أبناء الحوريين والميتانيين لازالوا يُهجرون من “واشو كاني” ويتعرضون للمجازر -1-
لزكين إبراهيم
لزكين إبراهيم
تعد سورية الطبيعية من أقدم المناطق المأهولة في منطقة حوض البحر المتوسط، إذ توجد فيها مستوطنات ومراكز بشرية تعود إلى أكثر من مليون سنة، وقد ساعد موقعها الجغرافي ومناخها وطبيعتها المتنوعة، من سهول وهضاب وجبال على جذب المهاجرين إليها.
وكما كانت سوريا ملتقى للطرق التجارية كانت أيضاً ملتقى الشعوب المختلفة، وهنا سنركز على منطقتي “سري كانية “واشو كاني” الواقعة أقصى شمال شرق سوريا على الحدود الفاصلة بين سوريا وتركيا الحالية، والتي احتلتها تركيا مؤخراً. وسنذكر لمحة عن أقدم الشعوب والأقوام التي سكنوا فيها والمراحل التي مرت بها عبر التاريخ، وكيف تعرض أهلها للتهجير والمجازر، ولازالت تواجه التغيير الديمغرافي ويتعرض أهلها الأصليون أحفادُ الحوريين والميتانيين للإبادة والانتهاكات.
الحوريون… أجداد الكرد القدماء ومناطق انتشارهم
من بين الشعوب التي سكنت سوريا منذ العصور التاريخية القديمة واستمروا على هذه الأرض حتى الآن هم الشعب الكردي، فقد سكن أجدادهم الهوريون (الحوريون – الخوريون) والميتانيون سوريا منذ الألف الثاني قبل الميلاد وهم من شعوب جبال زاغروس القديمة (الأجداد القدماء للشعب الكردي). وقد أسس الحوريون في سوريا مملكة قوية سيطرت عليها وعلى معظم المنطقة ردحاً من الزمن.
وقد ظهر الحوريون على مسرح التاريخ في أواخر عهد الدولة الأكادية 2360 –2180 ق.م، إذ نجد بين الوثائق واللقى التاريخية المتفرقة من تلك الحقبة إشارات تدل على ظهور بعض الممالك الحورية الصغيرة، إذ وجدت سلالات حاكمة في المنطقة ذات أسماء حورية، كانت ترى نفسها في مستوى ملوك أكاد (( مثل الملك : أَتَل- شِن، أو آري – شِن، الذي يسمي نفسه في أحد النقوش باسم ” ملك أوركيش”).
ومعنى كلمة ( هوردي- خُرَدي Huradi الجندي اليقظ) وهذا المصطلح قريب من حيث الاسم والمعنى من كلمة الكرد، فإذا كانت كلمة خُرَدي تعني الجندي اليقظ، فإن كلمة (كرد أو كردي في اللغة الآشورية تأتي بمعنى القوي وفي الفارسية القديمة ” البهلوية ” البطل أو المصارع)، وهي بذلك قريبة من المعنى السابق أو هي صفة من صفات الجندي اليقظ.
وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد شكل الحوريون مملكة قوية امتدت من جبال زاغروس شرقاُ حتى الفرات الأوسط غرباً، وقد اتخذوا من مدينة أوركيش (كري موزان القريبة من مدينة عامودا حالياً) عاصمةً لهم، ونتيجةً لسيطرتهم على الطرق التجارية بين وادي النيل وبلاد الرافدين والأناضول ازدهرت المملكة الحورية بسرعة وازدادت رقعة مساحتها، فسيطرت على معظم سوريا بما فيها ممالك الساحل الفينيقية كمملكة أوغاريت (مما جعل المصريين في عهد الدولة الحديثة 1575 – 1087 ق.م يسمون سورية باسم بلاد الحوريين) ويشكل ( تاريخهم – أي الحوريون – صفحات أساسية من تاريخ سوريا القديم خلال الألف الثاني قبل الميلاد، فقد ارتحلوا إليها كغيرهم في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، واتخذوها موطناً، وأسهموا في تاريخها السياسي والحضاري، وتمكنوا في مطلع القرن الخامس عشر قبل الميلاد بالتحالف مع الميتانيين من تشكيل مملكة قوية، تمركزت في مناطق الجزيرة السورية العليا، وامتدت غرباً في الشمال الـسوري، وشرقاً في الشمال العراقي.
الدولة الميتانية التي اتخذت من “واشو كاني” عاصمة لها
للعودة الى تاريخ مدينة عريقة مثل واشو كاني (سري كانيه) علينا أن نعود 3000 سنة إلى الوراء في زمن المملكة الميتانية والتي كانت عاصمتها حين ذاك واشو كاني والتي هي نفسها “تل الفخيرية” الواقعة بالقرب من سري كانيه المستحدثة من تلك المدينة العظيمة, والتي يعود تاريخ نشأتها الى نهاية القرن السادس عشر ق.م وامتدت حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وبدءاً من القرن الخامس عشر قبل الميلاد أخذ بعض ملوك الهوريين يلقبون أنفسهم بالميتانيين، وخاصةً أولئك الذين تمركزوا في وادي نهري الخابور والبليخ. وأطلق على هذه المملكة الحورية اسم المملكة الميتانية.
تشير كنية “ميتاننى” التي نراها غالباً في سجلات الألف الثاني قبل الميلاد، إلى نظام سياسي ظهر في البلاد الكردية الحالية، بيد عناصر من الهنود ـ الآريين، الذين شكّلوا الطبقة الأرستقراطية في المجتمع الحوري، وعُرف محاربوهم من الفرسان بـ MERYAN (ميران الكردية “السادة، أو الأمراء”). فبعد استقرار هذه العناصر التي أنشأت نظامها السياسي في القرن السادس عشر ق. م، باسم الدولة الميتانية، وتمركزت في السهول الواقعة فيما بين جبال طوروس، وبادية سوريا، حيث خضعت لها الممالك المحلية في أرابخا “كركوك الحالية”، وآشور، وألالاخ، وإيبلا، وحلب.
وقد امتدت المملكة الميتانية على نفس المساحة التي قامت عليها الدولة الحورية بالإضافة إلى فلسطين التي بلغ من قوتها أن امتد حكمها من البحر المتوسط إلى مرتفعات ميديا والتي ترد أحياناً في الوثائق الأكادية والآشورية باسم ”خاني جَلْبَت، أو خالي جلبت“، ويدل كلا الاسمين ” ميتاني وخاني جلبت ” على البلاد الواقعة بين منعطف نهر الفرات والمجرى العلوي لنهر دجلة، وهي تسمية ميتانية أطلقت على معظم مناطق الجزيرة العليا ومركزها منطقة مثلث ينابيع الخابور، ويرجح أن مملكة ميتاني كانت تشمل أيضاً مناطق طور عابدين والسهل المحيط بديار بكر وذلك ما بين تاريخي 1520 ق. م وحتى 1240 ق. م.
واتخذت الدولة الميتانية من مدينة “واشو كاني” التابعة لمدينة سري كانية الحالية عاصمةً لها وكانت حكومتها إحدى الحكومات الأربع الكبيرة في ذلك الوقت وهي :”الدولة المصرية الحديثة، والدولة الحثية، ودولة كاردونياش، والدولة الميتانية”.
وبذلك التأكيد على كون مدينة “سري كانية/واشو كاني” أول من سكنها هم الآريون الكرد بالإضافة إلى أن المدينة كانت تترنح بين سيطرة الكرد تارة والآشوريين تارة أخرى عليها حتى زمن الخليفة عمر بن الخطاب والذي أمر جيشه بالدخول اليها والسيطرة عليها لتصبح في فترة الحكم الإسلامي وما بعد بيد ثلاث قوميات هم الكرد والسريان والعرب.
الحزام العربي وتأثيراته على ديمغرافية سري كانية
الحزام العربي هو مشروع قررته الحكومة السورية في عام 1965، يهدف إلى تفريغ منطقة الجزيرة أو محافظة الحسكة من السكان الكرد الأصليين وتوطين أسر عربية بدلاً عنهم. وامتد الحزام بطول 300 كيلو متر وعرض 10-15 كيلو متر، من الحدود العراقية في الشرق إلى سري كانية/رأس العين في الغرب.
واغتنمت السلطات فرصة بناء سد الفرات ومشروع إعادة توزيع الأراضي الزراعية كي تستولي على أراضي الفلاحين الكرد لإقامة مزارع نموذجية مزودة بالمياه والمدارس والحماية الأمنية وتمليكها لفلاحين عرب غمرت مياه السد قراهم، وبالفعل تم توطين أكثر من أربعة آلاف أسرة عربية في الشريط الحدودي وتوزيع أكثر من 700 ألف دونم من الأراضي المصادرة عليهم. ورافق ما سبق سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الكردية وصهر الكرد كأفراد في بوتقة القومية العربية، تجلت في قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال نشطائها وتغيير الأسماء الكردية التاريخية لمئات القرى والبلدات والتلال والمواقع واستبدالها بأسماء عربية، وحرمان الكرد من التحدث بلغتهم الخاصة ومنع الموسيقا والأغاني الكردية.
وكان لمدينة “واشو كاني” نصيب من هذا المشروع الذي غير من ديمغرافيتها وأوفدت إليها المئات من العوائل العربية مقابل تهجير الكرد منها.
بداية هجمات المجموعات المتطرفة على سري كانية وسبب اختيار هذه المدينة
بعد تحرير وحدات حماية الشعب مدينة سري كانيه عام /2012/ من قوات النظام، تعرضت المدينة لهجمات من قبل فصائل “جهادية” تابعة للمعارضة السورية المسلحة، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، واندلعت اشتباكات مسلحة بين الطرفين.
وعلى أثر تلك الاشتباكات، تمكنت تلك الفصائل التي كانت تتزعمها (جبهة النصرة) وكان من أبرز فصائلها كتيبة “غرباء الشام” التي كانت تضم مسلحين من خارج سوريا كتونس وليبيا والمغرب واليمن وغيرها من دول العالم، والتي كانت تدعمهم تركيا، من الاستيلاء على عدد من القرى في ريف المدينة، إلا أن مركزها بقي تحت سيطرة وحدات حماية الشعب.
وبعد نحو شهر من اندلاع الاشتباكات، توصل الطرفان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في كانون الثاني/ديسمبر 2012، والذي لم يدم طويلاً. فمع بداية عام 2013 استأنفت الاشتباكات من جديد، وكانت أغلبها تقع في أرياف المدينة، ونادراً ما كانت تصل لداخلها، حتى وصلت إلى داخل المدينة في شهر شباط/فبراير من العام نفسه، حيث انقسمت السيطرة عليها بين الجزء الغربي الذي حافظت الوحدات على السيطرة عليه، والجزء الشرقي الذي خضع لسيطرة الفصائل المرتزقة والجهادية الذين ما كانوا ليتمكنوا من دخول المدينة لولا الدعم التركي وشن الهجمات من خلف الحدود التركية على المدينة.
لم يكن صدفة اختيار «سري كانيه»- التي عرّب اسمها إلى «رأس العين» وتغيرت ديمغرافيتها على مر السنوات السابقة كأول مدينة كردية تخترقها وتحتلها مجاميع جهادية وتكفيرية- إذ أن اختيارها جاء بهدف تحويل الثورة في روجآفا إلى حرب عرقية، بعد أن حوّل الجهاديون الثورة السورية إلى حرب طائفية سنية ــ علوية، وبغية توسيعها إلى حرب عرقية كردية ــ عربية، كما هو مخطط له وفق سيناريو احتلال «سري كانيه» التي تعد خططها في تركيا، فاختيار المدينة لم يأت اعتباطاً، إذ تمثل سري كانية مصغراً عن سوريا، حيث يوجد إلى جانب الكرد، العرب والسريان والأرمن والشيشان والمسيحيون والإيزيديون والمسلمون، ما يجعلها منطقة حساسة وقابلة للتفجير. وهنا أتى اللعب على هذا الوتر بما يفجر المنطقة الكردية ككل. منطقة غدت حاضنة للنازحين واللاجئين الهاربين من الحرب من المناطق العربية السورية.
ورغم أنّ الكرد كانوا مصرين على المضي في ثورتهم السلمية وعدم تحولهم الى طرف في الصراع الطائفي المشتد في البلد، لكن مع شروع المجموعات الجهادية والمرتزقة في الهجوم على المواطنين الكرد ومحاولة استهداف الرموز والأعلام الكردية وحواجز الأمن (الأسايش) الكردية، كان لا بد لوحدات حماية الشعب من التصدي لها واعتماد خيار الدفاع عن النفس، وصولاً الى طرد هذه المجموعات من المدينة. وتكبدت هذه المجموعات المرتزقة خسائر فادحة في العتاد والأرواح على أيدي القوات الكردية التي أظهرت معركة «سري كانيه» مدى تطور قدراتها ومهاراتها القتالية التي ترفدها بالأساس الروح المعنوية العالية والالتفاف الشعبي الهائل حولها كقوات دفاعية تحمي شعبها وأرضها في وجه كافة الاعتداءات.
وفي شهر تموز/يوليو 2013، أطلقت وحدات حماية الشعب حملة تمكنت على أثرها من طرد تلك الفصائل من المدينة وريفها، وصولا إلى المناطق المتاخمة لبلدة تل أبيض/ كرى سبي غرب المدينة.
وفي /16/ حزيران/يونيو من عام 2015 بدأت الوحدات حملة عسكرية بغية السيطرة على كامل المناطق الحدودية الممتدة من مدينة سري كانيه شرقاً حتى كوباني غرباً، مروراً بمدينة كري سبي/تل أبيض.