سليمان محمودملف العدد 47 - العالم واليمين المتطرف

التحالف الخفي بين المتطرف في العالم (بوتين – ترامب – أردوغان) وتداعياته على الشرق الأوسط -1-

سليمان محمود

سليمان محمود

سليمان محمود
سليمان محمود

مقدمة:

كان التدخلُ العسكري الروسي في سوريا في خريف عام 2015 بمثابة نقطة التحوّل الرئيسية في الحرب الأهلية السورية، وعودةِ روسيا إلى الشرق الأوسط كلاعبٍ رئيسي في القوة بعد غيابٍ دام عشرات السنين.

غيّرتِ القواتُ الجوية الروسية- بالتعاون مع القوات الإيرانية على الأرض- مسارَ الحرب، وأنقذت حكومةَ الرئيس السوري بشار الأسد من الانهيار الوشيك. استخدم الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين هذا الإنجاز لإحياء الشراكات القديمة وإطلاق شراكاتٍ جديدة. لقد عقد مؤتمراتٍ لتقرير مصير سوريا ما بعد الحرب الأهلية، وتبادل الزياراتِ مع الحلفاء الأمريكيين في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، ووقع اتفاقاتٍ لبيعهم أسلحةً ومحطاتِ الطاقة النووية. يبدو أنّ روسيا عادت من الخليج إلى شمال إفريقيا، خاصة وأنّ الولاياتِ المتحدة- المنهكة منذ ما يقرب من عقدين من الحروب التي لا نهاية لها- تبدو حريصةً على تقليل التزاماتها في المنطقة إلى الحد الأدنى. ودون رغبة في الوقوف في طريق الطموحات الروسية، أصبحت سياسةُ الولايات المتحدة غيرَ منتظمة ومضطربةً بشكل متزايد للخصوم والحلفاء القدامى على حدّ سواء.

في الواقع، يعدُّ قرارُ الرئيس دونالد ترامب في أكتوبر 2019 بسحب القوات الأمريكية المتبقية من شمال سوريا، ضوءاً أخضرَ على العمل العسكري الذي تقوم به تركيا والميليشيات التي تقودها ضدّ الأكراد حلفاء الولايات المتحدة السابقين، يعدُّ أبرزَ مظاهر رغبة واشنطن في إنهاء ما يقرب من عقدين من الحرب. لقد ضاعفت من الانطباع بانسحاب أمريكي سريع من الشرق الأوسط وهيمنة روسيا. وما زاد الطينَ بلةً تزامنُ انسحاب الولايات المتحدة من شمال سوريا مع زياراتٍ منتصرة من بوتين إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكلاهما من الحلفاء الأمريكيين.

ومع ذلك، فإنّ التقييمَ الرصينَ لمساعي الكرملين في جميع أنحاء الشرق الأوسط يشيرُ إلى أن صورةَ صعوده هي نوعٌ من المبالغة إلى حدّ ما، وأن الإنجازاتِ الفعلية للدبلوماسية الروسية في جميع أنحاء المنطقة أكثرُ تواضعاً مما تبدو عليه في البداية. بالطبع، لا ينبغي التقليلُ من إنجازات الكرملين أو تجاهلها حتى الآن. لكن أكبرَ إنجاز منفرد – انتصار مشترك في الحرب الأهلية السورية – والذي وضع روسيا كقوة رئيسية في البلد الذي مزقته الحرب، يأتي مع مجموعةٍ من التحديات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية الرئيسية، التي تجعل مهمةَ الفوز بالسلام أكثرَ صعوبةً من الفوز في الحرب.

من الخليج الفارسي إلى شمال إفريقيا، أنتجت الدبلوماسيةُ الروسية الرنانة مجموعةً من الصفقات المتعلقة بالتجارة والاستثمار والإعلانات المشتركة حول التعاون الموسّع في مختلف المجالات. ومع ذلك، فإن إلقاءَ نظرة فاحصة على هذا النمط المثير للإعجاب من النشاط يوضح أن التنفيذَ العملي لهذه الاتفاقيات والصفقات يتخلفُ أو لا يزال غيرَ محقّقٍ. لا تزال تجارةُ روسيا مع الشرق الأوسط متواضعةً للغاية، وهناك احتمالٌ ضئيل أن يتغيرَ هذا الوضعُ في المستقبل المنظور.

روسيا وتركيا

كان تسليمُ روسيا لنظام الدفاع الجوي S-400 إلى تركيا في يوليو 2019 لحظةً محورية في العلاقات الروسية التركية. حينَ اشترت أنقرةُ نظامَ الدفاع الجوي الروسي، متجاهلةً تحذيراتِ واشنطن الواضحة والصريحة من تداعيات العلاقات الروسية التركية، والتهديد بفرض عقوبات، ومنع الوصول إلى أسلحة أمريكية متطورة. وقد أدت الطبيعةُ غير الواضحة للتحذيرات، وتجاهل القيادة التركية إلى تضخيم الانطباع بانفصالها عن الولايات المتحدة، والغرب عموماً، في محورها الجغرافي السياسي تجاه روسيا.

كان قرارُ أنقرة حيال منظومة S-400 أكثرَ إثارة للدهشة بالنظر إلى حجم ونطاق الفصل بين روسيا والغرب منذ عام 2014، وبدايةَ ما يوصف غالباً بأنها حربٌ باردة جديدة. ومع ذلك، فإن محورَ تركيا تجاه روسيا له أسبابٌ أعمق، وكان في طور الإعداد من حلقة S-400 أو عودة ظهور روسيا كممثل إقليمي رئيسي من خلال تدخلها العسكري في سوريا. لقد كان التغييرُ في العلاقات الروسية التركية مستمراً منذ أكثر من عقدين، وبنظرة مختصرة على ديناميكياتها يمكن الوصول لتصحيحٍ مهمّ للانطباع السائد بأن التغيير كان مفاجئاً وغيرَ متوقع.

كان لنهاية الحرب الباردة وانفتاح الاقتصاد الروسي تأثيرٌ عميق على العلاقات الروسية التركية. وقد تلاشى تقريباً تراثُ التنافس التاريخي بين روسيا وتركيا- الذي أدى إلى حروب عديدة بين الحكام الإمبراطوريين الروس والعثمانيين، ومواجهة مزعجة خلال معظم القرن العشرين- وظهرت مكانها علاقةٌ تجارية مزدهرة بين البلدين.

ابتداءً من أوائل التسعينيات، ازدهرتِ العلاقةُ الاقتصادية بين روسيا وتركيا. ودخلت شركاتُ البناء التركية سوقَ العقارات المربح في موسكو، واكتشف السياحُ الروس شواطئَ البحر الأبيض المتوسط ​​التركية، وعملت شركاتُ الطاقة الروسية والتركية في مشاريعَ طموحة لخط الأنابيب، ونما حجمُ التجارة السنوية بينهما من أقل من ملياري دولار في عام 1992 إلى 25 مليار دولار في عام 2018، وفيما أعلن بوتين والرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان عن طموحهما في زيادة هذا العدد إلى 100 مليار دولار.

ازدهرتِ العلاقاتُ التجارية على الرغم من تراث التنافس الجيوسياسي بين سانت بطرسبرغ “موسكو” وإسطنبول ” أنقرة “، وكذلك مصادر الاحتكاك الأكثر حداثة بين البلدين. ونذكرُ في نزاع ناغورني كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا، انضمت تركيا إلى الأولى، في حين تولّت روسيا دورَ حامية الأخير التاريخية ضد العثمانيين (في الوقت الذي توفر فيه الأسلحة لكلا البلدين). وكذلك من الواضح أن الحكومةَ الروسيةَ قد غضت الطرف عن الدعم الذي قدمه الشتات التركي للمقاتلين الشيشان الذين يشنون تمرداً ضد روسيا في التسعينيات. ولم يمنع ذلك روسيا من توقيع اتفاق خط أنابيب رئيسي مع تركيا في عام 1998. بينما رفضت تركيا الاعترافَ بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ولم توافق أو تشارك في عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا.

ولكن هناك ما هو أكثر. حيثُ اتبعت كلٌّ من روسيا وتركيا مساراتٍ سياسية محلية مماثلة. ففي التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن العشرين، نفّذ كلا البلدين إصلاحاتٍ محلية كبرى، وسار كلّ منها في طريقه نحو علاقات أوثقَ مع أوروبا. في حالة تركيا، شمل هذا النهجُ محاولةَ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، بعد فترة من المحاولات الفاشلة في نهاية المطاف للتقارب مع أوروبا، شهد كلا البلدين تحوّلاتٍ كبيرة في سياستهم الداخلية مع ظهور قادة استبداديين على نحو متزايد. ونتيجة لذلك، عانت علاقاتهم مع الاتحاد الأوروبي، إلى حد كبير، بسبب النظرة الخافتة لأوروبا وانتقاداتها لتطوراتهم السياسية الداخلية. وتحولت كل من روسيا وتركيا- اللتين تتبع كل منهما رؤية زعيمها- إلى منبوذين في أوروبا بشكلٍ متشابه، وإن لم يكن بتطابق تامّ في المظالم ضد شركائهم الأوروبيين المحتملين.

وهكذا كانت العلاقةُ الشخصية بين بوتين وأردوغان على نفس القدر من الأهميّة لتطوير العلاقة بين روسيا وتركيا. لقد وجدَ الزعيمان نفسيهما أهدافاً للنقد الأوروبي- بسبب تراجعهما عن حقوق الإنسان والفساد – ورفض كلاهما مثلَ هذه الانتقادات والتدخل في شؤونهما الداخلية. حافظ كلاهما أيضاً على علاقةٍ غير مريحة مع واشنطن، وعلى وجه الخصوص علاقة شخصية صعبة مع أوباما.

وفي المجمل، هو مزيج من الإيجابيات والسلبيات هيّأ الزعيمين نحو الشعور بالتضامن مع بعضهما البعض، وإعلان العلاقات الشخصية الودية. مع ذلك، وإثر اندلاع الحرب الأهلية السورية، تم وضعُ العلاقة بين البلدين والقادة في اختبارٍ في عدة أزمات وبتتابع سريع.

إن سجلَ العلاقات التركية السورية معقدٌ، وغالباً ما كان مضطرباً. ويتضمن إرثَ علاقةٍ مضطربة بين إمبراطوريةٍ سابقة ومستعمرتها، التي تشترك في حدود 500 ميل ولديها مطالب إقليمية متنافسة؛ وأيضاً إرثُ الحرب الباردة، عندما انضمت سوريا إلى حلف الاتحاد السوفيتي، بينما تركيا كانت ركيزةَ الجناح الجنوبي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ وكذلك قضيةُ إيواء الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في سوريا، والذي اتهمته الحكومةُ التركية بتدبير حملة إرهابية داخل تركيا.

رحّب قادةُ تركيا بالربيع العربي، لأسبابٍ سياسية وجيوسياسية ودينية وفلسفية وداخلية خاصة بهم، هم في البداية حثوا الأسدَ على ممارسة ضبط النفس في جهوده لإخماد الاضطرابات المدنية في سوريا. ولم يترك الأسدُ- بشدّة ووحشية متزايدة في تعامله مع المعارضة- بشيء من الشكّ حول رفضه غير المشروط لتلك النصيحة، وانتقلت تركيا إلى صفّ خصوم الأسد وأنصار معارضته، في حين ظلّت روسيا حليفاً قوياً ومؤيّداً لنظامه.

كما هو الحالُ في العلاقات الأخرى بين روسيا ومختلف أطراف النزاع السوري، سواء المشاركين بشكل مباشر أو غير مباشر، جاءت اللحظةُ المحورية مع نشر القوات الجوية والبرية الروسية في سوريا في خريف عام 2015. ووضع الجيشُ الروسي نفسَه على مقربة من تركيا- خصم الحرب الباردة السابق- وصار الاثنان يعملان في المجال الجوي السوري المكتظ بشكل متزايد.

في 24 نوفمبر 2015، أسقطت طائرةٌ تركية من طراز F-16 طائرةً روسية من طراز Su-24، وفيما زعمت أنقرة – ونفت موسكو بشدة – أنّها اخترقت المجال الجوي التركي، أصرّ الروسُ على أن طائرتهم قد أسقطت فوق سوريا. أثار الحادثُ ردّ فعل غاضبٍ من روسيا، بما في ذلك مجموعة من العقوبات الاقتصادية والمطالبة باعتذار من أردوغان، الذي قدمه في يونيو 2016 في محاولةٍ للتخفيف من العقوبات والضغط السياسي من روسيا.

بعد شهرٍ بالكاد، تلقّت العلاقاتُ الروسية التركية الفاترة دفعةً كبيرة من التحول غير المتوقع للأحداث في تركيا. كانت محاولةُ الانقلاب ضد أردوغان في يوليو 2016 لحظةً محورية للسياسة الداخلية التركية، مما أدى إلى تطهيرٍ هائل من المجتمع المدني في البلاد، والعسكريين، والموظفين الحكوميين، ووسائل الإعلام.

أدى الانقلابُ، والتطهيرُ الشامل لخصوم أردوغان الذي أعقب ذلك، إلى مزيج من الحيرة والتردد والنقد الموجه ضد أردوغان من حلفاء تركيا الأوروبيين والولايات المتحدة. وكان الاستثناءُ الوحيد الملحوظ لردّ الفعل هذا هو بوتين. احتضن نظيره التركي واغتنمَ الفرصةَ لقيادة إسفينٍ بين تركيا وحلفائها الأوروبيين في وقت من علاقاتهم المتوترة بالفعل بشأن معالجة أزمة اللاجئين السوريين، ويقال إن بوتين- في مكالمة هاتفية في ليلة الانقلاب- عرض مساعدةَ أردوغان العسكرية من قبل القوات الخاصة الروسية.

كان انقلابُ يوليو 2016 الفاشل، وردّ فعل بوتين عليه، نقطةَ تحوّل في العلاقة التي لم تنتعش بعد من أزمة 2015 على سوريا. في أغسطس 2016، سافر أردوغان إلى روسيا – في أول رحلة خارجية له بعد الانقلاب- وشكر بوتين علناً على دعمه، مشيراً إليه على أنه “صديق عزيز”. وسافر الرئيسُ التركي إلى روسيا مرة أخرى في مايو 2017، وعند هذه النقطة أعلن بوتين أنّ العلاقةَ قد انتعشت تماماً من أزمة عام 2015 وأن العلاقة الاقتصادية قد تعافت. وقد تطورت هذه العلاقة المزدهرة على خلفية تدهورٍ مستمر في العلاقات بين تركيا وحلفائها الغربيين؛ إثر تطهير أردوغان البلاد من الرتب العسكرية، حتى شمل تطهير الضباط الأتراك العاملين في مقر الناتو.

حدثت نقطةٌ مهمة أخرى في التقارب السريع بين البلدين، ومحور تركيا تجاه روسيا في ديسمبر 2017، عندما وقّع البلدان على صفقة بقيمة 2.5 مليار دولار ثمن شراء نظام الدفاع الجوي S-400 من روسيا، بعد ما يقرب من عامين، وتحذيرات لا تُعدّ ولا تُحصى من جانبي الأطلسي وحلف الناتو حول التأثير السلبي على علاقات تركيا مع الولايات المتحدة، ولكن تمّت الصفقة.

كانت الصفقةُ S-400 انتصاراً لبوتين في مواجهته مع الولايات المتحدة وحلف الناتو أكثر منه كعلامة التقارب الاستراتيجي الحقيقي بين موسكو وأنقرة. كانت رمزيةً إلى حدّ بعيد الجائزةُ الأكثر أهمية لبوتين. فبعد سنواتٍ من الحدة في موسكو وواشنطن وبروكسل، وعقوباتٍ متعددة فرضت على روسيا بسبب انتهاكها للسيادة الأوكرانية وسلامة أراضيها وتجاوزات أخرى متعددة – العقوبات المفروضة بشكل خاص على Rosoboronexport ، كيان الدولة الروسي الذي باع نظام S-400 إلى تركيا – حصلَ بوتين على اليد العليا، وساد أردوغان للمضي قدماً في عملية الشراء.

كما كانت صفقةُ S-400 بمثابة انتصارٍ رمزي لأردوغان أيضاً، على الأقل في المدى القريب. لقد كان ذلك مفاجأة لواشنطن وبروكسل، حيث عانت سمعته بشدة في السنوات الأخيرة. كما كانت فرصةً لإظهار أهمية تركيا الاستراتيجية للغرب واستقلالها عنه.

وعلى الرغم من التهديدات المتكرّرة بفرض عقوبات على تركيا من أجل صفقة S-400، فقد كافحت إدارةُ ترامب للتوصّل إلى استجابة مناسبة، وكان ردّ فعلها على تسليم النظام إلى تركيا صامتاً، وعلامة على أنّ الأسهمَ الأمريكية في خطر في تركيا، بما في ذلك وصول الولايات المتحدة إلى قاعدة Incirlik الجوية، والرغبة في تجنب المزيد من الأضرار التي لحقت تماسك الناتو أو تفاقم الانقسام مع تركيا.

ومع ذلك، لا ينبغي فهمُ هذه النقطة العالية الجديدة في العلاقة بين موسكو وأنقرة على أنها تحولٌ استراتيجي حقيقي، فيما لا يتعدى أن يكون في أفضل الأحوال علاقةً معقدة في المستقبل المنظور. هناك عدةُ أسباب للحذر، فعلى الجانب الإيجابي، تعدّ العلاقاتُ التجارية والاقتصادية بين تركيا وروسيا أساساً مهماً لعلاقات البلدين، وتوفر كلاهما حوافز قوية للحفاظ على تلك العلاقة. وكذا يشتركُ قادة كلا البلدين في ضغينة ضد أوروبا والولايات المتحدة، كما لدى كل من أردوغان وبوتين أجنداتٌ سياسية محلية استبدادية مماثلة في الداخل، ويرفضان انتقاد القادة الآخرين باعتباره تدخلاً في شؤونهم الداخلية.

لكن لديهم خلافاتهم كذلك، فالدعمُ العسكري الروسي لنظام الأسد، الذي قلبَ مجرى الصراع وحفظه مما بدا أنه هزيمةٌ وشيكة، ترك للحكومة التركية خياراتٍ قليلة، بخلاف احتواء عدائها تجاه نظام الأسد وقبول حقيقة   البقاء في السلطة في سوريا. ومع ذلك، تحولت هذه الانتكاسةُ الأولية لتركيا إلى فرصة غير متوقعة، بعد أن أوضحَ ترامب في ديسمبر 2018 أنه يريد انسحاباً “كاملاً وسريعاً” لجميع القوات الأمريكية. على الرغم من أن هذا القرار تمّ عكسه تحت ضغط البنتاجون ومؤيدي حملة الدولة الإسلامية، إلا أن أردوغانَ استمرّ في الضغط باستمرار.

في أكتوبر 2019، أعلن ترامب مرةً أخرى عن قرار بسحب القوات الأمريكية وتمهيد الطريق أمام تركيا لمهاجمة القوّات الكرديّة، والتي كانت تعمل حتى ذلك الحين في شراكةٍ وثيقة مع القوات الأمريكية. وهذه الفرصة بدورها خفّفت النشرَ السريع للقوات الروسية لملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب القوات الأمريكية، والذي لم يترك للحكومة التركية أيّ خيار سوى قبول وجود الجيش الروسي والسوري في المناطق التي كانت تسيطر عليها في السابق المجموعات التي يقودها الأكراد بدعم وحماية الولايات المتحدة.

التحركاتُ التي أعقبت قرارَ إدارة ترامب بسحب القوات من شمال سوريا أرسلت إشارةً قوية إلى أردوغان بأنه في سعيه لتحقيق أهدافه في سوريا، سيكون عليه أن يولي عن كثبٍ التفضيلات والأولويات الروسية.

على الرغم من أن العلاقاتِ الاقتصادية بين روسيا وتركيا مهمة، ولكنها ليست بما يكفي لتجاهل بعض الجوانب التنافسية للعلاقة. فروسيا ليست حتى من بين أكبر عشر أسواق لصادرات تركيا. الصينُ وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلى جانب العديد من الاقتصادات الأوروبية الكبرى الأخرى كلها أقرب إلى تركيا. ورومانيا وبلغاريا وإسرائيل تشتري من تركيا أكثر من روسيا. على الرغم من أنّ التجارةَ مع روسيا هي عنصرٌ مهم في علاقتها مع تركيا، إلا أن روسيا أثبتت أنها ليست فوق استخدام التجارة كسلاح ضدها.

في حين أن أنقرة قد أعلنت عزمها على تأمين حدودها من الأكراد الذين تقول أنهم يشكلون تهديداً كبيراً لأمنها الداخليّ، فإن روسيا، من جانبها، لم تكن فوق استغلال القضية الكردية في التعامل مع تركيا، وقد أمدت روسيا بالسلاح إلى القوات الكردية في العراق، وقيل إنها دعمت القوات الكردية التي تقاتل الجيش التركي في سوريا.

بشكلٍ عام، تبدو العلاقةُ الروسية التركية أشبهَ بعلاقة معاملات أكثر من كونها تحالفاً أو شراكة استراتيجية. باستثناء الروابط الاقتصادية، حيث يوجد قدرٌ كبير من التكامل والتي لديها القدرة على العمل كعامل استقرار، فإن العلاقاتِ بينهما – التاريخية والسياسية والجغرافية السياسية والاستراتيجية والشخصية بين الزعيمين- تفتقرُ إلى القوة والمتانة والثقة المطلوبة في شراكة حقيقية، ناهيك عن التحالف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى