د. صادق إطيمش
حينما يتكلم البعض عن الديمقراطية ويصفها بحكم الأكثرية مع تعميم هذا الفهم على مختلف المجتمعات بغض النظر عن خصائص ومميزات واقعها الذي تمر به، فإن هذا البعض طالما يلجأ إلى استعمال مصطلحات كالأكثرية أو الأغلبية والأقلية مشيراً بذلك إلى تطبيق الفهم الكلاسيكي للمبدأ الديمقراطي الذي كان المعني به حكم الشعب للشعب.
ربما إنّ الديمقراطية بمفهومها هذا قد أفرزت واقعاً مغايراً لما يسمى بحكم الشعب بحيث نتج عن هذا الواقع، واستناداً إلى هذا الفهم الكلاسيكي للديمقراطية، حكومات ابتعدت تدريجياً عن الشعب واقتصرت على تسلّط فئة معينة على كل الشعب، حتى وإن جاءت هذه الفئة إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع وبشكلها الصحيح غير المزوّر. والتاريخ يقدم لنا أمثلة حية على ذلك أبرزها ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإيران الملائية وتركيا الأردوغانية وروسيا البوتينية ومؤخراً مصر الإخوانية. وقد يشمل هذا الفهم للديمقراطية وما ينتج عنه من حكومات كل تلك المجتمعات التي يبرز فيها الإسلام السياسي اليوم وكأنه يمثل، بكل ما يأتي به من هرطقات وأكاذيب وفتاوى وعنف وتكفير واحتيال وكل ما من شأنه إرهاب الآخرين، الأكثرية في المجتمع فيجعل من هذا الفهم للديمقراطية، التي يعاديها ويرفضها أصلاً، مدخلاً للحكم والتسلط على رقاب الناس باسم الأكثرية هذه وباسم هذا الفهم للديمقراطية.
تنازع الثقافات
وإذا جاز لنا الاختصار في الحديث هنا عن المنطقة العربية وما يتعلق بمجتمعاتها في هذا الشأن، فيمكننا القول بأنّ هذه المنطقة وارتباطها بالحداثة، التي أتت بنشر مفهوم الديمقراطية، فإن تاريخ هذا الارتباط يمكن ان يُعزى إلى الفترة التي انتهت فيها سيطرة الدولة التي كانت تعتبر نفسها تحكم باسم الدين في دولة الخلافة المتقدمة ثم في دولة السلاطين المتأخرة والتي انتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
بعد الحرب العالمية الأولى تنازعت هذه المنطقة ثقافتان. الثقافة القادمة مع هذه الحداثة التي قضت على مقومات الدولة القديمة، أي الثقافة القادمة مع جيوش وشركات ورأسمال وسياسة الدول التي حلَّت محل الدولة الدينية بما يسمى بالحكومات الوطنية كما في العراق ومصر والسودان وغيرها من الدول التي وقعت تحت الانتداب البريطاني، أو من خلال الدول التي أرادت جعل المناطق العربية التي وقعت تحت نفوذها نماذج مصغرة من الدولة الأم كما في الجزائر والمغرب وتونس بالنسبة لفرنسا ونوعاً ما لبنان أيضاً. أما المشايخ العربية التي تأسست بعدئذ في منطقة الخليج والتي لم تكن كنتيجة لانتهاء الحرب العالمية الأولى فقد كان لتأسيسها حسب هذه التقسيمات القبلية بواعث أخرى غير تلك التي جرى على أساسها وضع الحدود للدول العربية القائمة الآن.
أمّا الثقافة الأخرى فهي ثقافة محاولة الاستمرار على ما عاشته المجتمعات العربية منذ قرون وما ورثته هذه المجتمعات من البداوة السابقة بكل ما تحمله هذه البداوة من العادات والتقاليد والشعائر والممارسات التي اختلط فيها الديني بالاجتماعي والتاريخ بكل أزمنته وأمكنته التي تفاوتت في هذه الإفرازات حتى تجسمت تفاوتاتها هذه ليس بين منطقة ومنطقة فحسب، بل وحتى بين قبيلة وقبيلة في نفس المنطقة.
إذن فإنّ انسياق مجتمعات الشرق الأوسط عموماً إلى العالم الجديد، بما فيه من سلبيات وإيجابيات، خلق واقعاً تاريخياً لا يمكن تجاهله او تغييره بسهولة. إذ بدأ هذا الواقع ينعكس على الممارسات اليومية في حياة المجتمع سواءً بقصد تم ذلك أو بدون قصد، أو لتلبية حاجة آنية او لمسايرة حالة معينة. وبهذا القدر أو ذاك بدأت تتبلور داخل هذه المجتمعات مفاهيم جديدة في السياسة والثقافة والاقتصاد وحتى في التأثير على بعض العادات والتقاليد المتوارَثة. فنشوء الدولة الحديثة تحت هذه المؤثرات ظل ملازماً لترقب المؤسسة الدينية التي ظلت محاصَرة بين أُطر ما تربّت عليه وتوارثته عبر القرون العديدة الماضية والتي لم تستسغ أو تهضم بعد زوال الخلافة الإسلامية، بالرغم من تحوّل هذه الخلافة إلى سلطة سلاطين آل عثمان الذين نقلوا إلى سلطناتهم ثقافة بيئات تختلف تماماً عن ثقافة البيئة الصحراوية البدوية التي نشأ عليها وفي كنفها الإسلام.
المؤسسة الدينية التي كانت تقرر المسيرة الثقافية والتربوية وطبيعة الحياة في المجتمع لقرون عديدة كانت لها ردة فعل على دخول الثقافات الجديدة استعملت فيها وبشكل أساسي العاطفة الدينية التي أصبح لها طابع اجتماعي وتقليد عام في مجتمعات الشرق الأوسط، والذي لا يعني التدين بأيّ حال من الأحوال. فبدأت هذه المؤسسة الدينية بتوظيف العاطفة الدينية الاجتماعية هذه بما يتّفق وواقع الدولة الحديثة الناشئة على العمل السياسي الذي برز فيه الحديث عن أحزاب وتجمّعات وكتل سياسية وما شابه، بحيث وضعت المؤسسة الدينية هذه نفسها داخل هذا الإطار الجديد حتى تبلورت من داخلها أحزاب سياسية ذات واجهات دينية والتي بدأت بحزب الأخوان المسلمين الذي أسسه حسن البنا في مصر عام 1928.
الديمقراطيات
فالدولة الحديثة إذن هي دولة مؤسسات وأحزاب وكيانات وتجمعات مختلفة الرؤى والأهداف. وفي دولة كهذه يتحدد الأسلوب الذي يرى فيه كل تجمع وكل حزب الطريق الأمثل لتحقيق أهدافه من خلال وصوله إلى حكم هذه الدولة. وليس بعيداً عن التصور أن تبرز الصيغة الدكتاتورية للحكم حتى بعد وصول هذا الدكتاتور وحزبه عن طريق الانتخابات التي حققت له الفوز بأكثرية أصوات الناخبين. والأمثلة التي ذكرناها أعلاه في ألمانيا وإيطاليا وإيران وتركيا وروسيا وآخرها في مصر؛ الإخوان المسلمين شاهدة على ذلك. لا نريد في هذا المجال الخوض في أسباب تحوّل الوصول إلى السلطة بالطرق الديمقراطية إلى دكتاتورية، إذ أن لذلك الكثير من الأسباب التي تحتاج إلى دراسة هذه الظاهرة دراسة معمقة قد نتناولها يوماً ما. إنّ ما نصبو إليه الآن وفي هذا المجال هو إيضاح بعض هذه الأسباب التي تقود إلى الدكتاتورية والمتعلقة بشكل أساسي بفهم مصطلح الديمقراطية بالشكل الذي أصبح اليوم في متناول الأبحاث والدراسات العلمية.
إنّ فهم الديمقراطية وتطبيقها بالشكل الكلاسيكي المنطلِق من مبدأ الأكثرية أو الأقلية العددية فقط يمكن أن يؤدي بالنتيجة إلى خروج مَن وصلوا إلى كرسي الحكم عبر هذه الأكثرية عن جوهر الفكر الديمقراطي العلمي الحديث الذي لا ينطلق من العدد فقط مهما كثرت الأرقام الموضوعة لهذا العدد. فمؤشرات الديمقراطية الحديثة ومدى نجاحها يجري تحديدها، بالإضافة إلى عامل العدد الذي يشكل الأكثرية، بعوامل أخرى تلتصق التصاقاً لا انفكاك له عن جوهر الديمقراطية، ولا تكتمل هذه الديمقراطية دون تحقيق هذه العوامل، بل وإنّ احتمالات تحولها إلى دكتاتورية ستكون واردة جداً وتأتي متسارعة.
العامل الآخر الذي يلازم العامل العددي هو العامل الذي يسير باتجاه معاكس تماماً والذي يأخذ الفرد الواحد بنظر الاعتبار. وقد دخل هذا العامل على المفهوم الحديث للديمقراطية بعد الإعلان العالمي لوثائق حقوق الإنسان والتي تمّت بشكل متتابع ابتداءً بالإعلان عن وثيقة حقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة عام 1948، ثم وثيقتي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، حيث تشكل هذه الوثائق الأسس للائحة الحقوق الدولية التي جرى الاعتراف بها من قبل الأمم المتحدة، وأصبحت لها قوة القانون الدولي الذي يجب على كل الدول المنضوية تحت راية الأمم المتحدة الالتزام به، وتنفيذه وعدم السماح بتجاهله في كافة السياسات التي تتبناها الدولة تجاه المجتمع ككل وتجاه الفرد الواحد في هذا المجتمع أيضاً. فحقوق الإنسان تتكلم في لوائحها عن حق الفرد الواحد في المجتمع ولا تعترف بمدى تمثيل هذا الفرد في النسيج الاجتماعي عددياً. وهي تنص على ان هذا الفرد له من الحقوق وعليه من الواجبات في الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة تماماً كما لأيّ مجموعة أخرى صغيرة أو كبيرة.
استناداً إلى ذلك يمكن أن يجري الحديث تحت هذه المعطيات عن الديمقراطية السياسية التي تنطلق من العامل العددي في حسابات الأكثرية والأقلية والتي قد تُوصل هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة السياسية. وعن الديمقراطية الاجتماعية التي تأخذ كلّ فرد في المجتمع بنظر الاعتبار دون النظر إلى تمثيله العددي في مجتمعه وتضمن له كلّ الحقوق التي تنصّ عليها الوثائق الأممية لحقوق الإنسان.
وكما أسلفنا أعلاه فإنّ وثائق حقوق الإنسان لا تشمل الحقوق السياسية للفرد الواحد فقط، بل تشمل الحقوق الأخرى المتعلقة بحياة هذا الإنسان في مجتمعه والمتمثلة بالحقوق الاقتصادية والثقافية وكافة الحقوق المدنية الأخرى. أي أنه يمكن إدخال عامل آخر لإعطاء الديمقراطية مفهومها الحديث فيما إذا تم تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات وفرص العمل على كل أفراد المجتمع دون النظر إلى قربهم أو بعدهم عن السلطة أو عن المكون الأكثر دينياً او قومياً أو أي صفة أخرى تتّخذها هذه الأغلبية. أي أنّ الديمقراطية الاقتصادية تسير جنباً إلى جنب مع الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.
وهكذا يمكننا إدخال اي عامل آخر يتعلق بحياة الإنسان الفرد في المجتمع ثقافياً ودينياً وما إلى غير ذلك بحيث يصبح المفهوم الديمقراطي مفهوماً إنسانياً يحقق للجميع حقوقهم ويحافظ على ممارسة هذه الحقوق ضمن النسيج الاجتماعي. أي أنّ المفهوم الحديث للديمقراطية يتبلور من خلال أنسنة الديمقراطية الذي لا يسمح بتراجع أي ركن من الأركان المؤسِسَة لهذه الديمقراطية أمام الأركان الأخرى طالما يتعلق الأمر بالإنسان الفرد باعتباره الحجر الأساس لكلّ مكونات المجتمع. وبعبارة أخرى نقول: إنّ إمكانية تفويض الأكثرية العددية بإدارة شؤون الدولة يجب ألّا يعني بأي حال من الأحوال بأنّ هذه الإدارة تكون منفصلة عن تحقيق أيّ جانب آخر من جوانب العدالة الاجتماعية والحقوق الثقافية والاقتصادية لكل فرد من أفراد المجتمع كونه إنسانًا أوّلاً يعيش ضمن هذا المجتمع وضمن ضوابطه ثانياً.
كثيراً ما تتبجح قوى الإسلام السياسي وكل القوى التي تجنح إلى الدكتاتورية والحكم التسلطي في المجتمعات التي تحصل فيها هذه القوى على الأغلبية السياسية العددية بأنّها تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال ” منح الأقليات ” حقوقها، واضعة بعض المواد الدستورية التي طالما تكرر مصطلح “والأقليات الأخرى” معتبرة ذلك قمة الديمقراطية التي تسعى إلى تحقيقها في المجتمع الذي تتحكم بشؤونه. وما ذلك إلا الكذب والهراء بعينه وذلك لأسباب عدة أهمها :
أولاً: إن قوى الإسلام السياسي لا تؤمن بالديمقراطية أساساً، وهي إن تتحدث بها فهي إنما تقوم بذلك لاستعمالها كوسيلة تحاول بها خداع الجماهير، والكذب عليها بالوعود الباطلة واستغلال الدين للوصول إلى السلطة. وما إن تمسك بالسلطة السياسية للدولة حتى تنقلب على كل ادّعاءاتها وتقوّلاتها حول الديمقراطية وتستبدل كل هذه المصطلحات فوراً بالمصطلحات الدينية الخادعة كالشرعية وإطاعة الحاكم وعدم جواز الخروج عليه وتكفير المخالفين، كما تسعى إلى إشاعة العنف والكراهية في المجتمع كوسيلة من وسائل تثبيت أركان حكمهم. وقد أعطت لنا سياسة معلمهم الأكبر حزب الأخوان المسلمين في مصر شاهداً واضحاً على ذلك كله بالرغم من وجوده على قمة السلطة فترة زمنية قليلة استطاع من خلالها أن يكشف عن كل عوراته. كما كشفت عن هذا التوجه الإجرامي عصابات الدولة الإسلامية مؤخراً، داعش، في بشاعة عمليات القتل وإباحته بحق الآخر المخالف والتي يجري تطبيقها بدم بارد “وجهادية إسلامية” بامتياز حتى وإن كان هذا الآخر ينطق شهادتي الإسلام، فما بالك بما سيلحق بغير المسلمين، وقد رأينا ذلك فعلاً من خلال تعامل عصابات الدولة الإسلامية مع المسيحيين والإيزيدين في المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم في العراق وسوريا على وجه الخصوص.
ثانياً: الإسلام السياسي يؤمن إيماناً كاملاً بأنه يملك فقهاً متكاملاً لكل مناحي الحياة بدءاً بالأذان في أذن الوليد الجديد مروراً بكل مرافق محطات حياته الأخرى وحتى إنزاله إلى القبر وذلك حسب المواصفات التي تركها له السلف “الصالح” وما سار عليه هذا السلف. لذلك فإن هذا الإسلام ورواده لا يعترفون بأيّ تغيير يجري على هذه الطقوس التي يعتبرونها منزلة من السماء، وما هي بالحقيقة إلا طقوس الفقهاء. وعلى هذا الأساس فإنهم يحاربون الدولة المدنية الحديثة التي تشكل الديمقراطية ركناً أساسياً من أركانها ويعتبرون قوانينها وضعية لا يجوز إطاعتها والعمل بها. فلنا أن نتصور دولة يحكمها سكنة القبور بكل ما جاؤوا به من تعليمات وشرائع لزمانهم ويظل إنسان القرن الحادي والعشرين محاصَراً ضمن هرطقاتهم التي تبيح لهم قتل من لا يعمل بهذه الهرطقات. ولكي يحققوا ذلك فإنّهم يلجؤون الى نشر الأكاذيب بين الناس ومن ضمنها أن دولتهم هي دولة مدنية أيضاً معرفين الدولة المدنية بأنّها الدولة التي يوجهها المدنيون وليس العسكر. وعلى هذا الأساس الغبي فإن دول المشايخ في الخليج هي دول مدنية بامتياز، حسب زعمهم.
ثالثاً : إن الإسلام السياسي بتصرفاته هذه يؤكد أكاذيبه التي ينشرها يومياً على المجتمع. فهو لا يخبر الناس كيف توصل إلى هذه الاحكام التي يعتبرها سماوية في حين أنّ دستور الإسلام؛ القرآن، لم يعالج المسائل الشرعية الخاصة بحياة الإنسان إلا في مواقع قليلة جداً وجدت لها تفسيرات وتأويلات وإضافات واجتهادات من قبل فقهاء السلاطين لتصبح التوجيهات القرآنية القليلة والواضحة مجلدات وصحاح وكتب تفسير وحديث لا حصر ولا عد لها. وهنا يتبادر السؤال إلى ذهن أي إنسان يريد أن يعي هذه الأمور: أليس هذا كله من وضع الإنسان؟ ألم تأت هذه التعليمات والتفسيرات والتأويلات من بشر يصيبون ويخطؤون؟ فلماذا إذن لا تعتبر قوانين هؤلاء الفقهاء قوانين وضعية في الوقت الذي تُرفض فيه قوانين الدولة المدنية باعتبارها قوانين وضعية؟
رابعاً: قد يلجأ الإسلام السياسي إلى المقولة التي طالما يوظفها على هواه والمتعلقة بالمصدر الثاني للإسلام، السنة النبوية. وهنا يتبادر السؤال المهم حول هذا الادعاء والمتعلق بالسُنن النبوية التي يدعيها كل منهم وليس السنة النبوية الحقيقية التي أتى بها نبي الإسلام.. فإذا ما تجاوزنا ادّعاءات وأكاذيب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي حول مصداقية السنة التي يمثلها ونتطرق إلى السنة التي تعمل بها الفرق الإسلامية المختلفة والتي يعتبرها فقهاء الإسلام قد وصلت إلى ثلاث وسبعين فرقة وربطوها بحديث يقول على أنّ فرقة واحدة هي الناجية والبقية جميعها في النار، فكيف يمكننا أن نمنع أية فرقة من أن تدّعي بأنها على طريق الحق وأنّها الفرقة الناجية؟ بمعنى آخر يمكننا القول بأن السنة التي يعتبرها البعض مصدراً اساسياً موازياً للقرآن لا ثانياً مكملاً له لا تمثل وجهاً واحداً للدين إلا من خلال الأحاديث أو الممارسات التي يجري عليها الاتفاق باعتبارها صحيحة. وهذه قليلة بشكل لا يمكنه جعل الفقه الذي يتبناه الإسلام السياسي في شؤون الحياة كافة فقهاً إلهياً، بل بشرياً وضعياً.
خامساً: الإسلام السياسي يكذب حينما يتكلم عن الدستور لأنه يتكلم عن شيء لا يؤمن به إطلاقاً لا لكونه يضم قوانين وضعية، كما أسلفنا في حالة دستور الدولة المدنية الديمقراطية، بل لأنّه لا يعترف بوجود شيء اسمه الدستور طالما هناك النص القرآني والسنة النبوية التي يعتبرونها دستورهم الذي يفسرونه كما يريدون وحسب مقاساتهم. فدولة آل سعود مثلاً، موطن السلفية، لا تعمل بدستور يجري على أساسه تنظيم أمور الدولة.
سادساً: الإسلام السياسي لا يعترف بالوطن أصلاً ولا بالمواطنة في الوطن لأن وطنه هو كل الديار الإسلامية حسبما يزعم. وعلى هذا الأساس ترى تحركاتهم الإجرامية التي ينشرونها من خلال المفخخات وجرائم التفجيرات ينفّذها مجرمو الإسلام السياسي في بلدان مختلفة لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد بعد أن يرحلوا إلى هذه البلدان من بلدهم الأصلي مُدَّعين الجهاد. فعمليات غسل الدماغ التي يخضعون لها لا تمكّنهم في مثل هذه الحالات من السؤال: الجهاد ضد مَن؟ وهل يجوز الجهاد باسم الإسلام ضد مَن اعتنق الإسلام بغضّ النظر عمّا في قلبه من إيمان؟
تحت هذه المعطيات ومعطيات أخرى كثيرة يتحرك ضمنها فكر الإسلام السياسي بكل منظماته وأحزابه وتجمعاته حتى وإن أخفى البعض ذلك تقيةً في الوقت الحاضر فإنه سيعكس ذلك على كل تصرفاته تجاه الآخرين في المستقبل، إذ أنهم جميعاً جُبلوا على ذلك.
فكيف يمكننا والحالة هذه أن نتعامل مع هذا الفكر المتخلف الذي يجد طريقه اليوم إلى التربّع على السلطة السياسية في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط، والتي ينشر فيها الرعب والفساد والتزوير والجريمة المنظمة التي تسندها بعض قوى أمن الدولة التي تتحكم بمقدراتها هذه الفئات المجرمة. إن جل عملنا على الساحة السياسية يجب أن ينطلق من فضح الإسلام السياسي بكافة توجهاته المذهبية والسياسية، فلا يوجد في جميع توجهاته هذه ما هو أحسن من الآخر. وقد برهن الإسلام السياسي في المواقع السياسية التي يحتلها اليوم بأنه مؤهل لتدمير كل شيء في سبيل بقائه على رأس السلطة واحتفاظه بها. وتجربة الجرائم التي قامت بها حركة طالبان بعد سقوطها في افغانستان، أو ممارسات الأخوان المسلمين الإرهابية في مصر بعد أن لفظ الشعب المصري تسلطهم على رقابه، أو ما تقوم به عصابات الدولة الإسلامية من جرائم وحشية، أو ما تنفذه الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق من سياسة الفساد المالي والإداري المستشري في كل اجهزة الدولة العراقية، ما هي إلا قليلاً من الأدلة الكثيرة على مثل هذا التوجه الإجرامي الذي يتبوّأ فيه الإسلام السياسي موقع الصدارة أينما وُجد وكيفما وُجد.