جاسم الهويدي
تعد مرحلة أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين من أشدّ المراحل التاريخية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وبلاد الشام والعراق خاصة غموضاً، وأكثرها التباساً، وأعقدها تشابكاً في أحداثها، وما أسفر عنها من ملابسات وتقسيمات وتدخّلات في أوضاعها، ففي أواخر القرن التاسع عشر بدأت التحالفات السياسية بين دول تلك المراحل توحي إلى أنّ العالم عامة سيشهد تبدّلات سياسية، وتغييرات جغرافيّة، ولسوف تبدو الاستعدادات الحربية لها الورقة الرابحة في منطقة حاكمها لايزال يتشدّق بماضيه البعيد.
وسط هذا التشابك في المصالح بدت الدولة العثمانية بممتلكاتها هي الساحة المناسبة لتصفية الحسابات، والأكثر ربحاً من مختلف النواحي السياسية والاقتصادية، وأوسعها استهلاكاً لبضائع الدول الصناعية آنذاك.
إذا كانت الدول الأوروبية، ومنها روسيا قد أنهتْ مُجمَل المشكلات الداخلية في بلادها، فمن المؤكد أنّ الدولة العثمانية الحائزة على مناطق جغرافية وممرّات ومعابر مائية ونهرية وبرية هي الهدف الرئيس الذي يحقّق لها، ويضمن لها تكاليف استعداداتها الحربيّة، وينقذها من معاناتها السياسية ويحضّ صناعتها وتجارتها على التباري في التصنيع والتصدير وجني ثمنه بوقت قصير، فضلاً عن رواج أفكارها وتصريف مختلف منتجاتها كافة.
والحديث عن المعابر في العالم قديماً، حديثٌ هامٌّ جدّاً، ومثير واستراتيجيّ، اتّخذته الأمم طريقاً لنقل تجارتها واقتصادها من مكان إنتاجه وتصديره وعبوره إلى أماكن أخرى بأمان وأريحيّة، ممّا دعاها للاقتتال والصراع مع الدول المالكة لهذه المعابر، والممرّات المائية منها والبرية.
ومن هذه المعابر الإسكندرية في مصر، فهي مرفأ استراتيجي في ظلّ الأمواج الصاخبة، والتي تعلوها السفن القادمة من أصقاع الدنيا، ففي عهد ستراتس شيدت منارة الاسكندرية العظيمة، والتي ترتفع إلى 500م لتكون هادية للسفن، ولجميع الملّاحين الضاربين في مياه البحر المتوسط، وللسفن التجارية، وعلى بعد 50 ميلاً من الإسكندرية تقع مدينة نقراطيس القديمة التي اشتهرت بالصناعة، وقد سكنها اليونانيون بعد أن سيطروا عليها بعد فتحها، لكنّها ولأهميتها فقد صارعهم الفرس عليها فاحتلوها.
وفي غرب مصر الفرعونية كانت قبائل الليبو، ومنها البربر تسكن تلك المناطق، إلّا أنّ الإغريق عرفوا ليبيا فغزوها، واحتلوها، لأنّها الممرّ الآمن، ونقطة العبور إلى عمق أفريقيا حيث العاج والذهب والأخشاب والفضة، فما هدف احتلال المعابر من قبل المستعمرين إلا الوصول الى مكامن الذهب والفضة والعاج وشجر الأبنوس.
وقد أسّس الفينيقيون مراكز ومحطات تجارية كثيرة على طول الساحل، وطريق الشام، وربط الشرق مع إسبانيا، وقد ازدهرت تجارة الفينيقيين على الساحل الغربي لليبيا للوصول الى أواسط أفريقيا الغنية بالمنتوجات، وخاصة الأحجار الكريمة، والرقيق، وكانت (جرمة) من أهمّ المدن في الساحل الإفريقيّ، ثمّ أصبحت (قرطاجة) من المدن الهامة، ومن ذوات القوة السياسية والتجارية في حوض البحر المتوسط، لكنّها دخلت في صراع مرير مع روما، فشنّ الرومان عليها الحروب التي سمّيت بالحروب البونية، ثم دمّرت قرطاجة عام 146ق0م .
لكنّ الصراع على الشرق الليبي انتهى إلّا أنّ اليونانيين استولوا عليه، وما أشبه البارحة باليوم، فالصراع على ليبيا اليوم صراع مصالح بين الدول الغربية وتركية أردوغان من أجل المواد النفطية، والاستيلاء عليها، وعلى الآبار الغنية بالنفط والغاز والمواد المعدنية، فها هو قد نقل مرتزقته وسلاحه الى ليبيا؛ طمعاً بمنتوجاتها النفطية، وخاماتها المعدنيّة، ومنهم مرتزقة سورية الفارّين إليه.
