أبحاث ودراساتصالح بوزانملف العدد 46- التطرف والعيش المشترك

الدولة والمجتمع والعيش المشترك – (سوريا نموذجاً)

صالح بوزان

صالح بوزان

صالح بوزان
صالح بوزان

إن مفهومَ العيش المشترك واسعٌ ومتعدد الجوانب، فهو يبدأ من أي تجمّع اجتماعي مهني ومذهبي وطائفي، إلى أن يصلَ للتجمعات الأثنية في إطار دولة واحدة أو فيما بين الدول وشعوبها.

ولنطرح المسألةَ على صيغة السؤال: كيف كانت العلاقاتُ بين التجمعات الأثنية والدينية في إطار دولة واحدة، وكذلك في العلاقة فيما بين دول المنطقة في الشرق الأوسط تاريخياً؟. عند البحث عن الجواب سنواجه إشكالية أساسية وهي أن الدولَ التي قامت في هذه المنطقة اتسمت بالاستبداد الشرقي العنيف على خلفية الفكر الديني الإسلامي وتفرعاته المذهبية وعلى خلفية الفكر القومي المتشدد.

كان للدولة دورٌ بارز في تأزيم العلاقات بين شعوب المنطقة على شكل حروب مدمّرة. ويبدو أن هذا العاملَ التاريخي مهمٌ عند النظر إلى المستقبل وصياغة أسس سليمة لعيشٍ مشترك غير قابل للانفجار.

الأمرُ الأهم أن الذاكرةَ التاريخية حاضرةٌ في كل الخلافات الدينية والمذهبية والقومية في الشرق الأوسط. صحيح أن المجتمعاتِ البشرية خاضعة لقانون التغيير باستمرار مع الزمن، لكن الصحيح أيضاً أن المجتمعات في الشرق الأوسط لم تخرج من الإطار الديني والمذهبي والقومي المتناحر. وظل التناسخ مستمراً حتى الآن.

1

لنبدأ بالدولة الدينية الإسلامية الأولى في الشرق الأوسط التي قامت في دمشق مع الخلافة الأموية. لقد أصبحت هذه الدولة النموذجَ الأمّ التي تناسخت عنها الدولُ الإسلامية اللاحقة. بمعنى آخر أن كلَّ الدول التي قامت في هذه المنطقة كانت دولاً إسلامية تستمدّ بنيتها القانونية والسياسية من الشريعة الإسلامية. والإسلام، مثل أي دين آخر، غير قابل للتطور، بل يرفض أي تطور فكري، لأنه يعتبر نفسه نهاية الفكر ونهاية التاريخ. وكلما وقع هذا الدين في أزمة مع التطور يعيدُ إنتاجَ ذاته بطريقة قيصرية دموية.

عاشتِ التجمعاتُ والشعوب السورية قبل الإسلام تحت نفوذ إمبراطوريتين كبيرتين هما الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. وبالتالي حمل سكانُ هذه المنطقة تزاوجاً بين ثلاث ثقافات، وهي الثقافة الفارسية والثقافة الرومانية والثقافة المحلية. وبما أن سيادة أي ثقافة مرتبطة بالدولة السائدة، بقيت الثقافاتُ المحلية ضعيفةً رغم عراقتها. لم تبرز لدى هذه الشعوب ما نسميه اليوم اصطلاحاً بـالثقافة الوطنية. يجب الاعترافُ أن طبيعة الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية لم تكن تسعى لإلغاء الثقافات المحلية. كانت هاتان الإمبراطوريتان منفتحتين على ثقافات شعوب مستعمراتهما. فعلى سبيل المثال لم تفرض الدولةُ الفارسية ديانتها الزردشتية على شعوب الشرق الأوسط، ولم تفرض الدولة الرومانية ديانتها الوثنية على اليهود في فلسطين. جاء الإسلام على رماح بدو الحجاز إلى سوريا لينسفَ تلك الثقافات الثلاث وفرض ثقافة عربية إسلامية ذات نزعة بدوية صحراوية بقوة الدولة الأموية.

قامت الدولة الأموية (662 – 750 م) على أحادية الدين وأحادية اللغة والثقافة، بل ممكن القول أحادية العلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية. جلب الأمويون معهم من الحجاز إلى سوريا عاداتهم البدوية والعشائرية وقساوة نزعتهم الصحراوية، وجعلوها نموذجاً للاقتداء بها. لكنهم سرعان ما اصطدموا مع واقع مغاير لتفكيرهم. فقد اتضح لهم أن الثقافة الإسلامية البدوية هي أقل تطوراً من ثقافة سكان سوريا الزراعيين والأكثر تحضراً منهم. وبالتالي أدركوا استحالة ترسيخ سلطتهم في بلد أجنبي دون أسلمة وتعريب سكانها والقضاء على ثقافتهم ولغتهم ونمط معيشتهم.

ولتغيير ذهنية شعوب سوريا، كان لا بدّ من استخدام القوة المتجسدة في الدولة التي أسسوها. وبالتالي أسلمَ واستعربَ أكثرية سكان سوريا تحت تأثير عاملين: الأول تحت تأثير استبداد الدولة الدينية التي فرضها الأمويون على الناس بالقوة، والعامل الثاني نتج عن متطلبات الحياة التي أجبرت أغلبية السكان على الإسلام وترك لغتهم وثقافتهم.

كان المحتلون يدركون أن تمسّك أي شعب بتاريخه ولغته وثقافته يجعل المحتلَّ حالة طارئة وسيزول في يوم ما. فلا بد من احتلال العقل. وتحقق لهم ذلك بحيث بات كل من أسلم واستعرب من شعوب سوريا ينظر إلى ماضيه وثقافته باستخفاف واحتقار مع الزمن، وإلى لغته بأنها لم تعد تفيده بشيء. وهذا ما حدث لعرب الجزيرة أنفسهم عندما أسلموا، وباتوا يحتقرون ثقافتهم السابقة، وسموا تلك المرحلة بالجاهلية.

جاءت الدولة العباسية (750 – 1517) على خلفية الصراع الحاد داخل الإسلام على الدولة. صحيح أن العباسيين تميزوا عن الأمويين بأنهم لم يعتمدوا على العنصر العربي الحجازي فقط في تأسيس دولتهم واستمراريتها، لكنهم أقاموا أيضاً دولة دينية عربية استبدادية. كان الخليفة الحجازي يجلس في العاصمة بغداد وليس في مكة. ومن الملفت للانتباه أن مؤسس هذه الدولة سمي بـ”أبي العباس السفاح” دلالة على النزعة الدموية للدولة التي أسسها.

سار العباسيون على منوال أيدولوجية الدولة الأموية في تهميش خصائص وثقافات شعوب إمبراطورتيهم. لم يستخدم العباسيون التشدد الديني مثل الأمويين لإجبار الشعوب على التعريب بالقوة، نتيجة الجغرافية الواسعة للإمبراطورية العباسية وتعدد الشعوب في إطارها وتعدادها الأضخم مقارنة بالعرب. أسلمت أغلبُ هذه الشعوب بعد أن فشلت كل مقاومتها ضد الغزاة، واستحالة مقاومة الدين الإسلامي واللغة العربية المعززان بقوة الدولة. وباتت تجد هذه الشعوبُ مع الزمن في الإسلام الطريقة الوحيدة للعيش، وفي اللغة العربية ضرورة لا بد منها في التعامل مع الدولة والتنقل والتجارة في جغرافيتها.

بدأت مرحلة بالإمكان أن نسميها الانصهار الذاتي في الإسلام وفي العروبة. بالإمكان القول أن أغلبَ الشعب العربي في الشرق الأوسط اليوم هو من أصول غير عربية كما في شمال أفريقيا. لم تتخلّ هذه الشعوبُ التي أسلمت عن هوياتها نهائياً، بل أخذت تنزع عن الإسلام صفة العروبة وتعطيها خاصيتها كشعوب غير عربية. وعلى الرغم من أن أغلب ثورات وانتفاضات هذه الشعوب انتهت بنهايات دموية، لكن أغلبها استطاعت تكوين إماراتها الخاصة ودولها شبه المستقلة في إطار الإسلام رغم الولاء الشكلي للخليفة العباسي في بغداد.

كانت الصراعاتُ بين هذه الشعوب ومركز الخلافة مستمرةً طيلة العهد العباسي. انتقلت هذه الصراعات إلى الصراعات بين هذه الشعوب نفسها لأهداف التوسع والنفوذ. كانت الخلافة العباسية بيئة خصبة لشتى أنواع الصراعات الداخلية، ولا سيما الصراعات المذهبية والطائفية. اتخذت هذه المذاهب والطوائف الاسلامية أشكالاً مختلفة من الإمارات والدول شبه المستقلة، وفرضت مطالبها على المركز في بغداد. أبرز تلك الدول شبه المستقلة كانت الدولة الفاطمية (909-1171)، والدولة الغزنوي (961- 1187) والدولة السلجوقية (1055-1092)، والدولة الأيوبية (1174-1250)  ودولة المماليك (1250-1517)، وغيرها.

دخل عنصرٌ جديد في تأجيج الصراعات في الشرق الأوسط مع الحروب الصليبية التي امتدت من عام 1096 إلى عام 1291. نتج عن هذا الصراع حروبٌ دموية مدمرة بين الدول الإسلامية وبين الصليبيين الذين احتلوا أغلبَ الساحل السوري من أنطاكية إلى جنوب فلسطين، وشكلوا دولة مسيحية على هذه الجغرافية.

لم تكن الحروبُ الصليبية لها أهدافٌ استعمارية اقتصادية فقط، بل كانت حروباً دينية وثقافية خلفت إرثاً ثقيلاً على شعوب المنطقة. نقرأ في أدبيات هذه الحروب أن المسلمَ كان يسمي المسيحي كافراً، والمسيحي كان يسمي المسلم كافراً. وكان هذا التقييم يجري على المستوى الشعبي صعوداً إلى النخب السياسية والثقافية الدينية العليا.

جاء العثمانيون من آسيا الوسطى كغزاة إلى آسيا الصغرى. وأقاموا دولتهم وإمبراطورتيهم بالاعتماد على حروب دموية (1299- 1923) ولا سيما مع شعوب هذه المنطقة ومع الدولة الصفوية الإيرانية والبيزنطية. انقسم العديدُ من الشعوب بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وشاركت مع جيش الدولتين في حروب مع أشقائهم على طرفي الجبهات مثل الكرد. كانت الخاصية الأهم للدولة العثمانية أنها استخدمت أسلوبَ الإبادة الجماعية ضدَّ شعوب المنطقة كما فعل هولاكو وجنكيز خان.

بدأت الإمبراطورية العثمانية بالانهيار بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وتشكلت دولٌ عديدة على أنقاضها ومنها الدولة السورية حسب بنود اتفاقية سايكس بيكو 1916.

