين في قمع ثوراتهم، وميّعت ثورات الشرق من تلقاء نفسها، وكان دور المثقّفين كبيراً في هذا المجال، فما يجري على السّاحة في سوريا ولبنان والعراق وليبيا…. هو تمييع لثورة ربيع الشعوب. ونسبتها إلى العرب فحسب, كأنّها قالت للشعوب الأخرى: لا تثوروا حتى نصفّي حساباتنا نحن العرب.

أمّا بالنسبة إلى الجانب الكرديّ فقد تخبّطت الرؤى والنّظرة للحضارة لدى البعض، وبات تراكم الوعي في ذهنيات بعض الكرد تراكماً عشوائيّاً متخبّطاً، فمن الأمل بمجتمع كرديّ محافظ عشائريّ إقطاعيّ، إلى نظرة بعض الأحزاب العلمانيّة النّخبويّة, الإقصائيّة الليبراليّة الهجينة التي لم تحدّد هويّتها إلى الآن، ولم تحدّد نظرتها إلى الكون والحياة والمستقبل والواقع والماضي، لذلك كان نتاج هذا التخبّط اللافكريّ هو المعارضة التي وضعت قناع الثوريّة (سارقة الثورة)، وهذا ما أبعد الواقع عن النّظرة الحلميّة التّخيّليّة للعلماء المدجّجين بالأفكار الطوباوية الخيالية والّذين لم يؤدّوا دورهم الطّليعيّ فكراً وممارسة في معرفة المجتمع والانخراط في صفوفه, بل أنتجوا حضارة عشوائيّة شرقية غربية ليبراليّة تخدم الحداثة الرأسماليّة، ونظرة قومويّة تبحث عن حلم دولة طوباوية كبرى دون تحديد هويّة هذه الدولة الحلميّة، بل دون معرفة ماهية الدولة ومفاهيمها الطبقيّة، وكان ازدياد الهوّة في عدم تفصيل خطابهم الأيديولوجي والسياسيّ، والخروج عن الواقع ممارسة وفعلاً.

إنّ أيّة نظرة للكون تنظر إليها الطبقات العليا هي نظرة فسيفسائيّة سفسطائيّة تجمع بين التراكمات الثقافيّة التناقضيّة ما بعد الصدام الطبقيّ، وكأنّ الثورة هي فرز طبقيّ جديد، لكنّها بالمحصّلة بعد ازدياد الوعي المجتمعيّ يوماً بعد يوم في الشمال السوريّ، قد أفرغ ذلك الوعي هذه الطبقيّة من قرارها وفكرها غير المترابط بين النُّظرية والتطبيق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى