صلاح الدين مسلممقالات

التخبّط العالمي من خلال الحرب على عفرين

صلاح الدين مسلم

صلاح الدين مسلم

صلاح مسلم
صلاح مسلم

يبدو أنّ البربوغندا والضخّ الإعلامي اللذَين تروّج لهما منظومة النظام العالميّ المهيمن كي تركع الشعوب لم تعد تنفع كثيرًا، وهذا الصراع الذي اختلقته الدول لإركاع قدرات المجتمعات تُصاب بالخيبات، ففي بقعة صغيرة في العالم تشبه رأس الدبّوس تسمّى (عفرين) تواجه الدولة الرابعة في العالم من حيث الترسانة العسكرية والقوّة، (حسب زعم تلك الماكينة الإعلاميّة).

لكنّها لا تواجه هذه الدولة فحسب، بل هو صراع ما بين الدولة القومية الكلاسيكية وما بين المجتمع الديمقراطيّ الحديث، ما بين ذهنية المجتمع التي لم تعد تتقبّل هذه الديكتاتوريات، وبين هذه الصرامة الفجّة في الدولة الواحدة والشعب الواحد واللغة الواحدة والذهنية الأحادية التي لا تقبل التنوّع، والألوان.

هناك تسارع عظيم في المجتمع الديمقراطيّ في الشمال السوريّ، وهو ما أدركته ذهنية أردوغان وأتباعه التي رأت فناءها في استمرارية هذا المشروع في الشمال السوريّ أي على حدودها الجنوبية الشرقيّة، حيث تهبّ على تركيا نسمات الحرّية والديمقراطيّة من موطن الحضارات.

فدعمت النصرة وشوّهت هذه الفصائل المسلّحة وقتلت من لم يرضخ لها، وأتت بالأصيل العربي لتجعله هجينًا متسولًا يراقب زخات المطر التي حصر غيمها في حقده على كل شيء أخضر وجميل، وشوّهت كلّ جميل، لكنها فشلت، وبنت هذه الدولة المقيتة الجسورَ لتقلّص من نهر الفرات، وسلبت المزارع والأشجار وكل يوم تقوم بعمل دنيء، ودعمت داعش، وعندما هزم داعش في الرقة وبات الفناء مصيره، هاجم عفرين بكلّ قواه ليظنّ أنّه سينتصر في أيام معدودات وها هي الأسابيع وهو يتقدّم بهدوء يكلّفه كثيرًا، يريد أن يهرب من هذه الحرب التي وقع في فخاخها، بعد أن سحبت تركيا كلّ المقاتلين الأجانب من تركمان وأيغور وأوزبك من إدلب إلى الحدود التركية تمهيداً لإعادتهم إلى بلدانهم، وسحبت كل إعلامييها وعلى وجه الخصوص؛ إعلاميي قناة TRT من إدلب، وإخلاء كلّ مقرات البث وسحبها، وإغلاق إذاعاته، واستقالة المحيسني المفاجئة، ورغبتهما الخروج من إدلب، وكلّ المعارضة والفصائل المسلّحة وضحايا اتّباع هذا النهج متجمّعين في إدلب، وهناك صفقة فيها من خلال الاتفاق الروسي التركيّ، فتركيا تختلق اقتتالًا ما بين تلك الفصائل، وأتباع جبهة النصرة ينشقون تحت مسمّى جديد، وتحاربها، وروسيا سوف تعطي السلاح لتركيا، وهي سابقة خطيرة لدولة في الناتو تريد أن تشري أسلحة من الحلف المضاد لحلف الناتو، وأميركا تريد أن تروّض الوحش التركيّ عبر صمتها على عفرين. كلّ هذا لتدخل عفرين وتحتلها، لتصبح ساحة أخرى من ساحات المناقصة والمزايدة الدولتية، وتوزيع الأدوار بما فيها إيران وأميركا وروسيا.

إنّ ما يشدّ الانتباه هو هذا التخلّي الروسي عن بقعة من سوريا لصالح تركيا، والتي قالت روسيا عنها إنّها ترعى الإرهاب، أي أنّ روسيا رأت أنّها خسرت المعركة في سوريا حتّى تتنازل لصنّاع الإرهاب التكفيري الجهاديّ المتمثّل في تركيا، وبالتالي دخلت روسيا في معمعة التناقض العالمي الذي وقعت فيه معظم الدول المتصارعة، فروسيا تحارب أولئك التكفيرين في الغوطة وتساندهم في عفرين، إنّها مهزلة التناقض؛ سمة الحرب الحديثة في القرن الواحد والعشرين.