لا بد من الاستدراك أن مصطلحَ سوريا تاريخياً كان يُقصد به الساحل السوري واللبناني، ولم يكن لهذا المصطلح صبغةٌ عربية حتى تاريخ الانفصال عن الدولة العثمانية. اعتبر أغلبُ اللبنانيين أنفسهم ليسوا عرباً. ساعدَ على هذا التوجّه وجودُ غالبية مسيحية ودرزية وأرمنية في لبنان. كما أن سكانَ الساحل السوري ذي الصبغة العلوية لم يعتبروا أنفسهم أيضاً عرباً، لكون مصطلح العرب والإسلام كانا يعبران عن مضمون واحد لغاية النصف الأول من القرن الماضي.

هناك حقيقةٌ تاريخية أن الأقلياتِ المضطهَدة من قبل الأكثرية تشدد على انتمائها المتمايز لحماية نفسها من الذوبان في الأكثرية، سواء من الناحية الدينية أو الطائفية أو القومية.

كان الكرد في سوريا، رغم تخلفهم الاجتماعي والثقافي الريفي، يدركون أنهم شعبٌ آخر وليسوا عرباً رغم إسلامهم. وللحقيقة لم يكن عشرة بالمئة من كرد سوريا حينها يعرفون اللغة العربية. كان الكرد الذين يعرفون اللغة العربية هم في الأغلب من سكان دمشق ومحافظتي حماه واللاذقية.

عندما تشكلت المملكة السورية عام 1918 شعر الشعبُ السوري بكل مكوناته بفقدان الانتماء وضبابية الهوية. كانت الهويةُ الإسلامية العثمانية تشمل كلَّ شعوب الإمبراطورية بغض النظر عن الظلم والاستبداد السائدين. ومن الحقائق التاريخية أن العربَ لم يقوموا بانتفاضات ضد الخليفة العثماني، بعكس الكرد الذين لم تنقطع انتفاضاتهم ضد الدولة العثمانية الإسلامية. لأن العرب لم يميزوا يوماً بين هويتهم الإسلامية وهويتهم العربية. فقد اعتبروا أنهم يعيشون في ظلّ خلافة إسلامية سواءً كان الخليفة قريشي من مكة أو تركي قدم من آسيا الوسطى. ونجد في كتابات القوميين العرب المعاصرين أن الإسلام عنصرٌ أساسي في بنية الفكر القومي العربي، كما كتب ميشيل عفلق في كتابه “في سبيل البعث”.

كان نصفُ سكان سوريا من العرب أو من المستعربين، والنصف الثاني من الكرد وبقايا الآراميين والسريان والشركس والأرمن والتركمان واليهود. وعندما انهزمت الهويةُ الإسلامية في معركة الانفكاك عن الدولة العثمانية احتار العربُ المسلمون السنة قبل غيرهم من مكونات الشعب السوري في البحث عن هويتهم. فكيف يمكن أن يعتبروا أنفسهم مسلمين وقد تعاونوا مع أحفاد الصليبيين الإنكليز والفرنسيين لهدم الخلافة الإسلامية؟ وللحقيقة التاريخية، لولا الإنكليز والفرنسيون لما انفصل العربُ السوريون عن العثمانيين، وربما حتى اليوم. وما يؤكد هذا الاستنتاج أنه بعد قرن من استقلال سوريا وتشكيل العرب دولة قومية لهم برز التعاطفُ العربي السني السوري الواسع لأردوغان خلال الثورة السورية 2011. بل ساعدوه في احتلال أجزاء من سوريا. يعتبر ذلك إحياء للذاكرة التاريخية العثمانية لدى العرب السنة والتي امتدت لأربعة قرون.

لم يكن هناك مفهومٌ وطني عند السوريين بعد الانفصال عن الدولة العثمانية. فسرعان ما قبلوا بفيصل ابن شريف حسين الحجازي ملكاً عليهم، ولم يختاروا واحداً من السوريين. كان للمفهوم الإسلامي السني دوره الأكبر في هذا القبول نتيجةَ عدم وجود وطنية سورية في عقلهم الباطني. وعندما جاء الفرنسيون كمنتدبين على سوريا هرب الملكُ فيصل إلى العراق بحثاً عن عرش جديد، وترك الشعب السوري وراءه تحت نير الاستعمار، لأنه لم يكن يملك أي إحساس تجاه سوريا وشعبها. بينما رفض يوسفُ العظمة الذهابَ معه ومغادرة دمشق، لأنه ابن دمشق ووفي لانتمائه.

كثيراً ما أتخمنا الساسةُ والمثقفون القوميون العرب أن الفرنسيين خلقوا صراعاتٍ بين الشعب السوري لاتّباعهم سياسة “فرّق تسُد”. لا يستند هذا الكلام للواقع. فالتقسيم كان موجوداً قبل مجيء الفرنسيين من الناحية القومية والدينية والمذهبية. كل ما فعله الفرنسيون أنهم استغلوا هذا الواقعَ المقسّم من أجل ترسيخ أقدامهم في سوريا بربط مختلف مكوناتها بالسلطة الفرنسية، بحيث تجد كل فئة أن حقوقها مضمونة بديمومة السلطة الفرنسية.

كان للسنة خصوصيتهم وللمسيحيين واليهود خصوصيتهما، وللعلويين والدروز والاسماعيليين خصوصيتهم. كان للعرب والكرد والتركمان والأرمن والسريان خصوصيتهم من ناحية الانتماء القومي البدائي. لم يكن لدى الكرد شعورُ الانتماء للمملكة السورية التي تشكلت. كان الكردي يشعر أنه ينتمي مع أشقائه في الطرف الثاني من الحدود السورية التركية لأرومة مختلفة عن بقية القوميات في سوريا المنفصلة عن الإمبراطورية العثمانية. ولم يكن لدمشق أي اعتبار في ذاكرته التاريخية.

لبّى الفرنسيون رغبةَ العلويين والدروز في تشكيل إدارة ذاتية في مناطقهما. لكنهم لم يوافقوا على إدارة ذاتية كردية مسيحية مع السريان والآشوريين في الجزيرة السورية. يكمن سببُ رفض الفرنسيين طلبهم إلى التفاهمات الفرنسية-التركية. فالحكومة التركية الكمالية لم تقبل إدارة ذاتية على حدودها الجنوبية يديرها أعداؤها التاريخيون من الكرد والسريان والأرمن على الرغم من تعاطف الفرنسيين مع المسيحيين السوريين واللبنانيين.

عندما غادرَ الفرنسيون سوريا بعد الحرب العالمية الثانية تخوفت مختلفُ المكونات السورية، غير العربية السنية، على مستقبلها. وهناك العديد من الوثائق تثبت ذلك.

كانت مرحلةُ الحكم الوطني، كما يسمى، منذ الاستقلال عام 1946 وحتى الوحدة السورية المصرية عام 1958 مرحلةَ صياغة وطنية سورية والبحث عن هوية جامعة للشعب السوري. وضع الفرنسيون أساسَ تلك الوطنية. بل قدموا مساعدة كبيرة في إخراج ذهنية مكونات الشعب السوري من مفهوم الرعية العثماني إلى مفهوم المواطنة. كان للفرنسيين الدور الأكبر في وضع بنيان الدولة المدنية غير الدينية. فجاءت الفئة التي حكمت سوريا بعد الاستقلال فئة متنورة نسبياً، تتقارب مع العديد من المفاهيم العصرية  التي ورثوها من الفرنسيين والغرب عامة. كانت هذه الفئة تدرك مفهومَ المواطنة والتساوي أمام القانون وعدم التمايز الديني والطائفي والقومي. صحيح أن الحكم الوطني لم يعترف بالقومية الكردية والسريانية الآشورية والتركمانية، ولا بلغة وثقافة هذه القوميات، لكن كان لأبناء هذه القوميات الحقّ مثل العرب السنة في الوصول إلى المناصب العليا في الدولة والجيش والبرلمان. انعكس هذا التوجه الوطني إيجابياً على العلاقات القومية والدينية والطائفية بين مختلف الشرائح الاجتماعية. كانت تلك المرحلة هي المرحلة الوحيدة في السلم الاجتماعي في سوريا.

حدث الشرخ الأول في فترة الوحدة السورية-المصرية (1958-1961). فقد أثبت السوريون العرب السنة أنهم لم يكتسبوا بعد شعوراً وطنياً سورياً. فذهبوا على أقدامهم إلى عبد الناصر وقدموا سوريا على طبق من الذهب لدكتاتور مصر الناشئ.

ومع هذه الوحدة بدأ يظهر مفهومُ القومية العربية كعنصر أساسي في طبيعة الدولة. ظهرت من جديد المفاهيم القديمة للتمييز الديني تجاه المسيحيين والأرمن والقومي تجاه الكرد. لم يكن قد تبلور عندئذ تصور قومي عربي واضح لدى عبد الناصر. كان يقول في خطاباته “الخليج الفارسي” وليس الخليج العربي. ومن ناحية ثانية كانت النخب الفكرية والثقافية المصرية تميل إلى إظهار انتمائهم الفرعوني العريق وتمجيد الحضارة الفرعونية التي سفّهها الإسلام. فكانت ثمة مقولة على لسان كل مصري “مصر أم الدنيا”.

انعكست الوحدة السورية المصرية سلباً على الشعب السوري بكل مكوناته، لأنها قضت على الديمقراطية الناشئة، وأدت إلى ظهور الدور المركزي للمخابرات ورجال الأمن في إدارة الدولة. بدأ الشرخُ داخلَ المجتمع السوري الذي كان ما يزال تركيباً هشاً. فاتخذت دولة الوحدة مواقف متشددة تجاه الأرمن بهدف ترحيلهم من سوريا. وجرى شبيه ذلك تجاه المسيحيين. ومنذ ذلك التاريخ بدأت هجرة الأرمن إلى أرمينيا ولبنان، وكذلك هجرة المسيحيين إلى لبنان والمهجر.

كان التهديدُ الأكبر تجاهَ كرد سوريا، فمن ناحية ليس بإمكانهم الرحيل إلى أي مكان آخر لأنهم ينتمون إلى مناطقهم تاريخياً، ولن تستقبلهم أي دولة في الجوار. ومن ناحية أخرى كان الحجم السكاني للكرد كبيراً، ويأتي في المرتبة الثانية بعد العرب.

سبق القول أن عبد الناصر لم يكن قومياً عربياً على شاكلة ميشيل عفلق (1910-1989). فهو كسياسي براغماتي اعتمد على نزعة الفكر القومي العربي في سوريا كوسيلة لتعزير سلطته الديكتاتورية عليها. كان يدرك أن الذين دفعوا سوريا إلى الوحدة معه هم القوميون العرب السوريون السنة، وبالتالي لابد الاعتماد عليهم للحفاظ على استمرارية الوحدة على حساب بقية المكونات السورية القومية والدينية. أدى هذا التوجه الناصري (نسبة لعبد الناصر وحزبه) الذي شكل خطراً على كل مكون قومي وديني في سوريا لأن تبحث هذه المكونات السورية عن مصيرها. وظهرت بوادر التوجه القومي الكردي عملياً من هذا التاريخ.

الطامةُ الكبرى جاءت مع انقلاب حزب البعث عام 1963، حيث حدث الشرخُ القومي والثقافي في المجتمع السوري عمودياً وشاقولياً. أعاد حزبُ البعث تكوينَ الدولة السورية على أساس أيديولوجيته القومية العربية الطوباوية. وبالتالي فتح صراعاً داخلياً على الصعيد السياسي والثقافي ضد المكونات القومية غير العربية. وكما نعلم، ولد الفكر القومي العربي الأكثر تشدداً في الشرق الأوسط، أي في منطقة كانت تاريخياً متنوعة دينياً ومذهبياً وقومياً. ومن هنا جاءت الطبيعة العنصرية لدى حزب البعث في أحادية القومية في سوريا.

عندما شكل حزبُ البعث الدولةَ القومية العربية بعد انقلابه في سوريا والعراق، سعى لتحقيق حلمه القومي الطوباوي باستخدام الدولة القومية لصهر مختلف أشكال التنوع في سوريا والعراق في إطار قومي عربي متشدد. يعيد هذا التوجهُ البعثي إلى الذاكرة تاريخَ الدولة الأموية. وطالما افتخر منظرو البعث بالدولة الأموية واعتبروها الدولة العربية الأولى. ومع استمرار البعث في السلطة ونزوعه للاعتماد على العرب السنة في العراق ذي الأغلبية الشيعية وعلى الطائفة العلوية في سوريا ذات الأغلبية السنية إلى جانب وجود مكونات قومية غير عربية وعريقة في المنطقة مثل الكرد. وبالتالي كان البعثُ مصدرَ صراعات دموية مدمرة في هذين البلدين.

2

هذه بعضُ الملامح التاريخية الموجزة في الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة. وتوضح أن المنطقة كانت مسرحاً لصراعات دموية طيلة هذا التاريخ، وأن ما يجري في سوريا اليوم له جذور قديمة، هذه الجذور تأسست على خلفية فكرية دينية وفيما بعد قومية.

فالدين والقومية هما السببان الأساسيان في خلق كل النزاعات بين الشعوب والتجمعات الاجتماعية المختلفة في المنطقة. يمارس رجال الدين الإسلامي في السنوات الأخيرة نوعاً من التكتيك السياسي لتضليل الشعوب والرأي العام المحلي والعالمي في سبيل وضع اليد على الدولة. فهم يبشرون بدولة دينية سلمية وعادلة، وعند الاستحواذ بالدولة نكتشف ما أخفوه عن الناس. هذا ما فعله الخمينيون في الثورة الإيرانية. كانت أغلب شعارات هذه الثورة ديمقراطية ومدنية، فوقف كافة المظلومين في إيران معها، وساندوها بالملايين. وعندما انتصرت الثورة استولى عليها الملالي بقيادة خميني وشكلوا دولة دينية شيعية أكثر اضطهاداً للشعوب الايرانية من نظام الشاه نفسه. بل سعوا لتصدير ثورتهم من أجل استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية. وبالتالي أصبحت هذه الدولة الدينية مصدراً لخلق النزاعات والحروب في الشرق الأوسط.

استخدم هذا التكتيكُ التمويهي القوميون الأتراك والعرب في الشرق الأوسط للاستيلاء على الدولة. ومن ثم حولوها إلى دولة أحادية القومية لتصبح مصدراً جديداً في خلق النزاعات الحادة بين شعوب المنطقة من خلال استبداد قومية على القوميات الأخرى. بل وظّف القوميون الدولة لإبادة الشعوب الأخرى وصهرها في أيدولوجيتهم القومية العنصرية بنفس شراسة طغاة التاريخ. بل برزت ظاهرة عجيبة بأن المنصهِرين قومياً تحولوا مع الزمن إلى عناصر فاشية ضد الشعب الذي كانوا ينتمون إليه. وهكذا تحولت الدولة القومية في الشرق الأوسط إلى أداة بيد العنصريين الطغاة لحفر خنادق عميقة بين شعوب المنطقة وملئها بالدماء حتى لا تجد لغة مشتركة للتفاهم. هذا ما فعلته الدولة القومية الآتاتركية والدولة العربية البعثية في سوريا والعراق.

قام القوميون في الشرق الأوسط بتقليد البرجوازية الأوروبية في خلق نظرياتهم القومية. فاستوردوا الفكر القومي الأوروبي بانتقاء. ولغياب القاعدة الاقتصادية وحركة التنوير في بلدانهم كما حدث في أوروبا اضطروا لمزج هذا الفكر القومي بالفكر الديني الاسلامي والموروث الشرقي الاستبدادي. كثيراً ما يقول القوميون والإسلاميون في الشرق الأوسط أنهم يأخذون من الفكر الغربي ما يناسبهم. وهذا الكلام صحيح. ولكننا لو بحثنا في جوهر كلمة “ما يناسبهم” سنجد أنهم أخذوا الجانب العنصري من الفكر القومي الأوروبي مثل الفكر الفاشي الإيطالي والنازي الألماني. وبالتالي أنتجوا أيدولوجيات قومية طوباوية، ولكنها ديكتاتورية وعنصرية بامتياز.

يحمل الفكرُ القومي البعدَ الإنساني في حالة واحدة، عندما تقوم الشعوب بحركة تحرر وطني من أجل حريتها. وبمجرد أن تتحرر هذه الشعوبُ وتشكل دولها، يموت ذلك البعد الإنساني في القومية إذا أصرّ القوميون بعد التحرر إلى أحادية الهوية القومية للدولة، ويظهر البعد العنصري. إنهم يتحولون عندئذ بدورهم إلى مسببي صراعات داخلية حادة، ويقومون باضطهاد غيرهم مثل الذين كانوا يضطهدونهم قبل التحرر.

كشفت الثورةُ السورية الأخيرة أن أغلبَ ما قيل وما كتب عن الشعب السوري لم يكن صحيحاً. وقع في هذا الخطأ الأحزاب السياسية والمثقفون والمفكرون وأغلب الساسة. فقد ظهر للسطح أنه لا توجد وطنية سورية جامعة لكل المكونات السورية الدينية والطائفية والقومية. فبمجرد أن زالت السلطة القمعية في أغلب المناطق السورية ظهرت هويات وولاءات جديدة بقوة. استغربَ الكثيرون أمام ظاهرة وحشية النظام السوري الطائفية، واستغربوا أكثر لظاهرة داعش وجبهة النصرة وبقية التنظيمات التكفيرية في سوريا. لم يكن يعتقد أحدٌ أن بالإمكان للنظام السوري أن ينحدر إلى هذا المستوى في ارتكاب الجرائم الجماعية وقتل الشعب بالجملة وتصفية السجناء واغتصاب النساء. فحزب البعث- حسب وثائقه- هو حزبٌ تقدمي وعلماني ضد الطائفية. لكن الأحداث كشفت أن مليون بعثي في سوريا انقسموا بين ليلة وضحاها إلى طائفيين بأشرس مظاهرها. أغلب قيادات المعارضة السورية وقادة “الجيش الحر” هم من القوميين البعثيين السابقين أو المنشقين الجدد منه. حدث تحالفٌ أسود بين المعارضين للنظام السوري وبين الإخوان المسلمين لتصفية ثورة الشباب والدخول في صراع طائفي دموي مع طائفية النظام الدموية. لقد اتّحدت العنصرية القومية مع العنصرية الدينية والطائفية في المعارضة السورية. وساهمت بنفس مستوى النظام في تأجيج الصراع السياسي والاجتماعي والانحطاط الأخلاقي.

كشفت الأحداثُ أن أكثر من نصف قرن من التثقيف الحزبي البعثي كان مجرد أوهام لم يترسخ منه شيء في قاعدة البعث ولا في قياداته العليا. لأنه كان مجرد فكر وهمي ميتافيزيقي لا علاقة له بالواقع. كما بينت الأحداث أن كل التضليل الإعلامي الإخواني، ومحاولة التمظهر أمام الشعب والعالم بالديمقراطية واحترام حرية الرأي كان هو الآخر مجرد ستار من التضليل لإخفاء أسنانهم التاريخية الحادة وراءها.

برزت الطامة الكبرى مع ظاهرة داعش في دولتهم الإسلامية. ليس صحيحاً أن داعشَ والنصرة وبقية الكتائب الجهادية هي انحرافٌ عن الإسلام الأصولي، بل كان من نتاج مجتمعنا الذي لم نكن نعرفه حقّ المعرفة. كان بعضُ قادة هذه المنظمات التكفيرية أعضاءً في الأحزاب السورية الكلاسيكية، ولا سيما في حزب البعث وشبيبته “الثورية” وجيشه العقائدي. لقد نهض الفكر الإسلامي الاستبدادي فجأة في موروث هذا الشعب، واستحضر الجهاديون كل ما ارتكبه المسلمون من جرائم عبر تاريخ الإمبراطورية الإسلامية منذ نشأتها الأولى. من أين ظهر الآلاف من المقاتلين الداعشيين وقاتلوا بشراسة منقطع النظير في سبيل إقامة نظام الخلافة بالسيف على نموذج السلف الصالح، وإعادتنا إلى 1400 سنة مضت من حيث التفكير ونمط العيش؟ كان كل ذلك موجوداً في اللاشعور العربي السوري السنّي خاصة. لا يجوز أن نتجاهل خوفَ العلويين التاريخي من السُنة. فقد ارتكب السنةُ بحقهم وبحق الإسماعيليين والدروز والإيزيديين والمسيحيين مجازرَ موثقة في الكتب الإسلامية نفسها. لقد كان كل ذلك موجوداً  في مخزون لاشعور السُنة وغير السنة. وجاءتهم الفرصة بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا لتستعيد كلُ طائفة ذلكَ الماضي بحرفية حديثة. وجدنا فجأة بيننا خالدَ بن الوليد وهو يقتل مالك بن نويرة ويسلق رأسه ليأكله ومن ثم يزني بزوجته. ظهر الحجاجُ بن يوسف الثقفي ليقول إني وجدت رؤوساً قد أينعت وحان قطافها. وجدنا ابنَ تيمية يصعد إلى المآذن ليفتي بالتكفير ويحلل القتل. وصل المسلمون الجهاديون إلى درجة من الانحطاط الأخلاقي والانساني عندما قام أحدُ الدواعش بذبح أمه في ساحة من ساحات مدينة الرقة وأمام حشد من الناس مثل ضحية عيد الأضحى، لأنها تنتمي إلى الطائفة العلوية.

أي خراب كان يختبئ في ذهن هؤلاء؟

أنقذ حزبُ الاتحاد الديمقراطي الشعب الكردي من الانحدار إلى هذا الانحطاط. فاتخذ الكردُ السوريون منحاً خاصاً بهم. عزلوا مناطقهم من النظام ومن كافة التيارات الإسلامية التكفيرية. أقاموا تحالفاً سياسياً وعسكرياً مع عرب الشمال السوري ومع الآشوريين والسريان والتركمان للدفاع المشترك ضد الدولة الإسلامية وعصابات “الجيش الحر” الذي دخل في أجندات الدولة التركية التي احتلت بمساعدتهم أجزاءً من الوطن.

يعلمُ السوريون وشعوبُ المنطقة والعالم أن قواتِ وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وفيما بعد قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبر القوة العسكرية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أنها أنزهُ قوة مسلحة في سوريا خلال الحرب الأهلية. فلم تقم مثلَ الجيش السوري وعصابات الجيش “الحر” وكافة الميليشيات الجهادية في ارتكاب مجازر، في سبي النساء واغتصابهن، في سرقة أموال الناس وهدم بيوتهم، وفي الانتقام.

أثبت كردُ سوريا بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي أنهم لا يحملون أيَّ فكرٍ قومي أو ديني أو طائفي في تعارض مع أي مكون من مكونات الشعب السوري. بل عززَ هذا الحزبُ لدى الكرد السوريين وطنيتهم الراسخةَ لسوريا. وكان ردُّ الفعل من قبل الجهات السورية المختلفة أمام هذا الموقف الكردي المتميز كراهيةً مقيتة سواء من قبل النظام السوري أومن المعارضة السورية وكتائبها المسلحة أو من الدولة التركية المنحدرة نحو الإسلام الإخواني.

تعاونت هذه الجهاتُ باتفاق وبدون اتفاق، في السرّ والعلن للقضاء على هذا الحزب وعلى الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. كتب مؤخراً أحدُ قادة المعارضة السورية, أسعد الزعبي في الإنترنيت، ليعطينا نموذجاً من هذا الحقد الأعمى على حزب الاتحاد الديمقراطي وعلى كل الأمة الكردية ليقول: كلما اكتشفنا حقيقه من صفاة التنظيم الإرهابي الكردي الـ ب ي ديقصد حزب الاتحاد الديمقراطي يظهر عدد كبير من الحيوانات(حمير تمهق وكلاب تعوي وضفادع تنق وصراصير وجردان وديدان كثيرة) لا داعي لاستخدام المبيدات لهذه الحشرات، فقط يكفي أن تقول كلمة صدام سرعان ما تختفي، لذا ظهورها دوماً يجعلنا نترحم على صدام ،الله يرحمه. وهكذا يتأسف هذا المعارض السوري لعدم وجود صدام حسين سوري ليرتكب مثل مجزرة حلبجة الكيماوية ومجازر الأنفال ضد الشعب الكردي في سوريا أيضاً.

3

بمثابة خاتمة

لنعود إلى البداية، ونسأل كيف يمكن العيش في حياة مشتركة كأفراد وكمجموعات وكشعوب في إطار دولة واحدة؟

لا شكّ أن الكثيرين بحثوا عن الجواب لمعرفتهم أن تاريخَ الشرق الأوسط هو تاريخُ نزيفٍ دموي لم ينقطع عبر التاريخ. قدم بعضُ المفكرين العرب آراءَ عديدة من أجل التنوير والخروج من هذا المأزق التاريخي. وللأسف، عندما نتمعنُ في دراساتهم نجد أنهم لم يتجاوزوا الطوباوية التي وقع فيها المتدينون الإسلاميون والقوميون العرب تجاه الدولة.

ظهرت بعضُ الحقائق في الأزمة السورية تثير العجب. فبعض هؤلاء المفكرين السوريين الكبار الذين حملوا لواءَ التنوير سقطوا من قمم أفكارهم إلى حضيض ما كانوا ينتقدونه. سأذكر أسماء ثلاث مفكرين سوريين كبار، وهم الدكتور صادق جلال العظم والدكتور برهان غليون والدكتور طيب تيزيني. لقد تثقفنا على العديد من أفكار هؤلاء التنويرية، وفجأة وجدناهم يتخلون عن تلك الأفكار التي جاهدوا في سبيلها، فتعاون صادق جلال العظم وبرهان غليون مع الإخوان المسلمين لرسم مستقبل سوريا، وهم الذين يعرفون أكثر من غيرهم أن ليس للإخوان سوى شعار مركزي واحد “القرآن هو الحل”. بكى الطيب تيزيني على سوريا التي انهارت في الحرب الأهلية، وتبين أنه بكى على سوريا البعث التي ساهمت في التنظير للدولة القومية العربية.

ما نريد قوله أن لا مفكراً ولا حزباً ولا مؤسسة أبحاث عربية قدم حلولاً للتعايش السلمي بين شعوب المنطقة ووضع أسس علمية لشراكة عادلة في العيش المشترك. بل ممكن القول أكثر من ذلك، وهو أن المفكرين في الشرق الأوسط لم يكونوا يوماً بجرأة المفكرين الغربيين الذي قدموا أفكاراً جريئة من أجل إخراج المجتمعات الأوروبية من براثن الدولة الدينية والدولة القومية.

هناك بعض الأولويات الأساسية لا بدّ منها للخروج من دائرة الأزمات التي لا تفرّخ سوى ذاتها. ولعل أهم هذه الأسس:

أولاً. تبنّي مبدأ العلمانية وتطبيقها في الواقع. لأن العلمانية تقطع الطريقَ أمام الدولة الدينية التي هي بطبيعتها استبدادية. لم يصل الأوروبيون إلى هذا المبدأ نتيجة فكر إلحادي ينكر الدين. وإنما نتيجة كوارث الدولة الدينية المسيحية في أوروبا خلال قرون من الزمن. وبرهن تطبيق الدولة العلمانية في أوروبا احترامها لمعتقدات الناس الدينية وحرية ممارسة العبادة.

هناك فرقٌ كبير بين تحييد الدين سياسياً وبين النقاشات الفكرية حول الدين. استطاعت الدولة العلمانية في أوروبا جعل الديانة تتعايش مع الدولة ومع المجتمع ومع المذاهب المسيحية المتعددة بسلام، بل برز دورٌ اجتماعي متميز للدين المسيحي. تحول هذا الدين في ظل الدولة العلمانية إلى عامل مهم للسلم الأهلي وللعلاقات الإنسانية في المجتمع. وعندما تتأسس الدولة العلمانية في بلداننا، فسيتحول الإسلام أيضاً إلى عامل للسلم الأهلي ويساعد على العيش المشترك بين الشعوب، ويعزز الترابط الاجتماعي كقوة روحية. عندئذ لن تكون هناك مشكلة بين المؤمن وغير المؤمن، وبين المسلم وبين المسحي، وبين كافة المذاهب والطوائف.

العامل الثاني الذي تحتاج إليه شعوب الشرق الأوسط ومجتمعاتها هي نزع الدولة من براثن الفكر القومي، وجعلها مؤسسة تدير المجتمع دون أن تكون لها حق تحديد تركيبة وهويات المجتمع وبنيته القومية. بمعنى آخر أن تتحول الدولة إلى الأم التي تنظر إلى كل أبنائها نظرة متساوية بغض النظر عن الديانات والطوائف والقوميات. وأن يكون هذا التساوي مجسداً في الدستور والقوانين ويلتزم بها الجميع أفراداً وتجمعات وشعوباً. وهذا هو واقع الحال للدولة في أوروبا عموماً.

عندما تكون الدولة بصيغة قومية واحدة في بلد متعدد القوميات فهي تفتح باب الصراعات القومية حتماً. ولن تتوانى الشعوبُ المسلوبة الحقوق عندئذ من الانتفاضات والثورات، وحتى الاعتماد على الأجنبي في سبيل الحفاظ على هويتها وثقافتها. ليس في ذلك أي خيانة وطنية. لأن الدولة القومية الواحدة هي في الأصل خيانة وطنية تشرّع استبداد الأكثرية على الأقليات.

العامل الثالث يكمن في الديمقراطية. صحيح لا يمكن استيراد الديمقراطي مثل أي بضاعة. فالديمقراطية الغربية لها تاريخ طويل. وخلال هذا التاريخ أصيبت بانتكاسات عديدة حتى ترسخت في الدولة وفي المؤسسات والمجتمع وفي عقل كل مواطن. لكننا في الشرق الأوسط نستطيع أن نأخذ الأسس الأهم من الديمقراطية الغربية مثل فصل السلطات، وحرية الانتخابات النزيهة، والتداول السلمي للسلطة على ضوئها، وحرية الصحافة والرأي والرأي الآخر.. وغير ذلك. لن يكون المسار الديمقراطي سهلاً، وسيصاب ببعض النكسات حتماً. لكن إصرار الناس عليها سيؤدي في النهاية إلى نجاحها في الواقع.

العامل الرابع يكمن في اللامركزية السلطة. لقد تحولت جميعُ النظم المركزية في الشرق الأوسط إلى نظم ديكتاتورية مرعبة، بغض النظر إن كانت الدولة دينية أو قومية. وهذا ما حدث في سوريا والعراق وإيران وتركيا. بالرغم من أن النظام التركي أخذ العديد من مبادئ الدول الأوروبية الحديثة، لكن هذا النظام خضع للدور المركزي للجيش التركي. فالجيش التركي ليس مؤسسة للدفاع عن حدود الوطن فقط، بل هو مؤسسة سياسية مهيمنة على الدولة والمجتمع.

إن النظامَ الفدرالي حاجةٌ ضرورية في الشرق الأوسط، ليس لإقامة علاقات سليمة بين الشعوب فقط، بل لأنه يخلق علاقة تشاركية في تعاون منتج، وتوظف طاقات كل الشعوب من أجل التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي الذي ينصب منفعته على جميع شعوب البلد الواحد بالتساوي. يخلق النظام الفدرالي فرصاً متكافئة لكل المناطق وسكانها في التطور المتوازي، ومنع ظهور مناطق غنية وأخرى فقيرة. ففي الدولة المركزية البعثية في سوريا بقيت مناطق محافظات الحسكة والرقة ودير الزور ودرعا والسويداء مناطق فقيرة رغم وجود أهم الثروات الطبيعية فيها مثل النفط والغاز في المحافظات الشمالية، والحبوب والقطن في تلك المحافظات الشمالية ومحافظة درعا. لأن الدولة المركزية كانت تسحب كل هذه الموارد الاقتصادية إلى دمشق وتتصرف بها دون رقيب. لو نقارن هذا الواقع المركزي السوري مع واقع النظام الفدرالي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية سنجد أن كافة المناطق الألمانية تطورت مع سكانها بالتوازي، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. لا تجد في هذا البلد منطقة واحدة متخلفة عن الأخرى. ولا توجد أي فوارق حضارية بين سكان البلدة التي أعيش فيها في المانيا وعدد سكانها خمسة عشر ألفاً وبين سكان مدينة كولن أو بون اجتماعياً  وفكرياً وأخلاقياً.

أعتقد إذا لم تؤخذ هذه الأساسيات بعين الاعتبار في أي مشروع مستقبلي جديد لسوريا المستقبل ولكافة بلدان الشرق الأوسط فستبقى هذه المنطقة بؤرةَ صراعاتٍ دموية لقرن آخر على أقل تقدير.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى