ﭼﻠﻨﮒ عمر – باحث اقتصادي
يقول كارل جيرشمان: ” إن الديمقراطية نتيجة من نتائج التحضّر وليست سبباً. بمعنى أن الديمقراطية تنبت من الأسفل ولا تنزل من الأعلى، إنها مختلطة بوعي الناس، بمدى تحضّرهم ومستوى تعليمهم، ومقدار كسبهم، وبمساحة الحرية الممنوحة لهم”.
أي أنّه لا يمكن أن تترسخ ديمقراطية حقيقة خارج أرضية تنموية حاضنة، إذ أن التنمية هي اللبنة الأولى التي تذهب بنا نحو تشكيل مجتمع ديمقراطي حرّ وخلّاق.. فمن أين نبدأ بالتنمية؟
لقد وضع علمُ الاقتصاد منذ نشأته الأساسَ العلمي لبناء الإنسان، باعتباره الخلية الأساسية لتكوين المجتمع إضافة لكونه يمثل مؤسسة إنتاجية بدءاً من قوة العمل الإنساني التي تعتبر الوحدة الاقتصادية الإنتاجية الأساسية ومروراً بالقوى المنتجة ووسائل وعلاقات الإنتاج والتطورات التي تحدث في هذه العوامل، والتي تكون سبباً في تبدل القوانين الاجتماعية التي تمنح المجتمع تركيباً معيناً.
إن الإنسان ككيان ذاتي يتطور عقلياً ونفسياً وجسدياً وفق كل هذه العوامل، ولكن البرامج التخطيطية الإنمائية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية تتحدث بكثير من الثقة عن قدرتها على تكوين الإنسان وتكييفه في مرحلة ما وفي مجتمع ما بإنسان آخر، يلبي متطلبات التنمية.
إن الإرادة الإنسانية ليست فردية، فالإنسان الفرد لا يستطيع أن يبقى حياً وأن يعمل وأن يلبي حاجاته الاقتصادية بجميع أشكالها إلا من خلال وجوده في جماعة، وهذا وحده دليل على أن للفرد إرادة إذا كان في مجتمع، ومن ثم فإن أي مطلب لخلق تنمية ولخلق إنسان مُنتِج إنما هو مطلب اجتماعي، ودور الفرد فيه كدور الجزء في الكل، والإرادة المجتمعية التي تتطلب التطور الاجتماعي والاقتصادي هي القادرة بالضرورة على خلق الإنسان المُنتِج، والحرية في كل هذا هي المحور.
إن الحرية المقصودة هنا هي تحرير الإنسان من الجهل والجوع والمرض، وتأسيساً على ذلك تفترض التنمية توسيع فرص ونطاق الاختيار للإنسان بناء على حقّ المعرفة والرعاية الصحية والفرص المتكافئة للمشاركة بين الجنسين، حتى يتمكن الإنسان من السيطرة على بيئته ومُقدراته وقُدراته لبناء حاضره ومستقبله انطلاقاً من واقع الشعور بالمسؤولية الإيجابية الحرّة أي مسؤولية الانتماء الاجتماعي، وبهذا تتوافر شروط المواطنة في إطار ديناميكي فعّال نابع من تفاعل الفكر والعمل الاجتماعيين.
إن تنمية رأس المال البشري؛ تنمية قدرات الإنسان/المجتمع، لا تأتي قسراً أو بقرارات استبدادية سلطوية من الأعلى، إذ لا بد لها من أن تكون نابعة من الجوهر ذاته، وهنا يبرز دور الحرية كآليّة تطوير حضاري وكثمرة ناضجة لهذا التطوير؛ إذ أن الحرية الإنسانية أو تنمية المقدرة البشرية تُشكّل المدخل الأساسي للتنمية الاقتصادية– الاجتماعية التي تُعتبر بدورها مدخلاً للديمقراطية، فالتجربة أثبتت أن الحرية تُساهم في توليد الثروة، وقد بيّنت العديد من الدراسات أن المجتمعات الغنية فيها احتمال أكبر للحكم الديمقراطي. بيد أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن تصبح مراكمة الثروة هدفاً بحد ذاته، فكما يقول أرسطو: ”الثروة ليست الخير الذي ننشده، ذلك أنها مجرد أداة نافعة للحصول على شيء آخر“. وكذا الموارد الاقتصادية ما هي إلا وسيلة لتحقيق أهداف أخرى تعود بالنفع على الناس ككل في مجتمع ما.
وإن كنا أشرنا بأن الحرية الإنسانية أو تنمية المقدرة البشرية هي الهدف في سبيل الوصول للمجتمع الديمقراطي، حيث لا مجتمع حر دون أفراد أحرار.. لنا أن نتساءل ما هي الوسائل لذلك؟
يجيبنا علم اجتماع التنمية بأن الإدارة الرشيدة أو الحوكمة هي إحدى هذه الوسائل للتحول في عملية الحكم من الفردية والاستبداد إلى الديمقراطية والتشاركية والقيم المجتمعية الإيجابية؛ فالإصلاحات الاقتصادية لوحدها غير كافية بدون معالجة القضايا السياسية والاجتماعية، ذلك أن سبب الفشل يكمن في طبيعة النظم السياسية التي تتميز بقصور وعجز الأداء بسبب تفشي الفساد وغياب الإطار المؤسساتي الضامن لحكم القانون، بعبارة أخرى، أي مشروع تنموي طموح لا يمكن أن ينجح بدون شرعية سياسية ومؤسساتية فاعلة.
ربطت أغلب الأدبيات المعاصرة الصادرة عن المؤسسات الدولية مفهوم الحوكمة بتحقيق التنمية بدعوى أن الحديث عن الحوكمة يعنى تناول آليات توزيع الثروة، وتوزيع السلطات، وآليات المشاركة والمساءلة في المجتمع.
تُعرّف الإدارة الرشيدة أو الحوكمة (Governance) على أنها: الحكم الذي تقوم به قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية كفوءة لتحسين نوعية حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم. وهي تتحقق من خلال تكامل عمل مؤسسات القطاع العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني، إن مفهوم الحكم الرشيد ينطوي على اتجاه تقليل مركزية الدولة في النظام السياسي، لجهة إعادة ترسيم الحدود الفاصلة بين ما هو عام وما هو خاص من حيث المهام المنوطة بها والسلطات الممنوحة لها، وهو ما يفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية كذلك قطاع الأعمال للقيام بأدوار تتكامل مع دور الحكومة في إطار استراتيجية تكاملية قائمة على أساس التشاركية.
إن مفهوم الإدارة الرشيدة يرتبط بالتكامل بين النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي بالاستناد إلى مفاهيم العدالة في التوزيع والمشاركة، بين فواعل أساسية ثلاث، وهي:
1- الحكومة أو القطاع العام: تعد الحكومة بكل مؤسساتها الطرف الرئيسي والفعال في تجسيد مبدأ الإدارة الرشيد وذلك باعتبارها الجهة صاحبة الإشراف على تحديد ووضع السياسات العامة في البلاد، بواسطة القوانين والتشريعات والنظر في كيفية تطبيقها، وبذلك تستطيع الحكومة وضع الآليات التنظيمية المناسبة لتكريس متطلبات الحوكمة ومعاييرها، فهي وحدها القادرة على الموازنة بين المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
2- قطاع الأعمال أو القطاع الخاص: من الضروري أن يلعب القطاع الخاص أو قطاع الأعمال دوراً مهماً في تكريس الإدارة الرشيد، فالقطاع الخاص يعتبر شريكاً أساسياً للحكومة في ذلك، حيث ينبغي على مؤسسات قطاع الأعمال أن تتجاوز دورها التقليدي المتمثل في الإنتاج والبيع من أجل تحقيق الربح، إذ أن خَلق الوظائف ودفع الضرائب لم يعد كافياً كإسهام وحيد يقدمه القطاع الخاص للمجتمع، فالحوكمة تستدعي دفع القطاع الخاص وتحفيزه للقيام بالدور الاجتماعي والإنساني والأخلاقي المنوط به، عبر دمج الاهتمام بالجانب الاجتماعي والبيئي في العمليات الإنتاجية.
3- مؤسسات المجتمع المدني: يستطيع المجتمع المدني أن يؤدي مساهمة فعالة في تجسيد الحكم الرشيد، باعتباره يتكون من مؤسسات غير حكومية، ويمكن أن يساهم في توجيه الرأي العام وخلق الوعي الاجتماعي وتعبئة قطاعات من السكان للتأثير على السياسة العامة وبرامج وعمل الحكومة، ناهيك عن تعزيز روح المسؤولية المجتمعية ودعم روح التعاون الاجتماعي.
إن تفعيل دور الفواعل الثلاثة في عملية الحوكمة تستوجب المعايير التالية:
1- المشاركة: أي حقّ المرأة والرجل في الترشيح والتصويت وإبداء الرأي ديمقراطياً في البرامج والسياسات والقرارات العامة.
2- حكم القانون: أي أن القانون هو المرجعية وسيادته تنطبق على الجميع بدون استثناء، وهذا يقتضي فصل السلطات واستقلالية القضاء ووضوح القوانين وشفافيتها وانسجامها في التطبيق.
3- الشفافية: وتعني توفر المعلومات الدقيقة في وقتها وإفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية مما يساعد باتخاذ القرارات الصحيحة، وهذا يساهم في توسيع دائرة المشاركة الشعبية.
4- المحاسبة: وتعني القدرة على محاسبة المسؤولين عن إدارتهم للموارد العامة، وتطبيق فصل الخاص عن العام وحماية الشأن العام من تعسف واستغلال السياسيين، وبالتالي يخفف من الهدر ويحد من الفساد.
5- حسن الاستجابة: وتعني قدرة المؤسسات على خدمة الجميع بدون استثناء وهذا يتحقق من خلال مرونة آليات العمل.
6- التوافق: وتعني القدرة على التحكيم والتوفيق بين المصالح المتضاربة من أجل الوصول إلى إجماع واسع حول المصلحة العامة.
7- المساواة: أي إعطاء الحقّ لجميع النساء والرجال في الحصول على الفرص المتساوية في الارتقاء الاجتماعي من أجل تحسين أوضاعهم.
8- الفعالية: أي توفير القدرة على تنفيذ المشاريع التي تستجيب لحاجات المواطنين وتطلعاتهم على أساس إدارة عقلانية وراشدة للموارد.
9- الرؤية الاستراتيجية: أي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية والاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس وتنمية المجتمع والقدرات البشرية.
في هذا السياق يمكننا الحديث عن المحددات العملياتية التي تساهم في ترسيخ فعالية معايير الإدارة الرشيدة، حيث تتضمن هذه المحددات ما يلي:
1- الحريات السياسية: وهي تندرج ضمن إطار ما يسمى الحقوق المدنية، حيث تشير إلى الفرص المتاحة للناس لكي يحددوا من له الحكم ووفقاً لأية مبادئ يحكم، كما تتضمن إمكانية انتقاد السلطات الثلاثة وتقييم عملها، ومن ثم فهي تشتمل على حرية التعبير السياسي والاختيار بين الأحزاب وحق الاقتراع والمشاركة في الانتخاب وإصدار القوانين.
2- التسهيلات الاقتصادية: أي الفرص التي يتمتع بها كل طرف لاستخدام موارده وإمكاناته الاقتصادية والانتفاع بها لغرض الاستهلاك أو الإنتاج أو التبادل التجاري، وتعتمد هذه الاستحقاقات الاقتصادية على شروط مثل: الأسعار ونظم التشغيل وإدارة السوق، وما دامت عملية التنمية الاقتصادية تفضي إلى زيادة الدخل والثروة القومية فإن هذا يجب أن ينعكس على دعم وتعزيز الحقوق الاقتصادية للأفراد، وبالتالي فإن اعتبارات توزيع الثروة مهمة بنفس قدر اعتبارات تجميع الثروة، كما أن توافر التمويل وسبل الوصول إليه له دور حاسم في تفعيل الاستحقاقات الاقتصادية التي تؤمّنها عملياً العناصر الاقتصادية الفاعلة.
3- الفرص الاجتماعية: وهي تشير إلى الترتيبات التي يتخذها المجتمع بالنسبة إلى موضوعات التعليم والرعاية الصحية وغيرها، والتي تؤثر في الحرية الموضوعية للفرد من اجل حياة أفضل، وهذه التسهيلات ليست مهمة فقط من اجل صياغة حياة خاصة، بل مهمة أيضا لتحقيق مشاركة أكثر فعالية وكفاءة في الأنشطة السياسية والاقتصادية، والأمر المهم الآخر في هذا الإطار هو موضوع تمكين المرأة من المشاركة الفعالة وما لهذا الأمر من آثار في تقسيم العمل الاجتماعي.
4- ضمانات الشفافية: وهي تتعلق بالحاجة إلى الصراحة التي يتوقعها الناس وحرية التعامل المشترك وفق ضمانات تكفل الاطلاع والوضوح، وإذا حدث انتهاك لهذه الثقة فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى إحداث ضرر للكثيرين، وبالتالي فإن توافر ضمانات الشفافية ضرورة ملحة للحيلولة دون الفساد واللامسوؤلية الإدارية والتعاملات السرية.
5- الأمن الوقائي: بغض النظر عن مدى الجودة في تسيير المنظومة الاقتصادية، فإن بعض الناس يمكن أن يتعرضوا لخطر الفقر والحرمان، وبالتالي تبرز أهمية توفير شبكات الضمان الاجتماعي للحيلولة دون وقوع هذه الأخطار، حيث تتضمن هذه الشبكات إعانات البطالة، المساعدات الإغاثية لحالات الطوارئ، توفير الدخل للمعدمين… الخ.
إن المحددات السابقة والتي يمكن تسميتها بالحريات الآداتية يُكمل بعضها الآخر وتعزز بشكل مباشر قدرات الناس، وبالتالي فإنه من الأهمية بمكان أن تؤخذ بالاعتبار عند وضع وتطبيق سياسات التنمية والتطوير. إن هذه الحريات الآداتية تعمل على النهوض بالحياة البشرية وتعززها وترسخ مقولة: ”أن التنمية ليست غاية بحد ذاتها، بل هي وسيلة لتوسيع الحرية الإنسانية“.