العثمانية.. امبراطورية شيدت على جماجم الشعوب وعثمانيون جدد ينفخون في رمادها
لزكين إبراهيم
لزكين إبراهيم
كيف نشأت الإمبراطورية العثمانية؟
الدَّوْلَةُ العُثمَانِيَّة، أو الخِلَافَةُ العُثمَانِيَّة، هي إمبراطورية قامت على أساس الدين الإسلامي، أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة، وبالتحديد من 27 يوليو 1299م حتى 29 أكتوبر 1923م.
بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدّت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاثة: أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث خضعت لها كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا. وصل عدد الولايات العثمانية إلى 29 ولاية، وكان للدولة سيادة اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءًا فعليًا من الدولة مع مرور الزمن، بينما حصل بعضها الآخر على نوع من الاستقلال الذاتي.
أضحت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان الأول “القانوني” (حكم منذ عام 1520م حتى عام 1566م)، قوّة عظمى من الناحيتين السياسية والعسكرية، وأصبحت عاصمتها القسطنطينية تلعب دور صلة الوصل بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي، وبعد انتهاء عهد السلطان سالف الذكر، الذي يُعتبر عصر الدولة العثمانية الذهبي، أصيبت الدولة بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاتها شيئاً فشيئاً.
انتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922م، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو سنة 1923م، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيًا في 29 أكتوبر من نفس السنة عند قيام الجمهورية التركية، التي تعتبر حاليًا الوريث الشرعي للدولة العثمانية.
أردنا في هذا الملف أن نسلط الضوء على هجرة العثمانيين إلى المنطقة، وهدفهم منها، وكيف أنشأوا إمبراطورتيهم هذه؟! وماذا حدث للشعوب الواقعة تحت حكمهم في تلك الحقبة، وكيف انهارت وأسبابها، ومن وراءها هدف الدولة التركية الحالية من التدخل واحتلال الأراضي السورية والعراقية وأهدافها في العصر الحديث.
من هم العثمانيون، وكيف جاءوا إلى أوروبا، آسيا وأفريقيا ؟
العثمانيون في أصلهم هم أتراك، وبحسب الكثير من السيناريوهات، يعتبر العثمانيون أنفسهم أحفاد السلجوقيين، والسلجوقيون ظهروا عام 1071 في آسيا الوسطى وتوجهوا صوب الأناضول. وواجه السلطان العثماني آلب آرسلان الذي كان يقود 50 ألف من الجنود في 26 آب 1071، جيش الامبراطورية البيزنطية في منطقة “ملاذ كرد”، وانتصر الجيش العثماني في هذه المعركة. انتصار السلجوقيين في هذه المعركة فتح لهم أبواب الأناضول، وخلال فترة قصيرة سيطروا على مساحات شاسعة في الأناضول، وبعدها استقدم السلجوقيون آلاف التركمان من آسيا الوسطى إلى الأناضول (آسيا الصغرى) ووطنوهم فيها.
وكان من بين المتوجهين إلى الأناضول، آرطغرل بك والد شاه عثمان، الذي هرب من هجمات المغول، وجاء في عشرينيات القرن الـ 13 (1220 – 1229) إلى هذه المنطقة، وبعد الاشتباكات والانتصارات التي حققوها على الإمبراطورية البيزنطية استطاع السيطرة على بعض الأراضي شرق الإمبراطورية البيزنطية، واستوطن بفرمان من الإمبراطور السلجوقي في أراضي شمال – غرب الأناضول على الحدود مع البيزنطيين، ومن هنا بدأ أرطغرل ومن ثم ابنه عثمان بوضع الحجر الأساس للإمبراطورية العثمانية.
الكاتب يلماز أوستونا في كتابه الذي يحمل عنوان «تاريخ الدولة العثمانية»، يقول: “عثمان كان استراتيجياً في فتوحاته، فهو كان يسعى من الجهة الشمالية للوصول إلى نهر سكاريا الذي يصل إلى البحر الأسود ومن الجهة الغربية كان يسعى الوصول إلى بحر مرمرة”.
وفي القرن الـ 15 كان العثمانيون وصلوا إلى أطراف آسيا وأفريقيا. وخلال تلك الفترات استطاعوا هزيمة الإمبراطورية البيزنطية والسيطرة على مدينة القسطنطينية (اسطنبول حالياً) وتوسّعوا في بلاد البلقان، القرم وشرق أوروبا.
وبحسب ما ذكره الكاتب أوستونا في كتابه فإن السلطان سليم لم يتوقف عند هذا الحد فقط، بل كان يسعى للسيطرة على طريق التجارة بين الشرق والغرب وهزيمة الخط الشيعي، أي السيطرة على العالم.
ومن هنا انطلق العثمانيون لاحتلال آسيا وشمال أفريقيا، ولكنهم وجدوا امبراطوريتين كبيرتين بوجههم في الشرق الأوسط وهما المماليك والصفويين.
وعلى الرغم من أنهم رفعوا شعار “إعادة الدولة الإسلامية”، إلا أن العثمانيين هاجموا في البداية الامبراطوريتين الاسلاميتين في هذه المنطقة (المماليك والصفويين)، أي كان هدفهم أبعد من إعادة الدولة الإسلامية
هزيمة الصفويين بمشاركة الكرد
وعلى الرغم من أن الصفويين كانوا امبراطورية إسلامية، إلا أنها أصبحت عائقاً أمام المخطط العثماني لاحتلال العالم، لذلك استعملت الامبراطورية العثمانية الخلافات الشيعية – السنية بين الامبراطوريتين كذريعة للهجوم على الامبراطورية الصفوية.
وبهذه الحجة توجه السلطان سليم صوب الصفويين واندلعت عام 1514 معركة جالديران. الكرد الذين كان غالبيتهم من السنة شاركوا في هذه المعركة إلى جانب العثمانيين شريطة الاعتراف بالميراث الكردي. وخلال المعركة تعرض الصفويون للهزيمة واستولى العثمانيون على عاصمتهم.
الطريق باتجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
بعد هزيمة الصفويين، كان المماليك هم الامبراطورية الثانية التي تقف عائقاً أمام تحقيق حلم العثمانيين بالسيطرة على العالم، والمماليك كانوا مسلمين أيوبيين، وهؤلاء خاضوا معارك طاحنة بوجه الصليبيين.
وفي 24 آب 1516، دخل العثمانيون بقيادة ياووز سلطان سليم في حرب ضد المماليك في معركة مرج دابق، وخلال المعركة انتصر العثمانيون وسيطروا على دابق (الشهباء حالياً).
وكما أصبح احتلال اسطنبول مفتاح العثمانيين نحو أوروبا وآسيا، أصبحت الشهباء أيضاً مفتاحهم نحو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصاً أنّ الشهباء كانت طريق العثمانيين للسيطرة على حلب، الشام، فلسطين، مصر والمغرب العربي باستثناء المغرب.
الشهباء حولت العثمانيين إلى مركز السياسة والاقتصاد في العالم
وبعد أن فتحت أبواب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام العثمانيين، أصبح البحر المتوسط من حدود بلغاريا وحتى ليبيا خاضعاً للسيطرة العثمانية وكأنه بحيرة، وفي نفس الوقت أصبحت الطرق الرئيسية بين آسيا الوسطى وأوروبا خاضعة للسيطرة العثمانية بشكل كامل. وبذلك أصبح طريق الحرير التجاري من آسيا وحتى أفريقيا وأوروبا خاضعاً للسيطرة العثمانية. وبهذه السيطرة أصبح العثمانيون مركز السياسة والاقتصاد في العالم، أي أن الشهباء كانت مفتاح العثمانيين لاحتلال العالم والسيطرة عليه.
الخيانة العثمانية للشعوب وسلسلة المجازر بحقهم
عندما نبحث في أغوار علاقات العثمانيين مع الشعوب المجاورة لهم، يظهر بأنهم تعاونوا مع هذه الشعوب لتحقيق مخططاتهم في الاحتلال، ولكن بعد تحقيقهم لأهدافهم، خانوا الشعوب التي ساعدتهم في ارساء دعائم إمبراطورتيهم وارتكبوا المجازر بحق تلك الشعوب. ولم يتوقف العثمانيون عند هذا الحد أيضاً بل كانوا دائماً يبثون الخلافات الدينية، العرقية والإقليمية بين الشعوب لتطبيق مخططاتهم في الاحتلال.
العلاقات مع الكرد والخيانة الأولى “قصر شيرين”
في القرن الخامس عشر كانت الإمارة في كوردستان تتمتّع بنظام شعبي واضح المعالم، كانت كل إمارة في منطقتها شبه مستقلة، وكانت لها علاقات بإيران وبيزنطة، وفي أدوار كثيرة بالإمبراطورية الإسلامية، وفي القرن الخامس عشر وقعت ــ في فترة وجيزة من الزمن ــ تحت نير الدولتَين التركمانيتَين “الشاه السوداء” و “الشاه البيضاء” لكنَّ الإمارات الكوردية كانت لها كامل الحرية في إدارة شؤونها الداخلية رغم الاحتلال.
في القرن السادس عشر أراد السلاطين العثمانيون أن يستفيدوا من نظام الإمارات الكوردية، ويقحموه في الحرب على إيران، لذلك أبرم السلطان العثماني ”سليم الأول” معاهدة مع الشيخ ”إدريس البدليسي” وفي هذه المعاهدة كان الشيخ ”إدريس البدليسي” يمثل بعض الأمراء الكورد، وكانت المعاهدة تؤكّد في أحد بنودها على أنّ الحكم الذاتي في الإمارات الكوردية سيظلّ قائماً، وستنال الإمارات مزيداً من الاستقلال إذا انتصر العثمانيون في الحرب.
في 23 الثالث عشر من شهر آب عام 1514 م في ”جالديران” شنّت قوات عثمانية وكردية غارة على قوات شاه إيران ”إسماعيل“ وانتهت الحرب بهزيمة القوات الإيرانية، واحتل السلطان العثماني؛ سليم الأول الأرض الإيرانية حتى مدينة ”تبريز“، وقبل ذلك كان الكورد ــ دائماً ــ يقفون إلى جانب ” الفرس ” لأن آدابهم ولغتهم وثقافتهم متقاربة ومتشابهة جداً، إلّا أنّ الاختلاف في ”المذهب” أدّى دوراً بالغ الأهمية ــ بعد ذلك ــ فقد كان الفرس يعتنقون المذهب” الشيعي ” وكان العثمانيون يعتنقون المذهب ”السني” ولذلك تحوّل الكورد إلى الجانب العثماني، لأنّ المذهب كان القاسم المشترك بينهما، ومنذ تلك الأيام بدأت “كردستان” يوماً بعد يوم تدخل في الاحتلال العثماني. لكنّ الإمارات الكوردية ظلت كما كانت شبه مستقلة.
لم ترضَ إيران بهذه الهزيمة، ولم تيأس، فاستمرّت الحرب بينهما ودامت المعارك دائرة بين الطرفين على أرض كوردستان مدة تقرب من / 120 / مئة وعشرين عاماً، وفي عهد السلطان مراد الرابع استولى العثمانيون على مدينة ”بغداد” عام 1638 م، وانتزعوها من يد الفرس، واستمرّت الحرب حتى عام 1639 م وبسبب هذه الحروب الطويلة دبّ الوهن والضعف في كيان هاتين الدولتين من حيث الاقتصاد والقوات العسكرية وساءت أحوالهما.
وفي عام 1639 م أبرمت الدولتان؛ العثمانية والفارسية معاهدةً وُقّعت في ”قصر شيرين” وبموجب أحد بنود المعاهدة تجزأت أرض كوردستان أوّل مرة وقسمت بين العثمانيين والفرس، وسلّمَ الإيرانيون جزءاً من أرمينيا وأذربيجان إلى العثمانيين، وسلمت كوردستان إيران ”الحالية” إلى إيران، واتفقت الدولتان على أن يكون جبلا ” آكري ” و “زاغروس ” حدوداً فاصلة بينهما، وهذه الحدود مازالت قائمة بين الدولتين حتى هذا اليوم وعلى الرغم من حدوث بعض المعارك والمناوشات بينهما بعد معاهدة ” قصر شيرين “.
خان العثمانيون بهذه الاتفاقية الكردَ الذين شاركوهم في القتال ضد الصفويين، خيانة العثمانيين للكرد هذه كانت الأولى ووضعت الأساس لتقسيم كردستان والذي ما زال مستمراً حتى يومنا هذا.
مجزرة الجامع الكبير في حلب ضد العلويين
بعد معركة مرج دابق واحتلال حلب، وللانتقام من العلويين، استهدف السلطان سليم في 26 تموز عام 1516 العلويين في مدينة حلب، وبعد أداء صلاة في الجامع الكبير، جمع العثمانيون 40 ألف علوي حمداني في إحدى الساحات الكبرى وقتلوهم، وسميت هذه المجزرة باسم مجزرة الجامع الكبير.
والآن يتواجد في مدينة حلب، شارع يعرف بشارع التلل وهو من الأسواق المعروفة في المدينة، حيث تعود تسمية هذا الشارع إلى تلك المجزرة حيث يقال بأن رؤوس الذين تم قتلهم جمعت في هذا الشارع على شكل تلال.
وبعد هذه المجزرة وبحسب وثيقة مخبأة في مكتبة ستراسبورغ الفرنسية، فإن قيادة الحملة العثمانية أرسلت رسالة إلى السلطان سليم تقول فيها “طبقنا فرمانكم، وقتلنا كل نصيري وقع في أيدينا، ولم يعد لهم وجود في التاريخ، ولن تقوم لهم قائمة بعد الآن. وحوش الجبال وتماسيح الغابات أكلوا بقاياهم. لم يعد هناك وطن نصيري ولن يعيشوا أبداً على أرض السلطان سليم”.
مجزرة الشيعة في العراق
بعد دخول السلطان سليم إلى العراق، أصدر فتوى بأن كافة الشيعة في العراق هم كفار، وأخرج فرماناً بقتلهم. وبناء على هذا الفرمان وبحسب علماء التاريخ العلويين فإنه تم قتل 40 ألف شيعي عراقي.
ويلفت قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان في كتابه “الدفاع عن الشعب”، الانتباه إلى “إرهاب” الدولة العثمانية ضد الشعوب الأخرى قائلاً: “الحضارة الإسلامية العثمانية تقدمت بالسنية. الكرد العلويون والإيزيديون المناضلون أجبروا على صعود الجبال والمناطق العالية بعد أن قاموا بنصف ثورات. في وقت الوزير الأكبر مراد باشا، تم رمي 40 ألف علوي في الآبار وهم أحياء بالإضافة إلى إعدام بير سلطان عفدال، وهذه أمثلة تعتبر الأكثر رحمة لهذا الإرهاب والذي ترك أثراً”.
مجزرة كربلاء
حاول الشيعة في كربلاء عام 1842 الانتفاض في وجه العثمانيين، لكنّ الوالي العثماني نجيب باشا، حاصر المدينة في ذلك الوقت وبدأ بقصفها، وقطع أشجارها، ودخل بجيشه إلى المدينة. وتعرّضت المدينة إلى الدمار، وارتكب العثمانيون مجازر بحق شعبها. يقول المؤرخ حسين البراقي: “إنّ عدد الذين قتلوا في هذه الأحداث هو 24 ألف مدني من رجال، نساء وأطفال.”
لا تتوقف مجازر العثمانيين عند واقعتين فحسب، فالمؤرخ عبد الرزاق الحسني يتحدّث في بحثه الذي يحمل اسم “نزهة الإخوان في وقعة بلد القتيل العطشان”، عن أكثر من 7 مجازر ارتكبها العثمانيون بحق الشيعة في العراق بشكل خاص.
ومن جانبه يقول بروفيسور جامعة مصر حسين فوزي في أحد أبحاثه عن تاريخ العثمانيين في مصر “بعد دخول السلطان العثماني إلى مصر عام 1517، نقص عدد المصريين الذي كان يبلغ 8 مليون في القرن الـ 14، إلى 2.5 مليون في القرن الـ 18، العثمانيون دمروا كل شيء، قتلوا المدنيين ونهبوا المنطقة”، ويصف فوزي اسبوع دخول العثمانيين إلى مصر بـ “الأسبوع الأسود”.
مجازر الأرمن
في فترة الحرب العالمية الأولى، وصل مستوى التعصب القومي بين العثمانيين إلى ذروته. العثمانيون ولخوفهم من أن تطالب الشعوب الخاضعة لهم بالاستقلال الذاتي أو أن تطالب بإدارة ذاتها، بدؤوا بقتل تلك الشعوب، أو صهرهم وتتريكهم، وارتكبوا مجازر جماعية بحقهم.
وسعى العثمانيون لصهر الشعوب الأخرى القاطنة في الامبراطورية العثمانية في بوتقتهم، وذلك لقطع الطريق أمام موجات الأمة – الدولة التي ظهرت في بدايات القرن الـ 20. حيث بدأت أولى عمليات الإبادة بمجازر الحميديين، ففي المدن الجنوبية لتركيا قتل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني مئات الآلاف من الأرمن والآشوريين.
وفي هذه الفترة، ارتكب العثمانيون المجازر بحق الشعب الكردي في بيازيد وآلاشكرت، ومن جهة أخرى أزكى حزب تركيا الفتاة الحربَ الطائفية بين الكرد والسريانيين بحجة أنّ المسيحيين في الجنوب خطر على الوجود.
لكنّ المجزرة الأولى التي قتل فيها مئات الآلاف كانت مجزرة الأرمن. ففي فترة الحرب العالمية الأولى، خاف الأتراك من أن يتم تقديم الدعم لروسيا وأرمينيا، وبدؤوا بتغيير ديموغرافية المنطقة الواقعة شرق الامبراطورية العثمانية. وفي هذه المنطقة، أفنى العثمانيون أهالي مئات القرى الأرمنية شرق الامبراطورية، حتى أنه في الـ 24 من نيسان 1915 جمع العثمانيون المئات من أشهر الشخصيات الأرمنية في إسطنبول وأعدموهم في ساحات المدينة، ثم تم أمر كافة الأرمن في منطقة الأناضول بترك أملاكهم والخروج، وخلال هجرة الأرمن قتل مئات الآلاف منهم.
يشير المؤرخون الأرمن إلى أنّ عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في هذه المجازر يبلغ مليونًا ونصف مليون أرمني.
مجازر السيفو بحق السريانيين
الإبادة الجماعية الأشورية، تعرف أيضا باسم مذابح السيفو، يقصد بها سلسلة الأعمال الوحشية والقتل المنظم والمتعمد التي شنتها قوات نظامية تابعة للدولة العثمانية بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية استهدفت مدنيين آشوريين/سريان/كلدان أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. وقد أدّت هذه العمليات إلى مقتل مئات الآلاف منهم كما نزح آخرون من مناطق إقامتهم الأصلية بجنوب شرق تركيا الحالية وشمال غرب إيران، على وجه الخصوص مناطق طور عابدين وهكاري بالإضافة لتواجدهم بأعداد وإن كانت بأعداد أقلّ في مناطق مثل فان وسيرت وأورميا.
بدأت عمليات إبادة المسيحيين من غير الأرمن – حسب بعض الباحثين – سنة 1915 وبالتزامن مع بداية عمليات الإبادة الجماعية بحق الأرمن إلا أنها استمرت إلى العام 1920 في وقت كانت فيه الفظاعات ما تزال ترتكب بحق أخوتهم الأرمن وصولا للعام 1923.
اختلف الباحثون في تقدير عدد ضحايا الإبادة الجماعية الأشورية (مذابح السيفو)، لكن يبقى الرقم المتفق عليه بين أغلب المهتمين في هذه القضية والمطلعين عليها هو 275.000 حيث يستندون في إحصائهم هذا إلى معاهدة لوزان، وإن كان البعض يرفع الرقم إلى 300.000 شهيد بالأخذ بعين الاعتبار عددًا من المناطق العثمانية التي لم تشملها عمليات إحصاء أبناء الشعب الأشوري من قبل.
المجازر اليونانية
بالإضافة إلى الأشوريين السريان فقد تعرض أيضًا عدد من أتباع الطائفة اليونانية في آراضي الإمبراطورية العثمانية في الحقبة التاريخية ذاتها إلى الإبادة الجماعية، ويقدّر عدد مجموع ضحايا المسيحيين على أيدي حكومة تركيا الفتاة قرابة 2.500.000 قتيل بينهم على الأقل 1.500.000 أرمني و500.000 يوناني. وفي وقت ينصب فيه اهتمام الباحثين الدوليين بالإبادة الجماعية الأرمنية يظهر عدد من خبراء الإبادات ليعلنوا أنّ العدد الأكبر من الضحايا التي قدمها الشعب الأرمني لا يلغي حقيقة كون الأشوريين أيضًا قد تعرّضوا لإبادة مماثلة، ممنهجة ومتعمدة.
على جماجم الشعوب أنشأوا إمبراطورتيهم وعليها سقطوا
ونظراً لما سلف يظهر بوضوح مدى دموية هذه الإمبراطورية التي صعدت وتوسعت على دماء وجماجم الشعوب، واتخذت من المجازر والخيانة دعائم لتنصيب نفسها حاكمة على شعوب الشرق الأوسط وإفريقيا وأجزاء من أوربا، لكنّ لعنة أرواح هذه الشعوب بقيت تلاحقهم، ومثلما صعدوا سقطوا على الجماجم أيضاً.
فكيف سقطت هذه الإمبراطورية وما أسباب سقوطها، ومن هي وريثتها، ومن أحفادهم، وماهي سياساتهم وطموحاتهم في العصر الحديث؟
سلسلة مجازر أدّت إلى انهيار الامبراطورية
العثمانيون الذين اعتلوا منصة التاريخ لسبعة قرون متتالية، تضمنها 400 عام قضوها في الشرق الأوسط. ويقول مؤرّخون إنّ السلطنة العثمانية استطاعت خلال هذه الفترة سحق المكونات الرازحة تحت احتلالها في البوتقة العثمانية. ويرجع الكثير من المؤرخين طول أمد الاحتلال العثماني إلى تحركاتها العسكرية وقوتها الاقتصادية، إضافة إلى نمط حكمها اللامركزي. لكن القرن الـ 18 كان شاهدًا على سقوط تلك السلطنة مترامية الأطراف، وذلك لعدة أسباب.
إحدى عوامل سقوط تلك السلطنة هو إلغاء الإدارة الذاتية، لحساب تقدم النمط المركزي في الحكم وغلبة الطابع القوموي.
وحتى القرن الـ 19 كانت السلطنة العثمانية تدير المناطق الخاضعة لها، عبر إدارات مناطقية، لكنّ الفترة التي تبعت القرن الـ 19 شهدت توجهاً نحو المركزية تدريجياً وأصبح طابع الحكم مركزيًّا، فكان السلاطين العثمانيون يقومون بتعيين الأمراء كولاة في المناطق. وكان قادة الجيش والمسؤولون أتراكاً جميعاً.
وخلال هذه الحقبة، وبغية احتلال المجتمعات، نشرت السلطنة العثمانية المجموعات التركمانية في كل المناطق الخاضعة لها وفي المناطق التي احتلتها، وأغلب التركمان الذين ينتشرون في الشرق الأوسط هم نتاج تلك السياسة العثمانية.
وفيما يتعلق باللغات، فالتاريخ العثماني مليء بالتناقضات، ففي القرن الـ 16 ومع إعلان السلطنة العثمانية اللغة التركية لغة رسمية، زاد هذا التوجه. واتّبعت السلطنة سياسات التتريك ضد شعوب المنطقة، إذ كانوا يسيرون بخطوات ممنهجة نحو المركزية، وهذا أثار شعوب المنطقة، ليصل الاستياء والاحتقان ضد هذه السياسات إلى ذروتها، كما تفاقمت الصراعات الداخلية بين السلاطين العثمانيين أنفسهم، في وقت تزايدت فيه هجمات قوى الجوار وكذلك والتدخلات الخارجية في شؤون الإمبراطورية العثمانية.
كما شهدت الإمبراطورية أزمات اقتصادية بعد اكتشاف الطريق البحري للتجارة بين الهند وأوروبا واكتشاف أمريكا عام 1492، والتطور الصناعي واستخدام البواخر في التجارة ممّا أدّى إلى تراجع طريق الحرير. ولجأ التجار الأوروبيون إلى سلوك طريق البحر لتجنّب ضرائب الدولة العثمانية، مما أدى إلى انهيار اقتصاد الدولة العثمانية. ولتعويض هذه الخسارة لجأ العثمانيون إلى مضاعفة الضراب على مسلمي المنطقة، حيث أجبرت هذه الضرائب التي فرضها العثمانيون عام 1856 العديدَ من الأهالي على تسجيل أملاكهم وأراضيهم وأشجارهم باسم البرجوازيين والاقطاعيين للتهرب من دفع الضريبة. ففي عام 1869 اضطر العديد من المزارعين الفلسطينيين إلى بيع أراضيهم للدولة العثمانية خلال مزاد كبير، فزيادة الضرائب أدى إلى انتشار الفقر بين شعوب الإمبراطورية.
إضافة إلى كل ذلك شهدت الحدود الشمالية للامبراطورية تنامي قوة روسيا ونشبت بينها وبين الدولة العثمانية حرب ضروس امتدت من عام 1768 إلى عام 1774، روسيا خرجت منتصرة في هذه الحروب وتمكنت من ضم أجزاء من الإمبراطورية العثمانية إلى أراضيها مثل جزيرة القرم، مولدوفا، أفلاق (رومانيا).
في تلك الأثناء تنامت أفكار عصر النهضة الفرنسية والدولة القومية بين شعوب الدول الأوروبية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، مما دفعها إلى الانتفاضة والتحرر من نير العثمانيين.
واستمرت الأوضاع على هذا النحو حتى الحرب العالمية الأولى، ودخل العثمانيون الحرب إلى جانب ألمانيا وخرجوا منها خاسرين. ففرنسا وبريطانيا اللتان خرجتا منتصرتين في الحرب توجهتا نحو المناطق الخاضعة لسيطرة العثمانيين والبدء بمشروع بناء الدول القومية، وبدؤوا من مصر حيث أقنعوا أمير مكة الشريف حسين بإعلان الانتفاضة. حيث بدأ الشريف حسين ثورته من مصر وتمكن في العاشر من حزيران عام 1916 من طرد العثمانيين من الشهباء. مما أجبر العثمانيين على توقيع اتفاقية مودروس في 30 أكتوبر 1918، والتي بموجبها تم إيقاف العمليات القتالية في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى إثر ذلك عمدت بريطانيا إلى اقتطاع الموصل العراقية من الإمبراطورية العثمانية.
المعاهدات والمواثيق التي دقت الاسفين في نعش الدولة العثمانية
بالتزامن مع ضعف الإمبراطورية العثمانية وتوقيع اتفاق الهدنة، أقدم ممثلو الدول الأوروبية بقيادة كل من فرنسا وبريطانيا التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية، بتاريخ العاشر من شهر آب عام 1920 على توقيع معاهدة سيفر في مدينة سيفر الفرنسية بهدف إعادة تنظيم وتشكيل بقايا الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط. وبحسب المعاهدة كان يجب أن يتم تقسيم مناطق الأناضول بين اليونان، الكرد، الأرمن وفرنسا وبريطانيا وأيطاليا. فيما تبقى مناطق استنبول ومضيف البوسفور تحت الانتداب الدولي.
الميثاق المللي
بعد الهزائم التي تعرض لها العثمانيون لجأ العثمانيون مرة أخرى إلى الكرد وظهر وقتها ما يسمى بالميثاق المللي.
بتاريخ 12 شباط عام 1920 اجتمع البرلمان العثماني الذي كان يسمى وقتها بـ “مجلس المبعوثَين” وأصدر وثيقة أو خارطة سمت بالميثاق المللي. وتضمنت الخارطة أسماء البلدان التي يجب استرجاعها. الخارطة تضمنت مناطق تركيا الحالية إضافة إلى المناطق الواقعة غرب الأراضي التركية وتشمل بلغاريا واليونان، وكذلك مناطق جنوب كردستان، الموصل، ومناطق شمال سوريا.
لوزان والحدود الحالية للدولة التركية
بفضل تحالفه مع الكرد تمكن مصطفى كمال أتاتورك من لمّ شمل بقايا الجيش العثماني وبدأ حروبه بمساندة الكرد بهدف تطبيق الميثاق المللي. انتصر في الحرب مع اليونان وحسن علاقاتها الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي وألغى اتفافية سيفر. ولكن وبعد أن انتصر العثمانيون طعنوا الكرد في الظهر مرة أخرى خاصة مع توقيع اتفاقية لوزان.
الحدود الحالية للدولة التركية أقرت في معاهدة لوزان بتاريخ 24 تموز عام 1923 الموقعة بين تركيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.
بموجب هذه المعاهدة تم تقسيم كردستان بين أربعة دول، فيما ظل مصير الموصل مبهماً. حيث قررت عصبة الأمم وقتها إبقاء موضوع ترسيم الحدود بين العراق وتركيا إلى مباحثات ثنائية بين تركيا وبريطانيا. إلّا أن الطرفَين لم يتوصلا إلى تفاهم حول ذلك، وبعد عام أعادت بريطانيا موضوع الموصل مرة أخرى إلى عصبة الأمم التي شكلت على إثرها لجنة دولية ذهبت إلى الموصل وأجرت استفتاءً هناك، وفي نتيجة الاستفتاء رفضت شعوب الموصل من الكرد والتركمان والعرب الانضمام إلى تركيا وفضلت البقاء ضمن حدود العراق. وفي عام 1925 قررت عصبة الأمم أن تبقى الموصل منطقة عراقية.
اتفاقية أنقرة
إلا أن تركيا رفضت القرار مرة أخرى. وجرت مباحثات بين تركيا وبريطانيا والعراق أسفرت بتاريخ الخامس من شهر حزيران عام 1926 عن توقيع اتفاقية أنقرة، وبموجب الاتفاقية تنازلت تركيا عن الموصل مقابل الحصول على 10% من عائدات بترول الموصل لمدة 25 عاماً، كما يحق لتركيا التدخل في الموصل وكركوك في حال حصلت أية تغييرات في حدود العراق الحالية.
تسلم لواء اسكندرون وفصل كردستان عن البحر المتوسط
وخلال هذه الفترة كانت مخططات احتلال كردستان واضطهاد شعبها قيد التنفيذ من قبل الدولة التركية. وكان تسليم لواء إسكندرون إلى تركيا حلقة من سلسلة المخططات التركية ضد كردستان، ومع أن الميثاق المللي لم يتضمن لواء إسكندرون إلّا أن تركيا سعت بدعم من فرنسا إلى عزل كردستان بشكل كامل عن البحر، حيث تم إجلاء جميع الكرد من هذه المناطق وترحليهم إلى مناطق أضنة. كما تم توطين التركمان من مناطق زاغروس مكان الكرد، وبعد إجراء هذه التغييرات السكانية أجري في عام 1939 استفتاء شعبي في لواء إسكندرون تم بموجبه اقتطاع لواء إسكندرون من سوريا وضمّه إلى تركيا.
الاحتلال التركي الحديث
ظهرت على الساحة الدبلوماسية في الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة، الكثير من البيانات الصادرة عن المسؤولين والقيادات الأتراك الذين يسعون لاستعادة عصر وأمجاد الامبراطورية العثمانية، مثل قولهم ‘لوزان لم تكن اتفاقية ناجحة لنا’، ‘الموصل تاريخياً هي لنا’، ‘لن ننتظر حتى يصل الخطر إلى حدودنا، سنقطع الطريق أمام المخاوف ونضرب مصادرها’، ‘حلب ستعود لمكوناتها الأصلية’ وغيرها الكثير.
ويتبادر إلى ذهن القارئ سؤال “إلى ماذا تسعى تركيا؟”، لكن عند العودة إلى ماضي العثمانيين الجدد ونبش التاريخ العثماني، والنظر إلى المحاولات التركية السابقة، نرى أن التدخل التركي الأخير في سوريا والعراق والاحتلال العسكري لأراضيهما، يشكل خطراً حقيقياً على مستقبل ووحدة هذين البلدين، خصوصاً وأن السلطان العثماني الجديد يسعى إلى إعادة عصر العثمانيين وتطبيق الميثاق الملّي.
العثمانيون الجدد
بعد نحو مئة عام على انهيار الإمبراطورية العثمانية، يحاول أردوغان في القرن الواحد والعشرين أن يكرّر دور السلطان سليم يافوز، وإعادة المنطقة إلى تاريخ الصراعات الدموية.
انهارت الإمبراطورية العثمانية والتي استمرت 700 عام، بالكامل، بعد توقيع اتفاقيات سيفر ولوزان وأنقرة، وظهرت تركيا بحدودها الحالية (عدا لواء الإسكندرون) سنة 1923 بدلاً عنها، لكنّ العقلية العثمانية الاحتلالية بقيت مستمرةً ضمن الحدود الجديدة.
يسعى حزب العدالة والتنمية التركي ورجله الأول رجب طيب إردوغان إلى استعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية على الرغم من مرور 100 عام على انهيار هذه الامبراطورية.
يشيد مسؤولو حزب العدالة والتنمية في كل خطاب لهم بأمجاد الإمبراطوريتين العثمانية والسلجوقية، ويرون فيها خسارة كبيرة لهم.
استعادة الميثاق الملّي
مناطق الموصل وباشور كردستان (شمال العراق) وروج آفا أو شمال سوريا، هي في باكورة أهداف حزب العدالة والتنمية نحو استعادة الميراث العثماني. وهذه المناطق هي نفسها الحدود التي رسمتها الدولة التركية في “الميثاق الملّي”.
لم تستطع تركيا استعادة الأماكن التي حددتها في “الميثاق الملّي” بشكل مباشر، لذلك عمدت إلى الأساليب والطرق السرية وعبر بعض حلفائه. يمكننا القول أنها وصلت إلى جزء من أهدافها هذه. فهي استطاعت أن تسيطر على باشور كردستان عبر حليفه الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي يترأسه مسعود البرزاني.
وهي الآن، تحاول أن تحقق كامل أهدافها عبر دعمها أفراد الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا، والمجموعات المرتزقة التي من ضمنها داعش.
محاولات احتلال الموصل
حاولت تركيا مراراً احتلال باشور كردستان/شمال العراق والموصل ولا تزال محاولاتها قائمة إلى الآن. خلال حرب الخليج الثانية (1991) وعندما كان صدام حسين يحضر لاجتياح الكويت، وضع الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال نصب عينيه على مناطق باشور كردستان ومن ضمنها الموصل وإنشاء فدرالية تركية هناك. نفس الطلب هذا، تكرر في أعوام 1994 و 2004 و 2008.
ولعلّ تصريح رئيس الوزراء التركي الأسبق؛ داوود أوغلو أثناء زيارته للموصل والتي قال فيها حينها “في إحدى الأيام امتطى فرساننا أحصنتهم ووصلوا إلى هذه المنطقة، ونحن سنستعيدها يوماً ما ولكن بآلات حديثه” عالقة في الأذهان.
استخدام تركيا تنظيم داعش لتنفيذ مخططها
خلال عام 2014 حركت تركيا مرتزقة داعش ودعمتها للسيطرة على الموصل في يوم 9 حزيران، ومن بعدها شنكال. ثم ما لبث المرتزقة وأن احتلوا مدينة تلعفر والتي أغلبها من التركمان الشيعة، وارتكبوا فيها المجازر دون أن تحرك تركيا ساكناً.
بعد هذا الاحتلال حرك جيش الاحتلال التركي قطعات كبيرة من قواته ووجهه إلى داخل العراق، وتحديداً إلى منطقة بعشيقة القريبة من الموصل. حينها بدأت الأحلام العثمانية في السيطرة على كركوك والموصل بقرب التحقق.
وبعد انشاء التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب وبدء حملة تحرير الموصل من داعش، استنفرت تركيا وشقت حناجرها مطالبة بالانضمام إلى حملة تحرير الموصل. كما طالبت في إدارة هذه المنطقة مستقبلاً، وهذا ما كان يدلّ بشكل واضح إلى هدف تركيا وخوفها من انهيار داعش في الموصل، وبالتالي انهيار حلمها في تحقيق بنود الميثاق الملي، وبعد رفض مشاركتها وتحرير الموصل وإقصاء الدور التركي في العراق، عادت تركيا لتضع روج آفا وشمال سوريا نصب عينها وتسعى حتى الآن إلى دخولها واحتلالها.
احتلال شمال سوريا
تجدّدت المخططات التركية مع انطلاق ثورات الربيع العربي، فقد حاولت تركيا تحقيق أهدافها في السيطرة على مصر وسوريا وتونس عبر دعم جماعة الأخوان المسلمين، لكنها فشلت.
خطّطت تركيا للسيطرة على مناطق شمال سوريا مع اشتداد الأزمة في سوريا، وتوضّحت معالم هذا المخطط مع المعركة التي دارت رحاها في كوباني. فقد صرّح أحمد دواوود أغلو في إحدى خطاباته “مصير حلب ليس ببعيد عن مصير ماراش”.
في سوريا أيضاً، حاولت تركيا أن تستخدم بعضًا من أتباعها لخدمة مصالحها، وبناء عليه، حرّك أفراد حزب الديمقراطي الكردستاني المتواجدين في سوريا، لكنّ مخططها هذا فشل أمام إرادة شعوب المنطقة.
تحرير قوات سوريا الديمقراطية لكلّ منطقة في شمال سوريا، كان يعني لتركيا دفن أحلامها العثمانية، ومع تحرير منبج وفتح الطريق أمام تحرير الباب، وإيصال مقاطعات روج آفا معاً الذي يسهم في تحقيق مشروع الفدرالية الديمقراطية، رأت تركيا أن أحلامها العثمانية تدفن بالكامل، وعلى إثر ذلك، تدخل هي بنفسها في المنطقة بشكل مباشر.
احتلت تركيا بقيادة أردوغان/ حزب العدالة والتنمية، مدينة جرابلس في عملية أطلقت عليها “درع الفرات” في الـ 24 من آب أو بالأحرى في الذكرى الـ 500 لمعركة مرج دابق التاريخية بالضبط.
أراد أروغان أن يلعب دور السلطان سليم يافوز مرة أخرى، وأن يفتح أبواب الشرق الأوسط مرة أخرى على نفسه، لذلك وجّه أرتال قواته نحو دابق واحتلها في الـ 16 من تشرين الأول من العام الحالي، المجموعات التي تتحرك تحت إمرة أردوغان أعلنت أن أهداف الخطوة الثالثة من عمليتهم هي التوجه إلى حلب، كما أن أردوغان بنفسه أعلن عن هذا الأمرة مرات عدّة، ناهيك عن احتلال الباب ومناطق الشهباء.
واليوم يعتبر العدوان التركي وهجومه الهمجي على منطقة عفرين وارتكاب المجازر بحق شعوبها، تهدف إلى تطهير عرقي بحق سكانها ذات الغالبية الكردية، وتغيير ديمغرافيتها بتوطين اللاجئين السوريين من عوائل مجموعاته المرتزقة بالإضافة إلى التركمان ليتخذ منها قاعدة ثابتة خارج حدوها الحالية للانطلاق مرة أخرى نحو تحقيق أهدافه في إعادة الحلم العثماني، ونفخ في رمادها لإعادة إشعال جرائمها ومجازرها والانطلاق منها لاحتلال سوريا والشرق الأوسط.
خطر تواجد الذهنية العثمانية في المنطقة
دخلت تركيا إلى قبرص سنة 1974 بحجة حماية الأتراك ولم تخرج منها، وأرسلت تركيا أرتالها العسكرية إلى بعشيقة سنة 2014 ولم تخرج منها رغم كل المطالبات بخروجها، وهي تضع الموصل نصب أعينها.
دخول تركيا إلى الشمال السوري سيكون شبيهاً بما سبق، فهي لا تحسب حساباً للعودة والخروج. وهي تسعى بهذه الطريقة إلى إبراز نفسها على أنها قوة صعبة المراس.
ينفخ إردوغان في نيران الصراعات الأثنية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط، مكملاً بذلك السياسة العثمانية القديمة، يسعى من خلال ذلك إلى تغيير ديمغرافية المنطقة عبر دفع السكان الأصليين للهجرة عن طريق سياسات الترغيب والترهيب، وتستوطن بدلاً عنهم التركمان والأتراك.
كما يستخدم شعوب المنطقة بحسب مصالحه الخاصة، ويحفز مسألة عودة الخلافة الإسلامية في عقول المسلمين السنّة، ويدعي أنه الشرارة التي ستعيد هذه الخلافة، وبهذه الحجج يتدخل في الدول المجاورة له، وفي نفس الوقت يكرر التاريخ الدموي العثماني في شمال كردستان وروج آفا (شمال سوريا).
وقد صرح أردوغان في أكثر من مناسب الأقوال التالية “لقد أجبرونا على قبول الحدود الحالية. لوزان لم تكن نصراً بالنسبة لنا، إمّا أن تصبح تركيا أكبر وإما أن تصبح أصغر”. ويتحدث أردوغان مرة أخرى عن الحدود من حلب إلى الموصل. فحسب أردوغان كان من المفروض أن تكون مناطق روج آفا/ شمال سوريا وباشور/شمال العراق على الخريطة التركية. حيث ارتكبوا في هذه المناطق العشرات من المجازر وقتلوا الآلاف.
لذلك، فإن تواجد حزب العدالة والتنمية وأردوغان في المنطقة هو بمثابة خطر كبير ودائمي على العراق وسوريا والشرق الأوسط عامةً، يخلق الأزمات والتناقضات بشكل مستمر بين مكونات المنطقة.
كما أن تكرار التجربة العثمانية ستكون له آثارٌ خطيرة. بكلمة أخرى فإننا سنشهد تكرار التاريخ الدموي العثماني في الشرق الأوسط الذي أعاد المنطقة قروناً إلى الوراء وقضى على الحضارات ونهب خيرات البلدان، مرة أخرى.
لزكين إبراهيم