افتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 52

الحضارة الإسلاميّة وتلاقحها مع الحضارات الأخرى

 جميل رشيد

الحضارة الإسلاميّة وتلاقحها مع الحضارات الأخرى

 جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد

ينقسم الباحثون في العالم الإسلاميّ بين اتّجاهين فكريّين، حيال تَأثُّر الحضارة الإسلاميّة بمثيلاتها من الحضارات الإنسانيّة الأخرى، وخاصّة الغربيّة والفارسيّة منها. ففي حين يرى قسم منهم أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تَشُبْها شائبة، على العكس ظلّت تُلقي بآثارها على الحضارات الأخرى وطبعت مرحلة معيّنة من التّاريخ بطابعها الخاص، من حيث الإنتاج الفكريّ والإبداع والفنون الأدبيّة والعلوم التطبيقيّة الأخرى كالطُبِّ والهندسة والفلك والفيزياء والكيمياء، وذلك حينما كانت تمثّل مركز القوّة السياسيّة والاقتصاديّة في العالم وتسيطر على طرق التّجارة العالميّة، كطريق الحرير وباب المندب.

هذا في حين ينظر عدد آخر من الباحثين والمفكّرين العرب والأجانب، أنّ الحضارة الإسلاميّة انغلقت على نفسها ولم تتجرّأ على فتح الأبواب على مصراعيها أمام تطوّر الفكر والعلوم، من خلال تلاقحها مع الحضارات الأخرى وتبادل الخبرات والمعارف معها، بل ظلّت أسيرة النّصوص الدّينيّة وفتاوى رجال الدين، التي رسمت دوائر من المحرّمات حول كلّ ما من شأنه أن يطوّر مَلَكَة البحث العلميّ والفكريّ لدى المهتمّين بالفكر والعلوم، واعتبرت أنّ الأخذ بأسباب التطوّر العلميّ، إنّما يُعتبر كفراً ويستوجب إنزال عقوبة القتل بصاحبه، وهو ما حصل للعديد من العلماء الذي أخضعوا حتّى النّص الدّينيّ لتحكيم العقل والتحليل المنطقيّ، فيما تعرّض عدد من العلماء في مجال الطُبِّ والهندسة والفلك لاتّهامات بالزندقة والهرطقة، أودت بهم إلى تنفيذ حكم الإعدام بهم وتقطيع أوصالهم وحرقهم، مثل “الرّازي وشعراء المعتزلة وأبو منصور الحلّاج” وغيرهم، مثلها مثل القارّة الأوروبيّة التي عانت من أحكام الإعدام التي تعرّض لها العلماء في ظلّ حكم الكنيسة في القرون الوسطى التي ساد فيها الظلام.

غير أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تتمكّن أن تنأى بنفسها عن مؤثّرات الحضارات الأخرى القريبة منها جغرافيّاً وحتّى البعيدة. فلا يمكن قطع الانسيابيّة التّاريخيّة والتسلسل الزّمنيّ له وفق تصوّرات ورؤى ورغبات معيّنة، أو إخضاع حضارة برمّتها لأهواء ومصالح السُّلطات، دينيّة كانت أو غير ذلك. فالعلوم والأفكار لا تعرف المُحرّمات والحدود التي وضعها لها البشر، بل تسير في ثنايا العقل البشريّ، باعتبارها أوّلاً وأخيراً نتاج العقل وليست مجرّدَ نقل عن آخر يميّزه عنه. والحضارات، وبغضِّ النّظر عن الزّمان والمكان، دائمة التّفاعل فيما بينها، ولا نهمل العنصر الإيديولوجيّ المُغلّف لها، إلا أنّها في ذات الوقت تحمل في جوهرها قوّة كمونيّة، تتجاوز في أبعادها الإنسانيّة كلَّ الموانع أو حالات الاحتكار، فهي دائمة البحث عن آفاق رحبة وتنتقل من مكان إلى آخر، كجزء من العمليّة المعرفيّة التي ولدت، بالفطرة، مع الإنسان.

إنّ الخوضَ في موضوع تأثّر الحضارة الإسلاميّة بغيرها من الحضارات الأخرى، لَهُوَ موضوع أبحاث طويلة وشائكة، ويكتنفها العديد من المسائل والقضايا التي لا تزال بحاجة إلى تسليط الضوء عليها، وإزالة كافّة المؤثّرات الدّينيّة والقومويّة عنها، والتي تشكّلت فيما بعد. ويتطلّب في البداية التحرّر من القيود الدّينيّة، والتحلّي بنظرة وقدر كافٍ من الموضوعيّة، وعدم الانحياز لأيّ من الأطراف التي تَدّعي امتلاكها كلّ العناصر المُولّدة والمُنتِجَة للحضارة دون سواها، وكذلك عدم الوقوع في أفخاخ دُعاة الاستئثار بالعلوم والمعارف والفكر، وأنّ الآخرين نهلوا من “معارفنا وعلومنا”، ولم نتأثّر قطّ بحضارات الآخرين.

سنتناول في دراستنا المُقتضبة هذه، تأثير الحضارات الأخرى على الحضارة الإسلاميّة، وخاصّة في العصر العبّاسيّ، الذي شهد انفتاحاً على الحضارات الأخرى، وخاصّة اليونانيّة والفارسيّة، وتشكّل مدارس عديدة في الترجمة والفلسفة وتدوين التّاريخ والعلوم الأخرى. فالنقل المباشر لأفكار أفلاطون وأرسطو وهيرودوت وغيره من المفكّرين والفلاسفة اليونانيّين، كان بداية نشوء حركة فكريّة أخضعت كلّ ما كان يُعتقد أنّه من المُسلّمات لمنطق المحاكمات العقليّة والمنطقيّة، وخلقت مناخاً فكريّاً قطعت مع النّسق التّاريخيّ السائد منذ قرون في المنطقة، من حيث إقحام العلوم والمعارف ونشرها بين العامّة، والارتقاء بها وتطويرها، دون إسقاطها إسقاطاً ميكانيكيّاً على واقع الشرق المُثقل بالدوغمائيّات والإيديولوجيّات الدّينيّة، والتي تحوّلت إلى سلطة أحكمت قبضتها على مجتمعاتها.

سنحاول قدر الإمكان أخذ الموضوع في سياقه التّاريخيّ، دون الانحياز لأيٍّ من الاتّجاهات الفكريّة التي تدّعي أحقيّة امتلاكها لكلّ عناصر الحضارة دون سواها، أو تلك التي تنسف كلَّ ما هو آتٍ من الخارج، وتتّهم الآخرين بتهم جزاف، من قبيل الانسياق وراء الغرب أو رفض كلّ ما هو غربيّ.

 

بداية العصر العبّاسيّ الأوّل وتأثُّره بالثّقافات الأخرى

بدأ العصر العبّاسيّ الأول، وفق تصنيف علماء التّاريخ من عام (750) ميلادي وانتهى عام (861) ميلادي، وذلك بعد أن أطاح “أبو مسلم الخراساني/ الكرديّ الأصل” وبالاشتراك مع “أبو العبّاس”، الذي سُمّي بـ”السفّاح”، بسلطة الأمويّين، عندما قتلوا آخر خلفاء بني أميّة “مروان الثّاني بن محمّد” والذي أطلق عليه اسم “الحمار” لجهله بأمور الحكم وإدارة البلاد.

بعد أن استتبّ الحكم لصالح العبّاسيّين، عمدوا إلى تصفية جميع خصومهم، وخاصّة سلالة بني أميّة، فيما فرّ أحدهم إلى الأندلس وأقام هناك ولاية خاصّة به، بعيدة ومستقلّة عن سلطة العبّاسيّين.

شهد العصر العبّاسيّ الأوّل حركة فكريّة ونقلاً للعلوم والمعارف من الحضارات الأخرى، وتطوّرت اللّغة والعلوم والموسيقى تطوّراً ملحوظاً، وذلك بدعم من الخلفاء العبّاسيّين.

إنّ نقل عاصمة الخلافة الإسلاميّة من دمشق إلى الكوفة، ثمّ الأنبار وبعدها إلى بغداد التي شيّدها الخليفة المأمون إلى أنّ نقلها المعتصم إلى مدينة “سامراء” التي سُمّيت حينها باسم “سُرُّ من رأى”. هذا التغيير هو في حدّ ذاته يعتبر نقلة نوعيّة في مفهوم الحكم الإسلاميّ. وبالتّالي انتقالها من حالة الخلافة إلى “الدّولة” بكامل أركانها المعروفة؛ يمثّل انفتاحاً على الحضارات الأخرى وخروجاً من الإطار الإيديولوجيّ الضيق وحالة الانغلاق التي مرّت بها الحضارة الإسلاميّة في العهدين الرّاشدي والأمويّ، حيث تغلغلت العديد من الثّقافات في عَضُد الدّولة العبّاسيّة، الذي أخذ أشكالاً متعدّدة، ولأوّل مرّة في التّاريخ الإسلاميّ تمّ تعيين وزراء للعسكر والمال (الخزينة) وتأسيس جهاز مختصّ للقضاء، ينزع نوعاً ما إلى الأخذ بالقوانين الوضعيّة المُستقاة من القانون اليونانيّ والفارسيّ، حسب بعض المؤرّخين أمثال المسعوديّ والطبري وغيره من مؤرّخي تلك الفترة.

كما أنّ التوسّع الجغرافيّ للدّولة العبّاسيّة، ودخول أقوام وثقافات أخرى إلى الإسلام، ولّد معه عمليّة تبادليّة للثّقافات التي تحملها وتمثّلها، فضلاً عن تأثُّرها بالإسلام كدين وثقافة، ونقلت معها موروثها من العادات والتّقاليد والعلوم والمعارف، لتضعها في خدمة الدّولة العبّاسيّة، إن كان بشكل مباشر، عبر فتح مدارس بلغاتها الأم ضمن ما كان يُسمّى حينها بأراضي “الدّولة العبّاسيّة”، أو من خلال ترجمتها إلى اللّغة العربيّة. ولم تتمكّن الحركة المعارضة لعمليّة التّلاقح الثّقافيّ بين الحضارات من لجم الشغف الكبير لدى العامّة والنُّخب الثّقافيّة والعلميّة حينها من نقل ما يدور حولهم والقبول بالعيش ضمن قوقعتهم فقط. فأمثال الغزالي وفتاوى ابن تيميّه لم تَعُدْ لها تلك القيمة أمام نشر آخر ما توصّلت إليه الفلسفة الإغريقيّة والهنديّة والعلوم الفهلويّة، بل على العكس تماماً شهدت الفترة الأولى من العصر العبّاسيّ في عهدي “الرّشيد وابنه المأمون” دعماً وتشجيعاً للعلماء والفلاسفة حتّى أطلق على عهدهما اسم “العصر الذّهبيّ”.

ولقد ساهم الرّوم والسُّريان والفرس ممّن عاشوا بين ظهراني الدّولة العبّاسيّة في نقل وابتكار اختراعات جديدة ومفيدة للدّولة، بعد أن أسقطت الدّولة العبّاسيّة كافّة القيود عن عمليّات النّقل والترجمة، وانتقال الأفراد بحُرّيّة من وإلى كافة الأمصار والبلدان التي شهدت قفزات كبيرة في مجالات العلوم والفكر والفلسفة. ففي مجال الرّياضيّات؛ نقلت إلى العربيّة نظريّات “فيثاغورث وتالس” في الهندسة والجبر والفيزياء، بل أضيف إليها من قبل “ابن الهيثم”.

 

حركة التّرجمة ونقل العلوم في العصر العبّاسيّ

الطفرة التي شهدها العصر العبّاسيّ الأوّل في مجال حركة التّرجمة ونقل العلوم والمعارف من الحضارات المعاصرة لها أو تلك التي سبقتها، وضعتها على أعتاب مرحلة جديدة زاخرة بالحركة والحيويّة الفكريّة والمعرفيّة، وأطاحت بالعديد من التّابوهات السّائدة حينها. فرغم المخاطر التي حملت معها من خلال احتكاكها بالثّقافات الأخرى، عبر تغلغل عناصر طمحت للوصول إلى السلطة بشكل مضمر، إلا أنّها تطوّرت بكلّ قوّة وانتشرت بشكل واسع.

فالتّفاعل الحضاريّ بين الشّعوب في مجالات العلوم والفلسفة، فجّر الطّاقات الكامنة لدى المهتّمين بها، فأضافوا إليها إبداعات جديدة. ففي مجال اللّغة؛ تأثرت اللّغة العربيّة، التي هي لغة القرآن الكريم، باللّغات الفارسيّة واليونانيّة وحتّى الإسبانيّة، حيث أدّى إلى ازدهار اللّغة العربيّة، ودخلت العديد من المصطلحات إليها، مثل كلمة “بيمارستان” الفارسيّة الأصل، والتي تعني “المستشفى”، وكذلك “عمق” الدّارجة والمتعارف عليها على أنّها كلمة عربيّة، غير أنّها مأخوذة من الكلمة السُّريانيّة “عمقو”، وكذلك قال أحد الشعراء العرب في الأندلس قصيدة باللّغة العربيّة، إلا أنّ كلماتها كانت إسبانيّة، حينما قال: أَلْتُ ديّا.. أَش تُديّا..”. فيما ظهرت مصطلحات جديدة، بعد أن تمّ ترجمتها إلى العربيّة، مثل “الجوهر، الحدّ، الجبر، العنصر، الترياق، النظريّة، الفرضية، البرهان، ..”، وهو ما شكّل ردّة فعل لدى الشاعر البُحتري لأن يقول: “أراكم تتكلّمون بكلامنا، في كلامنا، بما ليس في كلامنا”.

ويذكر العديد من الباحثين تأثير اللّغات الوافدة إلى الدّولة العبّاسيّة أثناء الخلط مع الأقوام والشّعوب الأخرى، ما أدّى إلى نشوء اللّهجات المحلّيّة في العربيّة، أي أنّ الجذر اللّغويّ للّهجات هو ما ظهر من دخول كلمات ومصطلحات أجنبيّة إلى اللّغة العربيّة خلال الفترة الأخيرة من العصر العبّاسيّ الثّاني وسيطرة عناصر غير عربيّة مقاليد الإدارة والحكم فيها. ويذكر الكاتب “محمّد الخضريّ” في كتابة “الدولة العبّاسيّة” أنّ “الاختلاط بين الشعوب، وبشكل تدريجيّ، أدى إلى نشوء اللّهجات المحلّيّة في العربيّة، خصوصاً خلال عهد الدّولة المتأخّر”. ويضيف “إنّ سبب نشوء اللّهجات واختلافها يعود إلى اللّغات التي كانت سائدة من قبلُ؛ فتأثّرت اللّهجات الشّاميّة والعراقيّة بالسُّريانيّة، واللّهجة المصريّة بالقبطيّة، أمّا لهجات المغرب العربيّ فقد تأثّرت باللّغتين الأمازيغيّة والبربريّة”.

وفي مجال فنون العمارة، استقى المعماريّون العبّاسيّون أنماطاً من العمارة الآشوريّة، وكذلك الفارسيّة التي تجاورهم، فاشتهرت العاصمة العبّاسيّة الجديدة “بغداد” بالأبنية والعمارات ذات الطراز المعماريّ الآشوريّ والفارسيّ على وجه الخصوص، واعتمدوا على الفسيفساء والزّخرفة البيزنطيّة في تزيين قصور الملوك والسّلاطين والخلفاء، فيما اعتمدوا النّموذج الدّائريّ في البناء، واستخدام الحجارة بدلاً من الطين والآجر. وبرز النحّاتون الفرس في إضفاء الطابع الفارسيّ على مجمل العمارات في أرجاء الدّولة العبّاسيّة، بعد الامتداد الفارسيّ داخلها عن طريق التبعيّة المذهبيّة الشيعيّة، التي لاقت انتشاراً واسعاً لها إبّان العصر العبّاسيّ، لا بل حتّى في مجال الموسيقى أيضاً؛ حيث تأثّرت الموسيقى العربيّة بالفارسيّة والكُرديّة، حسبما يذكر “الطبري” في كتابه “تاريخ الأمم والملوك”.

ويذكر “الطبري” في كتابه “أنّ الخليفة العبّاسيّ “المأمون” أحبَّ غناء “سلمك الفارسي”، فيما كان يروق له سماع الغناء الإغريقيّ اليونانيّ أيضاً، حيث أمر بترجمة الأصول النظريّة للموسيقى إلى العربيّة؛ فشكّل بذلك أساس العلوم الموسيقيّة النظريّة لدى العرب والمسلمين. فيما يَرِدُ ذكر الموسيقار “زرياب” الكُرديّ الأصل الذي طوّر آلة العود بأن أضاف إليها أوتاراً جديدة، بعد أن اخترعه الكُرديّ الموصليُّ المسيحيّ “إسحق الموصليّ”.

وعلى هذا الأساس تؤكّد العديد من الدّراسات الموسيقيّة الحديثة والقديمة أنّ “الموسيقى العربيّة قد تمازجت واختلطت بأنواع الموسيقى السُّريانيّة والفارسيّة، وشكّلت معها مزيجاً متماسكاً وجديداً حتّى القرن العاشر، حين أدخلت وفود قبائل السّلاجقة والأكراد الآلات النفخيّة، كالناي، وأخذت تحلّ مكان الآلات الموسيقيّة الوتريّة، التي كانت العماد الرّئيسيّ للموسيقى العربيّة، ما دفع عدداً من المؤرّخين لإبداء استيائهم من هذا التغيّر”.

من جانب آخر ازدهرت حركة الترجمة ونقل الكتب من اللّغات الأجنبيّة إلى اللّغة العربيّة، فتُرجِمت كتب “إقليدس” في الرّياضيّات والفلسفة، وكذلك فيزياء وكيمياء العناصر، ونظريات “أرخميدس وبطليموس” وغيرهم من علماء الغرب في الطُبّ والرّياضيّات والهندسة، وباتت تُدرّس في التكيّات (المدارس حينها) وفي دور العلم والمعرفة المنتشرة بكثرة في كافّة أقاليم الدّولة العبّاسيّة.

يُعدُّ “عبد الله بن المقفع” أوّل من اعتنى بالترجمة، حين نقل من “البهلويّة” أو “الفارسيّة” القديمة، كتاب “كليلة ودمنة”، إلى اللّغة العربيّة. كما ترجم أيضا كتابا فارسيّاً يُدعى “خدينامه”، يتحدّث عن تاريخ ملوك الفرس، ثمّ غيّر اسم الكتاب وأطلق عليه اسم “سِيَر ملوك العجم”.

لكنَّ اللّافت في حركة الترجمة حينها، أنّها كانت تتمّ على أيدي من يُسمّيهم المسلمين “الأعاجم”، أي من غير العرب، نظراً لأنّ العرب لم يجيدوا اللّغات الأخرى كالفارسيّة والإغريقيّة والفهلويّة والكُرديّة، وغالباً ما كانت الكتب تترجم على أيدي السُّريان، حيث كانت تترجم إلى اللّغة السُّريانيّة ومن ثمّ إلى العربيّة، مثل كتب “أرسطو وأفلاطون”. هذا فيما شاعت أسماء عدد من المدن في العصر العبّاسيّ الأوّل واشتهر اسمها بحركة التّرجمة مثل “بُخارى وجُنْدَيْسابور والرّها/ حرّان/ أورفا”.

كما يذكر “ابن العبري” في كتابه “تاريخ مُختَصر الدّول”، أنّ “حُنين بن إسحق” وهو “نسطوريّ”، “يُعدُّ من أعظم مترجمي مدرسة “جُنْدَيْسابور”، حيث اختصّ بترجمة العلوم والكتب من اللّغة اليونانيّة إلى العربيّة، رغم أنّه تعلّمَ العربيّة في سنٍّ متأخّرة”. ثمّ يضيف أنّ “ثابت بن قره”، الكُرديّ المنحدر من “حرّان”، برع في ثلاث لغات؛ اليونانيّة، السُّريانيّة والعربيّة، وترجم إلى العربيّة وألّف ما يربو إلى مائة وخمسين كتاباً في المنطق والرّياضيّات والفلك والطُبّ، وخمسة عشر كتاباً آخر بالسُّريانيّة”.

ويذكر الكاتب “كريم الهاني” في مقالة له تحت عنوان “حركة التّرجمة في العصر العبّاسيّ” أنّ الكاهن المسيحيّ “يوسف الخوري” الذي ترجم، نحو عام 908 م، كتاب “أرشميدس في المثّلثات”، قبل أن ينقّح “ثابت بن قره” هذه التّرجمة لاحقاً، كما ترجم كتاب “جالينوس” في الأمزجة والقوى البسيطة، وقد نقّحه “حُنين” فيما بعد”. وأضاف أنّ مسيحيّاً سُريانيّاً يُدعى “قسطا بن لوقا البعلبكيّ” ترجم كتباً “لإبسقلاوس، وكتاب “الكرويّات لثيودوسيوس”، وأيضاً نقّحه “ثابت بن قره” لاحقاً.

 

أهميّة “الفتوحات” في نقل العلوم والمعارف

ساهمت الحروب التي شنّها المسلمون على بلاد الغرب تحت اسم “الفتوحات”، إلى نقل علومها ومعارفها إلى بلدانهم، وساعدت “الفتوحات الإسلاميّة” في الحصول على مراكز علميّة بارزة آنذاك، شكّلت أساساً لانطلاقة علميّة كبيرة وبارزة في البلدان الإسلاميّة والمشرق عموماً.

ويسهب الكاتب “كريم الهاني” في مقالة أخرى له تحت اسم “أهمّ المراكز العلميّة التي غزاها العرب”، يتحدّث فيها عن أهميّة الفتوحات الإسلاميّة في نقل العلوم والمعارف، ويعتبرها أنّها كانت المفتاح في انتقال العلوم اليونانيّة إليهم. ويعدّد إحدى أسبابها الكثيرة، وفق قوله، بأنّ “ما تُسمّى بـ”الفتوحات الإسلاميّة” لم تكن مجرّد حركة توسّعيّة في الجغرافيا… سرعان ما سيدرك العرب بعدها، أنّهم حازوا على مدن في البلاد “المفتوحة”، كانت مراكز علميّة جدّ مهمّة آنذاك”.

وبرز في خضمّ “الفتوحات” التي قام بها المسلمون، بعد أن وصلت إلى حدود الصّين وفرنسا، أنّ تلك الدّول شهدت نهضة علميّة متقدّمة عليهم، قد نهلوا من معارفها وعلومها، كما نقلوا قسماً من مدارسها إلى بلدانهم، فضلاً عن ترجمة الكثير من الكتب والمراجع العلميّة، بعد أن كانت تلك البلدان قد قطعت شوطاً كبيراً في عمليّات البحث العلميّ وتطوّر الفكر الفلسفيّ الذي انطلق من أثينا وتطوّرّ خلال سيطرة الإمبراطوريّة الرّومانيّة في الغرب والبيزنطيّة في الشرق.

ويذهب عدد من الباحثين إلى الاعتقاد أنّ الحروب الصليبيّة، التي يُسمّيها البعض “حروب الفرنجة” مثل الدّكتور في التّاريخ واللّغات الميّتة البروفيسور “محمّد محفّل”، وأنّها لم تمثّل رغبات وتوجّهات الكنيسة الكاثوليكيّة آنذاك، بل مثّلت حرباً للسيطرة على البلدان بطابع ولَبوس دينيّ مسيحيّ، ولا يمكن بطبيعة الحال إسقاط صفة الاحتلال عنها، يدّعي أنصار هذا التوجّه أنّ الحروب الصليبية نقلت معها كثيراً من معارف وعلوم الغرب إلى الشرق.

ويرد في كتب التّاريخ أنّ “الإسكندر الكبير المقدونيّ”، وعندما غزا مناطق الشرق، كان يرافقه دائماً الفيلسوف “أرسطو”، إضافة إلى المؤرّخ “كزنفينون” وآخرين من فلاسفة وعلماء مقدونيا، وأنّ “الإرث الذي حمله الإسكندر ساهم في التّمازج الثّقافيّ الذي خلقته فتوحاته، فقد تمكّن من خلط الثّقافة الإغريقيّة الهلينيّة بالثّقافات الشّرقيّة المختلفة للشعوب الخاضعة له. كما أدّى إنشاؤه للمستعمرات الإغريقيّة الكثيرة في طول البلاد وعرضها، إلى خلق حضارة هلينيّة جديدة، استمرّت مظاهرها بارزة في تقاليد الإمبراطوريّة البيزنطيّة حتّى منتصف القرن الخامس عشر”.

يبدو أنّ التاريخ يكرّر نفسه مرّات عديدة، فأثناء حملة نابليون بونابرت على مصر عام (1798 – 1801)، حملت معها اكتشافات علميّة في مصر، فقد لازم عالم الآثار “شامبليون” بونابرت في حملته، واستطاع أن يفك لغز الكتابة على “حجر الرشيد” الذي لم يكن معروفاً حتى حينه، وكانت المفتاح لاكتشاف العديد من آثار الفراعنة في مصر. كما ساهمت حملته التي لم تدم طويلاً، في فتح “قناة السويس” عام (1869)، بعد أن أوفد نابليون بونابرت المهندس “فرديناند دي لسبس” على رأس وفد هندسيّ إلى مصر، وتمكّن خلال عشر سنوات من العمل أن يوصل البحر الأحمر مع الأبيض المتوسّط عبر قناة قرب مدينة السّويس سُمّيت فيما بعد بـ”قناة السّويس”، والتي شكلاً عصباً حيويّاً هامّاً في التّجارة الدّوليّة، وإلى يومنا هذا.

ويؤكّد العديد من الباحثين أنّه تشكّلت عبر التّاريخ عدد من المدن التي اعتبرت مراكز علميّة هامّة في التّاريخ الإسلاميّ، وذلك قبل أن تنتقل إلى حكم المسلمين. “فمدينة “جُنْدَيْسَابور” التي غزاها العرب المسلمون في خلافة عمر بن الخطّاب، وكانت عاصمة لإقليم خوزستان الفارسيّ، برزت كمركز مهمّ للثّقافة اليونانيّة في بلاد فارس، على عهد الإمبراطور السّاسانيّ “كسرى أنو شروان”. وكان “كسرى” معجباً بالثّقافة الهيلينيّة، رغم عدائه للبيزنطيّين، حتّى إنّ معاصره، الإمبراطور البيزنطيّ “جستنيان الأوّل”، إذ أغلق مدرسة أثينا الفلسفيّة، كان هو يرحّب بأساتذتها في إمبراطوريّته”.

فيما تعتبر مدينة “أنطاكية” مركزاً مهمّاً للعلوم الفلسفيّة الإغريقيّة، وليس فقط مركزاً للكنيسة الشّرقيّة. ويشير عدد من المؤرّخين أنّ “أنطاكية”، التي تقع اليوم في تركيّا، “كانت مسرحاً لصراع طويل بين البيزنطيّين والفرس، قبل أن يضع المسلمون حدّاً لذلك بغزوها في خلافة عمر بن الخطّاب”، وأنّها “شكّلت مركزاً مهمّاً للثّقافة اليونانيّة في شمال بلاد الشام آنذاك، وكانت تهتمّ بالفلسفة اليونانيّة عامّة، وفلسفة أرسطو ومنطقه بشكل خاص”.

ويؤكّد المؤرّخون أنّ “أنطاكية” ظلّت محتفظة بمكانتها المتميّزة في الثّقافة حتّى بعد انتقال المركز إلى مدرسة الإسكندريّة ودمشق في فترة الحكم الأمويّ، وبعدها تبوّأت مدينة “حرّان” هذه المكانة على عهد الخليفة العبّاسيّ “المتوكل”، كامتداد لما حظيت به المدينة من أهميّة علميّة، وكذلك المدينة المجاورة لها “نصيبين” حتّى قبل العصر العبّاسيّ، رغم الخلاف بين النّساطرة السُّريان والبيزنطيّين. كانت الدرّاسات اليونانية متقدّمة في هذه المنطقة بأسرها، بخاصّة في “حرّان”، التي أطلق عليها آباء الكنيسة اسم “هيلينو بوليس”؛ أي مدينة “اليونانيّين الوثنيّة”.

ويذكر الكاتب “كريم الهاني” أنّ “حرّان” ترتبط تاريخيّاً بالصابئة الوثنيّين، وظلّت كذلك لقرون عديدة بعد “الفتح الإسلاميّ”، كما ظلّت ترعى التراث اليونانيّ وتشجّعه.

وينقل أستاذ التّاريخ الإسلاميّ بكليّة دار العلوم بالقاهرة، عبد الرّحمن أحمد سالم، عن الفيلسوف الإنكليزيّ “برتراند راسل” قوله، “إنّ الفلاسفة العرب وجّهوا اهتماماً خاصّاً لمنطق أرسطو، بعدما ترجم النّساطرة إلى السُّريانيّة أعمال الفلاسفة اليونانيّين وشرّاحها، ذلك أنّ قدراً من المعرفة بهؤلاء كان ضروريّاً لفهم اللّاهوت”.

هذا في حين يرى لمعارضون لمنهج التّواصل العلميّ والفكريّ بين الحضارات والشّعوب، أنّ الحضارة الغربيّة نهلت من معارف المسلمين، وجيّرتها لصالحها، لتُعيد إنتاجها وفق صيغ غربيّة، تنكّرت لدور المسلمين وشعوب الشّرق في اختراعها. وظهر هذا التوجّه المتشدّد على أيدي غُلاة المسلمين، الذين اعتبروا أنّ كلّ ما يَصدُر من الغرب هو “كفر”، يحيد المسلمين عن معركتهم الأساسيّة في نشر رسالة الإسلام عبر “الجهاد المقدّس”، وأنّ كلّ العلوم والمعارف مصدرها القرآن الكريم والسُنّة النبويّة الشريفة.

ومثّلَ التيّار السُنّي، الذي يدّعي أنّه “يمثّل الخلافة الإسلاميّة على منهاج النبّوة والخلفاء الرّاشدين”، أهمَّ التوجّهات الرّافضة لنقل العلوم والمعارف، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما حرّم أيّ تواصل مع تلك الحضارات ودعا إلى ضرورة هدمها وإزالة آثارها. فيما نلمس بعض المرونة من جانب التيّار الشيعيّ، الذي ظلّ هو الآخر يتعامل مع الحضارات الأخرى وفق منطق برغماتيّ، غلب عليه طابع استثمار العلوم والفكر لصالح استحواذها على السُّلطة والنّفوذ في البلدان التي انتشر فيها.

 

الخاتمة

ينبغي القول: إنّ السيل المتدفّق للحضارات لا يتوقّف عند دين أو عقيدة أو قوميّة معيّنة، وما جرى في العصر العبّاسيّ، ربّما يجري في راهننا أيضاً، وإن تغيّرت المُسمّيات والمُعطيات والأدوات، نوعاً ما. بكلّ الأحوال يجب تجريد العلوم والمعارف والأفكار من تَبِعات العقائد والإيديولوجيّات المنمّطة التي تُحيلها أدوات لتنفيذ مآربها في الوصول إلى السُّلطة. كما لا يمكن احتكار العلم وجعله وسيلة نفعيّة لطرف معيّن دون الآخر. فمثلما اشتركت البشريّة، ومنذ فجر التّاريخ، في صناعة الحضارة الإنسانيّة، كذلك لا يمكن أن ترضخ العلوم والمعارف والقيم العلميّة إلى رغبات ذوي النّفوذ والسُّلطة، بل تعتبر على مَرِّ الزّمان القيم السّامية التي ترتقي بها البشريّة، وبالتّالي يتطلّب إشاعتها وعدم حصرها في مِلّةٍ أو قوميّةٍ أو شعبٍ معيّنٍ، على الأقلّ هكذا يُفهم من الخطّ اللّولبيّ المتصاعد لتطوّر الحضارة البشريّة.

 

المراجع:

1 – الكاتب “محمّد الخضريّ” في كتابه “الدّولة العبّاسيّة”.

2 – “الطبري” في كتابه “تاريخ الأمم والملوك”.

3 – “ابن العبري” في كتابه “تاريخ مُختَصر الدّول”.

4 – الكاتب “كريم الهاني” في مقالة له تحت عنوان “حركة التّرجمة في العصر العبّاسيّ”.

5 – الكاتب “كريم الهاني” في مقالة له تحت اسم “أهمّ المراكز العلميّة التي غزاها العرب”.

6 – برنامج للتلفزيون السّوريّ مع الدّكتور في التّاريخ واللّغات الميّتة البروفيسور “محمّد محفّل”.

7 – كتاب لأستاذ التّاريخ الإسلاميّ بكليّة دار العلوم بالقاهرة، عبد الرّحمن أحمد سالم، عن الفيلسوف الإنكليزيّ “برتراند راسل”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى