ليلان جمال
كشفت الحربُ في سوريا الوجهَ الحقيقيّ لجميع القوى الداخلية والخارجية، بل كشفت أيضاً خلفيةَ وجه الدول التي تنادي بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، سواءً من كانوا مع النظام السوري منذ الوهلة الأولى، أو على الجانب الآخر، الذي تحوّل معظمهم لمحاربة “الإرهاب”.
وتحولت سوريا إلى ساحات مفتوحة للدول الإقليمية والقوى الدولية والمزايدات والابتزازات التجارية والاقتصادية، بالإضافة الى الغزو الثقافي الفارسي الإيراني بوجه طائفي بغيض, انتشر في سوريا ولبنان والعراق واليمن, فكل الأهداف والأطماع الفارسية القديمة عادت اليوم بوجه إسلامي, وذلك لإسقاط الأنظمة العربية والسيطرة عليها وضياعها بين سنة وشيعة وتحت شعارات دينية مختلفة, وتغييرات ديمغرافية و ثقافية دخيلة على ثقافة وحضارة بلاد الشام, وبوجه الخصوص ثقافة الشعب السوري الغنية بثقافة ولغات كل مكونات الشعب السوري الحضاري المتجذر في عمق التاريخ.
إن التدخلاتِ الإقليمية والدولية تحولت إلى تواجد عسكري بين الدول الإقليمية والقوى الدولية وتقاسم النفوذ في الساحة السورية لخدمة مصالحها على الصعيدين الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي أيضاً, متذرعة بحجة تغيير النظام السوري.
لو كان النظامان الدولي والإقليمي جادّين في إسقاط النظام السوري، أو تغييره، لفعلا ذلك منذ بداية الأزمة السورية, عندما كانت كل الظروف مهيّأة آنذاك. فقد كان المرتزقة من الإسلام السياسي يسيطرون على 70 في المئة من أراضي الدولة السورية، قبل تدخّل روسيا وإيران، وميليشيات الأخيرة، وحتى “داعش” ، لكن كلّ من تدخّل في هذه الحرب، كان تدخله بهدف إطالة الأزمة لحسابات شخصية، أو لخصومة مع إيران. فقد كانت كلّ التدخلات بعيدة كل البعد عن تغيير النظام، وذلك عن طريق التفجير السياسي عبر “المعارضة الخارجية الزائفة”، أو التفجير العسكري عبر “داعش”. وبعد مرور 8 سنوات على الأزمة السورية المستعصية, وأمام الواقع الصعب والأليم.
وما يسوّق اليوم يتلخّص في إعادة اللاجئين، الذين يبلغ عددهم نحو 8 ملايين لاجئ من الغرب، ودول الجوار، وعن إعادة مقعد سوريا الى الجامعة العربية، وإعمار سوريا، الذي تبلغ كلفته “300 مليار دولار”، ومع إقامة معرض دمشق الدولي في العام 2017، الذي كان مخصصاً لإعادة إعمار سوريا، وسن “قانون 10″، الذي ينص على “إمهال اللاجئ في الخارج 30 يوماً لإثبات ملكيته العقارات، وفي حال عدم استطاعته، سوف تُسحب ملكيته للعقار”، وهذه كلها ادّعاءات أو محاولات لإحياء النظام من جديد، إضافة إلى محاولة إقامة النظام علاقات ديبلوماسية مع “إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية”، والاعتراف بانفصالهما عن جورجيا وإلحاقهما بروسيا، أو ترؤوسه مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح لمساعدته على الخروج من عزلتيه الدولية والإقليمية.
قد لا تكون مؤتمرات أستانا، أو سوتشي، أو جنيف، أو حتى المعارضة الشكلية للنظام، كافية لبقاء النظام في السلطة. إننا عندما نشاهد الخريطة السورية في الوقت الحالي، ندرك أن سوريا تحولت إلى مناطق نفوذ وصراع للدول الإقليمية والدولية، لا للدول العربية، ولا حتى لإيران، التي أحضرت معظم الميليشيات الشيعية من جميع أنحاء العالم، ولها ذلك التأثير القوي في الساحة السورية. فشرق نهر الفرات أصبح تحت النفوذ الأميركي، أما شمال غرب الفرات وإدلب وعفرين ومنبج والباب وجرابلس، فقد أصبح تحت سيطرة الدولة التركية، بينما أصبحت مناطق غرب سوريا مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، فيما بات الجنوب السوري تحت النفوذ الأردني، وبعض فصائل المعارضة المسلحة، وأميركا.
إنّ من يعتقد أن الحرب في سوريا قد انتهت، باستعادة النظام وحلفائه مناطق من هنا وهناك، فقد يكون مخطئاً. وإذا أردنا تقييم الحرب السورية، بعد مرور 8 سنوات في ميزان الربح والخسارة، فإننا نجد أنّ “أميركا وتركيا وروسيا” هي الرابح الأكبر، أما “إيران والدول الأوروبية والنظام والمعارضة والدول العربية”، فهم الخاسر الأكبر على الساحة السورية.
فأميركا، أنشأت “13 قاعدة عسكرية” في سوريا، تمتدّ من الحدود العراقية جنوباً حتى الحدود التركية شمالاً، وتسيطر على مناطق الغاز والنفط، أمّا روسيا، المسيطرة على القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، التي تمتلك “تسع قواعد عسكرية”، ومع توسّع قاعدتي حميميم وطرطوس على البحر المتوسط، فستكون لاعباً أساسياً في سوق الغاز العالمي، وخاصة بعد الاكتشافات الكبيرة في البحر المتوسط، ومع الاتفاقيات الأخيرة المبرمة بين سوريا ونائب رئيس الوزراء الروسي، في شأن الغاز والنفط. وقد أصبحت روسيا لاعباً مهماً أيضاً في منطقة الشرق الأوسط بعد عزلتها الدولية، فيما تركيا الضامنة والداعمة للمعارضة السورية السياسية “الائتلاف السوري”، والمعارضة المسلحة “الجيش السوري الحر”، في أستانا أو سوتشي أو جنيف، أدّت دوراً في اتفاق مناطق خفض التصعيد، ورفضت وجود (ب ي د) على حدودها، الذي يعدّ نسيجاً من مختلف مكونات الشعب السوري المناهض لتركيا، وهكذا أيضاً قوات سوريا الديمقراطية تضم جميع مكونات المجتمع السوري من كرد وعرب وسريان وأرمن وآشور وتركمان وشركس ومسيحيين من طوائف مختلفة ويزيديين أيضاً, فكل هذه المكونات السورية اجتمعت وتضافرت في وحدة وطنية متلاحمة بالشمال السوري، وذلك للتصدي لأي عدوان من قبل الجيش التركي ومرتزقة أوردغان من فصائل الإسلام السياسي وغيرهم من فصائل الجيش الحر المرتزق.
إن المواقفَ الوطنية لقوات سوريا الديمقراطية وجناحه السياسي والادارة الذاتية الديمقراطية بمجلسيها التشريعي والتنفيذي في الشمال السوري مبدئية ثابتة المواقف والولاء لوطنهم سوريا ضمن إطار اتحادي ديمقراطي لامركزي، ركيزته مشروع الأمة الديمقراطية لسوريا وشعوب الشرق الأوسط, وهي الحل الأمثل للأزمة والحفاظ على وحدة سوريا وإقامة نظام اتحادي فيدرالي لامركزي.
أما الخاسرون فكثر، وفي مقدمتهم إيران، التي كانت لها حسابات مختلفة في بداية تدخلها في الملف السوري، وكانت تريد الهيمنة على الحدود السورية الجنوبية. فقد أدركت إيران أن إسرائيلَ لن تسمح ببقائها على حدودها في محافظة القنيطرة، وغرب دمشق وجنوبها، لسهولة التواصل الجغرافي مع جنوب لبنان، حيث نفوذ حزب الله، وكذلك الأردن ودول الخليج، التي ترفض الوجود الإيراني على حدودها للمحافظة على أمنها القومي.
ربما تقدّمُ إيرانُ مستقبلاً تنازلاتٍ في الملف السوري، وخصوصاً بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، والعقوبات الاقتصادية وخروج الاستثمارات الأجنبية، وموجة الاحتجاجات والتنسيق الأمني بين روسيا وأميركا وإسرائيل في سوريا.
ومن الخاسرين أيضاً الدول العربية، التي ليس لها تأثير يذكر، ما عدا الملف الإنسانيّ، من استقبال اللاجئين السوريين، وكذلك الدول الأوروبية التي تعاني موجة نزوح غير مسبوقة، ومع صعود “الأحزاب الشعبوية”، التي تنادي بطرد المهاجرين. أما النظام، فيدرك جيداً أن سوريا لن تكون كما كانت قبل العام 2011، بعد التغيير الديموغرافي والقلق في أوساط بعض الأقليات المذهبية والدينية. وكذلك المعارضة (السياسية والعسكرية)، التي أصبحت لا تملك الكثير من الأوراق للتفاوض، وأصبح قرارها السياسي والعسكري مرتبطاً ومرهوناً بدول إقليمية ودولية.
فبعد مناطق خفض التصعيد التي اتفق عليها في مؤتمر أستانا بين “تركيا وإيران وروسيا”، والبدء بصياغة دستور جديد، وانتخابات، قد يشارك فيها الرئيس السوريّ خلال فترة انتقالية محددة، تكون سوريا قد تحولت إلى دولة اتحادية (فيدرالية)، وستتمتع هذه المناطق أو الأقاليم بصلاحيات واسعة، ويحدد الدستور الجديد العلاقة بين هذه الأقاليم والسلطة المركزية.
إذاً الحرب السورية التي تحولت إلى أزمة عالمية، ماضية إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف الإقليميين والدوليين، وإن لم يتحقق ذلك، فلربما نشهد نشوب حرب عالمية بين جميع الدول المتصارعة في سوريا.