موجز لمكونات شمال شرق سوريا عبر التاريخ
مصطفى شيخ مسلم
مصطفى شيخ مسلم
المقدمة
كما هو معروف ولا يكاد أن يكون خافياً على أحد، أن شمس الحضارة الأولى بحسب غالبية المؤرخين
وعلماء الآثار سطعت من هذه المنطقة، منطقة الجزيرة التي تتوسّط نهرَي دجلة والفرات، ومدن الشمال
السوري عامةً، إذ عايشتْ هذه المنطقة أقصى ما توصّل إليه الإنسان، ففيها عُرِفت الألواح المسمارية
التي أنشأت الحرف الأبجدي الأول في التاريخ البشري، ومن هنا اكتُشف أول سلاح استخدمه الإنسان،
وفيها اكتُشفت تماثيل تجسّد حياة الإنسان ومعتقداته قبل الميلاد بآلاف السنوات، كل بقعة من الشمال
السوري لا تكاد تخلو من أثر أو تل يخفي تحته آلاف الأسرار عن حضارات توالت على هذه المنطقة،
وسومر وأكاد وبابل وآشور وكلدان وآرام من أشهر حضاراتها.
هذه المنطقة القديمة قِدم التاريخ، كانت أرضاً خصبة للكثير من المكونات القومية والدينية، فبالرغم من
صِغر المساحة التي نقصدها بعينها دون سواها، إلا أنها كانت حاضنةً للعرب والكرد والشيشان والأرمن
والتركمان والمسلمين والمسيحيين واليهود والإيزيديين على حدٍ سواء.
العرب في شمال شرق سوريا – تاريخياً:
عرب سوريا، هم أكبر مكونات الشعب السوري، كانت سوريا موطنًا للعرب منذ القرن التاسع قبل
الميلاد، وقامت على أرضها مجموعة ممالك وإمارات عربية (مملكة تدمر، مملكة حمص، مملكة رها،
إمارة أفاميا)، غير أن استعراب غالبية البلاد لم يتم إلا بحلول القرن الحادي عشر، أي حديثًا، فإنه بعد
اضمحلال الدولة العثمانية، كان أول كيان قد قام واتخذ اسم المملكة السورية العربية، وفي عام 1958
كانت سوريا جزءًا من “الجمهورية العربية المتحدة”، ومنذ 1961 أصبح اسم البلاد الرسمي
“الجمهورية العربية السورية”. أما الدستور فينص على كون لغة البلاد الرسمية هي العربية، وأنّ
سوريا جزء من “الأمة العربية”. كما ينص قانون الجنسية على منح جنسية “عربي سوري” لجميع
المواطنين بمن فيهم الكرد أو الأرمن.
تبلغ نسبة العرب في سوريا نحو 84% من مجموع السكان، ويمكن تقسيم عرب سوريا من ناحية التاريخ
أو الأصول أو اللهجة العربية المستخدمة إلى:
- القبائل العربية التي استقرت في سوريا قبل الميلاد ابتداءً من القرن التاسع قبل الميلاد.
- القبائل العربية التي استقرت منذ مرحلة سوريا الأنتيكية، فقد شكلت في الأنتيك قوافل تجارية
عبر بادية الشام، وبعض المستعمرات الزراعية والرعوية، وبعد الفتح، شكلت عماد المؤسسة
العسكرية الأموية، وكبار مُلّاك الأراضي الزراعية، وفي الحالتين مكثت أقلية في البلاد. هذه
المجموعة ذابت في النسيج العام خلال غزوات المغول للشام، ما عدا بعض العائلات التي من
الممكن نسبتها لتلك المرحلة نظرًا لحفاظها على نسبها مثل الأسرة الهاشمية في سوريا.
- القبائل العربية التي هاجرت من نجد إلى وادي نهر الفرات خلال القرنين السابع عشر والثامن
عشر، وتمددت نحو ريف محافظة حلب الشمالي وتحديدًا منطقة منبج، وتشكل نحو 70% من
البلاد، ويصنّف الشوايا من ضمنها، وتتميز باللهجة العربية النجدية. وفي الفترة الزمنية نفسها
التي هاجرت فيها هذه القبائل، انتقلت مجموعات من الدروز من وادي التيم، والبقاع، إلى جرود
شرق حوران خلال القرن الثامن عشر، وغدا جبل العرب – محافظة السويداء اليوم – ذا أغلبية
درزية من حينها، ومع كون الدروز ذوو خليط عرقي، فإن بعض العائلات الدرزية تنتسب
مباشرة لقبائل عربية يمنية أو قيسية.
- مستعربو سوريا، وهم حوالي 20-30% من البلاد، استعربت غالبيتهم بحلول القرن الحادي عشر
للميلاد وبشكل تدريجي، ويشكلون القاعدة السكانية في الأرياف والمدن على حد سواء، وهم
المتحدّرون نظريًا من خلفية آرامية، ويشملون عدة طوائف ومذاهب، ويستخدمون اللهجة
السورية العامة.
ورد في أقدم الوثائق المتاحة عن العرب، وهي آشورية، أن الملك شلمنصر الثالث انتصر على العرب
في معركة قرقر قرب حماة، وأن قائد العرب في تلك المعركة كان اسمه جندب عام 853 قبل الميلاد،
وهذه ليست أقدم إشارة إلى العرب في سوريا فحسب، بل أقدم إشارة إلى مصطلح عرب على وجه
العموم.
في سوريا الرومانية، كان اسم العرب يطلق على مجموع القبائل المنتشرة في الصحراء السورية،
وشرقًا نحو الصحراء العراقية في المنطقة الممتدة من جنوب البحر الميت المسماة في التوراة باسم
“وادي عربة” وحتى نهر الفرات، حيث كانت تسيير القوافل التجارية عبر الصحراء هو السبب الرئيس
لوجودها، وهو ما يشمل تقديم الجمال، والأدلاء، والسلاح، والخفارة العسكرية “التي يستحيل بدونها
عبور الصحراء”؛ أما العمل الثاني للعرب، فكان تربية الماشية سيّما الجياد والجمل الوحيد السنام، وفي
الواقع من لم يشتغل من العرب في تجارة المسافات الطويلة، اعتمد حكماً على تربية الماشية. وتدل
المكتشفات الأثرية في مناطق شرق حوران على سهوب جبل الدروز، في محافظتي درعا والسويداء،
أنه حتى القرن الأول للميلاد، كانت القبائل تقصد هاتين المنطقتين لترعى قطعانها فيها، تاركة آثارًا أو
تسجيلات على صخور المنطقة؛ أما قبل هذه المرحلة، أي مرحلة اشتغال العرب بالتجارة، فكما يشير
سترابون في القرن الأول قبل الميلاد فإن القبائل كانت تعتمد على تربية الجمال، ونهب القوافل.
العمل في التجارة خلق اتصالاً بين العرب وبين الحواضر والمدن السورية الواقعة على هوامش
الصحراء، مثل دورا أوربوس، وتدمر، والبتراء، وقد احتفظت هذه الحواضر بعلاقات جيدة مع القبائل
الرحّل في المنطقة؛ ويبدو ذلك واضحًا من انتشار آلهة عربية في تدمر وبعض مناطق الفرات، لاسيّما
اللات، ونجمة الصبح أي الزهرة أو العزى، وذو الشرى إله سلالة الأنباط؛ كذلك الأمر فقد كُرِّس معبد
بصرى الشام لعبادة اللات ومناة وذو الشرى، وقد شبهت اللات العربية، بالإلهة أثنيا الإغريقية، وعشتار
السريانية، على أنّ التوفيق بين الآلهة كان شائعًا في سوريا ومعظم مناطق العالم القديم الأخرى.
بعد اندراس وزوال دولة الأنباط عام 106، استحدث الرومان ولاية عربية عاصمتها بصرى، كبديل
عن حكم الأنباط الذاتي، علمًا أن الأنباط ومعظم سكان العربية، استعملوا الأبجدية الآرامية في كتاباتهم.
بعد سقطوط تدمر عام 272 ظهرت في منطقة الصحراء السورية – العراقية، حركات قبلية كبرى أثرت
بشكل مباشر على سوريا الرومانية، إذ أعلن عمرو بن عدي تأسيس إمارة في الحيرة، وإذ ناصر
الساسانيين، تأثرت طرق التجارة عبر الصحراء في الإمبراطورية سلبًا. أما خليفته امرؤ القيس فبسط
سيطرته على معظم القبائل الرحّل، وليس في الصحراء السورية فحسب، بل حتى في شبه الجزيرة
العربية، ودعا نفسه ملك كل العرب، وهو اللقب الذي يظهر للمرة الأولى في التاريخ على شاهدة قبره
المكتشفة في النمارة في جبل الدروز ضمن محافظة السويداء الحالية في سوريا. حاول الرومان من جديد
كسب قبائل الصحراء السورية لصالحهم، لاسيّما بعد انتشار المسيحية فيما بينهم، وتمكنت الإمبراطورية
بالفعل من التعاون مع تنوخ وصالح ومجموعة من القبائل الصغرى والأقل نفوذًا، غير أن أهم قبيلة بكل
تأكيد كانت غسّان، إذ أسس الغساسنة منطقة حكم ذاتي شملت الأردن وجنوب سوريا الحالية حتى حدود
دمشق؛ وتمكنت عدة شخصيات غربية بارزة في سوريا من استحواذ مراتب شرفية في البلاط
الإمبراطوري لدورها كشرطة حماية حدود الإمبراطورية؛ وهذا ما يظهر بشكل واضح على سبيل
المثال من خلال قصر ابن وردان، العسكري والإداري الذي شيّد حامية عام 564 على حدود الصحراء
إلى الشرق من حماه، لضبط حركة القوافل وحمايتها من قطاع الطرق، فضلاً عن كونه حامية في حال
هجم الفرس على الإمبراطورية، وقد ألحِقت بالقصر ثكنة كبيرة وكنيسة ضمت ثلاثة صحون ورِواقاً.
هذا الدور السياسي والاجتماعي لقبائل العرب في سوريا، لم يمنع بعضها من الاستقرار وترك التنقل
لمصلحة العمل في الأرض، فاستقرت على حواف غوطة دمشق وحمص، وكذلك في الجزيرة السورية،
بعض القبائل العاملة بالزراعة؛ ومن الواجب التنبيه في هذا الخصوص أنّ التواجد العربي في سوريا
الرومانية كان هامشيًا بالنسبة للداخل السوري، وشكّل أقلية أمام الكتلة الرئيسية من السكان الناطقة
بالسريانية والعاملة بالزراعة، والمنفتحة على حضارة البحر المتوسط الإغريقية الرومانية، يقول
موريس سارتر على سبيل المثال: “أيًا كانت أهمية العرب في اقتصاد سوريا الزراعي، فإن البلد بقي
أولاً بلدًا حضريًا، وبالتالي بلد قرى، أكثر من سبعمئة بلدة، كانت مزدهرة في الكتلة الكلسية الشمالية من
أفاميا وحتى أنطاكية وحدها”.
بعد الفتح العربي الإسلامي
خلال الفتح الإسلامي، وإبان حصار دمشق من قبل خالد بن الوليد، فإنّ من أبرم اتفاق تسليم المدينة،
اسمه عربي وهو منصور بن سرجون، جد القديس يوحنا الدمشقي، وقد نصّ الاتفاق على “لا يعرّض
لهم [لأهل دمشق] إلا بالخير إذا أعطوا الجزية”. بُعيد الفتح استوطنت قبائل عربية أخرى في البلاد،
وكانت القبائل المستوطنة تقيم في مضارب لها قرب المدن والمراكز الحضرية ولكن خارجها وأكبر تلك
المناطق الجابية، وبحسب ما نقل مؤرخو العرب لاحقًا فإنه من نتائج مؤتمر الجابية الذي ترأسه الخليفة
عمر بن الخطاب بعدم السماح للوافدين الاختلاط بالسكان الأصليين عربًا كانوا أم غير عرب، والامتناع
عن مخالطة المواطنين “حفاظًا على نقاوة الدم”، كما حظر عليهم اقتناء المزارع أو العمل فيها، فشكلوا
طبقة أرستقراطية عسكرية أساسًا. غير أن هذه المقررات لم توضع موضع التنفيذ بشكل حاسم، فإن
معاوية بن أبي سفيان على سبيل المثال كانت زوجته عربية سورية – أي من عرب ما قبل الفتح –
ومسيحية وهي ميسون بنت بحدل الكلبية، من عرب الجنوب اليمانيين خلافًا لأغلب مستوطني ما بعد
الفتح وهم من عرب الشمال الحجازيين. كما كانت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان هي
بدورها من عرب سوريا قبل الفتح ومن بني كلب، التي كانت تتنقل في بادية تدمر.
إن هذه الزيجات المختلطة، والتي سرعان ما تحولت إلى زيجات من سكان البلاد، أو علاقات مبنية مع
جوارٍ مستوردات من فارس أو القوقاز، أنهى صفاء الدم العربي في سوريا، وكان يزيد بن الوليد أول
خليفة ليس من أبوين عربيين، إذ أنّ أمه كانت سبيّة فارسيّة، وهكذا «انهار الافتخار التقليدي بصفاء
النسب». خلال عصر الدولة العباسية في القرن الحادي عشر، بدأت حركة استعراب بشكل واسع
وواضح، أي اندماج الكتلة الكبرى من السوريين في الثقافة العربية، وقد تمثّل ذلك بشكل أساسي في
استعمال العربية كلغة تخاطبٍ يومي في الريف على وجه الخصوص، بعد تطعيمها باللهجة السورية.
يقول الباحث “فيليب حتّي” إن استعراب سوريا بدأ في القرن التاسع، غير أنه مكث حركة ضعيفة ونظر
إلى «العرب الجدد» بعين من الريبة، واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى القرن الثالث عشر، فإن
الغزوات المغولية قد «خلطت الشعب بعضه ببعضه»، فأخذ الخط الفاصل بين العرب وغير العرب،
وبين العرب القدماء والعرب المستجدّين في الاضمحلال، وسرعان ما غدا الجميع عربًا بلا تمييز؛ وفي
عهد المماليك دُعي جميع السكان “أولاد العرب” في حين دُعيت القبائل وسكان البوادي “الأعراب”.
أما فيما يخصّ القبائل المستقرة وشبه المستقرة الموجودة في بادية الشام وغيرها من المناطق السورية
حاليًا، فإن استقرارها فيها حديث نسبيًا، فمثلاً قبيلة عنزة لم تستقر قبل النصف الثاني من القرن السابع
عشر، بعيد استقرار قبيلة شمر، القادمين من نجد.
الكرد في شمال شرق سوريا – تاريخياً:
يمتد تاريخ الكرد في سوريا الحالية إلى ما قبل التاريخ حيث الكرد هناك كانوا جزءاً من السوباريين
الذين كانوا يعرفون بالهورو Huru أو الخوريين، والعالم هورست كلينكل يقول إن الهوريين بدؤوا
بالظهور في سوريا منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، واستطاعوا تسلّم القيادة السياسية في عدد من
الحواضر السورية.
وبحسب بعض المصادر أيضاً فإن مواطن الهوريين كانت تمتدّ غرباً لغاية جبال أمانوس على الساحل
الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. استمر الحوريون حتى القرن السابع عشر قبل الميلاد والذين
انفصلوا عن الشرق ليستقطبوا أقواماً آريّة كردية أخرى ليشكلوا مملكة ميتاني، والذين برزوا بشكل كبير
في القرن السادس عشر قبل الميلاد. لكن تحول الحكم من الأكراد الخوريين في كردستان سوريا إلى
حكم الآشوريين عام 732 ق.م. ولكن هذا لم يستمر طويلاً حيث عاد الأكراد الميديون كقوة كبرى في
شرقي كردستان خلال القرن السابع قبل الميلاد، فقد تمكنوا من القضاء نهائياً على الآشوريين عام 612
ق. م ثم تقاسموا مع حلفائهم البابليين بلادهم التي كان الآشوريون يسيطرون عليها.
فنال البابليون كلاً من جنوب بلاد ما بين النهرين وسوريا وفلسطين حيث تشكلت الإمبراطورية البابلية
الثانية.
أما الميديون فقد استردوا شمال ما بين النهرين وباقي كردستان بكاملها بما فيها مناطق الهوريين
والميتانيين، إضافة إلى بلاد فارس وكبادوكية مناطق الحثيين في أواسط الأناضول، حيث تشكلت
إمبراطورية ميديا الكبرى. ومع مرور الزمن تم في هذه الإمبراطورية اختلاط كافة الفئات الكردية فيما
بينها بشكل عام بما فيها الهوريون والميتانيون.
على أن خط الحدود التي رسماها بين إمبراطوريتيهما منذ ذلك الزمن، يؤكد ما كانت عليه مواطن
الهوريين والميتانيين أي شمال سوريا الحالية والجزيرة العليا مناطق أساسية من كردستان، إذ كان خط
الحدود بين الإمبراطوريتين بعد انحرافه غرباً واختراقه نهر دجلة إلى الشمال من مدينة – أكاد – كان
يتجه شمالاً في قوس كبير إلى الغرب من آشور و الموصل تاركاً إياهما ضمن كردستان ثم ينحني غرباً
باتجاه شمال سوريا الحالية ليجتاز نهر الخابور ويمر من جنوب جبل عبد العزيز، ويجتاز نهر الفرات
ويمر بجنوب جبل الأكراد ليصل إلى الساحل الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
كما أن الآثار التي اكتشفت حديثاً في شمال شرق سوريا وبالتحديد في إقليم الجزيرة، تعود للمملكة
الهورية الميتانية القديمة والتي لها دلالاتها البينة على أن هذه المحافظة بأرضها وسكانها هي كردية.
ذكرت منذ أقدم العصور المدن الكردستانية في سوريا، فقد جاء في كتاب “إيبلا = إبلا ص “31 أن بعثة
أثرية بريطانية برئاسة ماكسويل مالاوان حققت في تل شاغر بازار الواقع جنوب القامشلي، حيث عثر
فيه على أثريات هامة يتراوح تاريخها بين عصور ما قبل التاريخ والألف الثاني قبل الميلاد.
تل براك: شمال الحسكة، حققت نتائج باهرة حيث أزاحت الستار عن معبد يرقى تاريخه إلى مطلع الألف
الثالث قبل الميلاد، واكتشف إثر ذلك مدينة ميتانية والقصر الملكي فيها وكذلك الكثير من رُقم ملوكها. ثم
قامت بعثة أثرية ألمانية برئاسة أنطوان مورتان بين عامي (1955-1956) بمواصلة التحريات في
موقع تل الفخيرية شمال سوريا، في أعالي نهر الخابور حيث سبق لهذه البعثة أن اكتشفت آثار مدينة
يعود تاريخها إلى العهد الهوري الميتاني في الألف الثاني قبل الميلاد. وحديثاً اكتُشف فيها آثار أخرى
تؤكد افتراض المنقّبين السابق بأن عاصمة الميتانيين المعروفة باسم واشوكاني تقع في ثنايا هذا التل.
تل موزان: قرب بلدة عامودا الذي اكتشف فيه جورجيو بوتشيلاتي قصر الملك توبكيش الهوري – وسبق
الحديث عنه – ومن الآثار الهورية الرائعة هو ضريح النبي هورو الذي لايزال قائماً منذ ذلك الزمن
القديم سليماً حتى اليوم في جبل الأكراد شمال غربي حلب. ولا شك في أن ما كان عليه هذا النبي من
مكانة مقدسة بين الهوريين قد جعل اسمه يتمثل في اسم الهوريين أنفسهم. وهكذا نرى في ذلك كله ما
يثبت بشكل قاطع استيطان الأكراد في شمال سوريا منذ أقدم العصور، وينفي نفياً قاطعاً ادعاء الدكتور
ذكار سهيل من أن الأكراد لم يستقروا في الجزيرة قط.
حدثت الهجرات العربية إلى كردستان مع الهجمات السامية المتمثلة بالآراميين الساميين والآشوريين،
هذا قبل الإسلام، أما بعد دخول البلاد الإسلام وبالتحديد في عهد الخليفة المنصور (754-775م) الذي
كلف يزيد بن أسيد بالتوجه إلى حران الواقعة بين تل أبيض جنوباً وأورفا شمالاً لتحريرها من
البيزنطيين، وبعد أن نجح في مهمته فإنه نظمها وأقام فيها. وفي هذه الفترة كانت هذه المنطقة من
كردستان هدفاً لنزوح بعض القبائل العربية إليها والاستقرار فيها كالقبائل اليمنية وبني قيس والنزارية،
فكانت تلك هي المرة الثانية بعد الآراميين لتغلغل العناصر العربية إلى هذه المناطق الكردية، والتي
أصبحت فيما بعد على طرَفي الحدود بين تركيا وسوريا. ومنذ القرن العاشر الميلادي وبعد اضمحلال
الدولة العباسية وضعف البيزنطيين في الغرب، وكذلك انقسام الدولة السلجوقية التركية إلى دويلات
أتابكية والصراع بينها وبروز بعض الإمارات الكردية، تمثّل دورها على مسرح التاريخ والشرق
الإسلامي كان قد أصبح هدفاً سهلاً للصليبيين من الغرب، ثم لقمة سائغة للمغول من الشرق، ولما كان
للأكراد الدور الرئيسي في الحروب الصليبية والانتصار فيها، فمن المعروف أن الدعم الكردي للزعيم
صلاح الدين الأيوبي كان يأتيه من جميع أنحاء كردستان وتصله عبر تجمعه في الموصل وجزيرة بوتان
وديار بكر، وهذا ما يؤكد ثانية على كردية الجزيرة في سوريا الحالية.
أما بعد الحروب المذهبية بين الإيرانيين والعثمانيين على أرض كردستان ثم احتلال العثمانيين للبلاد
العربية منذ عام 1516م والذين تقاسموا كردستان مع الإيرانيين، فكان هناك كردستان الإيرانية
وكردستان العثمانية التي من ضمنها كردستان سوريا، التي عرّفها العثمانيون باسم ولاية حلب العثمانية.
كما أنّ تلك الإمارات الكردية السابقة الذكر قد أصبحت منذ عام 1747م تحت حكم الدولتين المباشر.
إن ما عاناه الأكراد من الفرس بين العهد المكدوني وأخيراً من العثمانيين، ما لبث أن أصبح حافزاً قوياً
أثار المشاعر ضد كل ما هو مجحف بحقهم كأمة لها كيانها، خاصة لما كانت عليه العصور الحديثة
آنذاك من خصائص الروح القومية بين الشعوب. فكان أن حدث انعطافهم التاريخي نحو المصلحة
القومية الكردية، الأمر الذي أدى مجدداً إلى بروز إمارات كردية حديثة ثارت ضد العثمانيين المحتلين،
الذين نجحوا في القضاء عليها تباعاً. وقد اخترنا من هذه الإمارات في كردستان ما كانت مناطق كل منها
تشمل أجزاء من شمال سوريا الحالية أبان احتلال العثمانيين للبلاد العربية، وعدم وجود أية حدود سابقة،
وعلى الرغم من فشل هذه الثورات فإن الباب العالي كان يبقي على علاقته بتلك القاعدة الاجتماعية
الكردية التي كان بوسعه الاعتماد عليها في حروبه، وكم من مرة نال البعض من زعماء هذه الثورات
العفو السلطاني العثماني.
إن أولى هذه الثورات كانت في إمارة جان بولات = جنبلاط 1607م وكان مركزها كلّس التي كانت
تشمل جبال الأكراد إلى الغرب منها، وكذلك منطقة حلب إلى الجنوب الشرقي منها أيضاً، وبعد أن قتل
العثمانيون أميرها الأمير حسين الذي كان يتولى شؤون الإمارة من حلب، لأنه لم يلتحق ورجاله
بالسلطان العثماني في إحدى حروبه، فما كان من أخيه الأمير علي إلا أن أعلن الثورة من حلب ولكن
العثمانيين قضوا عليها.
كما أن إمارة بدرخان باشا بين الأعوام (1812-1848 م) كان مركزها جزيرة بن عمر = بوتان الواقعة
في تركيا الحالية قرب الحدود السورية في أقصى الشمال الشرقي منها.
أما إمارة إبراهيم باشا المللي فكان مركزها ويران شهر الواقعة إلى الشمال من بلدة رأس العين، وكانت
تمتد إلى الجنوب من رأس العين لمسافة تزيد عن 50 كم داخل شمال سوريا الحالية أيضاً، وقد ثارت
هذه الإمارة بعد أن اتحد الأكراد والقبائل العربية التي كانت تستقر في هذه المنطقة منذ أيام العباسيين. إلا
أن العثمانيين ضيقوا الخناق على إبراهيم باشا في جبل العزيز وقبضت عليه وأعدمته عام (1908 م)
ويقول البعض من أبناء المنطقة والعارفين بأحوالها إن إبراهيم باشا دفن في قرية صفيا الحالية شمال
مدينة الحسكة.
وعلى ذلك فان المناطق الكردية من هذه الإمارات في شمال سوريا الحالية تثبت أيضاً قِدم استقرار
الأكراد فيها، ومدى ما كان بين هؤلاء الأكراد ـ أصحاب الأرض الأصليين ـ وبين العرب والآشوريين
من علاقات وطيدة.
أما منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وما حدث للأكراد من مآسٍ بعد قضاء الأتراك على ثوراتهم
الآنفة الذكر وغيرها، فإن مناطق هؤلاء الأكراد في شمال سوريا وبالأخص منطقة الجزيرة، قد أصبحت
مرة أخرى عرضة لتواجد بعض القبائل العربية فيها بدءاً بقليل من الأعراب الشوايا الذين تبعثروا على
ضفاف الخابور جنوب الحسكة. وعن هذه الفترة فان السيد عبد الحميد درويش وهو من أبناء المنطقة
والعارف بأحوال الجزيرة يقول في كُتيبه (لمحة تاريخية عن أكراد الجزيرة): “كانت الجزيرة في أوائل
هذا القرن يسكنها عدد قليل من السكان قُدّر آنذاك بحوالي أربعين ألف نسمة، وكانوا ينتمون إلى العنصر
الكردي والعربي وقليل من اليعاقبة. وكانت العشائر العربية في حالة البداوة وهي الطيّ، وكانت تسكن
جنوب القامشلي والجبور وحول الحسكة ثم البكارة في منطقة جبل عبد العزيز، والشرابيين في منطقة
رأس العين، وعدد قليل من عشيرة شمّر التي كانت في غالبيتها الساحقة في العراق. أما الأكراد فكانوا
نصف حضر يسكنون إلى الشمال من هؤلاء العرب وفي الجزيرة العليا جنوب سلسة جبل طوروس في
العديد من القرى، وهم ينتمون لعدد من العشائر الكردية”. وينقل عن السيد محمد علي إبراهيم باشا في
مخطوطته المعدّة للطبع تعداده للعشائر الكردية الموجودة في الجزيرة عندما قامت عشيرة شمّر عام
(1904) بحملة واسعة ضد عشيرة الملية الكردية التي كانت تنافسها على النفوذ في منطقة الجزيرة،
وأن العشائر الكردية في الجزيرة آنذاك كانت ميران – سنان – آشيتية – عباسيان – آليان – دقورية- ملاني
خضر – كيكية، وهذا منقول عن شهادات العشرات من المعمّرين عرباً وكرداً وعن العديد من المؤرخين
والوثائق المكتوبة، ما يثبت وجود العشائر الكردية المذكورة في هذه المنطقة منذ أمد بعيد، على عكس
ادعاءات الدكتور رزكار من أنهم قدموا إليها بعد ثورة الشيخ سعيد عام 1925م أما بعد خروج
العثمانيين من البلاد العربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) واحتلال الفرنسيين والإنكليز
لها واقتسامها بينها، بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916، فإن هذه الاتفاقية الاستعمارية قد اشتملت على
تقسيم كردستان العثمانية أيضاً، بحيث قُسِّمت بين تركيا وكل من العراق وسوريا اللتين أنشِئتا حديثاً،
وبقي القسم الشرقي من كردستان تحت الحكم الإيراني، فكان أن حُرم الأكراد من الانتفاع بمبدأ تقرير
المصير للشعوب الواقعة تحت السيطرة العثمانية الذي أعلن رسمياً آنذاك، الأمر الذي أصيب معه
الأكراد بأكبر نكسة عرفها تاريخهم الحديث.
ما إن تم رسم الحدود بين تركيا وسوريا فإن الخط الحديدي الذي أنشئ بينهما قد قسّم تلك العشائر
الكردية والعربية إلى قسمين، قسم بقي ضمن حدود الدولة التركية والقسم الآخر أصبح تابعاً للدولة
السورية.
وعن العشائر الكردية التي أصبحت إلى الجنوب من هذه الحدود، ينقل السيد عبد الحميد درويش في
كتابه عن الأستاذ أحمد مصطفى زكريا، بتعرّضه لهذه العشائر في كتابه (عشائر الشام 1917) حيث
يقول إن السواد الأعظم من عشائر الأكراد يقطن محافظة الجزيرة، وتمتدّ من أقصى شمالها الشرقي في
قضاء ديريك قرب نهر دجلة ويتجه نحو الغرب إلى قضاء القامشلي ثم إلى ناحية رأس العين (ص658)
ثم يعدد هذه العشائر من الشرق إلى الغرب كما يلي:
ميران- الحسنان- هاوركية- آليان- آشيتية -أطراف شهر- بوبلان- الموسينية- بينارعلي- ملاني خضر-
دقورية- الكابارة- الكيكية-الملية ص659-664
وما إن استقرت الأحوال في سوريا بعد الاستقلال، حتى بدأت الأوساط الشوفينية منذ أوائل الخمسينات
تدعو المسؤولين من أجل القيام بتطبيق سياسة التمييز القومي حيال الأكراد، بهدف القضاء على
تطلعاتهم القومية، وذلك عبر إجراءات استثنائية من شأنها العمل على هجرة الأكراد من الجزيرة
وصهرهم في المجتمع العربي، وكان على رأس هؤلاء – محمد طلب هلال – ضابط الأمن السابق في
الحسكة الذي جاهر علانية عام 1962 بكل ما يتعلق بهذه الإجراءات العنصرية وتم الأخذ بها، فكان أن
بدأ بتطبيقها في محافظة الجزيرة حيث تم أولاً تنفيذ مشروع الإحصاء الاستثنائي بتاريخ 5-10-1962
الذي أدى إلى تجريد 150 ألف مواطن كردي في محافظة الجزيرة من جنسيتهم السورية، واعتبروا
لاجئين بعد أن حُرموا من حقوقهم المدنية، وبعد سنوات تم تنفيذ المشروع الاستثنائي الآخر الذي سمي
بالحزام العربي، حيث جرى بموجبه مصادرة الأراضي التي كان يستقر فيها آلاف العائلات الفلاحية
الكردية، ويستثمرونها أباً عن جدّ وتوزيعها على العائلات العربية التي جُلبت من الناطق التي غمرتها
مياه سد الفرات، ومن مناطق داخلية أخرى وإسكانها في قرى أنشئت لهم على طول الشريط الشمالي
للجزيرة والمتاخم للحدود التركية، فكان أن تم ما هدفت إليه الأوساط الشوفينية والفصل بين أكراد سوريا
وتركيا على طرَفي الحدود. هذه الإجراءات الاستثنائية وسياسة التمييز العنصري كان لها فاعليتها
وتأثيراتها اللاإنسانية المباشرة، على كافة الأكراد في الجزيرة دون غيرها من القوميات الأخرى، سواء
من الناحية الاقتصادية وأقلها ندرة العمل الزراعي وفرص العمل الأخرى، أو الاجتماعية من حيث الفقر
والحاجة والتخلف أو الثقافية وحرمان الكثيرين من الأكراد من الارتقاء بمستواهم الثقافي عبر المراكز
الثقافية والمعاهد العليا أو السياسية، ومنع الأكراد من مزاولة حقوقهم الثقافية الكردية وممارسة فلكلورهم
الشعبي، علاوة على معاناة المجرّدين من الجنسية وحرمانهم من الحقوق المدنية، الأمر الذي جعلهم
محرومين من اللحاق بركب الحضارة البشرية المتطورة.
ومما زاد في هذه المعاناة عندما استقدمت الدولة آلاف الموظفين العرب، الذين شغلوا الوظائف في
مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها ومدارسها ومعاهدها الثقافية، وقدمت لهم ولعائلاتهم التسهيلات اللازمة
للسكن في الجزيرة، في الوقت الذي مُنع فيه العنصر الكردي من شغل هذه الوظائف، حتى إنه مُنع من
نقل مسكنه من مكان لآخر ضمن حدود المحافظة الإدارية، وإذا ما أراد بناء دار أو ترميمه أو شراء
مسكن أو أراضٍ زراعية أو آلية، فقد وجب عليه مراجعة الجهات الأمنية بخصوص ذلك.
أما أسلوب التعريب فقد شمل أسماء القرى والبلدات المعروفة بأسمائها الكردية منذ القديم، واستبدلت
بأسماء عربية تبعاً لما سبق لتركيا وقامت به في كردستان الشمال حتى جبل الأكراد منطقة عفرين،
التابع لمحافظة حلب والمعروف بهذا الاسم منذ القديم، قد استبدل باسم جبل حلب.
التركمان في شمال شرق سوريا – تاريخياً:
تركمان سوريا أو تركمان سوريون، هم مواطنون سوريون من أصل تركي، أقاموا في محافظات
سورية في عهد الإمبراطورية السلجوقية والدولة الأتابكية الزنكية والمملوكية والإمبراطورية العثمانية،
وظلوا فيها حتى الاستقلال وتأسيس دولة سوريا المعاصرة. والتركمان هم رابع أكبر مجموعة عرقية في
سورية بعد العرب والكرد والأرمن، كان لهم وجود واضح في شمال شرق سوريا من القِدم وإلى يومنا
هذا، يتواجدون في يومنا هذا بكثرة في ريف الحسكة وفي مدينة منبج، وفي ريف حلب وصولاً لجبل
الأكراد في ريف إدلب.
ويُعتقد أن الأقلية التركمانية في سوريا، تشكل امتداداً للأقلية التركمانية في العراق، وهي لا تختلف عنها
كثيراً من حيث اللهجة والتشكيلات القبلية، مع أنه من الصعب القول بوجود روابط وصلات بين
التركمان عبر الحدود السورية العراقية، حيث يرِد أن قدومهم إلى المنطقة يسبق العثمانيين بقرون
عديدة، ويعود بالضبط إلى أواخر القرن السابع
الميلادي، عندما اندفعت القبائل التركمانية من موطنها في وسط آسيا غرباً.
إن المصادر التاريخية تُرجِع زمن هجرة التركمان إلى شرق المتوسط إلى أواخر القرن السابع الميلادي،
حيث اندفعت القبائل التركمانية من موطنها في وسط آسيا غرباً باتجاه شرق المتوسط، وأخذت تستقر في
العديد من المناطق، بينما استقر قسم منها في إيران، وقسم آخر في العراق ومناطق من بلاد الشام أقصى
الشمال، ليستقروا فيما بعد في المناطق ذات التماس بين الدولة العربية ـ الإسلامية والدولة البيزنطية،
وأماكن الثغور من العراق شمالاً وحتى شمال آسيا الصغرى.
إن أغلب الإسكان الذي تم شمال سوريا وغربها كان من داخل سوريا، فمعظم عشائر التركمان نُقلت من
أماكن ومواقع سورية أخرى، أي إن العشائر التركمانية سوريّة قديمة أقدم من دخول العثمانيين إلى
سوريا بمئات السنين منذ بدايات القرن الثالث عشر، ولم تأتِ مع العثمانيين في القرن السادس عشر، ولم
يأتِ بها العثمانيون من الأناضول كما يظن البعض خطأً، فهناك بعض العشائر التركمانية التي أتى بها
العثمانيون لكن أغلب هذا البعض هرب أيام الحكم العثماني وعاد إلى حيث أتى.
النزوح إلى بلاد الشام:
ورد أول نزوح للقبائل التركمانية إلى بلاد الشام ونزولهم في دمشق وأطرافها، في كتاب معجم البلدان
للبلاذري، في الصفحة 228 الجزء الخامس حيث قال:
” فنزلت القوافل بدمشق وهي لقوم من التركمان يقال لهم بنوا المراق، كانوا يسكنون دمشق سنة
105 للهجرة الشريفة، الموافق سنة 723 للميلاد.“
وردت في كتاب البرق الشامي، للقاضي الإمام عماد الدين الأصفهاني، 362 إشارة إلى أوضاع
التركمان وبطولاتهم وفتوحاتهم وجهادهم ورباطهم لثغور بلاد الشام، في حلب وحماة واعزاز واللاذقية
ودمشق، وأحوال قبائلهم وجيوشهم وأمرائهم أمثال الأمير ياروق، الذي بنى محلة الياروقية الكبيرة في
مدينة حلب وشمالها، حيث نزل فيها مع عسكره ورجاله وعمّر فيها دوراً ومساكن، ومات ياروق هذا في
سنة 564 للهجرة، الموافق لسنة 1168 للميلاد.
وكان من أمراء السلاطين التركمان شجرة الدرّ وعلاء الدين أيبك التركماني وقطز والظاهر بيبرس
ونور الدين زنكي. أما الرحّالة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطبخي
المعروف بابن بطوطة، فيذكر في الجزء 1 الصفحة 99 من كتابه رحلة ابن بطوطة:
” ثم سافرت إلى الجبل الأقرع وهو أعلى جبل بالشام وأول ما يظهر منها إلى البحر وسكانه التركمان،
وفيه العيون والأنهار. “
صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية الجزء الأول صفحة 159، يذكر المعلومات الاتية:
” ومن صائب رأي الشهيد آتابك الزنكي وجيده أنه سير طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير
الياروق إلى الشام، وأسكنهم بولاية حلب وأمرهم بجهاد الفرنج وملّكهم كل ما استنقذوه حرروه من
البلاد التي للفرنج، وجعله ملكاً لهم، فكانوا يغادون الفرنج بالقتال ويراوصونهم وأخذوا كثيراً من
السواد، وسدّوا ذلك الثغر العظيم ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة 600 للهجرة،
الموافق لسنة 1203 للميلاد. “
وفي الصفحة 243 من نفس الجزء يستطرد مؤلف الروضتين ويقول:
ثم جمع القائد أسد الدين إليه العدد الكثير من شجعان التركمان وقاتلوا المشركين ووصلوا إلى بعلبكّ
في العسكر من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد، وهم في العدد الكثير والحجم الغفير واجتمعوا بنور
الدين وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها والابتداء بالنزول على بانياس، وقدم نور
الدين دمشق لإخراج آلات الحرب وتجهيزها… وعن أحداث سنة 824 للهجرة، الموافق لسنة 1421
للميلاد يقول مؤلف شذرات الذهب في الجزء 4 الصفحة 164:
” كان جقمَق من أبناء التركمان أصبح دويداراً ثانياً (أي وزير) عند الملك المؤيد قبل سلطنته، وكان
يتكلم العربية، لا يشكّ فيه جالسه أنه من أولاد الأمراء، ثم استقر دويداراً كبيراً إلى أن قرّره (عيّنه)
الملك المؤيد في نيابة الشام، فبنى السوق المعروف بسوق (جقمَق) وأوقفه على المدرسة التي بناها قرب الأموي. “
يفصّل كتاب وفيات الأعيان في جزئه السادس، الصفحة 117 أخبار ياروق التركماني فيقول:
” هو ياروق بن آرسلان التركماني، كان مقداماً جليل القدر في قومه وإليه تنسب الطائفة الياروقية
من التركمان وكان عظيم الخلقة هائل المنظر، سكن بظاهر حلب من جهتها القبلية وبنى شاطىء (
قويق) فوق تل مرتفع، وبنى هو وأهله وأتباعه أبنية كثيرة مرتفعة وعمائر متسعة عرفت بالياروقية
وهي شبه القرية، وسكنها هو ومن معه وبنى سوق الياروقية وتوفي في محرم سنة 564 للهجرة،
الموافق لسنة 1168 للميلاد. وقويق نهر صغير بظاهر حلب يجري في الشتاء والربيع وينقطع في
الصيف.“
وفي الكتاب الموسوعي الصادر حديثاً في باريس بعنوان “دمشق لؤلؤة الشرق وملكته”، من تأليف
جيرار دوجرج. جاء ما يلي:
” وفي زمن تضعضع السلطة العباسية، ارتبطت دمشق بالدولة الطولونية قبل أن تخضع للخلافة
الفاطمية، …وبعد الفاطميين، بسط السلاجقة سلطتهم على دمشق التي حكمها بعض الأتابكة في شكل
شبه مستقل. قاوم معين الدين أنر الفرنجة وصدّ الحصار الذي فرضته قواتهم، وجاء من بعده نور
الدين محمود الزنكي، فوحّد المشرق. وتابعه من بعده صلاح الدين الأيوبي وحرر القدس، فبعد وفاة
صلاح الدين فيها عام 1193 للميلاد الموافق لسنة 588 للهجرة، تصدعت الدولة الأيوبية، وأصيبت
دمشق بالبلاء العظيم قبل أن تسقط في أيدي المغول.وقد تصدّ للمغول قادة مماليك التركمان كل من
قطز وظاهر بيبرس في معركة عين جالوت، وهُزم الجيش المغولي على يد جيش المماليك. “
التركمان في شمال شرق سوريا خلال العصر العثماني:
استمر المماليك في الحكم إلى أن جاء الفتح العثماني للمنطقة في معركة مرج دابق شمال حلب عام
1615 ميلادية بقيادة ياوز سليم الأول. وفي ظل الحكم العثماني وسياسة الإسكان التي أعقبت عصر
تأسيس الإمبراطورية العثمانية وعصور التوسع والانتشار، لم يكونوا موضوع بحث ودراسة، مع أن
الإمبراطورية العثمانية كانت عرضة لتغيرات كثيرة في كافة المجالات، محكومة في ذلك بظروف كل
عصر، وهكذا برزت سياسة الإسكان كنتيجة فرضتها الظروف، فمن أهم التغيرات التي طرأت على
الإمبراطورية العثمانية الاضطرابات الاجتماعية التي هدمت القرى وشتّتت الفلاحين الذين يشكلون
القاعدة الأساسية للبنية الداخلية للمجتمع، وكان أهم ما يهم الدولة العثمانية المعتمدة أساساً في اقتصادها
على الزراعة، الرسوم التي تجنيها من الفلاحين؛ القاعدة الأساسية للمجتمع، لكن هؤلاء الفلاحين الذين
ما عادوا قادرين على الزراعة نتيجة تخريب أراضيهم خرجوا من دائرة المنتجين دافعي الرسوم، وأمام
هذا الخطر وجدت الحكومة نفسها وجهاً لوجه أمام مسألة إسكان داخلي، وكانت إحدى التدابير المتخذة
لإعادة إعمار القرى هي المباشرة بتوزيع القرى وذلك بإعطاء القرية لمن يطلب تعهّدها شريطة أن
يجلب سكاناً من خارج المنطقة، لاستيطانها وإعمارها واستصلاحها وإعادة استثمارها زراعياً، كما
نلاحظ إن سياسة الإسكان العثمانية في القرن السابع عشر كانت تهدف إلى إعادة تعمير البنية الداخلية.
وقد اندمج التركمان في الحياة العامة للدولة العربية ـ الإسلامية بعد اعتناقهم الإسلام ديناً لهم، وانخرط
عدد كبير منهم في جيش الدولة، وهو الأمر الذي مهّد لهم فيما بعد؛ وخاصة في العهد العباسي، لأن
يلعبوا دوراً مهمّاً في بعض المراحل السياسية. كما تبوّأت شخصيات منهم مناصب رفيعة في الدولة،
وبرز منهم كثير في قائمة النخبة العليا في تاريخ المجتمع العربي ـ الإسلامي، حيث شارك التركمان في
الدفاع عن بلاد الشام أثناء الحروب الصليبية دفاعاً مميتاً حتى وُصفت تلك الحروب بحروب الفرنج
والتركمان، وهم المعروفون بفروسيتهم وشجاعتهم، بدأ بحكم السلاجقة والأتابيكية الزنكية والمملوكية
التركمانية والمملوكية الجركسية، حيث كان بين قادة جيوش صلاح الدين الأيوبي، قائد تركماني بارز
هو مظفر الدين كوجك (كوكبورو) أحد قادة صلاح الدين وزوج شقيقته، وهو أمير دولة الأتابكة في
هولير، حيث شهد المعركة الكبرى في حطين، وقد انضم إلى جيش صلاح الدين فيما بعد القائد
التركماني يوسف زين الدين وهو أمير أتابكة الموصل في شمال العراق، والظاهر بيبرس القائد
التركماني هو آخر من حرر القدس من الفرنج.
وللتركمان مآثر كبيرة في تحرير مدينة اعزاز التي كانت محتلة من قبل الفرنج. يقول مؤلف كتاب
الروضتين، سبق الإشارة إليه، في الجزء الأول الصفحة 243:
“ومعظم هؤلاء التركمان امتهنوا الرعي في فترات سابقة، لكنهم استقروا وأخذوا يمارسون الزراعة
نتيجة سياسة الإسكان الممارَسة في عهد الحكم العثماني، إن أبرز ما يميّز التركمان هو علاقاتهم مع
المجتمعات التي عاشوا فيها، حيث إنهم احتفظوا بعلاقاتهم مع تلك المجتمعات بعد سقوط الدولة
العثمانية، وخروج الأتراك العثمانيين من البلاد العربية عقب الحرب العالمية الأولى (1914-1918)
حيث استمر وجودهم في مجتمعاتهم، مؤكدين حقيقة الانتماء إلى الكيانات الوطنية التي ظهرت في
المنطقة…. فقد لعب التركمان من أبناء قرى حلب بقيادة نويران أوغوز، وتركان بولاد دشو دوراً مشرّفاً
في سبيل الاستقلال الوطني من الانتداب الفرنسي، ولهم مآثر مشهورة لدى أهالي منبج لدى وقيعة شيخ
يحيى، إلا أنه لم يتم تدوينه في ظل الأنظمة القومية العربية بغية إنكار الوجود التركماني في المنطقة،
وكما هو الحال في الجولان لهم دور معروف في المقاومة الشعبية التي ظهرت في الجولان أثناء حرب
- عما كانوا أيام الحروب الصليبية، أي أن التركمان أصبحوا ينظرون إلى الدول التي يقيمون بها
باعتبارها أوطاناً لهم وأنهم مواطنون فيها”.
الإيزيديون في شمال شرق سوريا – تاريخياً:
تعود الديانة الإيزيديّة إلى عصور ما قبل الإسلام خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، استقروا
في جبل سنجار في شمال شرق سوريا والعراق. وتشتت معظمهم في تركيا وأرمينيا وسوريا والعراق،
إلا أن العراق هو مركز حياتهم الدينية وموطن أميرهم، وقبر أكثر قديسيهم الموقرين، الشيخ عُدي.
ويستقر معظم الإيزيديين في المناطق شبه البدوية وليس لديهم رؤساء كبار، ويتحدثون اللهجة
الكرمانجية.
الإيزيديون شعب قديم قدم التاريخ، كما أنهم من سكان سوريا الأصليين، ولازموها منذ فجر تاريخها،
ويعود تاريخ الإيزيديين حسب كل الأبحاث التاريخية دون تفريق وحسب التنقيبات المحايدة التي أجريت
من قبل الباحثين، إلى أجدادهم الأوائل مثل السومريين والهوريين والحثيين، وقبل هؤلاء إلى الذين كانوا
موجودين في منطقة ميزوبوتاميا (بلاد مابين النهرين) قبل ظهور السومريين هناك بهذا الاسم، وكانوا
يسمون بأسماء متنوعة ومتفرقة كما ذكرت قبل قليل، ولكن بعقيدة واحدة، وأنشؤوا ممالك المدن ومن ثم
ممالك حقيقية ودولاً مثل دولة الحثيين التي امتدت حتى مصر، وكانت عاصمتها (آش وكاني) ودولة
الخالديين (أورارتو) وكانت عاصمتها مدينة وان الحالية، وكلتاهما في شمال كردستان، وكذلك الدولة
الداسنية في جنوب كردستان ومملكة ميديا 612 ق م كانت أبرزها، ولكن الأكراد الإيزيديين تعرضوا
لهجمات الشعوب المجاورة من الجنوب والشرق والشمال وكذلك الغرب، وسيطر الكثير من هؤلاء على
وطن الكرد الإيزيددين ولكن لم يستطع هؤلاء الغزاة بهجماتهم السيطرة على عقيدتهم وإنما ازداد إيمان
الإيزيديين بدينهم وعقيدتهم، وفي العصر الحديث وبعد تقسيم المنطقة من قبل الآخرين تم تقسيم وطنهم
بين الناس الغرباء، وبسبب ذلك تم تقسيم الإيزيديين أيضاً بموجب هذه التقسيمات، وصاروا في دول
متعددة كما هاجر قسم كبير منهم بسبب الظلم الذي تعرضوا له إلى دول غريبة، ولكن مع كل ذلك لم
ينسوا وطنهم وإنما بقوا مرتبطين به حتى بعد الموت، فهناك تجد أن الذي يموت من الإيزيديين يوصي
قبل أن يموت أن تُرسل جنازته إلى وطنه وأن تُدفن هناك في أرض الوطن، وهذا ما لا يفعله الآخرون،
والآن صار الإيزيديون موزّعين بين دول العالم.
– التوزّع الجغرافي للإيزيديين في سوريا:
يتوزع الإيزيديون في سوريا على شكل جزر متناثرة هنا وهناك وبالشكل التالي:
ـ منطقة الجراح: وهذه المنطقة تقع شرق سوريا وعلى طرفي نهر يدعى بنهر الجراح الذي ينبع من
شمال كردستان ويتوجه نحو الجنوب ماراً بسوريا، وتضم:
1- بلدة القحطانية نفسها كان يسكنها 50 عائلة إيزيدية
2- قرية دريجيك يسكنها 50 عائلة أيضاً تقريباً.
3- قرية مزكفت يسكنها 40 عائلة.
4- قرية تل خاتون يسكنها 70 عائلة.
5- قرية اوتلجة يسكنها 30 عائلة.
6- قرية آلا رشا يسكنها 35 عائلة.
وكان يسكن في كل من شلهومية وكركي شامو عائلات إيزيدية أيضاً، كما كانت عدة عائلات إيزيدية
تسكن القامشلي في الفترة الأخيرة، هاجر عدد من تلك العائلات إلى بلدة القحطانية كما هاجر قسم منها
إلى خارج الوطن، لكن بقي عدد جيد من أبنائها فيها رغم ذلك، وهم يزورونها بين الحين والآخر دون
انقطاع.
هذه القرى الإيزيدية كان بعضها يضم الإيزيديين فقط مثل أوتلجة، ومنها خليط من الإيزيديين والمسلمين
مثل تل خاتون ومنها خليط من الإيزيديين والمسلمين واليهود والمسيحيين مثل مزكفت، كما إن هذه
القرى كانت تضم الإيزيديين من مختلف العشائر الإيزيدية، ففي آلارشا تكاد تجد فقط الكفناسة، في حين
تجد في تل خاتون الداسكا والبعجولا والبحنمنية والخالتا والتاقا والخرابية والنمرداني، وفي أوتلجة تجد
الكيوخية والمحوكا وفي مزكفت تجد النمرداني والشفقتا والباجني والمحوكي، وفي دريجيك تجد الافشي
وفيما بعد من مختلف العشائر الايزيدية بمعنى أنّك تجد الإيزيديين بمختلف عشائرهم في تلك القرى وهم
متضامنين وكالاخوة دون تمييز، وكانوا يعرفون بالجرحية أو بالايزيدية دون ذكر اسم العشيرة من قبل
غير الإيزيديين وحتى أنّ الإيزيديين باتوا يتركون الاسم العشائري ويركزون على اسمهم كإيزيديين.
ـ منطقة الحسكة: المنطقة الثانية من المناطق التي يسكنها الإيزيديون هي منطقة الحسكة ويسمون
الغربية وهي أيضاً من عشائر متنوعة أهمها الشرقية ومنها التورنا والدنا والملا والسوعانا وقراهم:
1- قرية طولكو
2- تل طويل
3- السليمانية
4- دوكوركي
5-برزان كلو
6- برزان الكبير
وكل قرية من تلك القرى تحوي أكثر من 30 عائلة فبرزان وحده يحوي أكثر من 70 عائلة
ـ منطقة عامودا: هي المنطقة الثالثة من المناطق التي يسكنها الايزيديون في سوريا ومن قراهم:
1ـ خربة ديلان
2- خربة خوي
3- دوكوركة
4- عا كولة
5- جتلة
ـ منطقة رأس العين: مثل قرية جان تمر والاسدية
ـ منطقة عفرين وحلب:
يسكن في هذه المناطق عدد جيد من الإيزيديين، ورغم أنهم كانوا بعيدين من مناطق الإيزيديين في
سوريا، إلا أنهم كانوا قريبين من مناطق الإيزيديين في شمال كردستان، ولاقى الإيزيديون هناك الكثير
من الظلم والاضطهاد على يد غير الإيزيديين من أبناء الديانات الأخرى وخاصة المسلمين، مما دفع
هؤلاء إلى ارتكاب بعض الأخطاء من الناحية الدينية، فكما نعرف لا يجوز للإيزيديين الزواج من غير
الإيزيديين، إلا أن في مناطق عفرين نجد هذا الشيء وهذا يعود إلى الخوف والظلم اللذين تعرضوا لهما
هناك، فمن الإيزيديين من تزوج من المسلمين نساء ورجالاً، وكذلك يتم الزواج بين مختلف الفئات من
الإيزيديين من شيخ وبير ومريد، وفي الوقت الحاضر نتيجة حدوث اتصال بينهم وبين الإيزيديين في
المناطق الشرقية نأمل في إزالة هذا الأمر وتصحيح الواقع غير المقبول في الدين الإيزيدي.
1- ضمن مدينة حلب وفي الأحياء التالية: الشيخ مقصود – بستان باشا – السريان القديمة – السريان
الجديدة – سيف الدولة.
2– في بلدة عفرين.
3- في قرى مثل:
– قيباري (عشقيبار).
– قسطل جندو.
– فقيرة.
– جنديرس.
الإيزيديون بسبب الاضطهاد الذي لاقوه من قبل غيرهم اضطروا على أن يتجمعوا في مناطق خاصة
تجمعهم، لذلك تجد قراهم في مناطق بعيدة بعض الشيء من مناطق الآخرين، ككل الشعوب التي عانت
من الاضطهاد مثل الدروز والعلويين في سوريا، وفي المدن تجدهم أيضاً متجمعين في حارات خاصة
وقريبين من بعضهم، وعلاقاتهم بالآخرين قائمة على الحذر والخوف، ولكن مع ذلك فإنهم يحبّون التجمّع
والمناقشة الحرة والعيش مع الآخرين في سلام وأخوّة، وتراهم يتعاملون مع الغير بكل احترام وأدب،
وهم يحبّون الضيف كثيراً ويكرمونه، لكن بسبب ما لاقوه من غدر من الغير فإن تعاملهم يبقى ضمن
نطاق الخوف والحذر كما قلت.
والإيزيديون كما قلت عشائر وقبائل وهم قريبون من الحياة البدوية في التعامل ومن الحياة المدنية كذلك،
فهم يعيشون حياة وسط بين هذا وذاك ولا يضمرون أي حقد أو كراهية ضد أحد، وإن صدرت منهم
بعض التصرفات فإن ذلك يعود إلى ما تعرضوا له من قديم وحديث على يد أتباع الديانات الأخرى،
فمثلاً تعرضوا لمذابح جماعية كثيرة بلغت 72 مذبحة، والآن يتعرضون لاعتداءات مستمرة مثل خطف
نسائهم، على مرأى ومسمع من الدولة التي يعيشون فيها، وكما نعرف هذا روح الإرهاب في المجتمع
اليزيدي، وترى حياة خاصة وفي مقدمتها الزواج والكريفانية. فكما هو معروف يتألف المجتمع اليزيدي
من ثلاث فئات: 1- الشيخ 2- البير 3- المريد.
ويحدث الزواج ضمن هذه الفئات، أي الشيوخ يتزوجون ضمن فئتهم وكذلك البيَرة، وكذلك المريد فلا
يجوز لفئة من تلك الفئات الزواج من غير فئتها أو من أتباع الديانات الأخرى، وهذه نقطة يستغلها
الأخرون من أتباع الديانات الأخرى لضرب الإيزيديين ودينهم، وحتى إن كل الشيوخ لايتزوجون من
بعضهم فهم فروع ويجب أن يتزوج كل فرع من فرعه وكذلك البيَرة، أما المريدون فإنهم يتزوجون
ضمن فئتهم بحرية في المجتمع الإيزيدي، فهناك ترابط عائلي قوي وشديد وقد تجد من أبناء العائلة من
تزوج وبلغ عمره 60 سنة، ولايزال ضمن العائلة، وهناك عادات وتقاليد خاصة بهم وأخرى تشبه
العادات والتقاليد التي تجدها عند الآخرين من الجوار مثل التعازي والزواج، فهي متشابهة، وكما قلت
فإنهم من الذين يتوقون إلى الحرية وإلى السلام والوئام، ويقيمون علاقات مع الآخرين على هذا الأساس،
الوضع الاجتماعي بين الإيزيديين مؤسَّس على أساس قبلي عشائري ولم يأخذ الطابع السياسي، وهو
غير منظم كما سياتي لاحقاً.
الإيزيديون في سوريا وشمال سوريا مثلهم مثل الغير، فهم يعيشون بمعظمهم في القرى، ولذلك فإن
حياتهم الاقتصادية تعتمد على الزراعة وتربية الحيوانات، وفي الآونة الأخيرة قلّت حيواناتهم أيضاً،
لذلك بقيت الحياة الزراعية تلعب الدور الرئيسي في حياتهم الاقتصادية وهم في مجملهم فقراء لأن
اعتمادهم على الزراعة أيضاً لا يدرّ عليهم المال الوفير، فمنذ 1970 استولت الدولة على أراضيهم
وجلبت العرب المعروفين بعرب الغمر من مناطق حلب والرقة، وأعطت الدولة أراضي الإيزيديين
لهؤلاء العرب، وبذلك حرمتهم الدولة من تلك الأراضي أيضاً، كما أنهم في معظمهم أجانب أو مجرّدين
من الجنسية السورية، وبذلك فإنه لا يجوز لهم العمل في الوظائف الحكومية، ليس لأنهم غير سوريين بل
لأسباب سياسية، فمثلاً كتب (فرماز غريبو): أملك الجنسية السورية وخدمت في الجيش السوري
كضابط، وبعد أن أنهيت الخدمة العسكرية جرّدتني الدولة من الجنسية السورية دون سبب، هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى فإنه لا توجد في مناطق الإيزيديين معامل للعمل، وإن وجدت بعض الحِرَف اليدوية
فإنها لم تعدْ تدرّ مالاً، ومعظم المحاصيل الزراعية بعلية وإنتاجها قليل، وكذلك نجد نظام الإنتاج مناصفة
أي يعطي الشخص أرضه لآخر (مزارع) فيزرعه ذلك المزارع وبعد جني المحصول يقسَّم مناصفة بينه
وبين مالك الأرض.
القمح – الشعير – القطن – العدس وفي مناطق عفرين الزيتون، بالإضافة إلى أن الخضراوات من أهم
المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليها الإيزيديون ويتقنونها في مناطق تواجدهم، ولكن رغم كل ذلك فإن
المردود ضعيف في الفترة الأخيرة، وبعد هجرة الإيزيديين إلى أوروبا صار المهاجرون يرسلون
الأموال إلى أهلهم في الوطن، مما ساعد على تحسين وضعهم المعيشي بعض الشيء وساعد البعض
على ممارسة بعض الأعمال التجارية الخفيفة، كتجارة الحبوب والبيع المفرّق، ولكن سياسة الدولة تحدّ
من نشاطهم لكون معظمهم مجرّدين من الجنسية.
الوضع التعليمي:
الإيزيديون من الناس الذين يحبون العلم والمعرفة، لذلك يبحثون عن العلم والمعرفة بكل شغِف، ولكن
كما ذكرت فإن الخوف من أتباع الديانات الأخرى بسبب عقيدتهم اليزيدية جعلهم بعيدين عن مجالات
العلم لوقت طويل جداً، وعندما أنشئت المدارس في قراهم أرسلوا أولادهم إلى تلك المدارس من الذكور
والإناث، ولكن كانت النسبة بين الإناث ضعيفة بسبب الوضع الاجتماعي والديني معاً ليس بين
الإيزيديين فقط وإنما بين المجتمع الشرقي عموماً، وقد تابع الطلاب الإيزيديون الدارسة في المراحل
الإعدادية والثانوية أيضاً رغم كل الصعوبات، وحتى بالمراحل العليا من الدراسة في الجامعات
والمعاهد، وتخرّجت أعداد جيدة منهم من تلك الجامعات من مدرّسين ومحامين وغير ذلك، ولكن
وضعهم الديني وسياسة الدولة انعكسا عليهم بشكل سلبي مثل:
1- الدين.
2- الهجرة.
3- سياسة الدولة وتجريد عدد كبير منهم من الجنسية السورية.
4- الوضع المعيشي والفقر.
الأرمن في شمال شرق سوريا – تاريخياً:
بدايات الوجود الأرمني في شمال شرق سوريا وعلى وجه التحديد في مدينة قامشلو، تعود إلى
العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي بحسب مؤرخين أرمن، حيث لم يخرج الأرمن من هول
مصيبتهم حتى بنوا كنيسة ثم مدرسة ابتدائية وبعدها إعدادية، وكان هناك عدد من القرى سكنها الأرمن،
إلا أن الهجرة إلى أرمينيا أخلت هذه القرى من سكانها، إذ بُنيت المنازل الأولى فيها عام 1924،
والأرمن هم أول من بدأ الهجرة إلى هذه المدينة، حيث فضّلوا العيش فيها على أمل العودة إلى وطنهم في
أرمينيا يوماً ما.
وفي عام 1938، قام سكان قامشلو ببناء ما يقرب من عشرين قرية أرمنية في فترة قصيرة ،وهم أول
من زرع الأراضي، وأسسوا في هذه القرى سلسلة من 18 مدرسة، لِتصبح هذه القرى مهملة وخالية من
السكان بعد هجرة جزء كبير من الأرمن إلى أرمينيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ترك 3.500
أرميني تقريباً المنطقة عام 1946 وتوجهوا إلى أرمينيا خلال الهجرة الأولى، تبعَ ذلك موجة هجرة ثانية
مؤلفة من 6.500 أرميني خلال الفترة 1965 –1966. ثم هاجر باقي السكان إلى مركز مدينة قامشلو
وتُركت القرى الأرمنية خالية بالكامل.
عمل الأرمن بشكل أساسي في مجالات التجارة، والزراعة، والحرَف اليدوية. توجد مدارس أرمينة في
القامشلي (مرحلة الروضة، ومرحلتي التعليم المتوسط والثانوي) وتضم هذه المدارس حوالي الـ 1.200
طالب وبها هيئة تدريس تصل إلى 40 مدرساً، مهمتهم تعليم الأطفال الأرمن والحفاظ على الهوية
الوطنية. وهناك كنيسة القديس هاكوب، كنيسة الأرمن بالقامشلي، كما يواصل نادي الهومنتمن تقديم
خدماته إلى الجيل الجديد عن طريق برامجه التعليمية والرياضية، وفريق الكشّافة الذي يملأ قلوب
الأرمن بالقامشلي بالفرح في احتفالاتهم الخاصة والعامة، حيث تقوم الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية
بالمساعدة في أنشطتها الخيرية، وتقوم مؤسستا كاراكوزيان وجينيشيان أيضاً بمساعدة الأسَر المحتاجة
من خلال إسهاماتها الخيّرة.
ولدى الأرمن الكاولك أيضاً كنيستهم ومدرسة تسمى السلام، وفيها ما يقرب من 300 طالب وطالبة
وأبناؤهم يدرسون من مرحلة الروضة وحتى نهاية مرحلة التعليم الاساسي.
الأرمن في القامشلي موجودون اليوم ويحتفظون بقيَمهم وروحهم الأرمنية، ولديهم إيمان عميق بالمستقبل
رغم الظروف القاسية التي تمر بها بلادهم سوريا.
المراجع
-1- خبر أرمني – موقع شامل مختص بشؤون الأرمن المهاجرين حول العالم.
-2- العرب في شمال سوريا عبر التاريخ – ويكيبيديا – مؤرخات الرحالة الغربين مترجمة للعربية متوفرة على النت.
-3- موقع مدارات كرد.
-4- شباب بوست.