المرأة الشرقية قصة معاناة… الواقع والآفاق
عبد الرحمن حمادة
كما للأشجار جذور عميقة ممتدة في أعماق الأرض تمدّها بأسباب الحياة وتثبتها، كذلك للإنسان جذوره الممتدة في أعماق التاريخ وهي التي شكلت مخزونه المعرفي المتراكم ولغته وثقافته, وميّزته عن غيره من المخلوقات بالعقل والقدرة على التحليل والاستنتاج, وقد مرت على الإنسان في مسيرته تحولات كثيرة وكبيرة, وهذا ما يتعلق ببحثنا هذا تركيزاً على المرأة وحيرتها المسلوبة حيناً و المعاشة حيناً آخر .
سطوة الذكورة وبدايات حالت بين المرأة وحريتها:
إن من أهم الأسباب التي حالت بين المرأة وحريتها؛ ما يسمى بالانقلاب الذكوري وظهور الملكية وانتهاء العهد المشاعي, والذي يقدر بحوالي 4500-5000 سنة، وظهور الغزو المنظم أي الخروج بمجموعات إلى الغزو والكسب والسبي, وهنا بدأت المشكلة, فأصبح الإنسان مغنماً يقايض ويباع أو يستعبد, وقد بدأت المجتمعات البشرية بالتضييق على المرأة خوفاً عليها من السبي والاستعباد, فتم إخفاؤها عن أعين الغزاة, وبدأت تظهر مفاهيم المنعة والشرف, فاعتُبرت المرأة حارساً على الشرف, وتم تقييد سلوكها ورسم دورها كمنتج للفرسان الذين يذهبون للغزو ويمدون المجموعات البشرية ( القبائل) بوسائل الحياة, من خلال الغنائم واغتنام النساء والصبيان من المجمعات الأخرى, وكان يعتبر داعياً للتضحية ونيل الامتياز في عدد الزوجات أو الجواري والسبايا, وعبر الزمن اقتنعت المرأة أنها مخلوق غير قادر على حماية نفسه, وتواطأت مع هذا المفهوم إما بالموافقة أو بالصمت, وغرقت في ثقافة المجتمع فأصبح ذلك يدخل في معتقدات ومقدسات المجتمع.
صدقت هذه الأطروحات وانطوت داخل ذاتها وآمنت بأنها مخلوقة للمنزل وخدمة الزوج وتربية الأولاد والعمل بالزراعة أحياناً إذا وجدت, وحيث أن المعرفة الإنسانية تراكمية غالباً مع تحقيق بعض الطفرات أحياناً؛ حيث أن التعليم في مجتمعاتنا يتمحور حول تعليم القراءة والكتابة بطريقة الحفظ والتكرار في مراحل التعليم المتوسط والثانوي, وتعتبر هذه الطريقة من أسوأ الطرق, حيث يتسرب أكثر من نصف الطلاب بسبب سن المراهقة والتطورات التي تطرأ على أجسام هؤلاء الفتية والفتيات, وعند تجاوز الطلاب لهذه الصعوبات وفي حال دخولهم الجامعة, لا يحظى إلا بالحصول على شهادة تخوّله الحصول على مهنة أو وظيفة, والحقيقة أن مهمة التعليم تحمل على عاتقها مسؤولية كبيرة في تطوير المجتمعات في شرقنا وحل مشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, ونقل المجتمعات إلى حالة من الحرية والرفاه والتقدم العلمي والخدمي, ووضع المرأة في مكانها الصحيح للقيام بدورها ودورها السياسي وتصحيح مفاهيم الحرية الخاطئة التي نسمع عنها لدى عموم مجتمعاتنا, من هدم لثقافة الفضيلة والانحلال الأخلاقي وفوضى العلاقات والاعتمام بالموضة ومواكبة الغرب في بعض السلوكيات الخاطئة حتى لدى المجتمعات المصدِّرة لها, ومساعدتها والأخذ بيدها لتفهم البعد الحقيقي للتحرر واختيار ما يناسبها من سلوكيات راقية.
أما إذا بقيتْ تحت الوصاية واختيار الرجل لمفردات حياتها أو تحت وصاية الخوف من الحرية, ولم تبادر لخوض نهر الحياة ومعتركها وظلت خائفة، فستبقى تبرّر ظلمها وقهرها وتتفنن في تبريرات لا حصر لها, وستستمر في التواطؤ مع الظروف التي قهرتها؛ من تسلط وجهل وتخلف وخوف تورّثهم المرأة لبناتها وهنّ يورثن ذلك بدورهن, وهكذا دواليك في دائرة لا منتهية لا يموت فيها القديم ولا يولد فيها الجديد.
إن حقيقة التماهي مع القاهر أو المعتدي هو شيء موجود في طبيعتنا كبشر, ومردّ ذلك اعتقادٍ باطني أنّ القوي والخروج عن أوامره أمرٌ غير ممكن, والواجب تبنّي أفكاره.
إنّ قدرة المجتمع على التحكم بالتفكير للإرادة تأتي من الإرث الثقافي الذي يقوم بغرس هذه الأفكار المتسلطة والقاهرة لأفراده, والمتحكمة في سلوكهم كونه يتبناهم صغاراً ويقوم برسم الحياة وسبلها لهم, قبل أن تنضج عقولهم وتستطيع التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب, وتبرمج عقولهم الغضّة الصغيرة, ما يجعل المخالفة لتلك الأوامر والنواهي سبباً للشعور بالذنب وعذاب الضمير, والالتزام بها سبباً من أسباب الرضى والقبول الداخلي والاجتماعي.
المرأة المقهورة والمستغلة اقتصادياً
إن حرية العمل بالنسبة للمرأة مرهونة بالفائدة التي يجنيها الرجل, سواء كان أباً أو زوجاً, حيث تاريخ العمل في العصر الحديث يؤكد تدنّي أجور عمل المرأة قياساً حتى في نفس الوظيفة إلى الرجل من جانب ونوعية العمل وعدد ساعات العمل, ويؤكد على أن خيارات المرأة أقل بكثير من فرص وخيارات الرجل, ولكن رغم هذه القلة في الفرص استعادت المرأة جزءاً من حريتها, وبالتالي ازداد معها الوعي في بعض الجوانب, فمثلاً بدأت تستغل وجودها في العمل لتقلل من الإنجاب, وذلك انعكس على حياتها بالتحسن والتقليل من الجهد المبذول في تربية الأطفال والعناية بهم, واستفادت من ثورة العلوم والصحة فاستخدمت حبوب منع الحمل وتنظيم الأسرة, وهذا انعكس على وضعها الصحي والنفسي والاقتصادي ولو بنسبة بسيطة قياساً لتاريخ المرأة في هذه النواحي المذكورة.
كيف تنظر الحداثة الرأسمالية إلى المرأة الشرقية:
كان لا بد لهذه التطورات في حياة المرأة أن تنعكس أيضاً على الجانب العلمي والثقافي, مما جعلها تخوض ميادين المعرفة في كل مناحيها, وتبدع في ذلك, فأصبحت الطبيبة والمهندسة والمعلمة والكاتبة والصحفية والعالمة والسياسية الناجحة ورائدة فضاء, وحيث أن عالمنا يقسم إلى عالم أول وثانٍ وثالث وأن المغلوب يقلد الغالب دوماً؛ فإن ما وصلنا هو بعض نفايات الغرب الحداثي الرأسمالي والأدوات التكنولوجية القابلة للاستهلاك مثل الهاتف المتنقل والأجهزة الكهربائية وصيحات الموضة, والتي حولت المرأة في مجتمعاتنا الشرقية إلى مستهلك لتلك التكنولوجيا, واقعة في حالة انبهار من منتجات العالم الأول, ولم تهتم بالتطور الفكري والاجتماعي والمعرفي الحقيقي الذي يعطيها حق التعلم وحق المعرفة وحق الحرية في اختيار ما يناسبها من القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, لتكون إلى جانب مجتمعها وأبنائها وتدفع بعجلة التقدم إلى الأمام, بدل أن تبقى مستهلكة لكل منتجات الغرب الرأسمالي, وتُستخدم أيضاً كسلعة تجارية إما بتسويق منتجاته أو الدعاية والإعلان عنها مقابل أثمان بخسة, تهين كرامتها وتظهرها بمظهر غير لائق اجتماعياً.
غياب المنظمة الاجتماعية الضامنة لحقوق المرأة:
الحرية لحظة تضيء بداخلنا فتدفعنا لقول الحقيقة دون خوف لهذه اللحظة التي دفعت المرأة ثمناً باهظاً من الدم والدموع والقهر والكفاح, لكي تتغلب على الشعور بالذنب والشعور بالدونية.
لكي تصدق أنها تستحق الحرية وثقافة الضحية المتعاطفة مع الجاني, وليس لأحد أن يخرج من السجن إذا لم يؤمن بأنه يستحق الحرية, وهذا الإيمان جعله يحفر طريقه بملعقة (فيلم شوشان) دون صوت ودون أن يتراجع أو ينزع هذا الإيمان, ولولا هذا الإيمان باستحقاقه للحرية لما وصل إلى ما يصبو إليه, وهناك معه سجين آخر استفاد من وجود النفق المحفور فخرج من خلاله ووُجد منتحراً خلال 24 ساعة لأنه لم يتحمل فكرة أنه حر ومسؤول عن نفسه.
إن سبب ذلك هو غياب منظومة موازية للواقع والعرف سواء كانت تعليمية أو اجتماعية مستقلة توازن بين المفاهيم وتقوم على تطوير التفكير الإيجابي وتعطي النموذج, فمنذ 200 سنة كانت العبودية سائدة ولا أحد يناقش تفاصيلها, ولولا التضحيات الكبرى التي قدمها الأحرار لما وجدت أحداً يستنكر العبودية حتى يومنا هذا, والسبب في ذلك وجود نهضة علمية تنويرية وجمعيات ومنتديات ثقافية جريئة, وتعليم حقيقي قام بوضع اليد على مواقع الألم وعالجها بالوسائل المناسبة في تلك المجتمعات, ومن المفارقات غير المنطقية وغير المعقولة أن الرجل الأعمى معرفياً أمي وناشئ بنفس الوسط وعلى نفس المفاهيم, ولكنه يقهر المرأة فقط لكونه رجل, والواقع يؤكد أن إعطاء الفرصة للمرأة حتى ولو كانت غير متعلمة فإن لديها فرصاً في النجاح, وكثير من النساء اللواتي فقدن أزواجهن قمن بإعالة أولادهن وإدارة حياتهن ورعاية أسرهن ونجحن في ذلك, فكيف إذا كنَّ متعلمات؟ ومع ذلك لا تحظى المرأة بفرصة لإدارة نفسها واختيار ما تريد, وحتى هناك غياب تساوي فرص الجنسين فيما يختاران.
ولمّا كانت عجلة الزمن تسير إلى الأمام بالضرورة, وأن مفاهيم الحرية والعدل والمساواة مرتبطة بالإنسان أولاً, فلا بدّ من الوصول إليها ولو بعد حين، إن كل ما بُذل من جهود في هذا المضمار إنما هو ناتج هذه الحركة التقدمية, وهو خاضع لقانون التسارع الزمني الذي يسود عصرنا, وربما تضاعف هذا التسارع مستقبلاً أشواطاً كثيرة وكبيرة, حيث إننا نعيش عصر السرعة وعصر الصورة الذي جعل الحياة على الأرض عبارة عن مدينة وقرية صغيرة يعرف سكانها الأحداث التي تجري, ويتم استخدام هذه المعرفة في بناء المواقف والمعارف الأخرى.
الصدمة الحضارية وما ينتظر المرأة الشرقية:
إن دخولنا هذا العصر دون تدخّل منا, قد أحدث لدى مجتمعاتنا الشرقية في العالم الثالث صدمة حضارية ومعرفية, فتجد أن بعض أفراد هذا المجتمع مستنكر لكل ما هو جديد وغير معروف, ومرتداً إلى تاريخه متمسكاً بالتقليد خوفاً من هذا التطور الذي يشعره بالغربة عن مفرداته التي نشأ عليها, والبعض الآخر ألقى بكل تقاليده وثقافته لصالح القادم المعرفي والحضاري وأخذ الشكل دون المضمون, فخلع ثيابه ومعتقداته وهو غير متمكن من السير على الأرض الجديدة, مما جعله غير متوازن ومتخبطاً فيما ما هو أصيل في ذاته, وبين ما هو جميل مغرٍ في شكله وحداثته, وما يلبث الجميع إلا أن يعترفوا بالواقع المتغير لصالح حقوق الإنسان والتقدم العلمي والاجتماعي, وأن هذا التغيير غير مسبوق في تاريخ العالم, حيث إنه يُعتبر تغييراً شاملاً وليس جزئياً كما كان يحصل تاريخياً, وأن المرأة يجب أن تعي الدور المهمّ الذي ينتظرها في العالم المعاصر, وأنه سيكون ثمرة نضالها التخلص من القهر والظلم والتبعية.