في غياب المشروع العربيّ في سوريا، وبعد فشل المشروع الغربيّ في تسريب الليبراليّة إلى الشرق الأوسط عبر البوابة السورية عبر الوسيط الفرنسيّ، بات اللجوء واضحًا إلى الحلّ البريطانيّ الذي يدعم الإرهاب ويغذّيه عبر منظومة الإخوان المسلمين، وبات اللجوء إلى هذا الحلّ كمثل اللجوء إلى كلب الحراسة في حال فقدان أيّة حلول أخرى، وما من حلّ إلا في دعم العثمانية الجديدة، وقد ظهر المشروع الإيراني إلى الملأ، وكذلك المشروع التركيّ الإسلاميّ، وهما متّفقان على الحرب ضدّ الكرد، وإن كانت إيران تساند هذه الحرب بخجل شديد.

إنّ الذين لا يستوعبون مرونة الأمّة لديمقراطية في تفاديها من غيلان الحداثة الرأسمالية سيظلّ قابعًا في قفص الراديكاليّة الصلبة، والنظر بمنظار الأبيض والأسود، وأنّ الحياة لا حلّ وسط لها، وبالتالي تظهر الكلاسيكيّة التي لا تتناسب مع الحداثة الديمقراطيّة التي تعتمد على التأقلم مع الظروف في مواجهة تغوّل النظام العالمي الجديد، وبالتالي تخرج الكلاسيكيّة الراديكاليّة إلى الملأ، والتي تكيل المثاقيل كلها بميزان السيء والجيد، الجميل والقبيح، الأبيض والأسود، وهذا ما تريده الحداثة الرأسماليّة في أن تكون عبدًا لآلة التصلّب، وبالتالي التصادم مع الحداثة الرأسمالية كما يحصل في عفرين، وكذلك الليبرالية الكرديّة التي لم تستطع فهم الليبرالية الغربية وإنشاء مزيج ما بين الثقافة الشرقيّة وبين النفحات الغبيّة، وبالتالي ظهر الهجين الذي لم يرضِ النظام العالميّ أيضًا والذي لم يواكب الحداثة ولم يستطع إقناع الجمهور، وبالتالي خرجت ردّات الفعل القويّة من النظام العالميّ فاستطاعت أن تتخلّى عمّن صنعتهم كما حصل في تخلّي أميركا وفرنسا وبريطانيا عن الجيش الحرّ، وتخلّي أميركا عن إقليم كردستان، فالليبرالية الكرديّة والعربية  هي مزيج غريب من الليبرالية الثورية الهجينية والراديكاليّة الإسلاميّة.

كأنّ هناك مواجهة ما بين صنّاع النظام العالمي أنفسهم، وهو اختبار رأسماليّ صرف للتيار القوميّ الراديكاليّ الإسلاميّ في تركيا وبين الفصائل المسلّحة التي تحوّلت إلى جيش من المرتزقة الذين لا يمتلكون أي مشروع بعد أن سلّموا أنفسهم إلى العثمانيّة الجديدة، إذْ يبدو أنّ ذهنية نظام الهيمنة العالميّ الجديد يعيش في تخبّط فظيع، وكأنّهم بحاجة إلى منقذ ينتشلهم من هذا التخبّط، فلم تصل الصراعات العالميّة – خاصّة في سوريا والعراق واليمن – إلى هذا التخبّط وهذا العقم والأفق المسدود أبدًا، فروسيا وتركيا وإيران وسوريا متحالفة ومتصارعة، كذلك الأمر أميركا وروسيا، السعودية وأميركا ضد قطر وتركيا، السعودية وتركيا ضد النظام السوريّ، مصر ضد تركيا ومع السعودية أميركا مع قوّات سوريا الديمقراطيّة شرق الفرات ولا علاقة لها بها لا من قريب ولا من بعيد في عفرين… وقائمة التناقضات تطول، وهذا يعني تدهور النظام العالمي الجديد.

إنّ الحرب في سوريا كلّما بدأت تصل إلى الحلّ هناك من يذكّي نيرانها ويشعلها من جديد، ومازلوا يتحدّثون عن حرب أهليّة مرتقبة، فدولة داعش تنتظر هذه الحرب لتعيد مجدها، وما إن شارفت داعش على الانتهاء حتّى اشتعلت المنطقة من جديد من خلال تركيا التي لم تطلق طلقة باتجاه داعش، طوال هذه المدّة التي كانت داعش على الحدود التركيّة السوريّة، فإن كانت  مسألة الأمن القوميّ في خطر فلماذا لم ينشط هذا الشيء عندما كانت داعش متاخمة للحدود التركيّة طيلة وجود داعش في تل أبيض على سبيل المثال، ولماذا يعدّ الكرد خطرًا على أردوغان ولا يعدّ داعش خطرًا؟ ولماذا هذه المطالبة بتل أبيض بعد أن تحرّرت من داعش؟ فعلى المجتمع الدوليّ أن يتحمّل مسؤوليته التاريخيّة اتجاه الكرد واتجاه السوريين، فهناك العديد من الشهداء من عفرين ضدّ الحرب على داعش، ولا يمكن أن يحمل العالم شعار مكافحة الإرهاب من خلال استمرار الحرب، فالحرب تولّد هذا الإرهاب، لذلك بات وجود الولايات المتّحدة الأميركيّة مهمًّا مع هذه المعادلات العقيمة ومستحيلة الحلّ، وكلّما قويت العلاقة ما بين الكرد وأميركا اشتدّ سعير تركيا، وما هذه الحرب على عفرين إلّا عقابٌ لأميركا على مساعدتها ومساندتها للكرد، وكم من مرّة خيّرت أميركا ما بين تركيا وبين الكرد، لذلك تتخلّى عن حلب وإدلب لروسيا في سبيل إفساد هذه العلاقة ومعاقبة كلّ كرديّ، وتحذير أميركا التي تغضّ الطرف حاليًا عن عفرين.

لقد ظهر حزب العدالة والتنمية بدعم إسرائيليّ وأمريكيّ وأوروبيّ بداية الأمر، وهي العادة التي تقع فيها هذه الأطراف دائمًا منذ مساندة أفغانستان، فقد انقلب أردوغان على أولئك الذين أوصلوه إلى الحكم بعد أن تعاقد مع إيران وسوريا في سبيل القضاء على الكرد، وكان هذا تمهيدًا للوصول إلى الاتفاق التركيّ الروسي،  وبذلك بدأت تركيا تحيد عن محورها الرئيسيّ وكلّ هذه المحاولات الأميركيّة الترويضيّة هي لإعادة تركيا إلى جادّة الصواب، لكن على الطريقة الأميركيّة التي يخسر فيها الشعب في عفرين على سبيل المثال ويدفع الثمن، يقول المفكّر الفيلسوف عبد الله أوجلان في هذا السياق: “ومقابلَ التحالفِ المعادي للكردِ بين الحكوماتِ التركيةِ والإيرانيةِ والسورية، بدأَ يتكونُ في المرحلةِ الحاليةِ حِلفٌ معنيٌّ بالقضيةِ الكرديةِ يضمُّ أمريكا وأوروبا وإسرائيل والكرد. ويكمنُ PKK – KCK في مرمى كِلا القطبَين، اللذَين هما على وشكِ تغييرِ الشرقِ الأوسطِ من الجذور، وهنا يبرزُ إلى الميدانِ منهجُ PKK الأيديولوجيُّ والسياسيّ، ومنهجُ KCK العمليُّ الملموسُ والأكثر عينيةً على دربِ الحداثة الديمقراطية، ومدى علاقتِهما بالحقيقة. وما سيُحَدِّدُ النتيجةَ في خضمِّ الأحداثِ والمجرياتِ التاريخيةِ – الاجتماعية، هو الحقيقةُ بعينِها، لا الرياءُ الديماغوجيُّ الشنيع. وما يتبدى للعيانِ مرةً أخرى، هو الوجهُ العادلُ والمؤلمُ للحقيقة. وكأنّ التاريخَ ينتقمُ من الديماغوجياتِ والأساطيرِ الميثولوجيةِ المُدوّنةِ باسمِه. بينما يتجلى الواقعُ بنحوٍ أكثر وضوحاً وشفافية، أي كحقيقةٍ ساطعة. هكذا، وبينما يتركزُ التاريخُ في “الحاضر”، فإنّ “الحاضرَ” أيضاً يتأرخُ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وبقدرِ ما يغدو الصراعُ مرحلياً وراهناً على خطِّ أربيل – ديار بكر، فهو مُحاطٌ بهالةٍ من التاريخانيةِ أيضاً. وقلبُ المنطقة، بل وقلبُ العالَمِ أجمع ينبضُ بدقاتٍ متسارعةٍ على هذا الخطِّ بما يدلُّ في معناه على “الحربِ العالميةِ الثالثة”. بمعنى آخر، فإنّ قلبَ الثورةِ والثورةِ المضادةِ الذي كان ينبضُ يوماً ما على خطِّ أمستردام – لندن – باريس، وعلى خطِّ بطرسبرغ – موسكو؛ بات ينبضُ اليوم على خطِّ ديار بكر – أربيل – بغداد.”

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى