الغجر بين السماء والأرض
عواس علي
“أبناء الرياح”
أولاد النجمة ـ شهود الزمان ـ أبناء الرياح: كلها أسماء عُرف بها الغجر.
ما نعرفه عن الغجر -هؤلاء القوم المفعمون بروحانية الشرق والمترعون بها لحد الثمالة- أنهم يمتهنون مهناً غريبة ويحافظون عليها بإتقان, بدءاً من صناعة الغرابيل إلى تركيب الأسنان وصناعة التمائم, وينظرون ويغوصون في الغيب عن طريق ودعهم وأحجارهم التي ينثرونها ويبدؤون بقراءة ما ترشدهم إليه تلك الأحجار في علم الغيب, وقد يصعب عليهم حمل ودعهم فينصرفون إلى الفنجان لقراءة الطالع والمخفي, وقد يستعيضون عن الفنجان بالخطوط المرسومة بعبثية القدر على راحة الكف, فيسرّون نفوساً متعبة, ويزفّون أخباراً مفرحة مؤجلة وتائهة بانتظار الأقدار لتحرّكها باتجاه الشطآن, ولا ننسى ما يمتهنونه من فنّ وطرب ونقش الوشم.
إنهم يحملون متاعهم على ظهور خيولهم يجوبون البلدان, لا تحدّهم حدود رُسمت عنوة بين البشرية, يمتهنون الصيد وخاصة صيد الحجل, ويربونه, وترى رجالهم يتجندون أقفاص الحجل التي يعتنون بها كما يعتنون بأولادهم, فيزرعون شباكهم لصيدها, ويربّون كلاب الصيد السلوقية, إنهم يسكنون الخيم في الشتاء والصيف, ونعرف عدداً من العوائل الغجرية التي استوطنت المدن فبنت خيمتها بجانب الفيلا (القصر) ليسكنوها, ويستمتعون بالنوم تحت سمائها من خلال قطرات الندى المتسربة من الأوبار المصنوعة منه الخيمة.
من هم الغجر؟
من خلال البحث في أصول الغجر نرى تعدد الروايات, وسنسرد هذه الروايات حسب موقعها.
منذ الصغر وأنا أسمع من الرواة المسنين أن الغجر هم قوم جسّاس بن ربيعة الذين تم تشتيت قبيلتهم من قبل الزير سالم وحكم عليهم بالترحال الدائم, ومنعهم من إشعال النار أو السراج ليلاً, ويقال إن الغجري يطفئ سراجه ويفترش خيمته ليلاً, وهذه الرواية تجانب الصواب من ناحية اللغة, فالغجر لهم لغتهم الخاصة التي يتكلمونها وهي اللغة الروملية أوالدومنية, ولها مفرداتها الخاصة التي تختلف عن باقي اللغات, فالذي أعرفه أن الغجر يقولون للغريب” نغور” وللثعلب “لونغر” وقبيلة بني ربيعة قبيلة عربية أصيلة, فمن أين جاءتهم هذه اللغة الدخيلة وهم لم يغادروا شبه الجزيرة العربية حتى في ترحالهم, ويضاف إلى ذلك أن انتشار الغجر في أصقاع المعمورة ينافي هذه الرواية, فليس من الصواب أن يكون للهذه القبيلة العربية كل هذا الانتشار على وجه البسيطة.
ووردت رواية أخرى تقول إن الغجر هم قبيلة هندية أسلمت وهربت من بطش البوذيين باتجاه بلاد فارس, وهذا أيضاً ينافي الصواب, إذ أن باحثين كثر أثبتوا تواجد الغجر في بلدان عدة وخاصة العراق قبل ظهور الإسلام, والشيء الآخر أن الديانة البوذية في الهند هي ديانة الزهد والتفاني, وتمنع الاعتداء على الإنسان مهما كان دينه أو معتقده.
ووردت روايات عدة أجمعت على أن الغجر قوم من الأقوام الهندية الآرية, هاجرت في القرن الرابع الميلادي باتجاه بلاد فارس من ضفاف نهر السند, والبعض ردّهم إلى جبل قرباط في الهند.
ومثلهم مثل الأقوام الأخرى التي هاجرت من الهند باتجاه بلاد فارس ثم اتجهت باتجاه الغرب والعراق وتركيا, ومن هناك انتشر الغجر باتجاه أوروبا وإفريقيا في بداية القرن الخامس عشر الميلادي, وأظن أن هذه الرواية هي الأقرب إلى الصواب, كون اللغة الغجرية (الروملية ـ الدومنية) هي الأقرب في مفرداتها للغة الهندية الآرية, وعادات الغجر وزيّهم أقرب للهنود من حيث اللباس واختيار الألوان الزاهية.
اعتاد الغجر على الترحال وممارسة مهنهم وذلك من خلال أدواتهم التي يحملونها على ظهور الخيول أوالحمير في الشرق, ولكن الوضع مختلف في أوروبا فهم يمارسون مهنهم من خلال العربة التي تجرها الخيول, وعادة تكون رباعية العجلات, وهي في ذات الوقت تُعتبر مسكناً للغجري مع عائلته, وقد تتعدد العربات في حال تعدد أفراد العائلة.
والمجتمع الغجري مجتمع متماسك من حيث البنية العائلية, فمعظم أفراد العائلة الكبيرة يشكلون عائلة وأحدة, الأحفاد والأولاد والأعمام, وما عرفناه عن الغجر في الشرق أنهم ينقسمون إلى أربعة أفخاذ: البركي والغربتي والزطّ والنَّوَر, ولكن الذي عرفناه عنهم في سوريا أنهم ينقسمون إلى نَوَر وغرج وقرباط “جولك” وربما تختلف التسميات حسب الأقوام التي عاش الغجر معهم, فعند العرب يُعرفون بالنوَر والغرج, وعند الكرد يُعرفون ب (الجولك والغرجي), وأغلب الظن أنهم ينقسمون إلى قسمين: الغرج والنوَر, فالغرج معروفون رجالهم بامتهان مهنة صناعة الغرابيل والدفوف والطبول من جلود الماعز, وتركيب الأسنان وتلبيسها, والذي عُرف عن رجالهم أيضاً الأنفة وعزة النفس.
يترأسهم كبيرهم وهو الآمر الناهي بينهم, لا يُخالف له أمر, وقد ينصرف بعضهم إلى الصيد مع كلابه السلوقية التي يعتني بتربيتها, ومن بعض الحكايا التي تناقلها المسنّون أن قوماً منهم حطّ الرحال عند بعض الآغاوات من الكرد, وكان بينهم شاب يدعى “جعفر” يمتهن تربية طيور الحجل والصيد بكلابه السلوقية, فعشقته ابنة الآغا وتغنت به, ومنهم من قال إنها هامت به وفقدت عقلها وداحت على إثره تسأل العابرين عنه.
وهناك أغنية كردية وردت على لسان تلك الفتاة العاشقة لجعفر الغجري غناها مغنون شعبيون وتناقلتها الألسن من جيل إلى جيل, وأتوقع أن بعض المسنين مازالوا يحفظونها, وأنا أحفظ منها بعض الأبيات ولكني لا أجرؤ على ترجمتها كون الترجمة تعني إلباس الغجري طقماً وكرافة.
ولكن أحد الفنانين الكرد تغنى بهذه الأغنية قائلاً:
أيها الرعاة
ألم تروا جعفر الغجري … يتجند أقفاصه … وتتلوه كلابه … يعتل جذع جوز على كتفه؟
أيها الغجري الهائم بين الجبال لتصطاد الأحجال … التفت لزوج الأحجال في صدري
واصطدها بشباكك … إذا بليت شباكك… خذ من شعري … يصلح معارف لصناعة الشباك.
ونساؤهم يعملن في التبصير ونقش الوشم وبيع السلك والأبر والمخط والمسلات والعلك “علك البطم” والمرايا الصغيرة, والمشوط , وبعض البخور, وتعرض الغرجية على النساء خدماتها في تطبيع الرجال مع نسائهم عبر بيع من تودّ قطعة من جلد الذيب, أو خرزة تحملها المرأة في جيدها تجعل الرجل رهن إشارتها, وقد تكون خرزة بخت (حظ) تجلب الحظ لحاملتها, وقد تكون خرزة حليب, تضعها المرأة في عنقها لتتدلى بين نهديها لإدرار الحليب لمولودها, و تضع الغرجية كل ذلك في كارتها وتحملها على ظهرها, وتطوف القرية التي تحط الرحال فيها وتعرض بضاعتها للنساء, بالإضافة إلى ممارسة مهنة الوشم بالإبرة ورماد صاج الخبز.
أما النَوَر فهم الفئة الثانية ورجالهم لا يعملون, بل يتّكلون على النساء التي تطوف البيوت لجمع الغذاء اليومي للرجل والأطفال, وغالباً ما تحمل بيدها سطلاً لجمع الطعام وتقوم بخلط كل ما تجنيه في وعاء واحد, لذلك يُضرب المثل بطعام النوَرية على الأمور المختلطة مع بعضها البعض “هذا الأمر مثل طعام النوَرية”. وأكثر الأحيان تجدها تحمل أطفالها على ظهرها وتطوف البيوت, وربما هي اعتادت هذا الأمر الذي باتت لا تجد فيه أية صعوبة, وتحوّل لديها إلى عادة لا تقدر على تركها, وأكثرنا يعرف المثل القائل “يا طاقة اعطيني رقاقة”, ويعود المثل إلى حكاية مفادها بأن أحد الأمراء عشق غجرية وتزوجها وأسكنها في قصره, وذات يوم عاد إلى بيته من سفر فوجد محبوبته قد وضعت في كل طاقة قطعة من الخبز وراحت تبحث عنها وتردد “يا طاقة اعطيني رقاقة”, كناية عن أنه من الصعب عليها أن تترك عادة التسول, والطاقة كل ظني أنها نافذة في الجدار لا تنفذ إلى الخلاء, أما النافذة فتنفذ إلى الخلاء, وأما الرقاقة فهي أحد أسماء قطعة الخبز الذي يرقّ بالمرق ويشوى على الصاج, ويقال له خبز رقاق.
ويُضرب المثل بسرعة البديهة لدى الغجري فيقولون “فلان كالغجري جوابه على رأس لسانه” ويقال إن أحد الاشخاص رأى غجرية حبلى تتسول فأراد السخرية منها فقال: ماشاء الله مملوءة, فالتفتت إليه وقالت: سأكون أكرم منك, اذهب لزوجي ليملأك.
أما الرجل الذي يتكل على المرأة في معيشته فكان يتفرغ لموضوع الصيد وصناعة الأشراك, وقد يربي الحجل, ويقال إن أحد رجالات النوَر تزوج بامرأتين, وذات يوم وقف يصرخ بأعلى صوته بين النزل: “يا جماعة: امرأتان وغير قادرتين على إعالة رجل” وربما هذا الأمر كان في ما مضى. أما الحقيقة فأنا أعرف رجالاً منهم يعملون في الحمالة (العتالة) وفي صناعة البلوك والحصاد, ويعتزون بأنفسهم, وصادقين بوعدهم وأمينين, ومنهم في سوريا أبو عيسى؛ ذلك الرجل الأمين والصادق الذي يحضّر القهوة المرة في الأفراح والأتراح, ومنهم من يمتهن العزف على المزمار ” الزرناية” والطبل, و يدعون إلى إقامة الأفراح ومنهم إسماعيل “سمو”.
ـ حين تضيق أنفاس الغجري
وتنتفخ أوداجه نافخاً في مزماره
فيتسع العالم ولا تحده حدود
وقد يعمل أطفالهم و يمتهنون مهنة مسح الأحذية “بويجية” فيدعون العابرين إلى صناديقهم المزركشة, والغجري ملمّ بالحكايا الشعبية التي يجمعها في ترحاله فتجده مسامراً في أكثر الأحيان وسارداً لقصص وأساطير تعبّرعن مجمع لتراث وثقافة متنوعة.
ولا ننسى أن بعض العائلات منهم انحرفت عن مسارها وتحولت نساؤهم إلى راقصات في الملاهي بدمشق وغيرها من المدن الكبيرة, وربما الأمر لا يقتصر عليهم فقط, فهناك غيرهم أيضاً يتخذ من ذلك مهنة للمعيشة.
يتوزع الغجر في سوريا في جميع المدن, وحسب بعض المصادر فإن تعدادهم قد يصل إلى 250 إلى 300 ألف.
توزّع الغجر في العالم:
يتوزع الغجر على وجه المعمورة في جميع أنحاء العالم بدءاً من العراق وفلسطين حتى روسيا وهنغاريا ورومانيا وفرنسا وإسبانيا والمملكة العربية السعودية ومصر.
وأبرز تواجد لهم كان في فلسطين حيث يترأسهم شكري أنور الناطق الرسمي باسم الغجر, وهم في فلسطين يلقبون بالنوَر, ولا يخفون أصلهم, ومنهم مثقفون بارزون, وهم يرفضون إطلاق اسم الغجر عليهم, ويعتبرون أن نسبهم يعود إلى قبيلة بني مرة العربية (قوم جساس), وهم غير الغجر الذين ينحدرون من أصل هندي, و في العراق يُعتبر الغجر من الأقوام الناقلة للفن الغنائي وألوانه بين القبائل والأقوام, ولا يستهان بدورهم في نقل الحضارات من بلد إلى بلد آخر, فهم يقومون بالدور الذي يقوم به النحل في تلقيح النباتات والأشجار, فهم المسؤولون عن تزاوج الحضارات في بلدان عدة, وكان لهم حضورهم في بلاد الإغريق في القرن الثاني عشر, وتوجهوا باتجاه رومانيا وهولندا, و يعيشون على شكل مجموعات اجتماعية متماسكة يصعب اختراقها, ولكل مجموعة منهم رئيس يتزعّمهم يُلقّب بالكونت أو الدوق, وكلمته مسموعة لدى الجميع ويُعتبر الآمر الناهي للمجموعة, ويدينون بالديانة المسيحية, وكانوا يحملون صكوكاً من البابا في الفاتيكان يسمح لهم بعبور جميع الحدود في أوروبا على ظهور عرباتهم الجوالة وخيولهم.
وبالرغم من ذلك نجد الباحثين الأوروبيين والشرقيين ينظرون إلى الغجر على أنهم قوم لا تربطهم أي ديانة بالمفهوم الديني, فيجدون التزامهم بالدين التزاماً هشاً, سواء بالدين الإسلامي أو المسيحي, ويقول عنهم البعض إن التزامهم بالدين هو التزام شكلي يتظاهرون به أمام الآخرين, وعلى كل الأحوال من خلال معرفتي بهم, وجدتهم يؤمنون بالمزارات والشيوخ, وتجدهم يتلفظون ببعض التعاويذ الشيعية, ويحلفون بالعباس, وكل الظن أنه العباس بن عبد المطلب عمّ الرسول “ص”, ويتخذون من المقابر والمزارات تمائم لهم ولأطفالهم.
وربما أغلبهم انخرط في السكن في المدن و راح يتنصّل من أصله, غير أني وجدتهم في لبنان وفي بيروت تحديداً أن لهم حيّاً خاصاً بهم وهم يعتزون بأصلهم, ويطلقون على أنفسهم النوَر, ويعملون في مهن تعلموها وأتقنوها.
أكثر الدول التي يتواجد فيها الغجر:
يتواجدون في إسبانيا بكثرة ويقدر تعدادهم بما يقارب 750 ألف نسمة, وهم مبدعون بالرغم من قلتهم في موسيقا الفلامينكو, وأشهر الراقصين على أنغام الفلامينكو هو الراقص الغجري “خواكين كوريتس”, ولا ننسى بطل مصارعة الثيران “خوان خوسيه” الغجري, ومنهم الشاعر الأممي “فيديريكوغاريثيا لوركا”, الذي تم إعدامه بالرصاص عام 1936على يد الجنرال “فرانكو” الفاشي وهو يلقي أشعاره ويطالب بحريته بوجه أعدائه:
ـ ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟
قولي لي كيف استطيع أن أحبك إذا لم أكن حراً؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟
ومازال الغجر في إسبانيا يرددون أشعاره, ومازالوا يفتقدون لحقوقهم في تلك البلاد, وشكلوا تجمعات وجمعيات تطالب بحقوقهم, يجتمعون في كل عام للاحتفال العالمي الذي خصصته الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي لرفع الظلم عن الغجر في 8 نيسان من كل عام.
الغجر في ألمانيا:
جاء اضطهاد الغجر في ألمانيا قبل ظهور النازية إلى العام 1899 إبّان الإمبراطورية الألمانية, فقد صدرت فرمانات عدة تمنعهم من التجوال وتحدّ من حريتهم وتعتبرهم أناساً غير مرغوب فيهم, حتى أنهم مُنعوا من مخالطة الناس الألمان وذلك لاعتبارهم أجانب غير مرغوب فيهم بألمانيا, وراح الألمان يتبعون خطوات الغجر في كل مكان, وممارسة الاضطهاد عليهم, ونعتوهم باللصوص والحرامية, ودوّنت سجلات خاصة بذلك, وبعد ظهور النازية في ألمانيا على يد هتلر وحزبه ووضع قانون النقاء العرقي, وعلى الرغم من أن الكل كان يعتبر الغجر من أصول آرية, غير أن النازية لم تاخذ بذلك, واعتبرتهم من العرق الآري غير النقي, وشُكلت مجموعة من الأطباء والعسكريين الفاشيين غايتها تتّبع الغجر والتعرف عليهم, وكان على رأسهم الطبيب النازي “روبرت ريتر” الذي سعى لوضع سجل خاص بالغجر في ألمانيا ودراسة أصولهم وانتماءاتهم, وبالرغم من أنه استخلص بنتيجة دراسته أن الغجر من أصل هندي آري, غير أنه ذهب في دراسته إلى أن عرقهم آري لكنه عرق غير نقي, وبذلك اقترح الدكتور ريتر النازي, بأن العرق النازي بين الغجر لا يتجاوز 10 بالمئة, والباقي بحاجة لتطهير عرقي, وتم تشكيل مكتب خاص عام 1936 بقيادة “هنرك هليمر” زعيم القوات الخاصة, وفي نهاية العام تم إخضاع الغجر للحجر في حقل بالقرب من مصبّ مياه المجارير شرق برلين, وتم محاصرة الحقل الذي تحول إلى معتقل, وتم إنشاء معتقلات في مدن عدة, وتم نعتهم بأعداء المجتمع الألماني, وفي عام 1943 تم جمع ما يقارب من 500 ألف من الغجر من الدول التي تسيطر عليها النازية ووضعهم في معتقل وإبادتهم إبادة جماعية, وأقرت ألمانيا بهذه المذبحة بشكل رسمي, وتم بناء تمثال “نصب” تذكاري في برلين يرمز للمجزرة التي ارتكبت بحق الغجر, وكذلك يتم إحياء ذكرى تلك المجزرة في دول أوروبية عدة منها بولندا التي خصصت اليوم الثاني من شهر آب لإحياء ذكرى المجزرة التي ارتكبت بحق الغجر, كما تم الاعتراف بشكل رسمي من قبل البرلمان الأوروبي بتلك المجزرة عام 2011.
وفي الحقيقة مازال الغجر يعانون من التمييز العنصري في ألمانيا, وقد تم تشكيل مجلس خاص بهم عام 1982 أهدافه المطالبة بالتعويض الذي لحق بالغجر إبان الحكم النازي, ويطالب بدمج الغجر في المجتمع الألماني مع الحفاظ على تراثه الذي مازال متمسكاً به حتى تاريخ هذا اليوم.
والغجر في أوروبا كانوا عرضة للاضطهاد الدائم منذ بداية القرن الخامس عشر, ففي إسبانيا تم تهجيرهم إلى أميركا والبرتغال, وكذلك تم تهجيرهم إلى إفريقيا, وكان الهدف من تهجيرهم هو تأمين يد عاملة في الدول الإفريقية المستعمَرة من قبل الدول الأوربية, والشيء الجمعي لدى الغجر أنهم لا يشعرون بالغربة أينما حلّوا, فهم يعتبرون الكرة الأرضية كلها موطنهم على السواء, ولا يعانون من الغربة أبداً, وللعلم فإن آخر ما طالب به الغجر في أحد المؤتمرات العالمية عبر وقفة احتجاجية, هو منع الدول من تجنيسهم وفرض الجنسية عليهم, وإسقاط الجنسية عمن مُنحوا الجنسية, فهذا ربما هو المطلب الذي يبرهن على أن الغجر ليس لهم أي مطامح في اغتناء أو ثراء, ويكتفون بما يُتاح لهم من غذاء أو ملبس, فكل ما يحتاجه الغجري هي عربة وحصان وامرأة, وبعض الحوائج التي تعينه في الصيد, ومن خلال المعلومات الواردة عن الغجر فهم يعتبرون السرقة أمراً أو فعلاً مشروعاً لهم تقوم به النساء بعد عمر محدد عادة بعد تجاوزها سن الثلاثين, والسبب الذي يرى الغجري فيه تشريع السرقة يرتكن إلى مقولة مفادها أن الجدّ الأول للغجر كان حاضراً في مهرجان صلب المسيح, وقد قام بسرقة أحد المسامير التي أُريد بها صلب المسيح, ومن تلك اللحظة شرّع الربّ للغجر السرقة, ورُفعت عنهم جميع الخطايا المتعلقة بالسرقة, والغجري الذكر لا يمارس السرقة بل يعتبرها معيبة بالنسبة للرجل وأمراً مشيناً, فالسرقة تختص بها النساء, وتقوم بها النساء ضمن شروط محددة, فلا يُسمح للغجرية أن تقوم بسرقة الفقراء, ولا يحق للغجرية أن تسرق الغجرية, ولو حدث هذا الأمر ستتعرض السارقة للعقوبة, ولا يجوز للغجرية أن تمارس الفحشاء ولو مارستها ستنتظرها عقوبة الموت, ولا يحق لها أن تحب غير الغجري, ولا يحق لها الزواج من غير الغجري, وكذلك الغجري أيضاً لا يحق له الزواج من غير الغجرية.
الغجر في روسيا:
غجر روسيا يدعون بغجر الكلديراش, ومن خلال البحث عن تاريخ الغجر في روسيا لم نعثر على أي تمييز مورس بحقهم, سوى الاضطهاد الذي تعرضوا له في بروسيا التي تُعتبر جزءاً من الإمبراطورية الألمانية, وذلك على إثر صدور قانون يشابه القانون الذي صدر في ألمانيا النازية عام 1927, ويبلغ تعداد الغجر في روسيا أكثر من ربع مليون عاشوا يتنقلون في أرجاء روسيا على ظهور عرباتهم وخيولهم حتى الغزو النازي للاتحاد الشوفيتي, الذي حاول بكافة الطرق أن يجعل من الغجر سكاناً يستوطنون الأرض والحدّ من ترحالهم, وقد أجمع جميع الكتّاب والمؤرخين على أن الاتحاد السوفيتي فشل في سياسته تجاه الغجر ولم تستطع الحكومة السوفيتية الحد من ترحالهم, ولكنهم إبان انهيار الاتحاد السوفيتي تعرضوا للاضطهاد وتم نعتهم بتجّار المخدرات واللصوص, غير أن أغلب الكتاب نفى تلك التهمة عن الغجر, وكان لهم حضورهم في الأدب الروسي ولا سيما الشاعر “ألكسندر بابوشكين” الذي كتب قصيدة مطوّلة عن الغجر, ويجب ألاّ يفوتنا أن نتذكر الفيلم الجميل للمخرج السوفيتي “إميل لوتيانو” سنة 1975 (الغجر يصعدون إلى السماء) بالاستناد إلى قصة أبدعها الكاتب “مكسيم غوركي”.
طقوس خاصة بالغجر:
المجتمع الغجري مجتمع محافظ على عاداته وتقاليده بالرغم من أن بعض المجتمعات رشّت عليهم بعض الصفات غير الصحيحة, فالبعض سرد عنهم أنهم يختصون بسرقة الأطفال, والحقيقة أن هذه الصبغة تنافي الحقيقة, حيث اتخذها بعض الرواة وحاكوا عليها بعض القصص البعيدة عن الحقيقة, فالغجر ليسوا بحاجة للأطفال حتى يقوموا بسرقتهم, فعندهم من الأطفال ما يكفي, بالإضافة إلى أن الغجر لا يبيعون أطفالهم, ولم يصدف في أي تحقيق ورد سرده أن الغجر يبيعون الأطفال, سوى في الروايات وبعض المسلسلات, وبعض الكتّاب والرواة اتخذهم لكتاباتهم ورواياتهم بيئة خصبة لتأليف حكاية أو قصة أو رواية أو أسطورة, والذي عُرف عن الغجري أن كل ما يطمح إليه هو أن يمتلك عربة وحصاناً قوياً, ولا تهمّه البلدان أو الدول أو الثروات الطائلة, فالغجري وُلد للترحال, ويبررون ترحالهم بعدد من الروايات منها: أن الترحال فُرض على الغجر كعقوبة من الربّ, فجدّ الغجر الذي كُلّف بحماية المسيح غفل عنه أثناء نوبة بشربه للخمر, فعوقب من قبل الربّ بالترحال الدائم, ومنهم من يردّها إلى أسطورة أخرى بأن الجد الأول للغجر هو من قام بتصنيع المسامير التي صُلب بها المسيح, وهناك أسطورة تحاكي الخليقة فتقول إن أول البشرية هم ثلاثة أولاد رُزق بهم آدم, وكان من بينهم الأبيض الذي هو جدّ الأوروبيين والثاني الأسود وهو جدّ الأفارقة والثالث هو من قام بقتل أخيه وهو جدّ الغجر, لذلك “هام” هو وذريته ندموا على أخيه المقتول.
والغجري يحافظ على زوجته وعربته واسمه حتى الممات, ووفق الإحصائيات فإن عادة الطلاق أو الانفصال الأسري قليلة بين الغجر, فالغجري على أسرته حافظٌ متعصب, وبعدها عربته وحصانه, فالعربة التي يقودها الغجري خلف حصانه لا يحق لأحد أن يركبها من بعده, فتحرق على إثر وفاته, وفيما صدف كان الغجري الذي لا يمتلك عربة يستعاض عنها بحرق الخيمة التي يسكنها, والغجري يمتلك قبراً واسعاً, فالأشياء التي يحبها الغجري ويثمنها لا يمكن أن تُترك ليستعملها من بعده أي شخص حتى أبناؤه, فكلها تُدفن معه في قبره, وكذلك المرأة, وللغجري ثلاثة أسماء؛ الأول لا يعرفه غير أمه, وربما حتى هو لا يعرفه, تهمسه أمه في أذنه لحظة الولادة, ولا نعرف السرّ من وراء هذا الاسم المبهم الذي تحتفظ به الأم لذاتها, وربما هو الاسم الذي تهمس به الأم للرب, فيُعرف به عند الرب فقط, وهو الشاهد الوحيد على حقيقة هذا المولود, والاسم الثاني يُطلق على المولود ويُعرف به بين جماعته أو قبيلته, ولا يحق للغرباء من خارج الجماعة أو القبيلة الاطلاع عليه, وأما الاسم الثالث فيُعرف به الغجري بين العامة من خارج الجماعة أو القبيلة, والحقيقة لو بحثنا عن سرّ هذه الأسماء سنقف أمامها محتارين, فالثاني ربما يُعتبر اسماً سرياً يُعرف به الغجري بين جماعته فقط, وهو كما الاسم الحقيقي, أما الثالث فربما هو اللقب الذي يُعرف به لدى العامة.
وفي بلغاريا يدعى الغجر بعشيرة الروما, وهم قوم محافظون لا يزوّجون الغير, لهم موسم خاص بالزواج في مكان متفق عليه حيث تتجمّل الفتيات والشبان بصحبة الأهل, وهناك يباح اللقاء بين الفتيان والفتيات ويتم الاختيار بين الفتاة والشاب بالاتفاق, وللعلم فإن الفتاة الغجرية يجب أن تحافظ على عذريتها من أجل عريسها, وفي حال وقع غير ذلك فإن الفتاة نصيبها سيكون مجهولاً ويُترك للأقدار.
الغجر في الأدب العالمي:
ربما أول عمل أدبي يقفز إلى ذاكرتك من خلال العنوان أعلاه, هي رواية ماركيز “مئة عام من العزلة”, ذلك الكاتب الأمريكي اللاتيني الذي رصد من خلال روايته حياة الغجر وهم يتعربشون بعرباتهم, يمارسون طقوسم ومهنتهم في قراءة الطالع لكل فرد من القرية التي حاك ماركيز خيوط روايته من حولها, ورسم طالع القرية عبر مدوّنة من قبل الغجري الحكيم الذي يتنبأ بمستقبل القرية.
رواية “أحدب نوتردام” لفيكتور هوغو الكاتب الفرنسي الذي تطرّق للغجر راسماً ملامح شخصياته من خلال وصفه للغجر, بذات الصفة التي عرفها الأوروبيون عن الغجر في خطفهم للأطفال من خلال شخصية الراقصة “أزميراليدا” الطفلة التي تم خطفها من قبل الغجر, وربما أراد فيكتور هوغو أن يرسم مصير بطلة روايته أزميراليدا كما يريده الفرنسيون أن يعرفوه عن الغجر كخاطفين للأطفال, وتظهر روح بطلته الإنسانية بردّها إلى المجتمع الفرنسي بعيداً عن الغجر, وربما لو أبقى الكاتب بطلته الإنسانية في ذات المجتمع الغجري لحمل بعض العبء عن ذلك المجتمع.
رواية “الغجرية” للكاتب الإسباني “سرفانتس” حيث يسرد الكاتب حياة الغجر من خلال بطلة الرواية بريثيوسا ويتطرق لحياة الغجر في ترحالهم الدائم.
ورواية واسيني الأعرج “الغجر يحبون أيضاً” التي تتحدث عن المحرقة النازية بحق الغجر.
ومن خلال الاطلاع على معظم ما كتبه من كتّاب وأدباء عن الغجر, فقد أظهروهم على أنهم قوم لصوص وأصحاب نزعة شريرة وهمجية ويسرقون الأطفال, والحقيقة أن هذا الإظهار للغجر هو عبارة عن تسويق للمادة الأدبية على حساب شعب بعيد كل البعد عمّا يذهب إليه معظم الأدباء والكتّاب, حتى إني اطّلعت على رواية حديثة الصدور يقول فيها الكاتب وهو يتحدث على لسان زوجة الأب التي تريد التخلص من ابنة زوجها: “قدمت الطفلة للغجرية العجوز وقالت لها: خذوها واذبحوها واجعلوها عشاء لكم, فنظرت الغجرية إلى نحافة الطفلة فرفضت شراءها”.
أظن أن الكاتب أراد سرد شيء خيالي على حساب شعب فقير ومشرّد, ويريد إظهار الغجر على أنهم قوم يأكلون الأطفال, والحقيقة أن هذا كله يجري في القرن الحادي والعشرين, ومن المعيب على أي كاتب أن يسوّق مادته على حساب شعب عريق وأصيل, ومن المؤكد أن بعض الكتّاب ذهب إلى إظهار حقيقة الغجر, وتحدث عن منجزاتهم وخدماتهم للبشرية, ومَن يستطيع أن يتناسى رقصة الفلامينكو و كمنجات إسبانيا وقيثارة هنكاريا, وهناك من الكتّاب الذين اهتموا بحياة الغجر وكتبوا ما رأوا من المجتمع الغجري, ومنهم الكاتبة البولندية “بروفسلافا واجس بابوسا” التي رصدت حياة الغجر على حقيقتها, فبدأت بدراسة الأسلوب المنفرد للغجر في رقصهم على أنغام القيثارة وغنائهم الفطري والشفوي, وقصصهم وأشعارهم التي جمعت كل ما يخص الغجر من تراث وزيّ وحكايا في كتاب.
وكذلك رصد الكاتب الصربي “راد آوليك” أشعار الغجر وجمعها في كتاب وقدمها للبشرية, وربما الكل يعي الرسالة التي قدمها الغجر للبشرية, في نقلهم للفن من شعب إلى شعب أخر ودمجه مع بعضه البعض حتى نتج لون جديد من الفن.
عَلَم الغجر:
تم تأسيس العلَم الغجري واختيار ألوانه وشعاره عام 1933 وصدّق عليه المؤتمر الدولي عام 1971 واعتُبر علَماً خاصاً بالغجر.
للغجر كما للشعوب الأخرى علمهم الخاص بهم, وألوانه من الأعلى للأسفل: الأزرق والأخضر ويتوسّطه دولاب عربة خشبي باللون الأحمر, وربما الأزرق يرمز للسماء التي يعتبرها الغجر غطاءً لهم, واللون الأخضر يرمز للربيع والحياة والبحث الدائم عن الأرض المعشوشبة, ودولاب العربة رمز للترحال الدائم تحت السماء سعياً وراء الأرض الطافحة بالعشب والحب الدائم للحياة, وربما تغير الأمر مع الغزو المادي للحياة.
يقول الغجري:
سيد المصابيح الزرق…
لم تعد تسكرني الدروب والجبال بعريها الخريفي…
لم تعد تتفايض الأقداح بنشوتها… ولم تعد الأنغام تراقص أعراف الخيل وسروجها ولم تعد الدروب هي الدروب… والسماء ليست كالسماء في شروقها وغروبها وأنا أشكُّ بأنا…
تبسّمت سيدة الوداع المفلطح فنثرته وقالت: إذاً؛ لم تعد تعرف أوداجك المنتفخة بجرعة الحزن على مفترق الدروب ولم يبقَ منك إلا هيكل رابض في مكان لا يتّسع لغيرك
شاحت بوجهها ولملمت مناثيرها وتوشحت غرابيلها ومضت عنه…