أبحاث ودراسات

القضيّة الكُرديّة في الصراعات الدّوليّة بين الحربين العالميّتين (الجزء الأوّل)

جميل رشيد

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد

تحتلُّ القضيّة الكُرديّة موقعاً هاماً في الصراعات الدّوليّة والإقليميّة المعاصرة، ولها أهميّة كبرى في تغيير معادلات التَّوازن الإستراتيجيّ والتّأثير على مصالح الدّول في الشَّرق الأوسط، بحكم ديناميّتها وقدرتها على التأثير والتأثُّر في محيطها الإقليمي والدّوليّ. فوقوع جغرافيّة كردستان في قلب الشَّرق الأوسط وعلى تقاطع طرق التّجارة الدّوليّة البرّيّة “خط الحرير”، جعل منها منطقة تستأثر باهتمام الدّول والإمبراطوريّات الاستعماريّة القديمة والحديثة. فحروب الإسكندر المقدوني، وكذلك صراع الفرس والعثمانيّين، والمسلمين مع الرّوم، معظم أحداثها جرت على أراضي كُردستان التّاريخيّة، ودفع الكُرد ثمناً باهظاً لتلك الحروب والصراعات، تمثّلت بابتعادهم عن ركب الحضارة والعيش ضمن مجتمعاتهم. حيث يعتبر بعض المؤرّخين أنَّه مرّت على الكُرد فترة انقطاع عن الحضارة العالميّة في فترات تعرّض بلادهم لعمليّات الغزو والاحتلال والحروب التي نشبت في المنطقة المحيطة بها، ما حدا بأن تكون جغرافيّة كردستان منطقة غير مستقرّة، وأن ينزوي سكّانها في جبالهم الوعرة كأفضل حامٍ لهم ضدّ الغزوات والحملات، فضلاً أنَّ العنصر الدّينيّ لعب دوراً بارزاً في انكفاء الكُرد نحو مناطقهم العصيّة على الأعداء، ولهذا ربط المؤرّخون اسم الكُرد بالجبال على طول تاريخهم.

إنَّ التغيّرات التي طرأت على تموضع القوى الإمبراطوريّة السّائدة في المنطقة والعالم في مراحل مختلفة من التّاريخ، وانهزام بعضها، مقابل تَسيّد بعضها الآخر المشهد العالميّ، لم تتأثّر بها بلاد الكُرد كثيراً؛ نظراً لوقوعها تحت احتلالين مباشرين، فارسيّ وعثمانيّ. فحركة التَّنوير وبداية عصر النَّهضة في أوروبا ولاحقاً دخولها في مرحلة الثّورة الصناعيّة والفكريّة، ظلّت كردستان بعيدة عنها نوعاً ما، لأنَّ الامبراطوريّات الحاكمة عليها كانت هي ذاتها قد انغلقت على نفسها، ولم تسمح بإحداث أيّ تغييرات بنيويّة جوهريّة داخل مجتمعاتها التي حكمتها – في أغلب الأحيان – بالسَّوط والسَّيف والفرمانات الشاهنشاهيّة والسُّلطانيّة، مُحاطة بنخبة من الغوغاء والحركات الشَّعبويّة، المعتمدة على القوّات الإنكشاريّة.

إنَّ هزيمة إمبراطوريّات الشَّرق أمام قوّة الغرب المتنامية باضطّراد، على الصعيد الفكريّ والعلميّ، قبل العسكريّ، وارتدادها نحو الدّين كوسيلة أخيرة بيدها للدّفاع عن نفسها، وضعها في موقع لا تُحسد عليه، استمرّت تأثيراتها إلى يومنا هذا، وإن بأشكال مختلفة.

أمام هذا الواقع المرير؛ وجد الكُرد أنفسهم في أتون معركة غير متكافئة على كافّة الصعد. ففي حين كانت أوروبا تقطع أشواطاً كبيرة على طريق تطوير الفلسفة والعلوم التطبيقيّة (الفيزياء والكيمياء والرّياضيّات والهندسة والطبّ.. الخ) وعمليّة فصل الدّين عن الدّولة، تمسّكت دول الشَّرق وامبراطوريّاتها الضعيفة بتلابيب الفكر الدّينيّ المتطرّف والمنغلق على نفسه، واعتبرت كُلّ ما هو خارج رؤيتها للحياة والمجتمع “كُفراً” يجب محاربته بشتّى الوسائل، فكانت الهزيمة من نصيبها، كنتيجة حتميّة لمعادلات الصراع التّاريخيّ. فوجد الكُرد أنفسهم ضمن هذا الواقع، دون إمكانيّة إحراز أيّ نوع من الاستقلال الثَّقافي والمعرفيّ، وعاشوا حالة من التكوّر والتقوقع على الذّات.

الصراعات بين الدّول في العصر الحديث، وسياسات التقسيم والتجزئة التي فرضها الاستعمار المُحمَّل بالأفكار والتوجّهات الرّأسماليّة الباحثة عن مصادر المواد الخام وطرق التّجارة والأسواق، توجّهت أنظارها إلى كردستان، لتكون الضحيّة الأولى لمطامعها في منطقة الشَّرق الأوسط.

سنحاول في بحثنا تناول الأثر الذي تركته الصراعات الدّوليّة على القضيّة الكُرديّة وحلولها خلال مراحل معيّنة من التاريخ الحديث، ودور بعض الدّول في رسم خرائط وسياسات دول شرق أوسطيّة، ومحاولة استنتاج أهمّ النتائج التي تمخضّت عن الاتفاقيات التي أبرمتها الدّول الغربية مع الدّول المحتلّة لكردستان، وماهيّة الصراع عليها وفيها، وتبيان العوامل الذي أثّرت في عدم وصول القضيّة الكُرديّة إلى مستوى الاهتمام الدّوليّ، وبالتالي طرح حلول لها، وهل مقولة إنشاء دولة كُرديّة، ستتسبّب في اندلاع حرب عالميّة ثالثة، مثلما يروّج لها غُلاةُ القومويّين العرب والترك والفرس؟

 

مكانة القضيّة الكُرديّة في بداية الحرب العالميّة الأولى

إنَّ الصراع الدّائر بين دول المحور والتّحالف الأوروبيّة، وانتقال هذا الانقسام إلى منطقة الشَّرق الأوسط، تمثّل في دعم دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) للسَّلطنة العثمانيّة، التي وصفوها بالرَّجل المريض، في حين دول التَّحالف التي كانت تقودها كُلّ من بريطانيا وفرنسا، توجّهت أنظارها في البداية صوب تفكيك كيان السَّلطنة العثمانيّة. فالسياسة التي اتّبعتها بريطانيا (فرّق تَسُدْ)، حاولت أن تتّبعها مع السَّلطنة أيضاً.

فالسَّلطنة المتهالكة، والمستندة إلى قاعدة إقطاعيّة متخلّفة في الإنتاج الفكريّ والماديّ، كما وصفها مؤسّس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال أتاتورك في إحدى خطاباته، لم تَعُدْ قادرةً على تجديد نفسها أمام التحدّيات الكبيرة التي فرضتها الدّول الغربيّة المُتسلّحة بأحدث تِقنيّات العلوم التي توصّلت إليها. ووجد الأتراك العثمانيّون أنفسهم ضمن صراع لا قُدرة لهم على المغامرة في خوض غماره.

التيّارات السّياسيّة التي وُلِدَتْ من رحم السَّلطنة العثمانيّة، لم تكن إلا إرهاصات لمرحلة جديدة، عنوانها الرّئيس دفن السَّلطنة والقطع مع تاريخها الإقطاعيّ – الدّينيّ. فإن كانت حوامل تلك التيّارات غربيّة الهوى والثَّقافة؛ فإنَّها في بداية انطلاقاتها أبدت ميولاً إنكاريّة لتاريخها، محاوِلةً التَّسويق للأفكار الحداثويّة المستورَدة. فالجمعيّات والأحزاب والحركات التي تشكّلت في بداية القرن العشرين، مثّلت هذا التوجّه لدى بعض النُّخب الفكريّة والسّياسيّة ضمن السَّلطنة. فجمعيّة الاتّحاد والترقّي التي تصدّرت المشهد السّياسيّ وتقوّى عضدها ضمن مفاصل السَّلطنة وفي المؤسّسات العسكريّة والسّياسيّة والإداريّة، تمكّنت خلال سنوات معدودة من أن تغدوَ القوّة الأكبر، لِتُهدّدَ السَّلطنة وتفرض عليها قيمها وأفكارها فيما بعد.

السّياقات الفكريّة والنّظريّة للاتّحاد والترقّي، بدت للوهلة الأولى غريبة عن الأنماط الفكريّة السّائدة في الشَّرق، وخروجاً عمّا هو مألوف لدى شعوبها.

تأثَّر الكُرد بهذا التطوّر والتغيّر في توجّه بعض النُّخب الفكريّة والسّياسيّة لدى الأتراك، فأسّسوا “جمعيّة ترقّي وتعالي كردستان”، إلا أنَّها لم تتطوّر وتصبح حركة سياسيّة وفكريّة على غرار الاتّحاد والترقّي التركيّة، بل انضمَّ قسم منهم إلى الأخيرة، حيث ظلّت متعلّقة بأذهانها فكرة “الأخوّة الكُرديّة – التركيّة” التي تمتدُّ بجذورها عميقاً إلى التّاريخ الإسلاميّ المشترك وإلى “ملاذ كرد وتشالديران ومرج دابق والرّيدانيّة”، والتي أسّست لاحقاً لمرحلة جديدة من التشارك الكُرديّ – التركيّ في حرب التّحرير الوطنيّة، بناءً على هذه الفكرة.

إنَّ دخول السَّلطنة العثمانيّة معترك الحرب العالميّة الأولى إلى جانب دول المحور، وخسارتها الحرب، ومن ثُمَّ تفكيكها وخضوعها لشروط الحلفاء، يعتبر مرحلة هامّة في سياق التّحالفات والصراعات التي خاضتها السَّلطنة مع القوى الغربيّة، وكذلك تأثيراتها على القضيّة الكُرديّة ضمن زاوية تشارك الكُرد والأتراك في التّاريخ. فأيُّ تحوّل في الموقف الغربيّ تجده ينعكس سلباً أو إيجاباً على الكُرد وقضيّتهم أيضاً.

فإن كان الفيلسوف والمفكّر الكُرديّ عبد الله أوجلان يقول إنَّ معركة “ملاذ كرد” تُمثّل معاني مختلفة لكُلّ من الكُرد والأتراك، ويبرز السِّمات المشتركة بينهما، إلا أنَّ ما ظهر بعد الحرب العالميّة الأولى من توجّهات متباينة لدى الأتراك والنُّخب الثّقافيّة والسّياسيّة، وتجلّياتها الدّمويّة لاحقاً، نسفت كُلّ الأسس والتقاطعات المشتركة بينهما، بما حقّق للطبقات السّياسيّة التركيّة الصاعدة هوسها في تشكيل الدّولة القومويّة التركيّة، المعتمدة على نظريّة العرق الواحد واللّون الواحد واللّغة الواحدة، والمستندة إلى واقع إنكاريّ تجاه الغير، والتي كانت سبباً أساسيّاً في اندلاع الحروب والنّزاعات إلى يومنا هذا.

فالدّول الغربيّة التي تقاسمت تركة السَّلطنة العثمانيّة بعد انهيارها، سعت – وبقوة – إلى جعل القضيّة الكُرديّة مادة للمساومة بها مع الدّول التي نشأت فيما بعد، وخاصّة الجمهوريّة التركيّة، وغدت تلك الدّول تبني نظريّات دولها القومويّة بناء على إنكار الكُرد ودورهم في تثبيت وجود دولهم أو عدمها.

كما أنَّ الدّول الغربيّة أبدت مقاربات انتهازيّة تعتمد على تثبيت مصالحها أوّلاً، وتُخضع تعاملها مع القضيّة الكُرديّة وممثّليها لمنطق المنفعة، بعيداً عن المبادئ التي نادت بها. فرغم حضور وفدٍ كُرديٍّ يمثّل تطلّعاتهم مؤتمر السَّلام في باريس عام 1919، بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا، إلّا أنَّ الدّول التي انتصرت في الحرب العالميّة الأولى، ورغم قطعها وعوداً بتشكيل دولة للكُرد، إلا أنَّها ما لبثت أن تنصّلت منها في عدّة مؤتمرات لاحقة، ودعمت حركة الاتّحاد والترقّي التي قادها أتاتورك، لتناقض ما أقرّته في مؤتمر باريس.

ويورد الكاتب “مظفّر مزوري” في مقالة له نشرت عام 2018 على موقع “الجزيرة نت” بأنَّه “دُوِّنَ حقُّ تقرير المصير للشُّعوب من خلال مؤتمر السَّلام في باريس 1919 الذي أعقب الحرب العالميّة الأولى، إذ تَمَّ التمييز في هذا المؤتمر بين الأقاليم الأوروبيّة وغير الأوروبيّة، فالأولى منحت الاستقلال استناداً إلى المبدأ، في حين تَمَّ الالتفاف على حقِّ الشُّعوب الأخرى في ابتكار نظام الانتداب في المادّة 22 من عهد عُصبة الأمم لتطبيقه على الأقاليم غير الأوروبيّة، والتي صنّفت في ثلاث فئات اعتبرت إحداها فقط هي الفئة (أ) جديرةً بنيل الاستقلال، على أن تتلقّى خلال فترة غير محدّدة الإرشاد والمساعدة من الدّولة المنتدَبة، ولهذا السّبب انسحبت الولايات المتّحدة الأمريكيّة من عصبة الأمم لتقاطع المادّة 22 مع ثوابت دستورها وقيمها، وتَمَّ إدراج حقّ تقرير المصير في ميثاق حلف الشّمال الأطلسيّ الذي تَمَّ إعداده بعد عقد اجتماع في 14 يوليو/ تمّوز سنة 1941 بين رئيس الولايات المتّحدة ورئيس وزراء بريطانيا، وقد اتّفقوا على الرَّغبة في عدم إحداث أيّ تغييرات إقليميّة ضُدَّ رغبات الشُّعوب، وهناك قرارات أخرى أيضاً في مسألة حقّ تقرير المصير للشُّعوب والأمم في مواثيق وقرارات الأمم المتّحدة وقرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة واتّفاقيّات دوليّة أخرى مثل اتّفاقيّة فيينا واتّفاقيّة فرساي واتّفاقيّة سيفر واتّفاقيّة هلسنكي”.

التّنافس الاستعماريّ للدّول الرَّأسماليّة الصاعدة في الغرب، وبحثها عن مناطق للاستحواذ على المواد الخام والأسواق، جعلها تبدي مقاربات نفعيّة وانتهازيّة من قضايا الشُّعوب وتحرُّرها. فبريطانيا المنتصرة في الحرب رسمت خرائط سياسيّة للمنطقة، وخلقت معها صراعات إثنيّة ودينيّة متعدّدة، ترسّخت فيما بعد، لتغدوَ أمراً واقعاً استمرَّ حتّى يومنا هذا. فمسطرة سايكس – بيكو التي قسَّمت المنطقة إلى دويلات ناشئة، كانت السَّبب في اندلاع الحروب القومويّة التي تذرّعت بألف سبب وسبب، ولتمنح نفسها أحقيّتها في العيش والاستمرار دون سواها. فكُلُّ النظريّات القومويّة في المنطقة، تطوّرت لتصل إلى تشكيل دولها، اعتماداً على واقع إنكاريّ للمجموعات القوميّة الأخرى ضمن الحدود التي رسمتها سايكس – بيكو.

إنَّ الصراع الدّائر في منطقة الشَّرق الأوسط بعد أن وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها وتشكيل الدّول القوميّة العربيّة والتركيّة إلى جانب الإيرانيّة، همّشت القضيّة الكُرديّة، فيما تنكّرت الدّول الغربيّة لحقوق الكُرد في إنشاء كيان مستقلّ لهم على غرار الأتراك والدّول العربيّة التي انبثقت بعد انهيار السَّلطنة العثمانيّة. فمعاهدة سيفر 1920 التي أقرّت بإنشاء دولة كُرديّة مستقلّة، ومنحت عصبة الأمم تركيّا حقّ مراقبة تنفيذ الأتراك لبنود الاتّفاقيّة ومدى التزامها بها، لكنّها سُرعان ما أدارت ظهرها لها، بعد مؤتمر القاهرة عام 1921.

يعتبر مؤتمر القاهرة نقطة مفصليّة في مواقف الدّول الغربيّة إزاء القضيّة الكُرديّة. فبريطانيا التي عقدت المؤتمر تحت إشراف وزير المستعمرات لديها آنذاك “ونستون تشرشل” وحضور وفدٍ كرديٍّ رسميٍّ، وكذلك بمشاركة فاعلة من ممثّلي بريطانيا في العراق ضابطي المخابرات “السير كوكس” و”مسز بيل”، حيث كان لهما دورٌ بارزٌ في نسف كُلّ ما أقرّه مؤتمر سيفر، قبل أن تنسفها الدّول المحتلّة لكردستان.

الورقة التي قدّمتها “مسز بيل” في مؤتمر القاهرة، تعتبر بداية الإنكار البريطانيّ لحقوق الكُرد وخلق صراعات في المنطقة، محورها القضيّة الكُرديّة. وقبل أن تكون هناك أيّ قضيّة أخرى شائكة في المنطقة كالقضيّة الفلسطينيّة. لقد وصفت “بيل” الكُرد بأنَّه شعب لا يستحقُّ دولة خاصّة به، بناءً على تصوّرات كيديّة استشعرت بها خلال صولاتها وجولاتها في مناطق الكُرد في جنوب كردستان (كردستان العراق). واستخلصت “بيل” أنَّه نظراً للبنى العشائريّة المتخلّفة السّائدة في المجتمع الكُرديّ، وارتباط الكُرد العضويّ مع الأتراك، فإنّهم يشكّلون خطراً مستقبليّاً على المصالح البريطانيّة في المنطقة وبالذّات في العراق.

استندت “بيل”، وكذلك “كوكس” على نتائج زياراتهما لمناطق عديدة في المناطق الكُرديّة المُلحقة بدولة العراق الآن، وأظهرا الجوانب السَّلبيّة السّائدة في المجتمع الكُرديّ، من خلال تركيزهما على إبراز الانقسامات الدّينيّة وصراع الطرق الصوفيّة، رغم أنَّ المنطقة العربيّة لم تكن أفضل حالاً من المناطق الكُرديّة. فمنطقة الحجاز التي شهدت تصاعد الحركة الوهّابيّة التي حمل لواءها آل سعود، انبثقت من واقع مجتمعيّ مُثقلٍ بالقيم الدّينيّة والعشائريّة التي لا ترتقي إلى مصاف تشكيل دولة خاصّة بهم، وكذلك الأتراك الذين خرجوا من الحرب مهزومين، انقسموا بين التمسُّك بأمجاد السَّلطنة البائدة ومحاولة إحيائها ثانية، وبين توجّهات جمعيّة الاتّحاد والترقّي في إلحاق تركيّا برُكب الحضارة الغربيّة وتبنّي قيمها المتناقضة مع قيم السَّلطنة.

إنَّ بناء دولة العراق الملكيّة وحصر سيادتها بالعنصر العربيّ، إنَّما جاء متوافقاً مع سياسة بريطانيا السّاعية إلى خلق صراعات بين شعوب المنطقة وديمومتها. فرغم أنَّ العرب لم يكونوا في وضع يؤهّلهم لتشكيل دولة خاصّة بهم، فضلاً عن الانقسامات المذهبيّة بينهم؛ السُّنّة والشيعة، إلا أنَّ الإنكليز نصبوا نوري السَّعيد ملكاً على العراق، وتَمَّ إلحاق الموصل بها، رغم محاولات تركيّا المُستميتة بإلحاقها بدولتها الفتيّة، إلا أنَّ تطلّع الإنكليز إلى اكتشاف النَّفط فيها، دفعهم بضمّها للعراق، دون أخذ البُنية الدّيمغرافية لسّكانها وتاريخيّتها بعين الاعتبار، حيث تُعتبر جزءاً لا يتجزّأ من جغرافيّة كردستان، لكن تَمَّ غضُّ النَّظر عن هذا الجانب الهام في التّوافقات التي أجرتها بريطانيا مع معظم الأطراف حينها.

رَفْضُ الإنكليز إنشاء دولة كُرديّة، جعل من القضيّة الكُرديّة عنصر قلق وعدم استقرار في منطقة الشَّرق الأوسط، نظراً لارتباط مصير أربع دول – على الأقلّ – بها، وتأثيرها على باقي دول المنطقة التي أنشأتها بعد انهيار السَّلطنة العثمانيّة.

البنود الواردة في اتّفاقيّة سيفر عام 1920 بإنشاء دولة كُرديّة، ورغم أنَّها فيما لو تشكّلت، لكانت دولةً مقطّعة الأوصال. فضلاً عن ذلك وضع الإنكليز تلك الدّولة تحت الحماية والوصاية التركيّة، عندما اشترطت أن تكون تركيّا الدّولة المُراقبة لِحُسنِ أداء إدارة الدّولة الكُرديّة المشكّلة، وعلى ضوء تقريرها ستُبدي “عصبة الأمم” اعترافها بها.

إلا أنَّ الأمور لم تصل إلى تلك المرحلة من الاستنتاج والانتظار، حيث تَمَّ نقض كُلّ ما تَمَّ إقراره في سيفر بخصوص إنشاء دولة كُرديّة في مؤتمر لوزان عام 1923، وفرض التَّقسيم الرُّباعي على كردستان، حيث ألحق كُلّ جزء بدولة، لتأتي في خدمة مصالح الإنكليز والفرنسيّين بالدَّرجة الأولى، ومن ثُمَّ مصالح القوميّات الفارسيّة والتركيّة والعربيّة، ولتعتبر أراضي كردستان جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها التّاريخيّة.

بريطانيا المتخوّفة من تحالف الكُرد مع الأتراك لتهديد مصالحها في العراق، أدارت بوصلتها نحو الأتراك، بعدما انقلب مصطفى كمال أتاتورك على لينين والسوفييت، ودخل في تحالفات مع الدّول الغربيّة، ليغدو جزءاً من المشروع الاستعماريّ الغربيّ في منطقة الشَّرق الأوسط.

رَدّةُ الفعل الكُرديّة على التآمر البريطانيّ والغربي عموماً، تَمثّل في اندلاع العديد من الثّورات والانتفاضات ضُدَّ الجمهوريّة التركيّة الفتيّة. كما أنَّ أتاتورك نفسه خان تعهّداته مع الكُرد بعد الانتهاء ممّا سُمّي بـ “حرب التّحرير الوطنيّة” وتحرير منطقة الأناضول برمّتها من الاحتلال الغربيّ، الذي هدَّدَ بتقسيم تركيّا إلى دويلات صغيرة، لتسعى إلى ضَمِّ قسم من تركيّا الحاليّة إلى اليونان.

إنَّ إطلاق يد أتاتورك في ارتكاب المجازر الوحشيّة ضُدَّ الكُرد، وخاصّة في شمال كردستان، إنَّما عبَّرَ عن إرادة غربيّة في طمس القضيّة الكُرديّة، قبل أن يُعبّر عن رغبة تركيّة في إمحاء كُلّ ما يتعلّق الكُرد وثقافتهم ولغتهم. فاعتماد الدّول الغربيّة على تركيّا في حماية مصالحها، وتنازل الأخيرة عن إقليم الموصل الغنيّ بالنَّفط، خاصّة بعد فرض الانتدابين البريطانيّ والفرنسيّ على كُلّ من العراق وسوريّا، قلّل من الاهتمام الغربيّ بالقضيّة الكُرديّة، وفي ذات الوقت أبقى عليها قضيّة معلّقة دون حلّ.

فالعامل الدّوليّ في تأزيم القضيّة الكُرديّة منذ بداية الحرب العالميّة الأولى لا يزال هامّاً، ورُبَّما يُشكّلُ العقبة الوحيدة أمام وصول الكُرد إلى حقوقهم المشروعة، التي تنصّل منها الغرب، رغم توافقها مع المبادئ الأربعة عشر التي أوردها الرَّئيس الأمريكيّ في ذاك الوقت “تيودور ويلسون”.

 

ضياع القضيّة الكُرديّة بين مصالح الشَّرق والغرب بعد الحرب العالميّة الثّانية

إنَّ تقوية نفوذ الدّول القومويّة التي حكمت الأجزاء الأربعة من كردستان فيما بينها، وترسيخ بنيتها التي اتّسمت بِبُعدٍ قومويّ معتمد على اللّون الواحد واللّغة الواحدة والإثنيّة الواحدة، همّشت الكُرد، وتسبّبت في إلحاق الكوارث بالكُرد وحتّى بدولهم أيضاً، وذلك بعد أن استمدّت كامل قوّتها من الدّول الغربيّة.

وفي هذا الصدد يقول المفكّر الكُرديّ عبد الله أوجلان إنَّ الدّول التركيّة لو انقطع الدّعم الدّولي عنها لشهر واحد، لانهارت من تلقاء نفسها، وهذا ما يفسّر بأنّها دول وظيفيّة اخترعها الغرب لتخدم مصالحها في المنطقة، ولم تُعبّر في يومٍ ما عن إرادة وتطلّعات شعوبها.

حافظت الدّول المُقسِّمة لكردستان على الوضع القائم، وخنقت كُلّ التطلّعات الكُرديّة نحو الحُرّيّة ونيل الكُرد حقوقهم المشروعة التي أقرّتها القوانين الدّوليّة. وفرضت بالحديد والنّار قوانينها التمييزية التي ألغت الوجود الكُرديّ. فالجمهوريّة التركيّة الحديثة أصدرت جملة من القوانين العنصريّة ضُدَّ الكُرد، واعتبرت حتّى حقّ التحدّث باللُّغة الكُرديّة جُرماً يُحاسب عليه قانونيّاً، فضلاً عن سياسة تهميش المناطق الكُرديّة وتخلّفها، فلم تطوّر فيها المشاريع التنمويّة والتعليميّة، وأبقتها خاضعة لنظام إقطاعيّ صارمٍ مُلحقٍ بمؤسّسات دولها.

كما أنَّ تركيّا طوّرت نظام الصهر القوميّ من خلال أسلوب الحرب الخاصّة الذي اتّبعته مع الكُرد، خاصّة بعد القضاء على آخر انتفاضة كُرديّة في ديرسم عام 1937. فمن نجا من المجازر التي اُرتُكِبت أثناء الانتفاضة وبعدها، اقتلع من وطنه، وعاش في المدن والقرى الخاصّة التي أنشأتها الدّولة، وقسمٌ كبير منهم تَمَّ ترحيلهم إلى مدن الأناضول، ليقطعوا كُلَّ ارتباط لهم مع وطنهم الأم كردستان.

اقتضت المصالح الدّوليّة، بين الدّول المنتصرة في الحرب العالميّة الثّانية، بعد القضاء على الدّولة النّازيّة في ألمانيا، إلى تقسيم مناطق النّفوذ في العالم. فدَعَمَ الجيش الأحمر تأسيس دولة كُرديّة في شرقيّ كردستان (قسم من كردستان مُلحق بالدّولة الإيرانيّة الآن) عام 1946، إلا أنَّها لم تَدُمْ سوى إحدى عشر شهراً، فسُرعان ما انهارت الجمهوريّة الفتيّة بعد التّوافقات التي حصلت بين روسيّا السوفييتية والشّاه الإيرانيّ، فأغرقت كردستان في بحار من الدّماء وأعدم قادة الجمهوريّة وعلى رأسهم رئيسها القاضي محمّد في ساحة جارجرا وسط مدينة مهاباد، في ذات المكان الذي تَمَّ فيه الإعلان عن الجمهوريّة.

إنَّ دراسة تجربة جمهوريّة مهاباد من زاوية تأثير مصالح الدّول الغربيّة على القضيّة الكُرديّة، تعتبر مفتاح الوصول إلى فهم معادلات الصراع على كردستان، قديماً وحديثاً. رُبَّما يُبدي البعض فهماً قاصراً ومغلوطاً لقضيّة عدم انتصار الكُرد في نيل حقوقهم رغم التضحيات الجِسام التي قدَّموها طيلة تاريخهم الحديث والقديم، من خلال جَلْدِ الذّات، عبر كيل الاتّهامات بأنَّ المجتمع الكُرديّ مفكّكٌ وتنخره العديد من الأمراض والانقسامات والولاءات، ويَغيب عن أذهانهم أنَّه حتّى تلك الأمراض هي نتاج حالة الانقسام والتجزئة التي فرضها أعداء الكُرد عليهم، ولم يتوارثها الكُرد عن آبائهم وأجدادهم.

فعلى الرَّغم من أنَّ الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، شهدت ولادة حركات التحرّر في بلدان كثيرة في العالم، ونالت دعماً وتأييداً من المعسكر الاشتراكيّ، مثل فيتنام ودول أخرى، وتمكّنت خلال سنوات قليلة من تحرير أوطانها والوصول إلى الاستقلال التّام والنّاجز. إلا أنَّ الوضع كان مُغايراً بالنّسبة للكُرد وقضيّتهم، حيث لم تنظر الدّول الغربيّة وحتّى الاشتراكيّة أيضاً إلى الكُرد على مبدأ حقّ تقرير المصير واعتبار قضيّتهم قضيّة شعب ووطن محتلّ من قبل أربعة دول، بل أبدت مقاربات انتهازيّة من زاوية مصالحها مع تلك الدّول. فالزَّعيم السوفييتي “ستالين” سحب تأييده ودعمه من جمهوريّة مهاباد لمجرّد توافقه مع شاه إيران على عدم تدخّل الأخير في الشّؤون الدّاخليّة لبلاده، خاصّة أذربيجان وأرمينيا المُتاخمة لحدودها، وعدم إثارته للنّزعات القومويّة والانفصاليّة لديها.

 

خاتمة

إنَّ إفرازات الحربين العالميّتين وتوصّل الدّول المنتصرة فيها إلى وضع ستاتيك معيّن يتناسب ومصالحها في مختلف بقاع العالم، وضع القضيّة الكُرديّة تحت رحمة الدّول المحتلّة لكردستان، لتنفّذ سياسات الإمحاء والصهر القوميّ والجينوسايد، إضافة إلى محاولة طمس الهُويّة الوطنيّة الكُرديّة، دون أن تبديَ أيٌّ من تلك الدّول التي تزعّمت قيادة العالم، خاصّة بعد اتّفاقات مالطا بين السوفيّيت والأمريكان، وظلّت القضيّة الكُرديّة ضحيّة الصراعات الدّوليّة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى