جميل رشيدمواضيع أخرى

القضيّة الكرديّة والبُعد التّاريخيّ والدّوليّ في حلّها

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد:

تُعدُّ القضيّة الكرديّة من أكثر القضايا الشائكة والعالقة دون حلّ في منطقة الشرق الأوسط، بل في العالم، نظراً لعدّة عوامل؛ منها تقسيم الوطن الكرديّ بين أربع دول، تركيّا إيران، العراق وسوريّا، إضافة لعوامل سياسيّة واجتماعيّة تراكمت بفعل التقسيم وفرض سياسات وثقافات الدّول المحتلّة لكردستان، وأخرى ذاتيّة ليست موضوع بحثنا.

كان – وما يزال – العامل الدّوليّ ومعادلات التّوازن المفروضة من قبل الدّول الكبرى في العالم، ومحاولاتها الحثيثة في تقسيم مناطق النّفوذ في العالم وخاصّة في منطقة الشرق الأوسط، له الدّور الأساسيّ في محاولات تغييب القضيّة الكرديّة، وإبقائها دون حلّ عادل، فالدّور البريطانيّ في بداية القرن العشرين، ساهم في تكريس واقع التقسيم والتجزئة للوطن الكرديّ، عبر عدّة مؤتمرات عقدتها الدّول المنتصرة في الحربَين العالميّتين الأولى والثانية، ومحاباتها للدّول المتحكّمة بجغرافية كردستان، لجهة الحفاظ على مصالحها. وزادت الرغبة الغربيّة عموماً والبريطانيّة خصوصاً في الحفاظ على الأوضاع الرّاهنة وتثبيت خرائط التقسيم التي رسمتها مسطرتا (سايكس – بيكو) بعد الحرب العالميّة الأولى، وسعيها لإنشاء دول قومويّة جديدة وترسيم حدود سياسيّة فاصلة بينها، وهو ما انعكس أوّل الأمر على واقع الشّعب الكرديّ، فبات يعيش ضمن أربعِ جغرافيّات سياسيّة متباينة في شروطها وتكوينها ومقارباتها للقضيّة الكرديّة، وفقاً للخلفيّات الفكريّة والإيديولوجيّة التي تأسّست عليها تلك الكيانات، إلا أنّها تقاطعت معاً في قطع الطريق أمام أيّ حلّ عادل وسلميّ للقضيّة الكرديّة، ولو ضمن دولها القومويّة، بل على العكس تماماً، تنكّرت للوجود الكرديّ ولِقِيَمه الثقافيّة واللّغويّة، واعتبرت أنّ الكرد امتداد لأقوامها وشعوبها ذات اللّون الواحد والعرق الواحد واللّغة الواحدة، وأكثر ما تجسّد هذا المفهوم في تركيا التي ألحقت قسماً كبيراً من جغرافية كردستان بأراضيها.

الدّور الغربيّ في عرقلة حلول القضيّة الكرديّة، فرض واقعاً جديداً على الكرد وزاد في مأساتهم التي يعانون منها طيلة أكثر من قرن، رغم الكفاح المرير، وسعيهم ودون هوادة، في سبيل إيصال قضيتهم إلى مصاف الحل أُسوةً بشعوب أخرى. ما حدا بحركة التحرّر الوطنيّة الكرديّة، إلى التوجّه شرقاً وتبنّي أفكار اشتراكيّة تحرّرية، إثر انطلاق ثورات حركات التحرّر الوطنيّة تحت راية ما كانت تسمّى بالمنظومة الاشتراكيّة، كبديلٍ عن منظومة الحداثة الرّأسماليّة، التي أدارت ظهرها لقضايا الشّعوب، ومنها قضيّة الشّعب الكرديّ. وعلى إثرها تبنّت العديد من الحركات والقوى السياسيّة الكرديّة الفكر الاشتراكيّ واليساريّ، في مسعى لحلّ قضيّتهم. إلا أنّها هي الأخرى – أي المنظومة الاشتراكيّة – لم تقدّم حلولاً ناجعة للقضيّة الكرديّة، بل انقسم النضال والكفاح الكرديّ بين المعسكرين الرّأسماليّ والاشتراكيّ، وانقضت الألفيّة الماضية والكرد يعيشون واقع التقسيم والتجزئة بين أربع دول، فضلاً عن الويلات والمآسي التي حاقت بهم. إلّا أنّ الحركة التحرّرية الكرديّة لم تعش في يوم ما حالة من السكون والستاتيك والانطواء على نفسها، بل ظلّت دائمة البحث عن الحلول لقضيّة شعبها، رغم الانكسارات العديدة التي شهدتها في تاريخها النضاليّ.

في بحثنا هذا، سنحاول تسليط الضوء على أهمّ المسارات التي مرّت بها القضيّة الكرديّة في بدايات القرن العشرين وحتّى دخولها القرن الحادي والعشرين، ودور قوى الحداثة الرّأسماليّة في تعطيل حلولها، وما هي الأسس والمبادئ التي انطلقت منها تلك القوى في جعل القضيّة الكرديّة خارج اهتماماتها، وكذلك سنحاول كشف الترابط بين العوامل الدّوليّة والذّاتيّة التي حدت دون وصولها إلى الحلول الواقعيّة، وأنّه لا يمكن إرجاع الأمر دائماً إلى إسقاطات “نظرية التآمر”، في ضوء العلاقة الجدليّة بين “الذّات والموضوع”، وأنّه يتطلّب من الحركة الوطنيّة التحرّرية الكرديّة في راهنها أن تجريَ عمليّة نقد جذريّة وبنّاءة لمسيرتها الطويلة، وصولاً إلى التواؤم مع المعادلات الدّوليّة التي تفرض نفسها، من منطلق معادلة المركز والأطراف، وإظهار الجوانب الخفيّة في عزوف الدّول الغربيّة عن المبادرة في الدفع نحو حلول مرضية للقضيّة، ضمن معادلات التوازن التي صنعتها هي بنفسها.

يقيننا أنّه لم تحظَ أيّة قضيّة بالاهتمام والمتابعة والبحث مثلما حظيت بها القضيّة الكرديّة، وهي وإن خطت بعض الخطوات الخجول نحو الحلّ ضمن إطارها الاستراتيجيّ في بداية السبعينات في العراق، إلا أنّها لا ترقى إلى مستوى الحلول الشاملة والعادلة، وهي بحاجة إلى المزيد من تفكيك شيفراتها المعقّدة ووضعها في مساراتها الصحيحة، دون إسقاطات إيديولوجيّة بحتة، وعدم إخضاعها لمقصلة الفكر الإقصائيّ والجِهويّ.

