آلان عثمانأبحاث ودراساتمقالات

بداية “الإعلام” من النقش على الحجر والكتابة المسمارية في مزوبوتاميا

آلان عثمان

آلان عثمان 

ارتبط تطور وسائل التواصل الإعلامية بتطور الفكر الإنساني مع بداية أولى طرق التواصل بالنقش على جدران الكهوف والقلاع والتدوين على الألواح الطينية في سومر وتصميم التماثيل والكتابة على ورق البردي، إلى أن وصلنا إلى يومنا وأصبحت التردّدات الرقميّة الفضائية للأقمار الصناعية إلى جانب شبكات الإنترنت تنقل أيّة رسالة إعلامية لحظة وقوعها إلى أيّة نقطة في العالم، فالخطابات الرسمية والقوانين والمراسيم التي كانت تنظّم شؤون الناس في الدول منذ فترة السومريين، والتي كانت تتطلّب أياماً وشهوراً لتدوينها، ومن ثمّ تعميمها على فئة معينة من موظّفي الدولة، وقد أصبحت الآن تلك الخطابات والقوانين تنقل بشكل مباشر من المؤسسات الحكومية عن طريق البث المباشر عبر القنوات الفضائية أو شبكة الإنترنت، وأصبح عالمنا قرية صغيرة بسبب الثورة التكنولوجية التي حدثت في وسائل الإعلام.

البداية من مزوبوتاميا

تؤكّد الدراسات الآركولوجية (علم الآثار) والتاريخية أنّ أوّل تجمّع بشري اتّخذ من حياة الريف أسلوباً لمعيشته نشأ في بلاد ما بين النهرين “مزوبوتاميا”، وطوّر أساليب الزراعة وترويض الحيوانات والتدجين، واستخدم الأواني الفخارية وهو ما يعرف بثقافة “تل حلف”.

رغم كثرة الأبحاث العلمية التي تناولت مكان ظهور الإنسان الأوّل ” الهومو سابيانس”  ومدى صلته بتطور اللغة من خلال الرموز أو الأصوات، وما يهمنا أنّ الدراسات والبحوث العلمية لا تترك مجالاً للشك أنّ ثورة الزراعة والقرية قد نمت في هذه البقعة وهو ما يعني أننا نتحدث عن مرحلة من الرقي الإنساني ونمط حياة جديدة لا تزال آثارها باقية إلى يومنا هذا في التلال الأثرية التي تتوزع في منطقة الجزيرة في روجآفا “شمال سوريا”، بل كان لهذه المرحلة البشرية المهمة الدور البارز في تشكيل الحضارات التي تلتها واستخدمت أول وسائل التدوين.

وبعد أن انتقل الإنسان الريفي من الحياة الريفية (الطبيعية) وكانت التشاركية أسلوباً للحياة، بدأت أولى ملامح الدولة مع عهد السومريين، ما تطلب ظهور وسائل اتصال بخلاف وسيلة الاتصال الشفهية والنقش على الفخاريات وجدران الكهوف التي كانت منتشرة في عصر “ثقافة تل حلف” وما قبلها، فمع تنظيم شؤون الدولة احتاج الحاكم إلى وسيلة اتصال لتدوين القرارات الصادرة عنه لتعميمها على الموظفين والقادة العسكريين بالإضافة إلى تدوين أمجاد تلك الدولة، وهو ما وصل إلى أيدينا إلى هذا اليوم من ألواح ملحمة جلجاميش السومرية التي تروي أحداث تلك الفترة على شكل قصائد،( يعتبر أقدم نص أدبي في العالم).

السومريون أول المدوّنين

يمكننا القول: إنّ أوّل وسيلة اتصال جماهيرية ظهرت في عصر السومريين مع اكتشاف التدوين على الألواح الطينية بالكتابة المسمارية قبل حوالي 3000 ق.م، في “أورك” وبإمكاننا أن نذهب أبعد من ذلك، ونربط بين نشوء الدولة والحاجة لظهور أول وسيلة إعلامية من خلال النقش على الألواح الطينية.

وقد يذهب رأي آخر ليؤكد أنّ الإعلام  نشأ مع التجمعات البشرية الأولى للأنسان في نفس المنطقة من خلال حاجته للتواصل مع بقية أفراد جنسه.

وعادةً ما تذكر المصادر الغربية في الدراسات الأكاديمية لوسائل التواصل الجماهيري أن الإعلام ظهر مع اكتشاف ورق البردي في الصين ومصر الفراعنة، ودراسات أخرى ربطت بين اختراع  يوهانس جوتنبرج “الألماني” للطابعة حوالي عام  1448 وظهور الإعلام.

لكن الآراء حول هذه النقطة باتت محطّ خلاف، وعن هذه الجزئية يقول فاروق أبو زيد أحد أساتذة الإعلام في مصر في مؤلفه مدخل الى علم الصحافة: “من الضروري أن نفرق بين المعارف الإعلامية والمعارف الصحفية، فالمعارف الإعلامية أقدم من الصحافة، فقد نشأ الإعلام منذ أن ظهرت الحاجة إلى نقل المعلومات وتبادلها، أي مع بدء الحياة الاجتماعية للإنسان، في حين أنّ الصحافة لم تظهر إلا بعد اكتشاف المطبعة”. والمقصود

بالصحافة هنا الصحف والمجلات الورقية.

في المقابل تؤكد دراسات تاريخية وآركولوجية أخرى ظهور أولى وسائل التواصل في منطقة مزوبوتاميا “بلاد ما بين النهرين “حتى أنّها كانت في مستوى من التطور لتستخدم أساليب الدعاية والحرب النفسية التي

باتت إحدى أهم المجلات في الدراسات الإعلامية كونها تتحكم في سلوك المتلقي والجمهور، وفي هذا الصدد يقول الكاتب د. فليب تايلور في كتابه “قصف العقول” وهو أستاذ التاريخ الدولي الحديث في جامعة ليدز البريطانية: “لا يبدأ المؤرّخون السير على أرض أكثر صلابة إلا مع وصول “الحضارة” ويبدو أن تطوير منظومات اجتماعية منظمة ومؤسسات وبنى طبقية وهندسية معمارية وتجارة ودين قد وقع – أول ما وقع في الشرق الأوسط – في دلتا الفرات حوالي 5 آلاف ق.م. كانت قد ظهرت أسلحة ثورية، كالمقلاع والقوس والسهم والخنجر، وتؤكد الآنية الفخارية والأختام قيام الملكية الفردية إضافة إلى مواقع المعابد الأولى في “دول المدن” البابلية الصغيرة مثل “أور” و “أوروك”، وهو ما يمدّنا بالدليل على هذا التطور”.

وبالعودة إلى موضع الإعلام والدعاية وخدمتها للحرب النفسية للتأثير على العدو يبين تايلور أنها أول ما ظهرت في سومر مع تشييد الدولة وبداية أعمال العنف، مشيراً أنّ “الجدار حول مدينة “أوروك” وصل إلى ما يقرب من ستة أميال مع أكثر من 900 برج، ويفترض أنّه من إنشاء ملك “أوروك” الأسطوري جلجاميش (الذي يصبح فيما بعد موضوعاً لملحمة ذات مرونة فائقة وقدرة على التكيف، ألقت الضوء على النظرة الكونية لثقافات ما بين النهرين).

ما يميز ما قاله تايلور في مؤلفه أنه خرج عن السرب الأكاديمي للدراسات والأبحاث التي تُرجع كل أسس الحضارة الى الغرب، وبشكل خاص إلى الحضارة الإغريقية والرومانية، ويؤكد تايلور أن انطلاق البذرة الأولى لوسائل التواصل قد بدأت في مزوبوتاميا “إن أقدم ما بقي من أدلة مكتوبة على الاتصال الاجتماعي تأتي- بالتأكيد – من منطقة ما بين النهرين القديمة في الألف الثالث والألف الثانية ق، م. فقد عثر على ألواح من الطين عليها شكل بدائي من الكتابة الصورية – يعرف بالكتابة المسمارية – وذلك في مدينة “سومر” القديمة، في الأرض الممتدة ما بين نهرَي دجلة والفرات، وترجع إلى نحو ثلاثة آلاف سنة ق،م. وتشير الأدلة الأثرية على بقايا المباني العامة والقصور والمعابد إلى وجود مجتمع جيد التنظيم أسس على بنية تصاعدية يقوم حاكم على رأسها. وكان من الضروري لهذا الحاكم وجود شكل ما من أشكال الاتصال لكي يحافظ على مركزه، ولكي يصدر المراسيم والقوانين، ولكي يقاتل المعارضة، إلى غير ذلك. وغير أن محتويات الألواح المسمارية السومرية، هي أساساً قوائم من الحيوانات على سبيل المثال، ممثلة تمثيلا صوريّاً. غير أنّه تظهر على الألواح أيضاً رموزٌ تشير إلى مهن “الساعي” حامل الرسائل و”المنادي” المبلغ، ممّا قد يوحي بأنّ رأياً عاماً من نوع أوّلي كان عاملاً مهمّاً في الحياة السياسية الباكرة”.

وعن نشوب الحروب بين الدول- المدن في بلاد مابين النهرين، وضّح تايلور أنّها كانت: “تشهر على الحجر وغيره من النصب. فقد كانت تقام على بوابات المدن أو على الحدود أعمدة مرتفعة، ذوات رؤوس مثلثة الشكل، عرفت باسم: النصب المنقوشة (Stela) تصور الملك مع إلهه، أو مع عدوه المهزوم، وغالباً ما تصحب الصورة نقوشٌ مطوّلةٌ…. وكانت مثل هذه النصب تقام غالباً عند نقاط دخول الغزاة لردع الهجمات في المستقبل”.

وتبيّن النقوش المحفورة على الأختام التي اكتشفت في موقعة تل الفخرية “واشوكاني” في سرى كاني لجوء الإمبراطورية الميتانية للرسوم الدعائية حيث تبين إحدى الأختام صراع أحد الشخصيات مع مخلوقات أسطورية.

وفي موقعة تل حلف في منطقة سرى كاني تظهر بشكل واضح المنحوتات التي تم اكتشافها صراع الإنسان مع المخلوقات الأسطوريّة.

 

أوجلان وحقيقة مزوبوتاميا

كردياً وشرق أوسطياً يعتبر القائد الكردي عبد الله أوجلان أكثر من تناول هذه الحقيقة ولم يترك مناسبة وإلا تطرّق فيها إلى الدور الذي لعبته حضارات مابين النهرين في تطور الفكر الإنساني، ويعتبرها بمثابة “الأم” لجميع الحضارات التي تلتها وفي هذا الصدد يقول أوجلان في المرافعات المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، بعنوان “من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية”:

“التمأسس والعبور إلى النظام العشائري: ثقافة “تل حلف” المرحلة التي تشكلت فيها المجموعات العشائرية، لعبت هذه المرحلة التي استمرت 2000عاماً تقريباً بين عامي 6000 ـ 4000 ق.م، دوراً مهمّاً مثل مرحلة “الاختراعات الأساسية” التي أعدت الحضارة”.

ويوضّح أوجلان “إن هذه المرحلة بالأساس هي التي أعدت السومريين… ودعت الحاجة الى إقامة وحدات عشائرية تختلف عن القبائل التي تشبه بعضها البعض. واستطاعت الوصول إلى حالة المجتمعات ذات الطبيعة العرقية من خلال كيانها الموضوعي حتى وإن لم تتكن المعرفة والعقلية العشائرية القوية ولعبت الظروف المادّيّة والاقتصادية دوراً تحديدياً في الفرز الطبقي والمرحلة القومية، فإنّ الظروف المادية والاقتصادية والاجتماعية لهذه المرحلة قد حددت وأظهرت المجتمع العرقي والبنى العشائرية”.

وعن مرحلة التشكل الحضاري واستمرار عدة أشكال طبقية إلى يومنا الراهن، يقول أوجلان بأنها “كانت مليئة بالحروب والتي يمكن وصفها بأشكال التصدّي والاعتداء المعاند لاعتداءات قوى الحضارة المتطورة، والصراعات التي كانت تدور حول الأراضي والمصايف التي أصبحت مهمّة. (فمن أجل العيش، يجب أن تكون عشيرتكم قوية. ويجب أن تكون قبيلتكم وأسرتكم قوية في العشيرة  أيضاً) إن هذا هو الواقع المادي الذي خلق الذهنية الجديدة”.

وفي مؤلّفه ” مانيفستو الحضارة الديقراطية القضية الكردية وحلّ الأمة الديمقراطية.. المجلد الخامس أوضح أوجلان أنّ النقلة المعاشة في اللغة والفكر مع ثورة الزراعة والقرية قد فتحت السبيل أمام تشكيلات اجتماعية لم يكن لها نظير في عهدها، وتشكلت المجموعات الهندواوربية  كمجموعات لغوية- ثقافية سائدة..”.

التاريخ حلقة مستمرة ومتصلة ببعضها وأثبتت الأبحاث الآركولوجية أنّ في كل محطة أكملت الشعوب ما بدأته أسلافها وكما أشرنا أن تطوّر الإنسان من الحياة الريفية والعشائرية إلى الحياة الحضارية، ومع نشوء الطبقات واندلاع الصراعات والحروب خلقت الحاجة لظهور أول وسيلة اتصال تخاطب الجماهير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى