رامـــان آزاد
كان سقوط الاتحاد السوفييتيّ مدوّياً، انعكست تداعيات على خرائط النفوذ والتموضع السياسيّ على مستوى العالم، وأدخلت روسيا كبرى الدول في حالةِ ارتباكٍ ومشاكل اقتصاديّة وعلى مشارف “الأطلسة” التي غرقت فيها دول شيوعيّة في شرق أوروبا. وشكّل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة اللحظة الصفريّة للتحوّل، لتطرحَ النظرية “الأوراسيّة”، التي تجسّدها مبادئُ “البوتينيّة السياسيّة”، ولتعودَ روسيا تدريجيّاً إلى ساحةِ الصراعِ الدوليّ، وتتجّه شرقاً نحو آسيا الوسطى فتكرّس التحوّلَ نحو أوراسيا، ويُعادُ النظرُ في العقيدةِ العسكريّةِ الروسيّةِ، وتُرسم ملامحٌ جديدةٌ للنظامِ العالميّ وتُصاغُ مجدداً التكتلاتُ الإقليميّةُ والتحالفاتُ الدوليّة، ويتأجج الصدامُ الجيوسياسيّ بين الأوراسيّة والأطلسيّة في مناطقَ عدةٍ من العالمِ مثل سوريا وأوكرانيا.
انهيارُ الاتحادِ السوفييتيّ وتغيّرُ خرائطِ النفوذِ
في منتصف ليلة 31/12/1991، انتهى وجودُ الاتحاد السوفييتي، الذي نشأ على أنقاض الإمبراطوريّة الروسيّة عام 1922، في أعقاب الثورة الاشتراكيّة 1917. سبق ذلك عامان من التفكّكِ الذي أخذ وتيرة متسارعة، ووصل الذروة باستقالة ميخائيل غورباتشوف من رئاسة الاتحاد السوفييتيّ. وفي مطلع العام الجديد، 1992، أُنزل العلم السوفييتيّ الأحمر ذي المطرقة والمنجل من على الكرملين، لتنتهيَ دولةُ لينين وستالين، القوة الشيوعيّة العظمى بأهدافها الثوريّة وشعاراتها المناصرة للبروليتاريا واستبداديّة الدولة، ودخل العالم فعليّاً مرحلة القطب الواحد، بقيادة واشنطن.
بانهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ انتهت صلاحيّة الخريطةِ التي رُسمت في مؤتمر يالطا في 11/2/1945، بخروج أحد القطبين من مضمار التنافس ونهاية الحرب الباردة. وخابتِ الآمالُ بتقديمِ الغرب تنازلاتٍ بالمقابلِ والانتقالِ إلى صيغةِ تقاربٍ، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل، فالتنازلاتُ كانت من جانبِ الاتحادِ السوفييتيّ فقط، وانتهز الغربُ الفرصةَ لتعزيز أيديولوجيّته الرأسماليّة والليبراليّة وتوسيعِ إطار نفوذه، واتسع نطاقُ حلفِ الناتو بانضمامِ بلدان أوروبا الشرقيّة إليه (رومانيا، المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، بلغاريا، بولندا، سلوفينيا، كرواتيا)، ثم انضمّت دولُ البلطيق من تركةِ الاتحادِ السوفييتيّ (إستونيا وليتوانيا ولاتفيا). فتغيّرت خارطةُ النفوذِ في العالمِ، ودانت للقطبِ الواحدِ، وانفردت واشنطن بقيادةِ العالمِ. وصاغتها بشكلِ يخدم مصالحها الاستراتيجيّة، والتي كان أهمّها الحفاظُ على الهيمنةِ المطلقةِ، ومواجهة مناوئيها بالعقوباتِ الاقتصاديّةِ والتدخلاتِ العسكريّةِ المباشرة وغير المباشرة، ثمّ بتشجيعِ تصديرِ الوصفةِ الديمقراطيّةِ فيما سُمّي بـ”الثورات الملوّنة”.
عانت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ مشاكلَ اقتصاديّةَ وسياسيّةً واجتماعيّةً جمّة، كان لها تأثيرها الواضح على أداءِ وفعاليّة سياسة موسكو الخارجيّةّ، وكان استيرادُ القمح مؤشراً في غاية السلبيّة في بلدٍ كان فيما مضى من أوائلِ المصدّرين.
بعد تفككِ الاتحادِ السوفييتيّ ساد المجتمع الروسيّ ما يُسمى “أطلسة روسيا” وانتشرتِ القيم الغربيّة والأمريكيّة. ودخلتِ البلادُ أزماتٍ اقتصاديّةً، أخطرها شدّة التسعينيات وفق تسمية الروس، وسادت سياسة رأسماليّة قاسية وفقرٌ مدقعٌ وجريمةٌ طاغية. وتحوّلتِ السياسةُ الخارجيّةُ الروسيّةُ، فأبدت على مدى عقدِ التسعينات من القرن الماضي، توافقاً واستجابةً مع المواقفِ الأمريكيّةِ، وانسحبت روسيا من بعضِ المواقعِ التي كان وجودُها فيها يمثلُ نوعاً من التحدّي الموجّه للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ لاسيما في منطقة الشرق الأوسط. وكانت روسيا من الدولِ التي حاولت استثمارَ أحداثِ 11/9/2001 للتقاربِ مع الولاياتِ المتحدةِ، فراحت تقدّمُ نفسَها على أنّها الشريكُ والحليفُ الذي يعتمدُ عليه في محاربةِ ما يُسمّى الإرهابِ، وفي سبيل ذلك قدّمت روسيا تنازلاتٍ سياسيّةً وأمنيّةً وعسكريّةً في آسيا الوسطى، كان البعضُ يعتبرها إلى عهدٍ قريبٍ من المحرّماتِ في السياسةِ الروسيّةِ.
كان انهيارُ المعسكرِ الشيوعيّ وتقسيمُ الاتحادِ السوفييتيّ ضربةً مباشرةً في صميمِ الهويةِ الثقافيِّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ الروسيّةِ، بالمقابلِ أعلن المعسكر الغربيّ الأمريكيّ-الأوروبيّ انتصارَ أيديولوجيته السياسيّةِ الليبراليّةِ بكلِّ مفرداتها؛ ما حدا بكلِّ دول الجوار أن تعدّلَ سياساتها الخارجيّةِ وتموضعها وفق هذا المتغيّر، وتدخلَ منطقةُ الجوارِ الروسيّ على اتساعِها تحولاتٍ شاملةً.
بدأت روسيا بحثاً محموماً عن أيديولوجيا جديدة تحلّ مكان الشّيوعيّة بعد سقوطها. وانخرط الكرملين رسميّاً في عهد بوريس يلتسن بالبحث عن هذه الأيديولوجية، أو عقيدة قومية جديدة. وكان البحث يتمحور حول الديمقراطية وتداول السلطة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم السائدة في المجتمعات المعاصرة، التي كان يسود الاعتقاد بأن روسيا تتهيَّأ للانتقال إليها.
خلال عامي 1995-1997، من مرحلةِ البحثِ تعرضت ثرواتُ روسيا لنهبٍ أوليغارشيّ متوحشٍ عبر الخصخصةِ وصُودرت مدخراتُ الشعبِ الروسيّ عبر التضخمِ، واستشرى الفسادُ، وانهار الجيشُ الروسيّ والقدرة العسكريّة، وفقدت روسيا هيبتها العسكريّة.
في ظلِّ الارتباكِ وعجزِ النخبِ السياسيّةِ الروسيّةِ على التوافقِ على صيغةٍ انتقاليّةٍ تنتشل البلاد من حالة الارتباك وتعبُرُ بها إلى الدولةِ المعاصرةِ، دفعتِ الأجهزةُ الأمنيّةُ فلاديمير بوتين للسلطةِ، ولتبدأ معه رحلةُ العودةِ إلى المربعِ السوفيتيّ الأول بكلّ أدواتهِ المعروفة بإدارة السلطة، وصُودر العملُ السياسيّ بالمجتمع.
في مطلعِ الألفيّة طرحتِ الطبقةُ الحاكمةُ الحالية في روسيا “الديمقراطيّة الموجّهة”، وفي عهد ديمتري ميدفيدف “الديمقراطيّة السياديّة”، لكن عام 2012 وصف ميدفيديف نفسَه الديمقراطيّة البرلمانيّة بأنّها “كارثة لروسيا”، وتأرجّحت روسيا بين عدة طروحات في انتمائها وهويتها القاريّ والعرقيّ والدينيّ، فمن القول “بأوروبا الكبرى”، إلى القولِ إنَّ روسيا “أكبر من أيّةِ عقيدةٍ قوميّةٍ”، ثمّ إلى فكرةِ “الإمبراطوريّة الأرثوذكسيّة”.
دينيّاً طُرح شعار “موسكو هي روما الثالثة”، بإصرار من الكنيسةِ الروسيّة، على الدفاعِ عن “العالمِ الأرثوذكسيّ والعالم الروسيّ، بحسب بوتين في خطابِ التنصيبِ عام 2012. ثمّ كانتِ العودةُ إلى الفكرةِ الأوراسيّة، وجرى العملُ بدأبٍ على إحياءِ الاتحاد السوفييتيّ تارّةً تحت اسم “اتحاد الدول المستقلة”، وطوراً باسم “الاتحاد الأوراسيّ”، إلّا أن طرحَ الرئيس بوتين الوطنيّة عقيدةً قوميّةً روسيّةً.
في تعريفِ البوتينيّة
البوتينيّةُ مصطلحٌ يشيرُ إلى الأيديولوجيا والأولوياتِ السياسيّة للرئيسِ بوتين، وقد جاءتِ البوتينيّةُ محصلةَ فشلِ عمليةِ التحوّلِ الديمقراطيّ والوفاءِ للميراثِ الإمبراطوريّ، وفشلِ الليبراليين في إنجازِ عمليةِ الإصلاحِ الاقتصاديّ خلال عهدِ الرئيسِ بوريس يلتسين في تسعينياتِ القرنِ الماضي، إذ أجرى وزيرُ الاقتصادِ إيغور جايدار، إصلاحاتٍ اقتصاديّةً وصفها بأنّها “العلاجُ بالصدمةِ”. وتقومُ خطته الاقتصاديّةُ على التعجيلِ بتحريرِ الأسعارِ وخصخصةِ مؤسساتِ الدولةِ وإقامةِ السوقِ الحرّةِ. لكنّ التدابير انتهت إلى تفاقمِ التضخمِ. وحتى عام 1997، تمّت خصخصة 120 ألف شركة، وشابَ عمليةَ الخصخصةِ فسادٌ كبيرٌ وبيعت ممتلكاتُ الدولةِ بأقل من قيمتها السوقيّةِ، وقد ساهمت بأكثر من 70٪ من الناتج المحليّ الإجماليّ.
في كتابه البوتينيّة يشيرُ الكاتب الأمريكيّ والتر لاكور إلى ثلاثة محاور أساسيّة يجتمعُ عليها الحسِّ الشعبيّ الروسيّ وتدورُ حولها الوحدةُ المجتمعيّة في البلادِ وهي الاعتقادُ الراسخُ والعميقُ بالكنيسةِ الأرثوذكسيّةِ، والحسّ القوي بالانتماء الأوراسيّ الذي يؤمنون به قَدراً ومصيراً، والمحور الثالث هو التوجسُ من مواجهةِ العدوِ الخارجيّ، وتشكّل هذه المحاور ثوابت راسخةً وقواسم مشتركةً بين الروسِ منذ عام 1904.
ويطرحُ لاكور السؤالَ المباشرَ ما هي البوتينيّة؟ ويجيبُ “البوتينيّةُ هي رأسماليّةُ الدولةِ، سياسةٌ اقتصاديّةٌ ليبراليّةٌ، لكنّها أيضاً تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من تدخلِ الدولةِ، تدخلاً شاملاً تقريباً عندما يتعلقُ الأمرُ بالقضايا المهمّة… البوتينيّةُ حكومةٌ استبداديّةٌ، وهذا ليس جديداً في التاريخِ الروسيّ حيث يجري التخفيفُ من حِدّةِ الاستبداديّةِ وتلطيفُها بالفسادِ وعدمِ الكفاءةِ. هناك برلمانٌ لكنَّ أحزابَ المعارضةِ ليست حقيقيّةً في المعارضةِ. هناك صحافةٌ حرّةٌ، لكنَّ الحريّةَ مقصورةٌ على الصحفِ الصغيرةِ، وينبغي على النقدِ ألّا يتمادى أكثر من اللازمِ.
الاقتصادُ والإعلامُ والمجتمعُ المدنيُّ بقبضةِ الدولةِ
يمكنُ اعتبارُ الفترة الزمنيّة بدءاً من الولايةِ الأولى عام 2000 حتى أزمةِ أوكرانيا وضمِّ القرم عام 2014، (شغل منصب الرئيس لولايتين حتى 2008 ثم رئيساً للحكومة لوزراء حتى عام 2012، حيث عاد رئيساً)، ففي المرحلةِ الأولى من قيادته بدا بوتين بصورةِ منقذِ روسيا الدولةِ والشعبِ، ومخلصِ البلادِ من قوى الدمارِ الداخليّة والخارجيّة، ومن فسادِ الأقليّة (الأوليغارشيين) وهيمنتهم على شؤونِ الدولةِ، ومن الحركاتِ الانفصاليّةِ الإسلاميّة شمال القوقاز وتأثير الغربِ.
في 7/5/2000، وخلال خطاب تنصيبه رئيساً جديداً لروسيا الاتحاديّة، قال بوتين: “روسيا تأسست كدولةٍ شديدةِ المركزيّةِ منذ البدايةِ. وهذا أمرٌ متأصلٌ في جيناتنا وتقاليدنا وعقليّةِ الشعب”. وبنفس الخطاب تحدّث عن الديمقراطيّةِ وسيادةِ القانونِ، ولكنه ركّز على إعادةِ بناءِ الدولةِ والنظامِ المؤسسيّ. وحدّدَ هدفاً رئيسيّاً هو ضمان “دكتاتوريّة القوانين” وتقوية “الهياكل العموديّة للسلطةِ” وتحييدِ تأثيرِ حكمِ الأقليّةِ التي هيمنت على ولايةِ بوريس يلتسين الرئاسيّةِ ووضعته في مأزقٍ. واستهدفت إصلاحاتُ بوتين ثلاثة مجالاتٍ هي (الاقتصادُ والإعلامُ والمجتمعُ المدنيُّ)، والواقعُ أنّ خطةَ العملِ أُعدّت على التوازي من غير تمايزٍ بالترتيبِ.
اقتصاديّاً بدأ بوتين حملةَ التخلصِ من الطبقة الأوليغارشيّة التي استولت على الاقتصادِ الروسيّ، فأمر باعتقالِ رجالِ أعمالٍ تورّطوا في نهبِ الاقتصاد باسم الخصخصة ونفى أو طردَ آخرين وصادر ثرواتهم دون محاكمة. فيما فُرضت صفقةٌ على الأوليغارشيين، للتخلّي عن أيّ دورٍ سياسيّ وترْكِ الشأن السياسيِّ للسلطةِ الجديدةِ. وكان مصيرُ الذين رفضوا الصفقةَ السجنُ كما في حال رجلُ الأعمالِ ميخائيل خودوركوفسكي، الذي خسر شركةَ النفط “يوكوس”، أو النفي كما في حال إبراموفيتش وبيريزوفسكي الذي وُجد مقتولاً بمنزله ببريطانيا عام 2013. وتمَّ استملاكُ الشركاتِ، من طبقةِ الشيوعيّةِ القديمةِ “النومينكلاتورا”، التي فقدت سلطتها كشيوعيين ولكنهم استعادوها عبر حكمِ الأقليّة (الأوليغارشيّة).
يعتبر دوغين أنّ العدو الأخطر لبوتين هو النخبةُ السياسيّةُ الروسيّةُ المحابيةُ للغربِ المحيطةُ به، واتهمهم بالخيانة، ويقول أنّهم بصدد الاختفاء، لصالح اليوم زيادة نفوذ الأوراسيين وميلهم للحروبِ الخارجيّةِ. ويسأل ألم تكن الحروب الكبرى، في الغالب الأعم، نتيجة حتمية لأفعال إمبراطوريات في طور الانحلال؟
فرضُ السيطرةِ على الاقتصادِ الرأسماليّ كان الهدفَ الرئيسيّ لإصلاحاتِ بوتين الاقتصاديّة عام 2000، وهكذا ومع بوتين على رأسِ الحكومةِ، شهدت روسيا أوّل نموّ اقتصاديّ منذ تفكّك الاتحاد السوفيتيّ. والمحورُ الذي ارتكزت عليه إصلاحات بوتين الاقتصاديّة هو رفضُ النيوليبراليّة الراديكاليّة التي سادت خلال أولى سنواتِ حكمِ بوريس يلتسين ووُضعَ مخططٌ استراتيجيّ يخضعُ لسيطرةِ الدولة، فتحوّلت روسيا إلى النظامِ الحداثيّ الاستبداديّ، أي نظامٌ استبداديّ يدفعُ التحديثَ الاقتصاديّ عبر التحكمِ بالمواردِ الطبيعيّةِ، وتوزيعِ الإنتاجِ، وبفضله استمرّ بوتين في السلطة.
تعدُّ الحداثةُ الاستبداديّة نموذجاً فعّالاً جداً في المراحلِ الأولى لعلاجِ الاقتصاداتِ المنهارة، وقد نجحت في تطبيقه اليابان بعد الحربِ العالميّةِ الثانية. لكنّها في روسيا فقدت فعّاليتها بمرورِ السنواتِ؛ بسببِ تفشّي المحسوبيّةِ والفسادِ واحتفاظِ الأوليغارشيّة بالقوةِ التي مكّنتها من استعادةِ بعضِ مراكزها.
أحكم بوتين القبضةَ على وسائطِ الإعلامِ خلال ثلاثة أشهر من حكمه، وأخضعَ أهم القنوات التلفزيونيّة ومنها قناة (NTV)، والصحفِ والمطبوعاتِ الدوريّة والإذاعات. ورغم وجودِ أكثر من 3 آلاف قناة تلفزيونيّة إلّا أنّ معظمها يتجنبُ الأخبارَ السياسيّةَ، كما يُعرفُ عن شخص الرئيس بوتين طابعه المحافظُ وتعاملُه الحذرُ مع التكنولوجيا الحديثة، وذُكر أنّه لا يستخدمُ البريدَ الإلكترونيّ، وكثيراً ما ينتقدُ الإنترنت والمشكلاتِ التي يطرحُها.
تمكّن بوتين من إزاحة الحرس القديم ومعارضيه وإبعاده عن مراكز قوتهم، وغدا في بؤرة الاهتمام الإعلاميّ وتحكّم بالرأي العام داخل روسيا وفقاً لسياسته، فقدّمَ الإعلام تغطيةً خاصةً لحربِ الشيشان متجاوزاً هجماتِ الجيشِ الروسيّ الدمويّة، ودعم شعبيّةَ الرئيسِ وعظّم روسيا الجديدة. كما لاحقت وكالة الأمنِ الفيدراليّ الإعلاميين والصحفيين المعارضين والمتردّدين، واعتقلت بعضهم وشوّهت سمعةَ المئات وتمّت تصفية البعضِ، وتم التحكمُ بسوقِ الإعلاناتِ. وأصبح الصحفيون الذين يجرون تحقيقاتٍ حول قضايا الفسادِ أو الانتهاكِ الصارخِ لحقوقِ الإنسانِ في حربِ الشيشان معرّضين للمخاطر بما فيها الموتُ.
كان التوجّه مركّزاً باتجاه المجتمع المدنيّ بالنسبة للرئيس بوتين، ففَرضَ التقنينَ على أنشطةِ منظماتِ ومؤسساتِ المجتمعِ المدنيّ، ووُضعت تحت عينِ الدولةِ والأجهزةِ الأمنيّةِ، وفُصِلت عن الناسِ، ووُجّهت التًّهم للمؤسسات والعناصرِ الفاعلةِ فيه كالعمالةِ للغربِ واعتمادها عليه في التمويلِ والرعايةِ والتدريبِ. وبالمجملِ لم تبقَ في روسيا منظماتُ مجتمعٍ مدنيّ تراقبُ الانتخاباتِ ولا مؤسساتٍ إعلاميّةً مستقلةً يمكن أن تنتقدَ أداءَ الحكومةِ وتمارسَ دورها الرقابيّ.
شموليّة وديمقراطيّة شكليّة
استهدفتِ الإصلاحاتُ السياسيّةُ الأولى لبوتين استعادةَ سلطةَ الدولةِ المركزيّةِ على 85 من الكياناتِ الاتحاديّةِ. وفي أيار 2000، أي بعد أسابيعَ قليلة من تنصيبه، وضع بوتين نظاماً جديداً مكوّناً من سبعة “مناطق” يرأس كلّ منها “مفوّض”. وهو النموذجُ طُبق في روسيا لأول مرةٍ في عهدِ القيصر إيفان الرابع (1530-1584).
وفي عام 2004 تركزت السلطات أكثر من ذي قبل في أيدي بوتين بعد فوزه الباهر في الانتخابات الرئاسيّة (حصل على 71.31٪ من الأصوات). وكانت أولى التدابير منحَ الرئيسِ صلاحيةَ تعيينِ حكامِ الجمهوريات، رغم أنّ المقترحاتِ المختلفةَ الخاصةَ بهذا القانون ستخضعُ لتصويتِ المؤسساتِ الإقليمية. وبنفسِ السياقِ، تزايدت سلطةُ الأعضاءِ السابقين في الاستخباراتِ من زملاءِ بوتين.
في عام 2005 عرّف فلاديمير بوتين النظام السياسيّ الروسيّ بأنه “حقَّ كلِّ شخصٍ باختيارِ شكلِ الحكمِ الذي يناسبُ ظروفه المحليّة الخاصة بدلاً ممّا يتوافق مع المعاييرِ الديمقراطيّة العالميّة”. ووصف فلاديسلاف سوركوف المستشار السابق لبوتين الدولةَ الروسيّةَ بأنّها “ديمقراطية سياديّة” في عام 2006، للتأكيدِ على اختلافها مع الديمقراطيّةِ الليبراليّةِ. وكان هذا النموذجُ “الديمقراطيّ”، مثالُ “الدولة الهجينة”، إذ يلبّي المطالبَ الشكلانيّةَ للديمقراطيّةِ بانتخاباتٍ حرّةٍ نسبيّاً، ونظامٍ حزبيّ تعدديّ وحريةِ السوقِ والتعبيرِ من الناحية النظريّة، ولكنها تمنعُ ترسيخَ دعائمَ الديمقراطيّة عبر مؤسسات “غير مرئية” كالأجهزةِ السريّةِ، والسيطرةِ على وسائل الإعلام وعدم التهاونِ مع الفسادِ، ما يساعدُ على إدامةِ السلطةِ الاستبداديّة المشخصنةِ والأوليغارشيّة الاقتصاديّةِ. ويُسمّى هذا النظام أيضاً “الديمقراطيّة غير الليبراليّة” أو “الديمقراطيّة المقلّدة”، ولا يتجاوزُ دورُ النظامِ متعدّدِ الأحزابِ بالدولةِ الهجينةِ محاكاةَ اللعبةِ الديمقراطيّة.
توجدُ في روسيا ثلاثُ مجموعاتٍ حزبيّة رئيسيّة: أهمّها حزبُ روسيا الموحدة “الرسميّ”، ويحظى بأغلبيّة مطلقةٍ في مجلسِ الدوما. وأحزابُ “المعارضةِ الرسميّة”، التي أسهم الكرملين بتأسيسِ بعضها، وهي تجمعاتٌ مسجّلةٌ تشاركُ في السباقِ الانتخابيّ، لكنّها تخضعُ لإرادةِ الكرملين، ودورُها إعطاءُ صورةٍ ظاهريّةٍ للتعدديّةِ الحزبيّةِ وتقييدِ المنافسةِ السياسيّةِ. و “المعارضةُ غير الرسميّة”، وهي مجموعاتٌ أو حركاتٌ سياسيّة عجزت عن تلبيةِ متطلباتِ التوثيقِ كأحزابٍ رسميّةٍ أو حُظرت لموانعَ وفق قانونِ الأحزابِ السياسيّة. وفي كلِّ الأحوال فإنّ الديمقراطيّة السياديّة تنطوي على تناقضٍ، فهي تصادرُ ما تمنحه من حريةٍ بمنطقِ القانون.
وبدءاً من نيسان 2006، بدأتِ الدولةُ تمارسُ سيطرةً شاملةً على المنظماتِ المدنيّةِ من خلال مؤسسةٍ جديدةٍ تسمّى الغرفةُ العامّة لروسيا الاتحاديّة. وعُوملتِ الوكالاتُ والمؤسساتُ الأجنبيّة باعتبارها جهاتٍ مشبوهةً.
يمثلُ كانون الأول عام 2011 نقطةَ تحوّلٍ في المرحلةِ الأولى من البوتينيّة. فقد اجتاحتِ المظاهراتُ المدنَ الروسيّةَ الكبرى احتجاجاً على التزويرِ المزعومِ للانتخاباتِ التشريعيّةِ. وفي ردٍّ فعلٍ للحكومةِ ومنعاً من تكرارِ هذه الاحتجاجاتِ الحاشدةِ، أقر مجلس الدوما عام 2012 العديدَ من القوانين التي تستهدفُ توفيرَ دعمٍ وغطاءٍ قانونيّ للنظامِ الذي بدا طابعه الاستبداديّ يبرزُ على نحوٍ متزايد، وإضفاءِ الشرعيّةِ على القمعِ السياسيّ وإحباطِ أيّةِ محاولةٍ من جانبِ المعارضةِ للمنافسةِ على الساحة السياسيّة. ومن أبرز هذه القوانين الجديدة، قانونُ المظاهراتِ (الذي يتضمنُ إمكانيةَ فرضَ غرامةٍ تصل إلى 9300 يورو على أيّ مواطن بسببِ التظاهر). وقانون الإنترنت الذي يقضي بإنشاءِ لجنةٍ يمكنها أن تغلقَ مواقعَ الانترنت “الخطرة”. وأطلق الكرملين خطاباً حول وجود “عدو داخليّ” يفترضُ أنّه يتلقّى مساعداتٍ من “عدو خارجيّ” (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ). ولذلك، صدر قانونُ الخيانةِ الذي ينظمُ معاملةَ كلّ هؤلاء الذين يُعرفون بأنّهم “عملاء أجانب”.
بوتين رجلُ الاستخباراتِ الروسيّةِ السابق في مدينة درسدن الألمانيّة يحفظُ في عقله الخوفَ من الثوراتِ الشعبيّةِ، فقد شهِد بأمِ العينِ خروجَ الناسَ للشوارعِ وتوجههم إلى جدارِ برلين الذي كان رمزاً لعالمين ولصراعٍ أيديولوجيّ بين معسكرين، ومرَّ بلحظاتٍ عصيبةٍ عندما أحاطتِ الدبابات بمقره، فيما لم تحرّك حكومةِ موسكو التي كان يقودُها غورباتشوف ساكناً، فبادر وقتها إلى حرقِ التقاريرِ والوثائقِ الموجودةِ بالمقر. كما أنّه شاهدٌ على النتائجِ المروّعةِ للربيعِ العربيّ.
بالنظرِ إلى وضعِ روسيا الحالي، فالنظامُ فيها يستمدُّ شرعيّته من التدخلِ العسكريّ الخارجيّ في الفضاء الأوراسيّ، ويترجمُ ذلك إلى أصواتٍ في صناديقِ الاقتراعِ. فيما اُحتكرتِ السلطةُ الروسيّةُ من قبلِ الدائرةِ الضيّقةِ المحيطةِ بالرئيسِ، بعدما شملتِ العقوباتُ الغربيّة معظم الشخصياتِ. ومن الطبيعيّ أنّ يستلزمَ التوجّهُ للحروبِ الخارجيّة، تحوّلاً بنيويّاً في النظامِ إلى الشموليّة، بعد فرض الوصاية الكاملة على الدولة وغيابِ التعدديّة وإضعافِ المؤسساتِ الديمقراطيّة، ما فرضَ تغييراً في سماتِ السلطةِ الروسيّةِ، ظهرت نتائجُه بسيطرةِ الأوراسيين على مراكزِ القرارِ، واستبعادِ الخبراءِ والسياسيين.
وفي حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2012، والتي ترشح فيها بوتين للمرة الثالثة، وعد بالعودةِ إلى اختيارِ الحكامِ المحليين عبر الانتخابِ، والتخفيفِ من القوانين الانتخابيّة، وتكثيف مكافحةِ الفساد. وفى أحد خطاباته الانتخابيّة التي يتحدث فيها عن الشعب الروسيّ قال “واجبنا ليس فقط المحافظةُ على هويتنا الوطنيّة وروحنا كروس، بل وتطويرها أيضاً. لا يمكننا أن نضيعَ كدولةٍ؛ علينا أن نكونَ روساً ونظل روساً”. وبنفس الخطابِ أكّد على أهميّةِ الأسرةِ والعقيدةِ الدينيّة، وبعد ثلاثة أشهر فقط من المظاهراتِ ضد تزويرِ الانتخاباتِ التشريعيّةِ، فاز فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسيّة 4/3/2012 بنسبة 62٪ من الأصوات في الجولة الأولى، رغم عدم تغيّر الآليّة الانتخابيّة.