القضيّة الكرديّة وتحوّلاتها في بداية القرن العشرين:

أدّى انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في بداية القرن العشرين، التي أطلق عليها الغرب اسم “الرّجل المريض”، إلى نشوء دول قوميّة متعدّدة في منطقة الشرق الأوسط، بدعم مباشر من الدّول الرّأسماليّة الغربيّة، في مسعى لإعادة تقسيم المنطقة والتحكّم بها وفق مصالحها. ففرضت كلّ من فرنسا وبريطانيا الانتداب على دول تقاسمتها فيما بينها، تزامناً مع اندلاع ثورات على الحكم العثمانيّ، غلبَ عليها طابع الارتباط بالدّول الغربيّة التي رسمت مساراتِها ونهاياتِها، لتنبثق عنها دول وكيانات جديدة، عكست بشكل أو بآخر، مصالح تلك الدّول أكثر ممّا مثّلت مطالب شعوبها، وفرضت وقائع جديدة في المنطقة، لتنقل التجربة الغربيّة في شكل إدارة الدّولة ومؤسّساتها، عبر عمليّة إسقاط ميكانيكيّ لها، دون أيّ اعتبار لخصوصيّة بلادهم وشعوبهم، وإدخال بلادهم في دوّامة من الانقلابات العسكريّة، والصراع على السلطة، مع حيّز بسيط جدّاً من الدّيمقراطيّة الشّعبويّة لدى بعض منها، التي لم ترتقِ إلى مستوى الدّيمقراطيّة الفعليّة بإشراك كافّة فئات ومكوّنات شعوبهم في رسم مستقبل بلادهم والمشاركة في صناعة قراراتها.

الشّعب الكرديّ أكثر المتضرّرين من تقسيم منطقة الشرق الأوسط وفق مصالح الدّول الغربيّة التي تجسّدت، وبشكل فاقع، في اتّفاقيّة “سايكس – بيكو”، والتي تلتها وسبقتها اتّفاقيّات ومعاهدات عديدة، سعت في مجملها إلى تكريس واقع الاحتلال الغربيّ في بلدان الشرق. وأعيد تقسيم الوطن الكرديّ بين دول نشأت بقرار من الدّول الغربيّة، كجزء من استراتيجيتها في “تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ”، ففي حين كانت كردستان مقسّمة بين الإمبراطوريّتين الفارسيّة والعثمانيّة منذ اتّفاقيّة قصر شيرين عام (1639)، ثمّ عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل “أرزروم الأولى” (1823) و”أرزروم الثانية” (1847) واتّفاقيّة طهران عام (1911)، واتّفاقية ترسيم الحدود بين الدّولتين الإيرانية والعثمانيّة عام (1913) في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.

لقد أعيد تقسيم كردستان ثانية في بدايات القرن العشرين، واعتبرت كجزء من تَرِكَةِ الإمبراطوريّة العثمانيّة، ليُلحق جزءٌ منها بالدّولة العراقيّة، وقسم صغير بالدّولة السّوريّة، وهو ما أنتج وقائع ثقافيّة وسياسيّة جديدة، وجدت تعبيراتِها السياسيّة والكفاحيّة في تجزئة النضال الكرديّ لحلّ القضيّة الكرديّة وانعكاسه على واقع الحركة السياسيّة الكرديّة وحتّى على المستوى الشّعبيّ، إلى حدّ ما.

يمكننا القول إنّ اشتداد الصراع الدّوليّ والتنافس بين الدّول الرّأسماليّة الصاعدة في الشرق في بداية القرن العشرين، وخاصّة بين القوّتين البريطانيّة والفرنسيّة، أثّر بشكل سلبي على مستقبل الشّعب الكرديّ وقضيّته، لكنّها من جهة أخرى أخرجت القضيّة الكرديّة من طابعها المحلّيّ والإقليميّ لتأخذ بُعداً دوليّاً، ما انعكس على طبيعة حلولها أيضاً، حيث غدت تلك الحلول مرهونة، بشكل أو بآخر، بمدى التّوافق الدّوليّ حولها.

لم تجد محاولات الكرد التواصل مع الدّول الغربيّة آذاناً صاغية، وفي مقدّمتها بريطانيا، حيث تذبذبت مواقف الأخيرة من القضيّة الكرديّة، وارتبطت استجابتها للمطالب الكرديّة بمدى تلبية الكرد لمصالحها في الشرق الأوسط، وهو ما كان الكرد غير مؤهّلين له، على الأقلّ في ظلّ موازين القوى التي كانت سائدة في تلك الفترة، ولعلّ محاولات الضابط الكرديّ شريف باشا الاتّصال بالإنكليز عام (1914)، لم تلقَ اهتماماً لدى بريطانيا، ليعيد السّفير البريطانيّ في العراق، بعد احتلال الأخيرة من قبل بريطانيا، إلى الاجتماع مع شريف باشا في مدينة مرسيليا الفرنسيّة، للاستماع إلى أقواله فقط، دون تقديم أيّ وعود ولو بالنظر في قضيّتهم.

تحرّكَ الكرد، مثل بقيّة الشّعوب الأخرى التي تحرّرت من نير الاحتلال العثمانيّ، لاستثمار الظروف الدّوليّة وهزيمة الدّولة العثمانيّة في الحرب العالمية الأولى، لنيل حقوقهم المشروعة، وبرزت فرصة حلّ القضيّة الكرديّة إلى الوجود، لأوّل مرّة، في أعقاب الحرب، كجزء من الترتيبات الجديدة للدّول الرّأسماليّة في احتلال المنطقة، ولإضفاء المشروعيّة على احتلالها في منطقة الشرق الأوسط، وليس استناداً إلى الشّعارات التي رفعتها في الإقرار بحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، كما وردت في المبادئ الأربعة عشر التي أعلن عنها الرّئيس الأمريكيّ ويدرو ويلسون عام (1914)، رغم أنّ الكرد وجدوا في تلك المبادئ دافعاً قويّاً للدّفاع عن قضيّتهم والمطالبة بحقوقهم المشروعة.

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، تحرّك الكرد سريعاً، وبذلوا جهوداً مضنية لإيصال صوتهم إلى مؤتمر الصلح الذي انعقد في باريس عام (1919)، في مسعى لفرض أنفسهم كجزء من معادلات الحلّ في المنطقة، ولكيلا يطالهم التهميش والإقصاء. غير أنّ عدم وجود كيان سياسيّ للكرد للمشاركة باسمه، ليمثّله وفد رسميّ في المؤتمر، شأنهم شأن القوميّات والشّعوب المضطّهَدَة الأخرى، حدا بالكرد، ومن خلال عشائرهم وجمعيّاتهم السياسيّة، إلى تكليف شريف باشا لتمثيلهم في المؤتمر للمطالبة بحقوقهم المشروعة في إقامة كيان سياسيّ مستقلّ لهم، أُسوةً بباقي الشّعوب التي تحرّرت من ربقة الاحتلال العثمانيّ.

أصدرت اللّجنة التحضيريّة لمؤتمر الصلح قراراً في شهر يناير/ كانون الثاني 1919 نصّ على ما يأتي: “… إنّ الحلفاء والدّول التّابعة لهم قد اتّفقوا على أنّ أرمينيا وبلاد الرّافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربيّة يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطوريّة العثمانيّة”. ولكن هذا القرار لم يقرّ بضرورة تشكيل دولة كرديّة مستقلّة، بل ظلّ الموضوع مبهماً.

على ضوء هذا القرار عرض شريف باشا مذكّرتين مع خريطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (21/3/1919) والأخرى في (1/3/1920). كما طلب من القائمين على شؤون المؤتمر تشكيل لجنة دوليّة تتولّى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميّات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبيّة الكرديّة، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكّرة الأولى “إنّ تجزئة كردستان لا يخدم السّلم في الشرق…”.

كما جاء في المذكّرة الثانية “أنّ الترك يتظاهرون علناً بأنّهم مع المطالب الكرديّة، وأنّهم متسامحون معهم، لكن الواقع لا يدلُّ على ذلك مطلقاً…” كما طالب شريف باشا رسميّاً من رئيس المؤتمر جورج كليمنصو أن يمارس نفوذه مع حكومة الأستانة لمنع اضطهاد الشّعب الكرديّ، وجاء في رسالته إلى رئيس المؤتمر: “إنّه منذ أن تسلّمت جماعة الاتّحاد والترقّي السلطة؛ فإنّ جميع الذين يحملون آمال الحرّيّة القوميّة قد تعرّضوا للاضطهاد المستمرّ.. وإنّه من الواجب الإنسانيّ في المجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدّماء مجدّداً، وإنّ السبيل لضمان السّلم في كردستان هو التخلّي عن مشروع تقسيم هذه البلاد – أي كردستان”

إنّ تصريح جورج كليمنصو، رئيس مؤتمر الصلح في باريس بقوله “إنّ الحكومة التركيّة ليست قادرة وكفؤة لإدارة الأمم الأخرى، لذلك لا يوثق بها ولا يجوز أن تُعاد إلى سيطرة الأتراك كقوميّةٍ عانت من مظالم الأتراك واستبدادهم”، تبيّن أنّه لم يكن إلّا خداعاً للكرد ولباقي القوميّات المضطهَدة من قبل الأتراك، كما دلّت على ذلك النتائج التي تمخّضت عن المؤتمر، والتي أفضت إلى تغليب مصالحهم على مبادئهم والوقوف إلى جانب الدّولة التركيّة المتمثّلة بجمعيّة الاتّحاد والترقّي، وتراجعاً عن مواقفهم التي أقرّوها في المؤتمر.

 معاهدة سيفر عام (1920) والإقرار بالحقوق الكرديّة:

تمكّن الكرد من طرح مطالبهم وتثبيتها – إلى حدٍّ ما – في المحافل الدّوليّة التي انعقدت في تلك الفترة، وخاصّة في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في أغسطس/ آب 1920، وقد نجح شريف باشا في إدخال ثلاثة بنود تتعلّق بالقضيّة الكرديّة، ولأوّل مرة تمّ تدويل القضيّة الكرديّة بصورة رسميّة، رغم أنّ الدّولة العثمانيّة حاولت مراراً أن تَصِفَ القضيّة الكرديّة بأنّها قضيّة داخليّة تستطيع الدّولة حلّها، وأنّها لا تسمح بتدخّل الدّول الغربيّة في حلّها أو فرض شروط عليها حيال ذلك.

تمثّل معاهدة سيفر، انعطافة مفصليّة وتاريخيّة هامّة لكلّ من الكرد والدّولة التركيّة التي أقيمت على أنقاض الإمبراطوريّة العثمانيّة، ولها معانٍ مختلفة وعميقة، من حيث إقرار الحقّ الكرديّ في إنشاء دولته المستقلّة، وكذلك في قبول الدّولة التركيّة لهذا الحقّ طواعية دون إكراه، كجزء من استحقاقات تركيّا تجاه القوميّات الأخرى. والوثيقةُ التي صدرت عن المعاهدة، وضعت الأسس العمليّة لتحقيق الاستقلال الكرديّ، وإن على مراحل. ورغم أنّها أوّل وثيقة دوليّة رسميّة تُقرُّ وتعترف بالحقوق الكرديّة، إلّا أنّها في ذات الوقت تركت فجوات في المعاهدة، حيث ربطت الاستقلال بمدى أهليّة الكرد في أن يحقّقوا شكلاً راقياً منه واستقراراً في مناطقهم، عبر تشكيل المؤسّسات والإدارات التي من شأنها أن ترسّخ الاستقلال، هذا في حين تعاملت الدّول التي وقّعت على المعاهدة بشكل مغاير كلّيّاً مع الدّول التي نالت استقلالها عن الإمبراطوريّة العثمانيّة حديثاً، وقدّمت لها كلّ الإمكانات العلميّة والإداريّة في نشوئها وتطوّرها، مثل العراق وسوريّا والسّعوديّة وغيرها من الدّول في المنطقة. فالدّول الغربيّة وخاصّة بريطانيا أتاحت لنفسها ولتركيّا إمكانيّة نقض هذه المعاهدة والتنصّل من تنفيذ بنودها، أي أنّها طرحت الشيء ونقيضه في آنٍ واحد.

كذلك انتصارات الكماليّين – جمعيّة الاتّحاد والترقّي – في ساحات القتال وإعادة لملمة شتات الأتراك ضمن دولة قومويّة لهم، غيّرت الكثير من السياسات والمواقف الدّوليّة والإقليميّة، وتنكّرت لحقوق الكرد حتّى طمست وتجاهلت القضيّة الكرديّة نتيجتها نهائيّاً في مؤتمر لوزان الذي سنأتي إليه لاحقاً. وقد وصف مؤسّس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال أتاتورك المعاهدة ” بأنّها بمثابة حكم الإعدام على تركيّا”، لو نفّذت بنودها.

المقاربات الغربيّة من حلّ القضيّة الكرديّة تأرجحت بين الاعتراف الشكليّ بالحقّ الكرديّ، وبين الوقوف إلى جانب الدّول التي أُلحقت كردستان بها، وهو ما حال دون وضع الخطوات العمليّة لحلّها؛ محاباةً للدّول التي تتقاسم كردستان، حفاظاً على مصالحها التي تداخلت معها في شبكة مصالح وعلاقات مكثّفة، بحيث بات من الصعب المغامرة بها كُرمى للكرد ولقضيّتهم.

مؤتمر القاهرة مارس/ آذار 1921والانعطافة البريطانيّة الثانية نحو الكرد:

قبل الدّخول في تفاصيل مؤتمر القاهرة، عقد قبله، في فبراير/ شباط 1921، مؤتمر بلندن لبحث المشاكل العالقة في المستعمرات البريطانيّة، ومن ضمنها القضيّة الكرديّة، وكشفوا عن نواياهم في وضع حلول لهذه القضيّة التي تؤرق بالهم، إلّا أنّ الحكومة التركيّة المشاركة في المؤتمر، وعبر عدد من الممثّلين الكرد الذين عيّنتهم من قبلها، أصرّت مرّةً ثانية على أنّ القضيّة الكرديّة هي قضيّة داخليّة، ويمكن حلّها من خلال التوافق بين الطرفين، دون تدخّل من الدّول الخارجيّة، في حين أبدى الكرد المشاركون في المؤتمر ضمن الوفد التركيّ رغبتهم في العيش في دولة واحدة مع الأتراك، رغم قناعة الدّول الغربيّة أنّ الكرد المشاركين مع الوفد التركيّ لا يمثّلون الشّعب الكرديّ ومطالبه في الحرّيّة والاستقلال عن الدّولة التركيّة، وبناء على تلك المعطيات أدارت الدّول الغربيّة الظهر للمطالب الكرديّة.

شكّلت تحرّكات مصطفى كمال أتاتورك ضدّ الهيمنة الغربيّة في مناطق الأناضول وكذلك في المنطقة عموماً، تحدّيات كبيرة لها في بسط نفوذهم على كامل منطقة الشرق الأوسط، خاصّة وأنّه تغلغل النفوذ الغربيّ في مناطق الأناضول، وكانت تركيّا حينها في وضعيّة الدّولة المقسّمة، والعراق بدوره وقع تحت الانتداب البريطانيّ وكان لا يزال مهدّداً من خاصرته الشماليّة، أي من تركيّا، وزادت مخاوف البريطانيّين أكثر، بعد اندلاع الثّورة التي قادها رشيد علي الكيلاني عام 1920 ضدّ بريطانيا. إلا أنّها؛ أي بريطانيا، تمكّنت  من إخماد الثّورة وتنصيب الملك فيصل على الحكم في بغداد، غير أنّ مخاوف بريطانيا في المشرق لم تقف عند هذا الحدّ، فاقترح وزير المستعمرات البريطانيّ آنذاك (ونستون تشرشل) عقد مؤتمر في القاهرة، ينظّم جبهة معادية لتركيا يقيها من تمدّدها في المنطقة.

ومثلما لعب مصطفى كمال أتاتورك على المشاعر الوطنيّة التركيّة والكرديّة؛ عبر عقد تحالفات مع زعماء العشائر الكرديّة ومختلف فئات وشرائح المجتمع الكرديّ، وكسب تأييدهم في المشاركة في ما سمّاها “بحرب التحرير الوطنيّة” ضد النفوذ الغربيّ في تركيّا ومنطقة الشرق الأوسط، مقابل التشارك في بناء الدّولة الوطنيّة التي تحفظ حقوق الكرد والأتراك، كذلك عقد الإنكليز تحالفاتهم ورسموا سياساتهم وخططهم في المنطقة والكفيلة بالردّ على تركيّا الأتاتوركيّة، فعقدت بريطانيا مؤتمر القاهرة ما بين 12 و24 مارس/ آذار 1921، وهو المؤتمر الفاصل بين معاهدة سيفر ولوزان. لم يُدعَ إلى المؤتمر أيّ شخص كرديّ، وحضره وزير الدّفاع العراقيّ الكرديّ الأصل الفريق الرّكن جعفر العسكريّ ضمن الوفد العراقيّ، لكن ليس بصفته كرديّاً، بل عراقيّاً. إضافة إلى أنّ الكرد في جنوب كردستان (العراق) لم يطّلعوا على قرارات وتوصيات المؤتمر إلّا بعد مرور زمن طويل، كما ذكره الأستاذ المؤرّخ جرجيس فتح الله في كتابه “يقظة الكرد”.

إنّ قراءة مُخرجات مؤتمر القاهرة والاهتمام البريطانيّ المتزايد لعقده، بناء على اقتراحات تشرشل، تبيّن أنّه لم تكن رغبة منها في الدّفع باتّجاه حلّ القضيّة الكرديّة، بل جاء المؤتمر كحاجة استعماريّة بريطانيّة لتثبيت استراتيجيّتها في منطقة الشرق الأوسط، وما يؤكّد هذا الاستنتاج؛ أنّ الملفّات التي تناولها المؤتمر لم تقتصر على الملفّ الكرديّ فقط، بل شملت وضع ترتيبات لأوضاع العراق والسّعوديّة ومصر ومعظم البلدان التي تحرّرت من سيطرة الإمبراطوريّة العثمانيّة.

استدارت بريطانيا في مؤتمر القاهرة على نفسها وعلى حلفائها، في المهادنة مع التهديدات التركيّة على المنطقة وخاصّة ضدّ العراق، بعد أن ألحقت ولاية الموصل بالعراق، نظراً لأهميّتها الاقتصاديّة باعتبارها منطقة نفطيّة، بالمقابل انقلبت على تعهّداتها في إنشاء دولة كرديّة مستقلّة في كردستان تركيا، لتطرح إنشاءها في العراق وتضمّ ولاية الموصل إليها، رغم أنّ الاقتراح لاقى اعتراضاً من قبل القوميّين العرب في المؤتمر، فيما كان الملك فيصل متردّداً في قبوله بالاقتراح البريطانيّ الذي طرحه تشرشل، حيث رأى الأخير في الدّولة الكرديّة سدّاً منيعاً أمام تمدّد تركيا وروسيا البلشفيّة، بعد أن انتصرت ثورتهم في روسيا, إلا أنّ اقتراح تشرشل هذا عارضه أيضاً كلّ من السير “بيرسي كوكس”، المندوب السامي البريطانيّ في العراق الجديد، وأغلب الموظّفين البريطانيّين، وفنّد (كوكس) أسباب معارضته، حسبما يوردها الدّكتور عبد العزيز المفتي في محاضرة له عن مؤتمر القاهرة، بعدم أهليّة الكرد لإنشاء دولة مستقلّة لهم، وأنّهم مازالوا في طور البداوة ويعيشون حالة من الاقتتال الدّاخليّ والانقسام بين عشائرهم، وأنّ الدّولة الكرديّة ستكون سبباً في نفور القوميّين العرب من السياسات البريطانيّة في العراق، كما أنّه وجد ميلاً لدى الكرد في التّحالف مع تركيّا في السيطرة على الحقول النفطيّة في الموصل، ما يمهّد الطريق أمام الأتراك في السيطرة على كامل العراق، لاحقاً.

تميّزت السياسة التي انتهجتها بريطانيا إزاء الكرد وقضيّتهم بتغيير حلفائها والوقوف في الجبهة المعارضة لحقوق الكرد ومطالبهم في إنشاء دولة كرديّة، فعوّلت أكثر على القوميّين العرب في تمرير استراتيجيّتها في المنطقة، وهو ما عبّر عنه بكلّ جلاء (برسي كوكس) بقوله: “في الحقيقة كان السّلاح الأنجح لمقاومة أيّ هجوم تركيّ، أو بلشفيّ، هو تماسك التكتّل القوميّ العربيّ، وينبغي لنا أن نتّجه في سياستنا نحو هذا الاتّجاه”.

اتّسمت المواقف البريطانيّة منذ بداية القرن العشرين وإلى يومنا هذا، بازدواجيّة لا نظير لها في تعاملها مع القضيّة الكرديّة، ففي حين كانت تدعو إلى نيل الكرد استقلالهم وتشكيل دولتهم، كانت في الوقت ذاته تضع العراقيل لعدم حصول الكرد على حقوقهم، واعتبرت أنّ نشوء الدّولة الكرديّة سيؤلّب الأطراف الأخرى عليها، واعتمدت ميزان مصالحها الحيويّة في منطقة الشرق الأوسط معياراً لتعاطيها مع الكرد وقضاياهم في التحرّر والاستقلال. إنّ اعتماد بريطانيا على تقارير جواسيسهم التي أرسلتهم إلى كردستان ضمن حملات التبشير البريطانيّة، وأغلب أعضائها ارتبطوا بمهامٍ مباشرة وبتكليف من وزارة الخارجية البريطانيّة وأجهزة استخباراتها، كانت الأساس في بناء استراتيجيّتها وتشكيل قناعاتها واتّخاذ مواقفها حول الكرد وحقوقهم، تلك التقارير التي صوّرت بشكل منحرف وغير عادل أوضاع الشّعب الكرديّ، كما فعلت الجاسوسة البريطانيّة السيدة (مس بيل).

لقد دافع السير “برسي كوكس” في مؤتمر القاهرة عن وجهة نظره، وتمكّن من “تجميد” حلّ القضيّة الكرديّة، ليستعيضَ عنها بسياسة الدّمج التدريجيّ للمناطق الكرديّة مع دولة العراق الجديدة الناشئة، دون إكراه من الكرد، ريثما يحين الوقت الملائم كي يستطيع الكرد فيه تقرير مصيرهم. وفي رسالة لاحقة لـ”كوكس” إلى “ونستون تشرشل”، أكّد فيها طرح فكرة الحكم الذّاتيّ للكرد في العراق، بدلاً من الدّولة الكرديّة المستقلّة، وهو ما اقتنعت به وزارة الخارجيّة والحكومة البريطانيّة أيضاً.

إنّ مضمون رسالة “كوكس” وإعادة طرح أفكارها من قبل الحكومة البريطانيّة وتبنّيها بشكل رسميّ من قبل مسؤوليها العاملين في كردستان ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، أو إن كان عبر جواسيسها، السرّيّين أو العلنيّين، المنتشرين في المناطق الكرديّة، إنّما كرّست لحالة اغتراب كبيرة لدى الشعب الكرديّ، وحدّدت التصوّر العالميّ النهائيّ حينها لحلّ القضيّة الكرديّة، وأطّرت الطموحات الكرديّة في العراق، وهو ما انعكس لاحقاً في برامج وسياسات الأحزاب الكرديّة، التي طالما ناضلت لإحقاق الحقوق الكرديّة. وتمثّل اتّفاقيّة الحكم الذّاتيّ في 11 آذار عام 1970 بين الحكومة البعثيّة في العراق والحزب الدّيمقراطيّ الكردستانيّ بقيادة الملا مصطفى البارزاني، ذروة إسقاطات تلك الأفكار والأطروحات البريطانيّة، بشكل مباشر أو غير مباشر.

في الطرف الآخر، إبدى “تشرشل” مخاوفه من إمكانيّة حدوث تقارب بين الكرد وتركيا، خاصّة بعد تمكّن مصطفى كمال أتاتورك من استمالة الكرد للمشاركة في “حرب التحرير الوطنيّة” ضدّ القوّات الغربيّة الغازية لمناطق الأناضول، والوعود التي قطعها لهم في إنشاء دولة وطنية يتشارك فيها الكرد والأتراك، كل ذلك يدفعنا للقول إنّ دفاع “تشرشل” الانتهازيّ عن ضرورة إنشاء دولة كرديّة في العراق، إنّما جاء لرغبة منهم في جعلها درعاً أمام الطموحات التركيّة في العراق وخاصّة منطقة الموصل النفطيّة.

رغم أنّ مؤتمر القاهرة أقرّ هو الآخر على غرار معاهدة سيفر ومؤتمر لندن بضرورة إنشاء دولة كرديّة في شمال العراق، إلّا أنّ تنفيذ مقرّراته على الأرض ظلّت رهينة توجّهات السياسة البريطانيّة، ولم تتعامل معها بجديّة، في حين طرح المندوب السامي البريطانيّ في العراق “برسي كوكس” خطّة مؤلّفة من ثلاث نقاط رئيسيّة، كمدخل لحلّ القضيّة الكرديّة في العراق ضمن إطار الحكم الذّاتيّ، وهي في مضمونها لا تتضمّن أي نوع من الاستقلال الكرديّ الناجز، بل وضعها في مجملها تحت تصرّف الإنكليز، وهذا كان سبباً في تمرّد الشيخ محمود البرزنجيّ على الخطّة البريطانيّة لاحقاً، فيما كان قبلها متوافقاً معها في سعيها نحو كيان كرديّ مستقلّ عن العراق.

الصمت الغربيّ والبريطانيّ خصوصاً إزاء القضيّة الكرديّة في تركيّا بعد الحرب العالميّة الأولى، أطلق يد الدّول الحاكمة لكردستان لارتكاب المجازر بحقّ الشعب الكرديّ، بعد أن شجّعته على تشكيل دولته المستقلّة. فرغم المزاعم التي ساقها “تشرشل” حيال التقارب الكرديّ – التركيّ، والتي كانت مشوبة بالكثير من الريبة والشكّ، وهو ما تأكّدت مراوغته لاحقاً، من خلال نقضه لكافّة المعاهدات والقرارات الصادرة عن المؤتمرات التي عقدتها بريطانيا بنفسها ورعتها، ما يعكس حجم ودور الدّول الغربيّة في عدم وصول القضيّة الكرديّة إلى حلول عادلة، ويؤكّد أنّ الأفكار والأطروحات البريطانيّة المتعدّدة حيال القضيّة الكرديّة، من الدّولة المستقلّة وصولاً إلى الحكم الذّاتيّ وإلحاقه بالعراق، كانت حركة سياسيّة تهدف إلى احتواء التأثيرات التركيّة في الكرد.

يذكر الأستاذ جرجيس فتح الله في كتابه “يقظة الكرد” أنّه جاء في المذكرة التي قدّمتها (دائرة الشرق الأوسط) للجنة السياسيّة في (مؤتمر القاهرة مارس/ آذار 1921) ما يلي: “رأينا القويّ؛ أنّ المناطق الكرديّة خالصة القوام يجب ألّا تدخل في الدّولة العربيّة التي ستقام في ميزوبوتاميا (العراق الحديث)، بل يجب العمل من جانب حكومة صاحب الجلالة وبقدر المستطاع على تشجيع مبدأ الوحدة الكرديّة، ورعاية الهُويّة القوميّة للأكراد. إنّ امتداد المنطقة التي ستتيح لحكومة صاحب الجلالة المجال والقدرة على مواصلة هذه السياسة، سيعتمد بحكم الضرورة على الشروط النهائيّة لتسوية سلميّة مع تركيّا. ومهما بلغت هذه المنطقة الكرديّة من مساحة؛ فاعتقادنا أنّ سيطرة حكومة صاحب الجلالة ستسهّل بوجود نوع ما من نظام كرديّ مركزيّ، يلحق به مشاور سياسيّ بريطانيّ، على أن يكون هذا المشاور السياسيّ البريطانيّ مرتبطاً بالمندوب السامي البريطانيّ في ميزوبوتاميا – أي العراق – ومن خلاله ستكون صلته بحكومة جلالته”.

يُستخلص من هذه المذكرة أنّ المقاربات البريطانيّة من القضيّة الكرديّة، كانت مبنيّة على التجاذبات بينها وبين دول الجوار، وخاصّة تركيّا، فهي تنوي من خلال الدّولة الكرديّة الوليدة، أو الحكم الذّاتيّ المحلّيّ، استخدام الكرد من أجل استتباب مصالحها واستراتيجيّتها في المنطقة. فهو يشير بكلّ وضوح إلى أنّه سوف يعتمد من قِبَلها هذا النموذج من الإدارة للكرد، ريثما تنتهي التهديدات التركيّة ضدّ مصالحها.

وفي إطار هذا التوجّه البريطانيّ، أعادت سلطات الانتداب في العراق الشيخ محمود الحفيد البرزنجيّ من منفاه في الهند، وجدّدت له مسعاها في الحكم الذّاتيّ الكرديّ في العراق.

ويعتقد العديد من الباحثين والمؤرّخين أنّ دور المندوب السامي البريطانيّ في العراق السير “برسي كوكس” كان له الأثر الأكبر في تثبيط عزيمة الحكومة البريطانيّة في سعيها لحلّ القضيّة الكرديّة وإنشاء دولة مستقلّة للكرد، رغم أنّ المذكرة البريطانيّة التي طُرِحت في مؤتمر القاهرة، أكّدت أنّ الكرد هم أغلبيّة – وهذا اعتراف ضمنيّ من قبل البريطانيّين بالشّعب الكرديّ – سواء في منطقتي كركوك والسليمانيّة أو المناطق الشماليّة من ولاية الموصل التي تؤلّف جزءاً لا يتجزّأ من العراق. فاعترضه مباشرة أحد المندوبين البريطانيّين، (هربرت يونكَ)، واقترح إقامة دولة كرديّة، فوراً ومن دون تأخير، وأن توضع تحت الوصاية المباشرة للمندوب السامي البريطانيّ في العراق، لا أن تكون جزءاً من العراق الجديد أو ضمن مسؤوليّة حكومته (العراق الجديد)، في حين كان “ونستون تشرشل” يفضّل الحكم الذّاتيّ الكرديّ ضمن العراق الجديد، العراق الذي رسمت ملامحه أيضاً حكومة الانتداب البريطانيّ.

انتهى مؤتمر القاهرة باتّخاذ قرار مصيريّ بشأن القضيّة الكرديّة، بعد أن نال موافقة أغلبيّة المؤتمرين، في أن يُمنح الكرد استقلالاً تامّاً عن العراق، ولكن بوضعها تحت الوصاية البريطانيّة، إلا أنّها – وكعادتها – تركت بريطانيا أفخاخاً لا نهاية لها في القرار، بأن وضعت القرار رهيناً لمصالحها وتوجّهاتها السياسيّة المستقبليّة، بالقول: ” أنْ يبقى هذا القرار غير معمول به حتّى يتيسّر الوقت (بعد ثلاث سنين) ليتهيّأ للكرد رأي تمثيليّ قد يحبّذ أو لا يحبّذ الانضمام إلى العراق الجديد العربيّ”، وهذا القرار صدر محاباةً للسير “برسي كوكس” و”مس بيل” اللّذين عارضا قرار تشكيل دولة كرديّة مستقلّة.

ويذهب العديد من المؤرّخين، وخاصّة الأستاذ “جرجيس فتح الله” أنّ معارضة “برسي كوكس” إنّما تنبع من فكرة أنّ الكرد غير قادرين على إيجاد زعيم كرديّ “طيّعٍ” للأوامر البريطانيّة، مثلما هو في الجانب العربيّ من العراق، خاصّة بعدما توجّت بريطانيا فيصل ملكاً على العراق، بعد إجرائها استفتاءً شكليّاً على تنصيبه.

ويُعتقد أنّ هذه العقدة الكأداء (الصعبة) هي التي حالت دون حصول توافق كرديّ – غربيّ، سابقاً وإلى الآن، حيال إيجاد حلول واقعيّة للقضيّة الكرديّة، هي المخاوف الغربيّة التي تدور حول فكرة مركزيّة؛ تهيئة فئةٍ من الكرد، ترتبط مصيريّاً مع المصالح والتوجّهات الغربيّة أو ما يُملى عليها من قبلهم. وعلى امتداد القرن العشرين، وحتّى وقت قريب، لم تبدِ أيّ من القوى الكرديّة رغبةً في اللّحاق بالرّكب الغربيّ والعمل وفق المسارات التي رسمتها، وأضيف إليها عامل آخر؛ التأثيرات المباشرة من المنظومة الاشتراكيّة، رغم أنّها هي أيضاً لم تتبنّى بشكل جدّيّ أيّ حلّ للقضيّة الكرديّة. فأثناء الثورة التي قادها مصطفى البارزانيّ في جنوب كردستان وفي فترة السبعينات، شاركت طائرات التوبوليف السوفيتيّة في قصف مواقع البيشمركه في جبال كردستان، لاعتقاد السوفيّيت أنّهم يكافحون “ثورة رجعيّة” في شمال العراق، ضدّ “ثورة تقدّميّة” يقودها حزب البعث في بغداد.

معاهدة لوزان ونقض العهود:

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، عقد المنتصرون فيها، وخاصّة ما كانت تسمّى حينها بعصبة الأمم، عدّة اتّفاقيّات ومعاهدات، لحفظ مصالحهم، وأعادوا فيها تقسيم العالم، وخاصّة منطقة الشرق الأوسط أو أسلاب الإمبراطوريّة العثمانيّة المنهارة والتي خسرت الحرب.

وقّعت الدّول الغربيّة التي غزت مناطق الأناضول معاهدة موندروس في 30 أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1918 مع الإمبراطوريّة العثمانيّة، فرض الطرف الأول شروطاً مذلّة على الثاني، وأعلنت الثانية نهاية إمبراطوريّتها التي دامت أكثر من 6 قرون، إلى جانب إعلانها خروج سبع مناطق رئيسية عن سيطرتها، بما فيها كردستان، ورفع يدها عن التحكّم بمضيقَي الدردنيل والبوسفور، إلى جانب تسريح كاملِ الجيش العثمانيّ.

ظهرت جماعة الاتّحاد والترقّي، التي كان مصطفى كمال أتاتورك أحد أعضائها الفاعلين، على مسرح الأحداث في الأناضول، للحفاظ على ما تبقّى من إرث الإمبراطوريّة العثمانيّة، محاولة مدّ جسور مع العالم الغربيّ وكذلك الاتّحاد السوفياتيّ، رغم أنّ منطقة الأناضول تعرّضت هي بدورها إلى غزو كبير من قبل الدّول الغربيّة، فقاد أتاتورك في البداية حرباً ضدّها، بمؤازرة من الكرد بالدّرجة الأولى. إلّا أنّ التطوّرات اللاحقة، برهنت، بما لا تدع مجالاً للشكّ، أنّ أتاتورك، ومن خلال التغييرات الجذريّة التي أجراها في بنية المجتمع والدّولة التركيّة، إنّما خدم المصالح الغربيّة، والأصحّ؛ أنّه كان جزءاً منها.

إنّ إعادة قراءة مجمل مقرّرات وتوصيات المؤتمرات التي عقدتها الدّول الغربيّة بين الحربين العالميّتين وما بعدها حول القضيّة الكرديّة، وبتجرّد عن الإسقاطات الإيديولوجيّة والسياسيّة والانحياز إلى الجهويّة؛ توصّلنا إلى قناعات وتثبيتات هامّة جداً، على صعيد فهم المقاربات الدّوليّة لحلّ القضيّة الكرديّة وكُنْهِ اللامبالاة إزاء الكوارث التي لحِقت بها جرّاء تغاضيها عن الجرائم والمجازر الدّمويّة التي ارتكبتها الدّول الغاصبة لكردستان، وتوصلنا إلى حقيقة أنّ الغرب عموماً كان مشاركاً، إلى حدّ ما، في تلك المآسي التي لحقت بالشّعب الكرديّ وقضيّته، بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال بحثها عن مصالحها في ثنايا أروقة تلك الدّول، غير آبهٍ بمصير الشّعب الكرديّ وحقوقه، ما يضعنا أمام حقيقة وجدليّة الذّات والموضوع في إطار النضال الكرديّ المُستدام في سبيل تحصيل الحقوق الكرديّة.

الاستنتاج الأوّلي، والذي يجب عدم غضّ النطر عنه؛ أنّه بقدر مساهمة الدّول الغربيّة في تعقيد حلّ القضيّة الكرديّة، فإنّها في ذات الوقت تحتفظ إلى حدّ ما بمفاتيح حلحلتها، لأنّها هي من خلقت العُقد في طريق حلّها، وفتح الطرق أمام عودتها إلى مسارها الصحيح، من خلال عدّة مسارات وسويّات، باعتبارها تمتلك كلّ أشكال الضغط والمناورة في فرض حلول ترتقي إلى مستوى المطالب الكرديّة المشروعة، وتنسجم مع نضال القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة الكرديّة، ما يُعدُّ أمراً بالغ الأهميّة حاضراً ومستقبلاً.

ارتبطت الدّول المنتصرة في الحروب الكونيّة فيما بينها بمعاهدات واتّفاقيّات، أسهمت إلى حدّ بعيد في إرساء أسس التّعامل مع قضايا الشّعوب وفق منظومة متجانسة نوعاً ما، تأخذ بالقيم الإنسانيّة والحضاريّة وتُعدّها المنطلق في تحديد العلاقات الدّوليّة. غير أنّ التجاذبات والخلافات التي طغت على تلك العلاقات، وانحيازها إلى لغة المصالح والتنافس على التحكّم بمناطق النّفوذ في العالم، أضعفت تلك التوجّهات لدى الدّول، وسَرَت إلى بناء منظومة جديدة من العلاقات الدّوليّة والتّحالفات، بناءً على تشعّب مصالحها، وانقسام العالم بين معسكرين: غربيّ – رأسماليّ، وشرقيّ – اشتراكيّ.

إنّ ارتدادات الانقسام العالميّ على لغة المصالح والأيديولوجيا، انعكس بشكل سلبيّ، ومباشر على واقع القضيّة الكرديّة وفُرص حلولها، ولم يجد الكرد مناصاً من اللّجوء إلى أحد الأطراف أو تبنّي أيديولوجيّتها في رحلة البحث عن حلول لقضيّتهم، الأمر الذي لاقى تباينات عديدة في برامج وسياسات الحركات والقوى السياسيّة الكرديّة، وسبّبت بعض الانحرافات القويّة في تشتيت الجهد والنضال الكرديّ وضياعه في متاهة ولعبة الدّول الكبرى، دون أن تكترث الأخيرة بمصير شعب يبحث عن حرّيّته في فضاءات باتت أشبه بالجحيم الذي لا يُطاق.

إنّ فترة الحرب الباردة بين القطبين الشرقيّ والغربيّ، وحالة اللا حرب واللا سلم، أطلقت أيدي الدّول الغاصبة لكردستان لمحوِ الهُويّة الكرديّة من الوجود، وإغراق نضال الكرد وكفاحهم المشروع لنيل حقوقهم، في بحار من الدّماء والمجازر التي مازالت حتّى يومنا هذا طيَّ الكتمان، ولم تَظهر أيّة ردود فعل – وإنْ إنسانية – من قبل المعسكرين، لا الشرقيّ ولا الغربيّ، في الوقوف إلى جانب هذا الشّعب الذي يتعرّض للإبادة، بكلّ أشكالها وألوانها، من الإبادة الثّقافيّة من خلال محو الثّقافة واللّغة الكرديّة وكلّ ما يتّصل بتاريخ الكرد، مروراً باستخدام الأسلحة الكيماويّة والأنفال، وصولاً إلى دفنهم أحياء في المقابر الجماعيّة، ودون أن يحرّك المجتمع الدّوليّ ساكناً.

لقد ذكر قائد الشّعب الكرديّ عبد الله أوجلان في إحدى أحاديثه لبعض المثقّفين عام 1991، حيث قال ردّاً على سؤال من أحد المثقّفين الكرد: “لماذا لم ينتصر الكرد في نضالهم ضدّ الدّولة التركيّة، في حين أنّ الثّورة الجزائريّة انتصرت في أقصر مدّة زمنيّة..؟”، فقال أوجلان: “لو أنّ الدّولة التي نحاربها مثل فرنسا، لانتصرنا في فترة أقصر من الجزائريّين، إنّنا لا نحارب الدّولة التركيّة فقط، بل إنّنا نحارب العالم أجمع، من موقعنا، فكلّ دول العالم تدعم الدّولة التركيّة بحكم تقاطع مصالحها معها، وإن سحبت تلك الدّول دعمها عنها؛ فأنا على يقين أنّ الدّولة التركيّة لن تدوم أكثر من شهر”.

هذه الحقيقة الساطعة تشير بكلّ جلاء إلى أنّ تلك الدّول لها دور محوريّ في إبقاء القضيّة الكرديّة دون حلّ إلى الآن، وأنّ جزءاً كبيراً من عالميّة القضيّة الكرديّة ينبع من هذه النقطة بالذّات، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال تجاوزها أو التقليل من شأنها، فمثلما كانت المؤتمرات والمعاهدات التي عُقدت لأجل حلّ القضيّة الكرديّة أكسبتها الصّفة الدّوليّة، كذلك جهودها الحثيثة في تغييبها؛ لاتزال تحظى بأهميّة بالغة. إنّ خلق التّوازن بين العامل الدّاخليّ الكرديّ والخارجيّ، الغربيّ خصوصاً، يُعدُّ من أصعب التحديّات التي تواجهها القوى التحرّريّة الكرديّة سابقاً وفي عصرنا الحالي.

القضيّة الكرديّة بعد لوزان:

لم يعد خافياً أنّ مقرّرات معاهدة سيفر لم ترَ النور، وكذلك بعدها مؤتمرات لندن والقاهرة وغيرها التي عقدت ونوقشت فيها القضيّة الكرديّة، ويُرجِعُ معظم المؤرّخين فشلها والانكفاء الغربيّ عن تقديم مشاريع حلول جادّة لحلّ القضيّة الكرديّة، إلى الازدواجية الغربيّة وعدم رغبتها في حلّها، لأسباب تتعلّق بتوجّهاتها واستراتيجيّاتها في منطقة الشرق الأوسط، وتماهياً مع التوليفة الجديدة في تشكيل كيانات قومويّة عربيّة وتركيّة، اعتمدت في تكوينها البدئيّ على إنكار الكرد وقضيّتهم، مقابل تحقيق رغبات الدّول الغربيّة والحفاظ على مصالحها، والدّخول في تحالفات معها، كحلف بغداد الذي رعته بريطانيا، بالتوازي مع دخول تركيّا حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بداية خمسينات القرن الماضي.

التغييب الكامل للقضيّة الكرديّة كان في مؤتمر لوزان الذي عقد في مدينة لوزان السويسرية في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1922، واستمرّ لثمانية أشهر، مع انقطاعات بلغت حوالي 3 أشهر. ورغم أنّه تمّ تثبيت مبدأ استقلال كلّ من أرمينيا وكردستان في مؤتمر سان ريمو الذي عقد عام 1920، كرّسوا فيه تقسيم المنطقة وفرض الانتداب عليها.

يؤكّد الفيلسوف عبد الله أوجلان في مرافعته التّاريخيّة لمحكمة حقوق الإنسان، المجلّد الخامس، وفي معرض تحليله الظروف التي أنتجت معاهدة لوزان والنتائج التي تمخّضت عنها، بالقول: “إنّ لمعاهدة لوزان معانيَ مختلفة لدى كلّ من الكرد والأتراك..”.

وضعت معاهدة لوزان القضيّة الكرديّة بين فكّي الإبادة الثّقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة، في حين أعادت للأتراك تشكيل دولتهم على أسس قومويّة بحتة، لتقطع بينها وبين الثّقافة الشرقيّة، وتُلحقها بالثّقافة الغربيّة.

أعاد أتاتورك بناء دولته الحديثة ونقل عاصمتها من إسطنبول إلى أنقرة، واعتمد بشكل قويّ على الدّعم الغربيّ المفتوح الذي انهال عليه في قمع أيّة مطالب كرديّة بالتحرّر. الرّغبة الغربيّة في سدّ تأثيرات الثورة البلشفيّة في روسيا على تركيا وكامل المنطقة، وضع تركيا الأتاتوركيّة ضمن اهتماماتها الأولى، وهو عامل مؤثّر في نقض كافّة المقرّرات التي صدرت عن الدّول الغربيّة في مجمل مؤتمراتهم بخصوص حلّ القضيّة الكرديّة.

إرسال أتاتورك للكرديّ عصمت إينونو على رأس الوفد التركيّ لحضور مؤتمر لوزان، له دلالاته التّاريخيّة العميقة لجهة حالة الإنكار المفروضة على الكرد من قبل الدّول التي اقتسمت جغرافية كردستان، وكذلك من قبل الكرد أنفسهم. حالة الانسلاخ القوميّ الكرديّة المتمثّلة في شخصية إينونو ودفاعه المستميت عن الدّولة التركيّة، إنّما تمثّل جرحاً موغلاً في المجتمع الكرديّ مازالت تأثيراته مستمرّة، بشكل أو بآخر حتّى يومنا هذا، ولم يتمكّن الكرد من التحرّر من عقدة إنكار ذاتهم وهُويّتهم، مقابل الافتخار بهُويّة غيرهم وتمجيد تاريخها. الدّارسون للحالة الكرديّة يعزون أسبابها إلى الرّابطة الدّينيّة التي جمعت الكرد مع سائر شعوب القوميّات الحاكمة لبلادهم، إضافة إلى العقدة الدّونيّة التي ظلّت تلاحق الكرد، فضلاً عن الانكسارات الكرديّة المتلاحقة في ثوراتهم وانتفاضاتهم المستمرّة، وإلى نقص في تكوينة الشخصيّة الكرديّة.

كما أنّ الثنائيّة المتناقضة “الاعتزاز بالهُويّة الكرديّة – الإنكار” ساهمت بحدّ ذاتها في إبقاء القضيّة الكرديّة في حالة السكون المطبق، رغم السعي الحثيث لتجاوزها والانتقال إلى مرحلة تحقيق انطلاقات جديدة من شأنها أن تزيل الآثار المدمّرة التي خلّفتها لوزان وغيرها من مؤتمرات “التآمر” على القضيّة الكرديّة.

تنازلُ كلّ من بريطانيا وفرنسا لتركيا في لوزان، ورفضهما لمشاركة أيّ وفد كرديّ في المؤتمر، وإحجامهما عن مناقشة القضيّة الكرديّة في كردستان وبشكل خاص في تركيا، يعود بالدّرجة الأولى إلى استعداد تركيا الأتاتوركيّة أن تصبح بلاده ساحة نفوذ غربيّ، وتداركاً من ارتماء تركيا في أحضان الاتّحاد السوفياتيّ، الذي يشكّل خطراً على مصالحهما في المنطقة. وفي هذا المؤتمر بالذّات منحت بريطانيا الشرعيّة للدّولة التركيّة الوليدة، بعد أن التزم أتاتورك بتطبيق المعايير الغربيّة في بناء دولته، وخاصّة حالة القطع التي فرضها مع الإرث الإسلامي.

إنّ البُعد الدّوليّ في حلّ القضيّة الكرديّة، يحتّم التّعامل معها وفق منهجيّة تأخذ بعين الاعتبار الثّوابت الوطنيّة الكرديّة، وليس التماهي مع كلّ ما يتمّ طرحه من أفكار ورؤى ومشاريع تبدو للوهلة الأولى أنّها حلول واقعيّة ومناسبة للقضيّة الكرديّة، إلا أنّها تضعها ضمن متاهات اللا حلّ، وتجعل من الصعوبة بمكان البحث عن آفاق مستقبليّة تضع محدّدات وطنيّة، تتجاوز معها حالة الإنكار، وتنسجم مع النضالات والمقاومات التي يخوضها الشعب الكرديّ في أجزاء كردستان الأربعة.

إنّ نظام العولمة الذي يفرض نفسه الآن، والتحوّلات الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة الجارية في العالم، وإعادة رسم خرائط جديدة في منطقة الشرق الأوسط، دفعت بالقضيّة الكرديّة لتكون محور اهتمام العديد من القوى الكبرى، من منظور ضرورة الانسجام مع الاستراتيجيّات الجديدة التي تضعها للمنطقة.

غير أنّ المعضلة الرّئيسيّة في تردّد الكرد من التّوافق كلّيّاً مع المعادلات السياسيّة الجديدة، لا ينبع من حالة الوهن التي يعيشها الكرد داخليّاً، بل مردّها إلى فقدان الثقة بالقوى التي تمسك بنياط التحوّلات في المنطقة، وكذلك إلى الدور المؤثّر للقوى المحتلّة للوطن الكرديّ في عرقلة أيّ حلّ دوليّ للقضيّة الكرديّة. وتغيير النمطيّة الفكريّة الدّارجة لدى الدّول الغربيّة ونظرتها تجاه القضيّة الكرديّة، يتطلّب بالدّرجة الأولى تحوّل الكرد إلى قوّة حلّ في معادلات الحرب والسياسة، على حدٍّ سواء.

يذهب العديد من الباحثين في تاريخ نضال الشعب الكرديّ إلى الاعتقاد أنّ الكرد قد قطعوا أشواطاً لا بأس بها في وضع قضيّتهم ضمن مراكز صناعة القرار الدّوليّ، وهو بطبيعة الحال لم يأتِ إلا بعد نضال دؤوب من حركة التحرّر الكرديّة، والارتقاء بأسلوب التّعامل مع القوى الخارجيّة، وفهمها لمعادلات التّوازن الدّوليّة، ورغم النكسات التي يتعرّضون لها؛ إلا أنّهم حقّقوا قفزة استراتيجيّة على طريق حلّ قضيّتهم حلّاً عادلاً، وإنْ اختلفت مستويات الحلّ وسُبُل الوصول إليه.

________________________________________________________

المصادر:

1 – الأستاذ المؤرّخ جرجيس فتح الله في كتابه “يقظة الكرد”.

2 – الدّكتور عبد العزيز المفتي، محاضرة عن مؤتمر القاهرة.

3 – حديث لقائد الشّعب الكرديّ عبد الله أوجلان في إحدى أحاديثه لبعض المثقّفين عام 1991.

4 – عبد الله أوجلان، مرافعته التّاريخيّة لمحكمة حقوق الإنسان، المجلّد الخامس.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى