العلاقات الكردية العربيّة (5) أشهر الدويلات الكرديّة في عصر الإسلام
عبد الله شكاكي
العلاقات الكردية العربيّة (5)
أشهر الدويلات الكرديّة في عصر الإسلام
(الجزء الثاني)
عبد الله شكاكي
حكومة لورستان الصغرى (1195-1596):
تأسست هذه الحكومة في شرق كردستان (جنوب إيران)، على يد الأسرة الخورشيدية وقبائل اللور الصغرى، التي تتألف من
القبائل الأصلية التالية: جنگروي، محمد كوماري، گروهي، داوودي، عباسي، وعشائر أخرى مثل: كارندي، جنكردي، فضلي
سنوندي، آلاني، كاهكاهي، راجواركي، دري، براوند، مابكي، داري أبادكي، علوم مائي، كجائي، سلسكي، خودكي، بندوئي،
وأربعة عشائر أخرى تابعة لهم وتتكلم اللهجة اللورية لكنها ليست لورية الأصل، وهي: ساهي، أركي، أسباهي، بيهي.
كانت لورستان الصغرى في منتصف القرن الثاني عشر تحت سلطة السلاجقة، وكانت الأسرة الخورشيدية من قبيلة جنگروي متعاونة مع الوالي السلجوقي حسام الدين سوهلي، حيث تولى شجاع الدين خورشيد منصب محافظ لورستان الصغرى، وقد سطع نجمه بعد وفاة الوالي سوهلي، ليغدو الحاكم العام على لورستان الصغرى.
تولى الأمير خورشيد بن أبي بكر بن محمد بن خورشيد ولقبه شجاع الدين السلطة في لورستان الصغرى سنة 1174م واتخذ مدينة خرماباد عاصمة له، وكان سرخاب بن عيار رئيس قبيلة جنگروي الذي ينتمي إليها أسرة خورشيد قد نافسه في الحكم، ولهذا وجه الأمير خورشيد جيشه بقيادة ولديه بدر وحيدر، حيث حاصرا سرخاب في سياه دز (القلعة السوداء) حيث قتل حيدر على يديه، فتدخل الخليفة العباسي المستضيء، على “أن يترك لسرخاب قلعة “مانكاره”، وعوضه الخليفة بقلعة طرازك في اقليم خوزستان”[1].
عاش خورشيد حياة هادئة مع شعبه ناشراً العدل بينهم ويتفقد شؤونهم، وفي شيخوخته تمكنت عشيرة “البيات” التركمانية الاستيلاء على جزء من لورستان، وبعد قتال عنيف تم طردها من البلاد، ثم عين الأمير خورشيد ابنه بدراً ولياً للعهد، وابن أخيه سيف الدين ولياً للعهد من بعده، لكن سيف الدين تمكن من تدبير مكيدة لبدر وتخلص منه، ولما علم الأمير بالمؤامرة الدنيئة هاله الأمر وكان عمره قد تجاوز المائة، حيث وافته المنية سنة 1224، فبكاه شعبه لمحبتهم له وتحول قبره إلى مزار.
تولّى الحكم بعده سيف الدين رستم ابن أخيه وكان إدارياً ماهراً وشجاعاً نشر العدل بين شعبه ومنح لقب “أتابك” من الخليفة، ووقف بحزم في وجه أعمال الغزو التي كانت تقوم بها بعض العشائر وكافحهم بقسوة، ولهذا كان بعض الزعماء يكنون له العداء، وبعد عدة محاولات تمكنوا منه وقتلوه في جبل “گوه كلاه”، وقد مدحه الأمير شرفخان البدليسي في كتابه “شرفنامه”، ومما أورده أنه بلغ مسامع الأمير: “أن امرأة كانت توقد تنورها بالشعير بدل الحطب، فطلبها لاستجوابها عن عملها هذه، فأجابت المرأة فوراً: ليقال أن الرغد في بلاد الأمير وصل إلى حد أن النساء توقد النار بالشعير بدل الحطب، فأعجب الأمير بجوابها، وأنه بلغ مسامع الخليفة أن عصابة من ستين رجلاً عاثت في البلاد فساداً، وعجز الحكام عن وضع حد لهم، فما أن سمع سيف الدين بهذا الخبر، حتى تحرك فوراً وتمكن من أسرهم وإعدامهم، مع أنهم عرضوا عليهم فدية كبيرة وهي ستون بغلاً بلون واحد ومن نوع نادر، فرفض الأمير قائلاً: لا أريد أن يسجل التاريخ بأن سيف الدين كان بياع اللصوص وقاطع الطريق!”[2].
استمرت هذه الحكومة أكثر من أربعة قرون وكانت مليئة بالصراعات مع المغول تارة ومع عشيرة البيات التركمانية تارة أخرى، لكن الصراعات الداخلية بين الأمراء كانت أكثر تأثيراً ومعظم الحكام قضوا نحبهم قتلاً، يذكر أن الحاكم الثالث عشر كانت السيدة دولت خاتون التي تولت الحكم بعد وفاة زوجها عز الدين محمد وحكمت أكثر من ثلاث سنوات (1316-1316)، وبسبب ازدياد تدخلات الإمبراطورية المغولية في شؤونها اضطرت إلى ترك الحكم لأخيها عز الدين حسين، وفي عهد الحاكم السادس عزالدين شجاع (1405-1369) ساد الهدوء في أنحاء لورستان إثر التوقيع على معاهدة سلم وصداقة مع حكام العراق، إلا أنه في سنة 1386 تعرضت لورستان لغزو تيمور لنك فعم الخراب أنحاء البلاد، وقضى الكثيرون نحبهم تحت ضربات السيف من بينهم أغلب أمراء لورستان، وتم اعتقال الأمير الحاكم عز الدين ونفيه إلى سمرقند، وأعاد تيمور لنك الهجوم ثانية سنة 1392 حيث أغرق لورستان في بحر من الدماء ودمر البلاد تدميراً كاملاً، كما قتل الأمير عز الدين سنة 1401، أما ابنه سيدي حسين فقد لجأ إلى الجبال واختفى فيها.
حكم شاه حسين بن عز الدين بعد وفاة أخيه سيدي أحمد واستغل النزاعات التي اندلعت بين أحفاد تيمور لنگ، فاستولى على همذان وأصفهان وجربادقان، ثم غزا شهرزور وعشيرة بهاران، لكن رئيس العشيرة “كور پير علي” تمكن منه وقتله سنة 1466، وحكم بعده ابنه شاه رستم وبعد أن فرغ الشاه إسماعيل الصفوي من فتح بغداد، عاد إلى “حويزة” ووجه عشرة آلاف جندي بقيادة بيرم بك قره ماني و حسن بك لالا على شاه حسين، حيث لم يتمكن الأخير من الصمود واضطر اللجوء إلى الجبال، ثم سلم نفسه إلى الشاه إسماعيل الذي عفا عنه وأعاده حاكماً تابعاً له على لورستان الصغرى، واستمر الحاكم أوغوز خان الذي جاء بعده في تابعيته للشاه الصفوي، لكن الحاكم جهانگير بن شاه رستم رفض الطاعة لإيران، فزحف إليه جيش الشاه طهماسب أسفرت عن اندحار جيش لورستان ومقتل جهانگير سنة 1542، ثم حكم بعده شاه رستم بن جهانگير، لكن بعد عدة سنوات نازعه أخوه الصغير محمدي في الحكم ورغم تدخل وجهاء البلد ومنحوه مقاطعتين من أصل ستة، إلا أنه استمر في إحداث الفتن والإرباكات لأخيه ممّا اضطر شاه رستم إلى إلقاء القبض عليه وسجنه في قلعة ألموت، لكن دخل البلاد في فتنة جديدة، ويبدو أن طهماسب شاه إيران كان وراءها حيث السجن تحت أمرته، ومن ثم طالب الأمراء ومعهم الشعب من طهماسب بإطلاق سراح محمدي وإعادته إلى الحكم لدرء الفتنة، فوافق طهماسب لقاء ثلاثين ألفاً من الخيول والأغنام، وغادر شاه رستم لورستان لاجئاً إلى قزوين وبقي فيها حتى وفاته.
استولى محمدي بن جهانگير على الحكم في لورستان، وأجرى مصالحة مع البلاط الإيراني، وتُوِّج بزواج ميرزا حمزة ابن الشاه سلطان محمد بن طهماسب من كريمة محمدي، وأدى هذا الزواج إلى تقاربه مع القزلباشية، ثم عمل تفاهماً مماثلاً مع العثمانيين، حيث ضمن حماية الدولة العثمانية أيام السلطان مراد الثالث سنة 1584، وألحق بإيالته نواحي: مندلي، وجسان، وبدره، وتُرْساق، من أملاك السلطان في بغداد، والتي قدرت إيراداتها باثني عشر كيساً من الذهب العثماني، ثم ساءت العلاقات مع العثمانيين، فحدث تفاهم جديد مع شاه إيران، ودام على هذه الحال إلى أن وافته المنية.
تولى “شاه ويردي” بن محمدي الحكم بوفاة والده، حيث أُقِّرَ بمرسوم شاهاني من الشاه سلطان محمد، ولما آلت الشاهانية إلى الشاه عباس، حصلت مصاهرات شاهانية بزواج الشاه عباس من أخت شاه ويردي زوجة أخيه ميرزا حمزة، وزواج شاه ويردي من حفيدة ميرزا بهرام ابن عم الشاه، وهذا ما أدى إلى توطيد علاقات الصداقة بينهما، لكن إسناد الشاه عباس منصب إيالة همذان إلى “أوغورلو بگ” البياتي حاكم أصفهان، حركت العداوة القديمة بين اللور والبيّات (التركمان)، ونشب القتال بينهما حول قصبة “بروجرد”، حيث قتل فيها أوغورلو بگ رئيس البيات، ونهب اللور أموالهم، ولما سمع الشاه عباس بالخبر وكان بخراسان توجه فوراً إلى لورستان، حيث لم تصمد قوات اللور أمام الجيش الصفوي، فاضطر شاه ويردي إلى الانسحاب مع بعض من جيشه وأسرته واللجوء إلى جبل كولاه، وقام الشاه عباس بتمزيق لورستان الصغرى، حيث أعطى العاصمة خرم أباد إلى مهدي قلي خان، وأسند الباقي إلى الأمير اللورستاني سلطان حسين بن شاه رستم وذلك سنة 1593، ولجأ شاه ويردي إلى والي بغداد العثماني، وقدم له فروض الطاعة، وبعد عام أصدر الشاه عباس عفواً عن شاه ويردي تحقيقاً لمصلحته، وأرجعه إلى منصبه في حكومة لورستان الصغرى وإيالة خرم أباد، مع الكثير من الخلع والهدايا، واستمر يدير شؤون حكومته “حتى الآن (سنة 1005 هـ – 1596 م)”[3]، وفي السنة التالية 1597 جرد الشاه عباس حملة عسكرية على شاه ويردي وبعد قتال عنيف، ألقي القبض عليه وأمر الشاه بقتله، وتوزيع لورستان بين عدد من القبائل، وبمقتله ينتهي عهد حكومة لورستان الصغرى التي استمرت أربعمئة وسنتان.
لكن أحفاد شاه ويردي تمكنوا من الاحتفاظ بإمارة صغيرة في “پشتگوه” التي ظلت بأيديهم، بدءاً من حسين خان كوالٍ مستقل عليها، وحتى حيدر علي خان آخر والٍ سنة 1840، حيث “عمد رضا شاه بهلوي (والد آخر شاه إيراني) إلى إلغاء ولاية لورستان المستقلة، وربطها مع الولايات الإيرانية”[4].
جدول بأسماء حكام لورستان الصغرى وسني حكمهم[5]:
1 | شجاع الدين خورشيد | 1224-1174 تقريباً |
2 | سيف الدين رستم الأول | 1224-1224 = |
3 | شرف الدين أبو بكر | 1227-1224 = |
4 | عز الدين كرشاسپ | 1229-1227 = |
5 | حسام الدين خليل بن بدر | 1242-1229 = |
6 | بدر الدين مسعود بن بدر | 1260-1242 = |
7 | تاج الدين شاه | 1278-1260 = |
8 | فلك الدين حسين +
عز الدين حسين الأول (مشتركان) |
1293-1278 = |
9 | جمال الدين خضر | 1294-1293 = |
10 | حسام الدين عمر | 1295-1294 = |
11 | صمصام الدين محمود الأول | = 1296-1295 |
12 | عز الدين محمد | 1296-1316 |
13 | دولت خاتون | 1316-1316 |
14 | عز الدين حسين (أخو دولت) | 1330-1316 |
15 | عز الدين محمد بن عز الدين | 1369-1330 |
16 | عز الدين حسين بن محمود الثاني | 1405-1369 |
17 | سيدي أحمد | 1408-1405 |
18 | شاه حسين الرابع بن أحمد | 1408- 1466 |
19 | شاه رستم الثاني بن حسين | ؟ |
20 | أوغوز خان بن رستم | 1502- ? |
21 | جهانگــير بن رستم | 1502 – 1542 |
22 | شاه رستم بن جهانگــير | 1576 – 1542 |
23 | محمدي بن جهانگــير | 1576- ؟ |
24 | شاه ويردي بن محمدي | 1596- ? |
حكومة أردلان
أسسها “بابا أردلان” (حسب ما ورد في “شرفنامه”) وهو أحد أحفاد الأمير أحمد بن مروان مؤسس الأسرة المروانية الدوستكية[6] (1086-980) م، الذي قَدِمَ من آمد بعد أن دالت دولته واستقر بين عشيرة “گوران” الكردية، وشملت أجزاء من جنوب وشرق كردستان وأصبح حاكماً على شهرزور (كردستان العراق) عند قدوم جنكيز خان إلى بلاد إيران، وتمكن بابا أردلان من توسيع سلطته ليشمل اقليم “هورامان” (شرق كردستان)، واعترف جنكيز خان بحكومته بعد سيطرته على إيران سنة 1220م واعتبر حاكمها والياً له، وكانت “حكومة أردلان عظيمة الشأن والسلطان”[7]، ويرجع تاريخها إلى أوائل العهد العباسي، لكن “شرفنامه” يفتقر إلى المعلومات الكافية لأسرة أردلان وسني حكمهم، باستثناء قوله: أن: گلول بگ بن بابا أردلان أخضع اربيل (هولير) لحكمه.
تعرضت الحكومة الأردلانية لغزو الحكومة الجلائرية – التركية (1411-1336)، التي استولت على القسمين الشمالي والغربي في القرن الرابع عشر الميلادي، وذلك في عهد الأمير حسن بك ابن خضر بك، الذي دافع عن بلاده، وحال دون وقوع البلاد عامة في حوزتهم، وفي القرن الخامس عشر تمكن مأمون بگ من استرداد المناطق المحتلة من غاصبيها، وبذلك صار نهر الزاب الكبير الحدود الشمالية لأردلان، حيث وضع حامية عسكرية قوية في قلعة رواندوز، وبذلك أصبحت أردلان أقوى حكومة كردية في غرب إيران.
خضعت المناطق والبلدات التالية لسلطة حكومة أردلان: عقره، ودير، ودهوك، وأحياناً أربيل وكذلك زاخو من أملاك إمارة آميدية (العمادية)، حوالي مائتي عام (من القرن 14-12م)، ثم تأسست فيما بعد إمارة البادينان من العشائر الهكارية، أما اقليم شهرزور فكان مأهولاً بالكرد، لكن العشائر التي اشتهرت فيما بعد، مثل: الجاف، والهماوند، والژنگنه، لم تكن قد جاءت إلى المنطقة بعد، حيث كانت في غربي إيران، أما عشائر الطالباني والشيخاني والگاباري، فقد كانت أسرات صغيرة لم تبلغ مستوى العشائر.
توفي مأمون بگ حاكم أردلان في القرن الخامس عشر الميلادي، وخلّفه في الحكم ابنه الأكبر “بيگه بيگ”، وتزامنت ذلك مع الحرب العثمانية- الصفوية (معركة چالديران 1514)، ويعتقد أن حكومة أردلان خضعت أيضاً للسلطنة العثمانية، ثم خلف بيگه بيگ ابنه مأمون بگ الذي عاصر السلطان سليمان القانوني (1566-1520)، لكنه انحاز إلى الدولة الصفوية، وتمكن من توسيع نفوذه حتى نهر الزاب الصغير، وضمّت كل من: هاورامان، وشهرزور، وقره داغ، وسهل گرميان، إلى حكومة أردلان، وهذا ما أزعج العثمانيين، الذين وجّهوا قوة كبيرة من الجيش الانكشاري إلى كركوك، لوضع حد لتمدّد حكومة أردلان، كما وجّهوا حملة عسكرية على الأمير مأمون، بحجة تأمين طريق بغداد من تجاوزات عشائر شهرزور، وقد كانت قوام الحملة من المقاتلين الكرد، التابعين للأمراء الكرد المتعاونين مع العثمانيين، ومن ضمنهم سلطان حسين أمير العمادية وبتدبير من ادريس البدليسي، حيث كان الهدف الرئيسي من الحملة هو الاستيلاء على مدن: “مريوان”، و”سنه”، وأقلها انتزاع اقليم شهرزور، وقد استماتت حكومة أردلان وجيشها في مقاومة الجيش العثماني والدفاع عن بلادهم، ولما اشتد القتال والحصار اضطر مأمون بگ إلى التحصن بقلعة “زلم”، والاستمرار في المقاومة، وأخيراً وقع مأمون أسيراً واقتيد إلى استانبول حيث زجّ به في سجونها، وتعرضت أردلان للسلب والنهب والتخريب من قبل العثمانيين.
ثم تولى الحكم سرخاب بگ، الذي أقام علاقات طيبة مع طهماسب شاه إيران، وبسط سيطرته على معظم بلاد أردلان، وإزاء هذه التطورات الجديدة عمد السلطان العثماني سليمان القانوني، إلى إطلاق سراح مأمون بگ مع منحه لواء الحلّة، ومثله لأخيه إسماعيل، لإيقاعهما مع عمهما سرخاب، لكن تلك الجهود ذهبت سدى، لأن سرخاب بگ كان قد استحكم بكافة أمور البلاد.
قادت فشل المحاولات العثمانية للاستيلاء على أردلان إلى عزل والي بغداد علي باشا سنة 1549، وتعيين “پالطه جي محمد باشا” بدلاً عنه، حيث تمكن الأخير من استرداد اقليم شهرزور، بالاعتماد على فصائل من الجنود الكرد التابعين لأمراء كرد محليين متعاونين معهم، مما أجبر سرخاب إلى الاعتصام بقلعة “زلم” واستمرار المقاومة، وآلت أمور البلاد للسيطرة العثمانية وذلك سنة 1553، ثم التجأ سرخاب إلى إيران، وبعد فترة قصيرة تمكن من العودة بمساعدة إيرانية، وبسط سلطته مجدداً على شهرزور وأردلان، وننوه إلى أن أردلان من وجهة النظر الإيرانية كانت “ولاية”، وأن رئيسها يحمل لقب “والي أردلان” من شاهات إيران، لكن هذا التوصيف لم يؤثر على استقلالية الحكومة، باستثناء تقديم قوة عسكرية محددة حين الحاجة، ثم استقل سرخاب بگ فيما بعد، وتخلى عن الحماية الإيرانية، وأصلح أمور البلاد وعاش مع أبناء شعبه في ظل استقلال تام.
بعد مرور فترة قصيرة دون حروب، ظهر فجأة محمد بگ ابن مأمون بگ برفقته قوة مسلحة، واستولى على مناطق: قره داغ، ودلگوران، وآلان، وشهر بازار، بدعوى أنه الوريث الشرعي لأبيه وعمه، وطلب من السلطان سليمان القانوني حمايته وتعضيده في استرداد حقوقه من سرخاب، ووافق السلطان على طلبه، ونشب القتال وحاصر قلعة زلم المنيعة زهاء سنتين، ولم يتمكن المغيرين من تحقيق أي نصر، حيث كان سرخاب بگ يتلقى الدعم والمساندة من الشاه طهماسب، لكن الجيش العثماني توجه نحو شهرزور واحتلها، ومن ثم توفي سرخاب بگ، فخلفه ابنه “سلطان علي” الذي مات بعد سنة من تولّيه الحكم، ثم خلفه ابنه تيمور خان، ولقّبه السلطان مراد الثالث بلقب “مير ميران”، ومنحه رتبة الباشوية، وإدارة مقاطعة شهرزور، سنة 1580، وقد تميز عهده بالاضطرابات، لأنه كان طاغياً ميالاً للنهب والسلب وسفك الدماء للممالك الكردية المجاورة، حيث ثار عليه الأمير عمر بگ الكلهوري، وشاه ويردي أمير لورستان، لوضع حد لاستفزازاته، وأخيراً مات مقتولاً سنة 1589، وأصبحت أردلان تابعة للسلطنة العثمانية.
تولّى إدارة أردلان بعد مقتل تيمور، “هلو خان” بن سلطان علي الذي أعلن خضوعه للسلطان مراد الرابع، مع مسايرة الشاه الإيراني، وهكذا انفرد بالحكم حتى سنة 1596[8]، ويضيف العلامة محمد أمين زكي: أن السلطة انتقلت بعد هلو خان إلى أحمد خان سنة 1605 م، الذي وطد علاقاته مع إيران، ثم أصبح تابعاً لها، وكانت من نتائجها معاداة العشائر الكردية، ولذلك اجتاحت العشائر المكرية الكردية واستولت على قلعتي رواندز والعمادية، كما أخضع حرير، وكوي (كويسنجق)، وقد تعطف عليه الشاه وزوّجه من أخته.
مع غارات أحمد خان المتكررة على المناطق الكردية، كان يتحاشى الاحتكاك بالمناطق التابعة للسلطنة العثمانية، لكنه شارك الشاه عباس في حملة احتلاله لبغداد سنة 1620، كما زحف بجيشه على كركوك وشهرزور واحتلهما، إضافة إلى إمارتي العمادية والسوران، وأضحت سلطته من غربي العمادية حتى كرمانشاه وهمذان، ومن لورستان حتى بحيرة أورميه، وكأنه أراد تحقيق وحدة إدارية للمناطق الكردية.
تحرك الجيش العثماني من كركوك بعد انضمام عدد من قواد جيش أردلان، وعشرون أميراً من أمراء كردستان السنّة، كما تحرك الجيش الإيراني على الفور بقيادة زينل خان، يصحبه أحمد خان، واشتبك الجيشان الذي أسفر عن انتصار العثمانيين واحتلال مدينة حسن آباد مقر أحمد خان وتدميرها، ثم تابع زحفه إلى همذان، ومريوان، ودركزين، وعاد بعده إلى بغداد وحاصرها، لكن انتصاراتهم كانت سطحية، حيث تمكن أحمد خان من استعادة شهرزور، لكنه استاء من مظالم الشاه “صفي الدين” خليفة الشاه عباس.
ثم تولّى سليمان خان إدارة أردلان بعد وفاة أحمد خان، وكان حكمه ضعيفاً، وفي عهد “علي قلي خان” تعرضت أردلان للغزو العثماني دون أن تلقى مقاومة، واستولى “خان باشا” الباباني على أردلان، وفي عهد نادر شاه (1747-1736) تم إخراج الجيش العثماني من إيران، وقضى على الحكم الباباني، ومنح أردلان إلى “سبحان ويردي خان”، وفي سنة 1794 هاجم سليمان باشا الباباني على أردلان، بتشجيع من “كريم خان زندي”[9]، لأن بنو أردلان كانوا يتعاونون مع آقا محمد خان القاچاري الإيراني وهو ألد أعداء الكرد، ولذلك كان كريم خان زندي يناصر البابانيين بغية تولّيهم لأردلان، وفي سنة 1799 انتقل حكم أردلان بعد سبحان ويردي خان إلى “خسرو خان”، حيث تعرضت أردلان في عهده لغزو محمد باشا الباباني، الذي استولى على مدينة “بانه”، ولكن خسرو خان وبدعم من كريم خان زندي أوقف الغزو الباباني وطارد جيشهم حتى كركوك.
وفي نهاية سنة 1799 تولّى “أمان الله خان” السلطة في أردلان، خلفاً لوالده “خسرو خان”، ودام حكمه حتى سنة 1824، حيث كان محباً للعلم والعلماء والأدب والعمران، وقد قام بنهضة أدبية وعمرانية وسياحية في مدينة “سنه”، وغدت المدينة عاصمة العلم والثقافة والأدب في كردستان[10]عامة، ثم خلفه في الحكم ابنه “خسرو خان”، الذي كان مثل أبيه راعياً للثقافة والأدب، وكانت زوجته “ماه شرف خانم” شاعرة عظيمة وأديبة فاضلة، ودام حكمه عشر سنوات، ثم خلفه بعد وفاته ابنه “رضا قلي خان”، وحدثت فتن داخلية في عهده أدت إلى سجنه في طهران وعمره ستة عشر عاماً، ثم حكم بعده أخوه “أمان الله خان”، في سنوات (1867-1848)، وهو آخر حاكم لإمارة أردلان.
كانت حكومة أردلان من أهم الحكومات الكردية في كردستان عامة، حيث عمّرت من سنة 1220 حتى سنة 1867، أي أنها حكمت 647 عاماً من خلال خمسة وعشرون حاكماً، وقد تمتعت في بعض الفترات بالاستقلال التام (بين القرن الثالث عشر والخامس عشر)، ثم تأرجحت في فترات أخرى بين التابعية السياسية الإيرانية أو العثمانية لأنها كانت منطقة صراع بين الدولتين، وضربت باسم حكامها السكة، كما ذكر اسم حكامها في الخطبة على المنابر، ومن ثم قضت الدولة الإيرانية أيام الشاه ناصر الدين القاچاري على الإمارة الأردلانية، حيث عينت “فرهاد ميرزا” (عم آخر حاكم أردلاني) حاكماً عن إيران على أردلان، ومن ثم أصبحت إمارة أردلان في ذمة التاريخ.
ومن الجدير بالذكر أن أمراء أردلان اهتموا بالعلوم والآداب والفنون، وقدّروا العاملين في تلك المجالات حق تقدير، وبشكل أخص الشعراء منهم، حيث ظهر فيض من الشعر والشعراء، وتفوقت على الأقاليم الكردستانية الأخرى وبرزت عدداً من الشاعرات، نذكر منهن: سيمَن خانم دَوداني، مستورة كردستاني، جيهان آرا خانم، والشاعرة خورشيد خانم داماشي.
جدول أسماء حكام أردلان وسني حكمهم:
1 | بابا أردلان | 1220- 1230 |
2 | كلول بك بن بابا أردلان | 1230- ؟ |
3 | خضر بك بن كلول بك | ؟ |
4 | إلياس بك بن خضر بك | ؟ |
5 | خضر بك بن إلياس بك | ؟ |
6 | حسن بك بن خضر بك | ؟ |
7 | منذر بك بن حسن بك | ؟ – 1457 |
8 | مأمون بك بن حسن بك | 1457- 1494 |
9 | بيكه بك بن مأمون بك*[11] | 1494- 1536 |
10 | مأمون بك بن بيكه بك* | 1536- 1552 |
11 | سرخاب بك بن مأمون | 1552- 1556 |
12 | سلطان علي بن سرخاب بك | 1556- ؟ |
13 | بساط بك سرخاب بك | ؟ – 1580 |
14 | تيمور خان بن سلطان علي* | 1580- 1590 |
15 | هلو خان بن تيمور خان* | 1590- 1597 |
16 | أحمد خان | 1597- 1636 |
17 | سليمان خان | 1636- ؟ |
18 | علي قلى خان | ؟ – 1726 |
19 | خان باشا | 1726- 1730 |
20 | سبحان ويردي خان | 1730- ؟ |
21 | خسرو خان | 1799- 1799 |
22 | أمان الله خان | 1799- 1824 |
23 | خسرو خان بن أمان الله خان | 1824- 1834 |
24 | رضا قلى خان بن خسرو خان | 1834- 1848 |
25 | أمان الله خان بن خسرو خان | 1848- 1867 |
حكومة ملوك الكرد
قامت هذه الحكومة في بلاد خراسان، وتحديداً في: هراة (مقاطعة في غرب أفغانستان)، والغور (منطقة تقع بين مدينتي هراة وغزنة)، وسيستان(سجستان) وهي مقاطعة تقع في شرق إيران وقسماً منها تقع ضمن أفغانستان من جهة الغرب وذلك سنة 1245م في عهد الإلخانيين[12]، وعمرت 136 سنة بجهود عشيرة “كرد كلي”، التي هاجرت بلادها كردستان إلى سيستان في زمن وسبب غير معلومين، وقد ذكر العلامة محمد أمين زكي معلومات مقتضبة عن هذه الحكومة، استناداً إلى “قاموس الأعلام” التركي وكتاب “راولنسون”، تفيد أن هذه الحكومة قامت في القرنين السابع والثامن الهجريين (الثالث عشر والرابع عشر الميلادي) في بلاد خراسان، ووردت تسمية الحكومة من اسم عشيرة “كرد گلي” التي تعني (طائفة الكرد أو الشعب الكردي)، كما ذكر اسم الحكومة أيضاً في المصادر التاريخية باسم “ملوك الكرت” حيث يقلب حرف الدال إلى تاء، وذكرت في بعض المصادر “كُرْتْ” بمعنى “قطع”[13] في اللغة الكردية، لقطعهم صفوف الخوارزميين الذين غزوا بلادهم وردّوهم على أعقابهم، وفي اللغة الخوارزمية أيضاً تعني القطع، وقد حاول بعض المؤرخين بقصد أو دون قصد، تنسيب هذه الأسرة إلى الفرس أو الترك أو التاجيك.
انتشر الآريون في هذه المنطقة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت تحت سلطة المملكة الميدية في القرن السابع قبل الميلاد، وفي سنة 549 ق.م أصبحت تحت سلطة الفرس بعد انقلابهم على الميديين، ثم سلطة الاسكندر المكدوني وبعدها حكمها الاسكيث فالبارثيون ثم الساسانيون، وكانوا يدينون بالزرادشتية في بداية عهدها، وفي سنة 640م أصبحت تحت الحكم العربي الإسلامي.
أسس هذه الحكومة شمس الدين محمد زعيم الأسرة الحاكمة، سنة 1245 في هراة وتوفي سنة 1277 في مدينة تبريز، التي أصبحت وقتئذٍ عاصمة للمغول، في عهد الإيلخان آباقان، وكان إمبراطور المغول منكوقآن قد صدر مرسوماً سلطانياً، اعترف بموجبه بمملكة الكرد في هراة وحكومة شمس الدين، ثم تولى ركن الدين حكم المملكة خلفاً لوالده شمس الدين، حيث منحه الإيلخان آباقان لقب “شمس الدين”، وعرف باسم “شمس الدين الصغير” تمييزاً له عن والده، وقد اعتزل الولاية سنة 1295، ثم نُصِّبَ مكانه ولده فخر الدين في عهد غازان خان، وقضى عهده بالقلاقل والحروب مع غازان خان، وتوفي سنة 1307، ثم تولّى مكانه أخوه غياث الدين بمرسوم إيلخاني، كحاكم على بلاد الغور وخراسان، وقد زار غياث الدين بعد عودته من الحج سنة 1322 تبريز، وتشرف بمقابلة السلطان أبي سعيد بهادر خان والأمير شڤان، وبعد توتر العلاقات بين السلطان والأمير شڤان التجأ الأخير إليه، لكنه لم يقدر علاقات الصداقة بينهما، فقتله غياث الدين هو وابنه هلو خان، وأرسلهما إلى السلطان أبي سعيد، وتوفي غياث الدين سنة 1328، ثم خلفه ابنه شمس الدين الثاني الذي توفي سنة 1329، ومن ثم تولّى أخاه حافظ الذي أعدم سنة 1331 لعدم رضى الشعب عنه.
ثم تولى الحكم أخوه الثالث معز الدين حسين، الذي كان أعظم ملوك الكرد وأقواهم عزيمة وشجاعة، فقد تمكن من إعلانه الاستقلال المطلق عن الإيلخانيين، بعد وفاة السلطان أبو سعيد بهادر خان سنة 1335، وتم ذكر اسمه على المنابر في الخطبة، وقد أهداه سعد الدين التفتازاني كتابه “المطول” الشهير في البلاغة، وذكره فيه باسم معز الدين أبي الحسين محمد كرت، كما سكّت العملة باسمه في خراسان والغور، وفي سنة 1342 حارب السربداريين[14]، وانتصر عليهم فازدادت هيبة حكومته وعلت شأنها، وهكذا تمكن من إدارة بلاده بحزم وجدارة يغمرها العدل والرفاهية، وتوفي سنة 1369، وخلفه في الحكم ولده غياث الدين پير علي، وهو آخر ملوك الكرد بخراسان والغور، حيث حكم اثنتا عشر عاماً، ثم تعرض حكومته لزحف تيمور لنگ بجيوشه الجرارة، التي حاصرته في قلعة هراة، واشتدت القتال والحصار، وبعد استماتة لا مثيل لها هو وجيشه في الدفاع عن بلاده، انتهى أمره، حيث قتله تيمور لنگ مع أفراد أسرته وأقربائه جميعاً[15]، وباستشهاده سنة 1381 انتهت حكومة الكرد في خراسان التي استمرت مائة وستة وثلاثون سنة.
يجدر ذكره أن جغرافية حكومة الكرد وعاصمتها مدينة هراة، التي تقع حالياً ضمن أراضي دولة أفغانستان، وإن أفغانستان لم تسمَّ باسمها “أفغانستان” إلا بعد قيام دولة الكرد، حيث كانت قبلها كل قسم من أراضيها يسمى باسم خاص، لانعدام الوحدة السياسية، ولم يكن في أفغانستان أسرة حاكمة، أو إمارة خاصة بها باستثناء حكومة ملوك الكرد في هراة[16]، وقد حدثت الوحدة السياسية المنشودة بعد سقوط الدولة الغورية (1215-1148) م التي كانت قوامها البشتون والكرد، وقيام حكومة ملوك الكرد.
وندرج فيما يلي جدولاً بأسماء حكام ملوك الكرد وسني حكمهم:
1 | شمس الدين محمد | 1277-1245 |
2 | ركن الدين (شمس الدين الصغير) | 1295-1277 |
3 | فخر الدين | 1306-1295 |
4 | غياث الدين | 1328-1306 |
5 | شمس الدين الثاني | 1329-1328 |
6 | الملك حافظ | 1331-1329 |
7 | معز الدين حسين | 1331-1369 |
8 | غياث الدين پير علي | 1381-1369 |
(ثم استولى عليها تيمورلنگ)
الدولة الايوبية (1169- 1524)
تعتبر الدولة الأيوبية أعظم دولة كردية بعد الإمبراطورية الميدية التي تأسست في الألف الأول قبل الميلاد، والتي ارتقت إلى مستوى سلطنة، كما كانت أعظم دولة إسلامية بعد الدولتين الأموية والعباسية، حيث شملت إضافة إلى جزء كبير من كردستان بلاد مصر وليبيا واليمن وبلاد الشام عامة، ويعود تأسيس هذه الدولة إلى الأسرة الأيوبية، وفي شخص القائد العظيم “يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان” الذي لُقّب بـ”صلاح الدين”، وعمه شيرﮔوه الذي وضع اللبنات الأولى للسلطنة وهو الذي أشرف على تنشئة وتربية صلاح الدين ومهد له سبيل المجد، وتنسب هذه الأسرة الأيوبية إلى العشيرة الروادية الكردية المعروفة، والتي كانت تقطن في بلدة “دڤين- دوين” ويرد في المصادر العربية باسم “دبيل” الواقعة جنوبي مدينة روان[17] (يريڤان عاصمة أرمينيا الحالية)، ومعلوم أن “هذه العشيرة بطن من بطون قبيلة هذباني الكردية العريقة التي كانت تنتشر من الموصل وحتى القوقاز ومركزها شرق بحيرة وان”[18]، والروادية هي من أسست حكومة كردية بين سنوات ((1226-912 كما مرّ آنفاً، ومشهود لأبناء تلك المنطقة بطولاتها وعشقها للحرية.
بعد الضعف الذي ألمّت بالدولة الروادية في القوقاز إثر مقتل حاكمها آق سنقر وتولّي آق سنقر الثاني سنة 1132 م، ووقوعها تحت رحمة قبائل الغز السلجوقية اضطرت الأسرة الأيوبية بقيادة شادي جد صلاح الدين إلى الهجرة نحو بغداد، واستقبله حاكمها بهروز لصداقة قديمة بينهما ومنحه قلعة تكريت وفيها توفي شادي، كما ولد صلاح الدين، ثم رحلت الأسرة (أيوب و شيرﮔوه) ولدي شادي ثانية بسبب خلاف مع بهروز نحو الموصل لاجئاً إلى حاكمها عماد الدين زنكي الذي أكرم وفادتهما وعهد إلى أيوب والد صلاح الدين إدارة ولاية بعلبك، ومن ثم أصبح أيوب حاكماً على دمشق و شيرﮔوه قائداً لقوات الشام لدى الزنكيين.
وبسبب ضعف الدولة الفاطمية في عهد العاضد والصراع بين وزيره شاور وأمراء الجند، أصبحت مصر مطمح الفرنجة خاصة بعد إعلان الحرب المقدسة من قبل بابا الكاثوليك كريكوري السابع، وقد شعر شيرﮔوه بالخطة الصليبية عمد إلى تجهيز حملة للحيلولة دون وقوع مصر بيد الصليبيين، وقاد الحملة يرافقه صلاح الدين إلى مصر لمواجهة الحملة الصليبية الثانية في القاهرة والاسكندرية التي انتهت بالهدنة بعد قتال دامت ثلاثة أشهر، وفي المرحلة الثانية تمكن شيرﮔوه من طرد الفرنجة والقضاء على الوزير الفاطمي شاور سنة 1168 وتوحيد مصر مع بلاد الشام تحت سلطة الخلافتين الفاطمية الشيعية والعباسية السنية وجمع بين المذهبين، وأصبح شيرﮔوه وزيراً للخليفة الفاطمي العاضد، لكنه توفي بعد سبعة أشهر وحلّ مكانه صلاح الدين سنة 1169، وفي إجراء آخر بعد أن كسب صلاح الدين ود الشعب عزل القضاة الشيعة ومجالس الدعوة وعين بدلاً عنهم القضاة الشافعية السنة، ثم ألغى الخلافة الفاطمية بعد موت الخليفة واستعاض بالخلافة العباسية أيام المستضيئ بالله، وهكذا انتهت الدولة الفاطمية سنة 1171[19] وأصبح صلاح الدين الحاكم المطلق على مصر، ثم توسعت سلطته نحو شمال إفريقية: ليبيا وتونس والجزائر ونحو بلاد النوبة، وفي سنة 1173 توجه تورانشاه أخو صلاح الدين نحو اليمن مروراً بمكة، واستولى على عاصمتها “زبيد” ثم استولى على عدن وملك حصون الجبال في تعز[20]، وفي 1174 توفي السلطان نور الدين زنكي، ومن ثم استولى صلاح الدين على دمشق ووزع محتوى خزائن الزنكيين على أهل دمشق[21] وضمّها إلى مصر في دولة واحدة.
نشير في سياق حديثنا عن الحروب الصليبية، ومطامع الفرنجة في بلاد العرب وكردستان، أنه في سنة 1149 استولى الكونت جوسلين على الرها، والبيرة (بيره جوك)، وديلوك (عينتاب)، وسمسور (آديمان)، وگرگوم (مراش)، واعزاز، لكن الأمير الأرتقي صاحب حسنكيف وخارپيت (ألعزيز)، تصدّى له بعد استيلائه على قلاع ديار بكر، فاضطر الكونت جوسلين إلى التنازل له عن قسم من كونتيته، وفي هذه الأثناء تدخل مسعود أمير قونية السلجوقي، وتمكّن من استرداد مراش وعينتاب من جوسلين، ثم تابع زحفه إلى منطقة جبل الكرد (عفرين)، وتجاوز نهر الجوز[22]، حيث كان جبال الكرد تشكل الحدود الطبيعية الفاصلة بين سلاجقة الروم ومملكة نور الدين زنكي، وعموماً كانت تلك المنطقة ساحة صراع من أجل التحكم بطرق القوافل التجارية بين حلب وانطاكية، وجندريس وخورس (نبي هوري) في عفرين، وعينتاب وزوگما (بلقيس) على الفرات، وعندما كان الكونت جوسلين متوجهاً من تل بشير[23] إلى انطاكية في سنة 1150 م، وبصحبته قوة صغيرة، تعرض لكمين نصبه مجموعة من التركمان في جبل پارسێ[24] (قرب قرية قسطل جندو- عفرين)، وتم اعتقاله عندما كان يقضي حاجة طبيعية، وسلّموه إلى أمير حلب، لقاء مكافأة من ألفي دينار، حيث زجّ به في السجن، ولما جاء نور الدين زنكي إلى حلب فقأ عينيه، ومات في سجنه بعد أن بقي فيه تسع سنوات[25].
كانت طموحات صلاح الدين ضمّ بلاد أجداده كردستان إلى دولته، ولهذا يمّمَ وجهه صوب كردستان، واجتاز نهر الفرات سنة 1182، حيث فتح سروج، وحران، والرها، والرقة، ونصيبين، ثم تابع سيره نحو الموصل، واستولى على شنگال- سنجار، ثم عاد إلى نصيبين، ومنها إلى آمد، فحاصرها ثمانية أيام وفتحها سنة 1183، وفي طريق العودة استولى على عينتاب، ثم وصل إلى حلب وحاصرها، حيث جرى في أحيائها قتال شديد، خاصة في حيّي بانقوسا وباب الجنان، حيث جرح أخاه تاج الملوك مجد الدين بوري، وتوفي على إثرها[26] ودفن فيها[27]، وفي حزيران 1183 دخل صلاح الدين إلى حلب ظافراً واستقبله أهلها بالترحاب ومدحه القاضي محي الدين زكي بقصيدة مطلعها:
وفتحكم حلبا بالسيف في صفرِ مبشرٌ بفتوح القدس في رجبِ[28]
كثرت غارات الصليبيين في تلك الفترة على بلاد الشام وأطراف المدينة المنورة، وعزم صلاح الدين الانتقام من الفرنجة وكانت قد بقيت الموصل وفلسطين خارج السيطرة، فتوجه صوب الموصل وحاصرها ثم مدينة ميافارقين ودخلها بعد قتال شديد، وأخيراً تم الاتفاق على صلحٍ سنة 1186 يقضي بالاعتراف بالسلطان حاكماً على شمال الجزيرة وشمال كردستان ثم عاد إلى دمشق، ومن ثم أعلن صلاح الدين الجهاد المقدس وتحركت جيوش مصر والشام والهجوم على الفرنجة في عكا والاستيلاء على طبريا وخاض معركة حطين سنة 1187 وانتصر فيها، ثم تابع زحفه وبدأت المدن تسقط واحدة تلو الأخرى حتى وصلت إلى القدس وحاصرها بشدة، وانتهت بالاتفاق على خروج الصليبيين خلال أربعين يوماً وسمح للمسيحيين المحليين بالبقاء فيها، ودخل صلاح إلى القدس، وكلف القاضي الحلبي الذي بشره بفتح القدس بافتتاح الخطبة في المسجد الأقصى، وفتحها على غير عادتها بالبيت التالي:
الحمد لله ذلّت دولة الصلبي وعزّ بالكرد دين المصطفى العربي
وهكذا تحررت جميع المدن باستثناء صور، حيث دخل الشتاء وملّت جنده وتعبت قادته من طول الحرب، وطلبت الاستراحة، لكن صلاح الدين استمر في فتوحاته مع من يريد المتابعة معه طوعاً، وفتح قلاع: كوكب، وصفد، والكرك، ثم تابع سيره، واستولى على طرطوس، وجبلة، واللاذقية، وقلعة صهيون (صلاح الدين)، وقلعة المرقب، وطرابلس، وأنطاكية، واستراح قليلاً على تخوم عفرين وأمعن النظر في جغرافيتها، حيث رأى فيها نقطة ضعف عند ممر بيلان، فيما إذا حدثت حملة صليبية جديدة عن طريق البحر نحو انطاكية وجبل الكرد عن طريق ممر بيلان، وإن العشائر الكردية القائمة فيها غير كافية لصد هجوم محتمل، ولذلك بعث برسائل إلى عشائر كردستان راجياً فيها إرسال متطوعين شباب متزوجين للإقامة في جبل الكرد والدفاع عنها، وتم تلبية طلبه، ولذلك فإن جزءاً من أهالي عفرين ينتسبون إلى عشائر شمال وشرق كردستان، وتوفي صلاح الدين في الرابع من آذار 1193.
السلطنة الأيوبية
كانت السلطنة الأيوبية بمثابة دولة فيدرالية تتبعها عدداً من الممالك والإمارات، وقد وزعها بين أبنائه وإخوته وأولادهم ولم يعين ولياً للعهد، فقد عهد حكومة فلسطين لولده الكبير الأفضل علي، ومصر لولده “العزيز عثمان”، وحلب لولده “الظاهر غازي”، وبلاد الجزيرة لأخيه “العادل”، وحكومة مصر وجوارها لأبناء أخيه “شيرﮔوه”، واليمن لأبناء أخيه “سيف الإسلام”، وكان وزيره ضياء الدين الجزري أخو المؤرخ ابن الأثير، وأقر الجميع بأحقية الملك الأفضل حاكم فلسطين الإشراف على جميع الحكومات والاعتراف بسمو منزلته، واستمرت السلطنة الأيوبية ثلاثمائة وستة وخمسون سنة، وندرج فيما يلي تسلسل حكام الممالك الأيوبية كل على حدة:
1- حكومة مصر
1 | صلاح الدين يوسف بن أيوب (زمن الولاية) | 1174-1169 |
2 | = = = = = (زمن السلطنة) | 1193-1174 |
3 | العزيز عماد الدين عثمان | 1198-1193 |
4 | المنصور محمد | 1199-1198 |
5 | العادل الأول سيف الدين أبو بكر | 1218-1199 |
6 | الكامل ناصر الدين محمد | 1238-1218 |
7 | العادل الثاني سيف الدين أبو بكر | 1240-1238 |
8 | الصالح نجم الدين أيوب | 1249-1240 |
9 | المعظم توران شاه | 1250-1249 |
10 | شجرة الدر (زوجة الصالح نجم الدين أيوب) | 80 يوماً |
11 | الأشرف مظفر الدين موسى | 1252-1250 |
2- حكومة الشام
1 | الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين | 1197-1193 |
2 | العادل سيف الدين أبو بكر | 1199-1197 |
الـوحــــدة مـع مصــــر | 1218-1199 | |
3 | المعظم شرف الدين عيسى | 1227-1218 |
4 | الناصر صلاح الدين داود | 1228-1227 |
5 | الأشرف مظفر الدين موسى (من فارقين) | 1237-1228 |
6 | الصالح عماد الدين إسماعيل | 1237 |
7 | الكامل محمد (من مصر) | 1238-1237 |
8 | العادل الثاني سيف الدين أبو بكر(مصر) | 1240-1238 |
9 | الصالح نجم الدين أيوب (مصر) | 1240 |
10 | الصالح عماد الدين إسماعيل (ثانية) | 1245-1240 |
11 | الصالح نجم الدين أيوب (ثانية) | 1249-1245 |
12 | المعظم توران شاه (من مصر) | 1249-1250 |
13 | الناصر صلاح الدين يوسف (من حلب) | 1260-1250 |
3- حكومة حلب
1 | الظاهر غياث الدين غازي بن صلاح الدين | 1216-1193 |
2 | العزيز غياث الدين محمد | 1236-1216 |
3 | الناصر صلاح الدين يوسف[29] (من دمشق) | 1260-1236 |
4- حكومة حماه[30]
1 | المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب | 1191-1178 |
2 | المنصور محمد | 1220-1191 |
3 | الناصر قليچ آرسلان | 1229-1220 |
4 | المظفر الثاني تقي الدين محمود | 1240-1229 |
5 | المنصور الثاني محمد | 1284-1240 |
6 | المظفر الثالث | 1298-1284 |
ســيطـرة ممـــــاليك مصــــر | ||
7 | المؤيد عماد الدين إسماعيل أبو الفداء (المؤرخ) | 1331-1310 |
8 | الأفضل ناصر الدين محمد | 1341-1331 |
5- إمارة حمص
1 | محمد بن شيرگو بن أيوب بن شادي | 1183-117 |
2 | المجاهد شيرگو بن محمد | 1239-118 |
3 | المنصور إبراهيم بن محمد | 12451239 |
4 | الأشرف موسى بن إبراهيم | 12621245 |
6- إمارة اليمن
1 | المعظم شمس الدين توران شاه بن أيوب | 1181-1173 |
2 | سيف الإسلام طغتكين أحمد بن أيوب | 1196-1181 |
3 | معز الدين إسماعيل بن طغتكين | 1201-1196 |
4 | الناصر أيوب بن طغتكين | 1214-1201 |
5 | المظفر سليمان بن شاهنشاه بن عمر | 1215-1214 |
6 | المسعود صلاح الدين يوسف | 1229-1215 |
ثم ترك الملك المسعود الحكم لأبناء الرسولي الكرد أتباع الأيوبيين ثم استقلوا ببلاد اليمن سنة 1231 وبقوا فيها حتى اليوم.
[1] محمد أمين زكي مرجع سابق ص 151.
[2] شرفنامه ص 38-37.
[3] تاريخ تدوين شرفنامه من قبل الأمير شرفخان البدليسي، وتاريخ تنازل الأمير شرف خان عن حكم إيالة بدليس لابنه الأمير شمس الدين ص 496.
[4] زكي محمد أمين تاريخ الدول ولإمارات الكردية في العهد الإسلامي ص 149.
[5] وضع الدول بالتنسيق بين جدولي لين ݒول و زمباور.
[6] ورد لدى باسيلي نيكيتين أن مؤسسها ينحدر من أسرة صلاح الدين الأيوبي من حسنكيف ص 271 حيث حكم الأيوبيون حسنكيف بين أعوام (1524-1232)، والمروانيون بين أعوام (1086-980)، وأميل إلى ما ذكره العلامة محمد أمين زكي أن مؤسسها ينتمي إلى الأسرة المروانية.
[7] زكي محمد أمين ، تاريخ الدول والإمارات الكردية ص 237.
[8] تاريخ انتهاء تدوين كتاب شرفنامه.
[9] سنأتي على ذكره لاحقاً في بحث الدولة الزندية.
[10] حظي السير جون مالكولم، والمسيو ريتز (ريچ)، بمقابلة أمان الله خان أثناء سياحتهما في بلاد إيران. (زكي محمد أمين ، تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي ص 248).
[11] التواريخ الموسومة بنجمة معتمدة على “زمباور” حكم 42 سنة، ص 396.
[12] الإلخانيون جمع إلخان، ويعني خان القبيلة، أو زعيم القبيلة، أو حاكم منطقة من قبل المغول الذين استولوا على إيران، وقضوا على خلافة بغداد وقتلوا المستعصم بالله، وشكلوا عدداً من الأسرات الحاكمة، وعلى رأسها هولاكو (1344-1256) وهو أول من استعمل هذا اللقب، قامت هذه الدولة على جغرافية إيران الحالية ومحيطها (كردستان، العراق، أذربيجان، أرمينيا، أفغانستان وبعض باكستان وتركمانستان، في عهد هولاكو، وفي عهد هذه الدولة انحسر التأثير العربي وامتد التأثير الفارسي الممزوج بالمغولية ثم ضعفت بسبب الانقسامات الداخلية وخاصة بين القره قويون الشيعة والآق قويون السنة، وهذا ما مهدت لظهور الصفوية الشيعية في إيران والعثمانية السنية، ولم تجلب أو تأخذ هذه الدولة شيئاً من الحضارة، سوى استنزاف وتدمير الخيرات المادية والقيم الحضارية.
[13] لين پول ، الدول الإسلامية ، ج 2 هامش ص 252.
[14] دولة خراسانية أسسها خواجة عبد الرزاق واستمرت 44 سنة (1381-1337) من خلال 12 حاكم وأخذت تسمية “سربدار” يعني الشنق، من قول الحاكم الأول عبد الرزاق “الشنق بعزة أولى بألف مرة من الموت الذليل” للاستزادة راجع (لين پول ، الدول الإسلامية 550/2).
[15] زكي محمد أمين تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي ص 250.
[16] سليمان أحمد السعيد تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسرات الحاكمة ‘ص 655.
[17] لين پول ستانلي ، الدول الإسلامية ، ص 141.
[18] زكي محمد أمين ص 151.
[19] موسوعة الحروب الصليبية ، ص 109.
[20] ابن خلدون ، م 5 ، ص 633.
[21] للاستزادة يرجى مراجعة كتابنا وطن الشمس ج 2 فصل الدولة الأيوبية.
[22] نهر صغير يتشكل من ينابيع “كانيا علێ” (عين عـلو) في ناحية شرا شمال قرية “أومرا”، ويصب في نهر عفرين، وعلى مقربة منها تل أثري باسم تليلاق لم ينقب فيها بعد، يحتوي على بقايا آثار قلعة.
[23] بلدة كانت في شمال حلب على مسافة يومين، شعبها مسيحيون قريبة من مدينة نيزيب في طرفها الشمالي الغربي على طريق عينتاب.
[24] جبل عال ارتفاعه 850 متر في ناحية شرا (عفرين).
[25] أليسييڤ نيكيتا ، السلطان نور الدين زنكي ص 188.
[26] ابن شداد بهاء الدين ، النوادر السلطانية ص 73 .
[27] دفن في المكان المعروف بشارع باب انطاكية خلف جامع عبد الناصر، ولا زال ضريحه موجوداً فيها.
[28] زكي محمد أمين ص 177.
[29] قتل الناصر يوسف مع أخيه غازي الذي لم يل الحكم في سنة 1260 من قبل هولاكو ، وبقي ولده الصغير المسمى العزيز في يد المغول ( ستانلي لين پول ص 150).
[30] لين پول ، الدول الإسلامية ، ص 150.