ولننظر بتمعّن، لنجد خارطة الشرق الأوسط المرسومة، والمقايضات والتفاهمات بين الدول الكبرى من روسيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا، وقد قسّمت دول الشرق الأوسط من سورية وليبيا بين تركية أردوغان وروسيا وإيران، وقد تسلّم كلٌّ حصّتَه، ونقل جيشه لحماية مصالحه رغم الحروب الشكلية التي ذهب ضحيتها الكثير من أبناء الشرق الأوسط من ليبيين أو سوريين وعراقيين أويمنيين.
ومن المعابر الهامة ذي الموقع الاستراتيجي التي تسيطر عليه وتتحكّم بملاحته؛ إيران هو مضيق هرمز، فهو ممرّ مهمّ يربط دول الخليج؛ قطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسعودية والكويت وسلطنة عُمان بدول العالم من حيث تجارة النفط والغاز والمواد المعدنيّة الأخرى التي أصبحت عصب الحياة اليومية لجميع دول العالم المتحضّر.
تلعب إيران دوراً هامّاً في استغلال هذا المعبر، ومن خلاله تتهدّد دول المنطقة النفطية، ودول العالم برمّته، وتستغل موقعه أفضل استغلال؛ لتسويق مصالحها القومية والدينية والوطنية، فها هي قوّاتها اليوم في لبنان وسورية واليمن تعربد كما تشاء، وتشنّ الحروب على شعوب المنطقة، وتوفّر لعملائها الدعم التام من السلاح والفكر والقادة العسكريين والسياسيين ليسود مذهبها الشيعيّ العالمَ الإسلاميّ والعربيّ. لكنّ دول أوروبا وأمريكا لها بالمرصاد، ففي كانون الثاني عام 1980 م أعلن الرئيس الأمريكي كارتر قائلاً: (تستخدم كافة الوسائل الضرورية، بما فيها القوّة العسكرية في حال التطاول على المصالح الأمريكية في الخليج العربيّ، كما أعلن كارتر عن ضرورة استعمال وسائل ضروريّة، وتوجيه ضربات إلى أهداف الخصم العسكريّة، وبناءً على ذلك قرّرت أمريكا الإنزال العسكريّ في السعودية في حالات منها:
- وقوع انقلاب عسكري في الرياض.
- محاصرة مضيق هرمز من قبل إرهابيين، أو معادين للسلطة السعودية، أو العراق لناقلات النفط الكبرى.
- غزو القوات العراقية للكويت والسعودية، وقد تتالت الأحداث كما خطّط لها فيما بعد. ولا يقلّ أهمّيّة معبر البوسفور الرابط بين قارة آسية وأوروبا، والذي تتحكّم به الدولة الاستعمارية تركية أردوغان اليوم عن باقي المعابر من حيث الموقع وعبور قوافل السفن المحملة بالتجارة والعابرة بين الشرق والغرب.
فمياه مضيق البوسفور مصنّفة ضمن الملاحة الدولية وتعتبر حركة السفن بالمضيق واحدة من أهمّ نقاط الملاحة الدولية البحرية في العالم منذ القديم، وقد استغلّته الدولة العثمانية أيّما استغلال، وعزّزت بها موقعها بحماية جيوشها وقواتها العسكرية.
للمضيق شأن هام واستراتيجيّ بين دول اليونان وأوروبا وتركية، فقد تصارعت هذه الدول فيما بينها، ودامت حروب لسنوات من أجل عبور سفنها، وعقدت معاهدات هامة، وعقود، وعهود، من أجل عبور سفنها من هذا المضيق الهام؛ منها عام 1851م معاهدة الدولة العثمانية مع بريطانيا، وفي عام 1856 حصل الروس على امتياز العبور من الدردنيل بعد انتصارهم على العثمانيين.
إنّ تحوّل التجارة العالمية من رأس الرجاء الصالح إلى المعابر الأخرى من هرمز والدردنيل وقناة السويس جعل الشرق الأوسط وموقعه الجغرافيّ الهام هدفاً للدول الطامعة لاستعماره وتقسيمه فيما بينها؛ لتنهب ثرواته الباطنية من نفط وغاز ومواد معدنية أخرى، وسيستمر الصراع على هذه البقعة مادام الانقسام والضعف ينخر جسم هذه الدول، بوجود حكام من أمراء وشيوخ ورؤساء عفنين عملاء للاستعمار.
المصادر
1- امريكا وخفايا حرب الخليج – الدكتور نبيل السمان
2- اتفاقية سايكس –بيكو ومنعكساتها – الاستاذة نائلة غانم
3- حضارة طريق التوابل –محمد عبدالحميد الحميد الرقاوي