احمد داليأبحاث ودراساتافتتاحية العددمانشيتملف العدد 65

جدلية العلاقة بين المثقفين والدولتية وطبيعة دورهم في مجتمعات الشرق الأوسط

أحمد دالي

أحمد دالي

أحمد دالي
أحمد دالي

 

تمهيد

جدلية الثقافة والفكر في الشرق الأوسط بمجتمعاته ودوَله, تثير في أغلب الأحيان أسئلة حول ماهية الثقافة والمثقف قبل الدخول في الأدوار المناطة بكل من المفكّرين والمثقفين وأصحاب النظريات والآراء, وبما أن المجتمعات الشرق أوسطية معروفة بتنوعها العرقي والمذهبي، فإن أحد أهم المحاور المثيرة للجدل بشكل تلقائي يتمحور حول كيفية إدارة هذا التنوع وطبيعة التعامل معه, من خلال آليات ثقافية ورؤى فكرية وسياسية وفلسفية, وهذه في الحقيقة غايات تسعى مختلف المجتمعات إلى ترسيخها وحمايتها على الأقل من الناحية النظرية, لأنه في الجوانب العملية تصدر الكثير من المشكلات والمسائل الجدلية المرتبطة بالأقليات وحقوقها الثقافية والسياسية, وهذه الأمر يحتاج بكلّ وضوح وشجاعة إلى بيئة قانونية واجتماعية عادلة تحقق مطالب وحقوق هذا التنوع الاجتماعي والثقافي, وهذا ما لا يتوفر ـ بكل أسف ـ لدى أنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط بشكل عام, وبناء على ذلك فإن السمة الأبرز لتلك المجتمعات والدول هي الشرخ الصارخ بين رأس هرم السلطة والقاعدة الجماهيرية, وهذه الفجوة الكبيرة تنال من جميع شرائح المجتمع وفئاته بما فيهم المثقفون, فيجدون أنفسهم خارج النص والسياق, وبالتالي هم من الناحية العملية مثل لاعب حصل على البطاقة الحمراء ليجد نفسه خارج الملعب.

مقدمة:

ثمة جدليّتان تحت العنوان المطروح أعلاه؛ الأولى جدلية طرحتها الظروف الموضوعية التي تترافق في كل زمان ومكان مع طبيعة الأنظمة الحاكمة ومدى انفتاحها على الحالة الثقافية, هذه الجدلية تبدو واضحة بصورة أكثر جلاءً عندما يتعلق أمرها بالطبقة المثقفة التي تلتفّ حول الحاكم والسلطة, وهي التي تأتمر بأمرها وتبحث عن ألف مخرج وتفسير لكل جملة تصدر عن السلطات الحاكمة, ساعية بذلك إلى تجميل كلّ شيء يحتمل وجوهاً متعددة, حتى يصل بهم الأمر إلى إضفاء صبغة معينة على تلك النخبة التي تدور في فلك القصر الحاكم, وهذه الفئة غير مقتصرة على رجال العلم والأدب والفن, لكن يدخل تحت عباءتها في الكثير من المناسبات رجال الدين وخدَمة المعبد أيضاً.

أما الجدلية الثانية فتتمحور حول الثقافة نفسها, وهنا تبدو تساؤلات كثيرة حول إمكانية تحديد معايير يمكن إسقاطها على المثقف أولاً, ومن ثم إمكانية إلباس المجتمع تلك الضوابط والمعايير بحيث يتسنّى ولو بدرجة محدودة توصيف مجتمع ما بأنه مجتمع مثقف, ثم تأتي بعد ذلك فكرة توافق هذه الحالة الثقافية مع الواقع الاجتماعي القائم والوضع الاقتصادي المعاش في مجتمع ما, فهل هي حالة طبيعية نابعة من عمق المجتمع أو هي فكرة مستوردة؟ هل هي حالة متجذّرة أم هي حالة طارئة اقتضتها ظروف تاريخية معينة تحت تأثير العولمة والتقدم في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات؟ ثم يأتي التساؤل عمّا إذا كانت تلك الحالة حالة صحية مفيدة وعامة أم حالات فردية شاذّة لا تتعدّى كونها تقليداً أعمى للغير؟!

من العبارات التي يتم تداولها بشكل مكثف في عالم الثقافة (ما أدوار المثقف؟) وتتدرّج تحت هذه الجملة اشتقاقات لعبارات كثيرة ومتنوّعة يصل الأمر بالبعض منها إلى تحميل المثقف ما لا يمكن أن يتحمله أو يطيقه, وبالتحديد عندما نتحدث عن واقع الحال في مجتمعات شرق أوسطية, حيث تطغى الحالة الحماسية على الحالة الواقعية, وتطفو الحالة الشعاراتية على غيرها من الرؤى الوطنية الحريصة والغيورة, وأمام واقع كهذا ترى أن النخبة التي تسلّمت مفاتيح الثقافة إنما هي زمرة حازت قبل كل شيء على رضا واستحسان الطبقة الحاكمة التي تمتلك البلاد بمن عليها وما في جوفها, فتفرغ الثقافة من مضمونها ويتجرّد المثقف من رسالته.

المبحث الأول

لا بدّ بدايةً من تسليط الضوء على بعض الجوانب المتعلقة بهذا البحث.

مشكلة البحث: تتميز الأبحاث التي تحمل عناوين تتمحور حول الثقافة والمثقف بأنها تعاني من إشكالية التعريف والماهية, ومعرفة جوهر المصلحات والمفاهيم, فيتحول الاهتمام إلى تعريف الثقافة والمثقف قبل التركيز على الدور الرئيسي المنوط بهما, وعلى الرسالة المنتظرة والمرجوّة.

أهداف البحث: قد يكون من المهم فتح الباب على الدور المرجوّ من المثقف بدلاً من الخوض في أحاديث نظرية لا تقدم جديداً للقارئ والمهتمّ, ومن المهم كذلك الغوص بشكل مباشر في العلاقة المشبوهة بين فئة من المثقفين وبين السلطة الحاكمة.

أهمية البحث: أعتقد أنّ تسليط الضوء على بعض التصنيفات المعروفة عن المثقفين في قاموس التعريفات والتصنيفات سيكون أكثر أهمية وفائدة من الخوض في ملعب جدلية الماهيات والتعريفات.

أسئلة البحث: إنّ العلاقة الجدلية بين المثقف والسلطة عبر التاريخ تترك مساحات واسعة للتأمل والتفكر:

ـ أيّ من طرفَي هذه الجدلية بحاجة للآخر أكثر, هل سلطة الدولة بحاجة إلى المثقف الذي يستميت في الدفاع عنها أم أن المثقف هو من يتسلق سلالم السلطة جاهداً ليصل إلى تلك المرتبة؟

ـ متى يصبح المثقف عبارة عن بوق يعمل على تجميل كل قبيح يصدر من الجهة الراعية له, ومتى وكيف يمكن أن يكون ناقداً بنّاءً بقلمه وفكره ليضع كل شيء في نصابه الصحيح والحقيقي؟

ـ ألا يمكن أن يدخل في خانة مثقّفِي القصر الحاكم والبلاط الملكي كلٌّ من صاحب القلم الرصين واللسان الفصيح وصاحب العمامة ورجل الدين؟

ـ ثم هل يمكن للمثقف أن يقف على الحياد في خضمّ ما يجري وينأى بنفسه؟

ـ ما دور المثقف الحقيقي بين السلطة والتنوير؟

ـ أين يقف المثقف من قيم إنسانية نبيلة مثل التعايش والتنوع الثقافي والتعددية الثقافية والهوية الثقافية للشعوب؟

بيئة البحث: يدور هذا البحث في فلك البيئة الشرق أوسطية التي كثيراً ما تختلط فيها الأوراق, حيث تختلط الأممية بالقومية, ويختلط الديني بالعلماني, وتختلط المذاهب بالأعراق, ويختلط المال بالسياسة.

المبحث الثاني

سنحاول أن نفتح في هذا المبحث بعض النوافذ حول:

ـ في مفهوم الثقافة ـ من هو المثقف؟

ـ أنواع المثقفين ـ تصنيف المثقفين

ـ جدلية العلاقة بين المثقف والدولتية ـ المثقف والسلطة الحاكمة المستبدّة

1ـ في مفهوم الثقافة ـ من هو المثقف؟

المثقف هو ذلك الإنسان الذي اختار لنفسه أن يمارس النشاط الثقافي عبر الكتابة والقراءة والبحث والتنوير والفكر والطرح, ولا تقتصر الأنشطة الثقافية على الأعمال والنتاجات الأدبية كما يُساء الفهم أحياناً, فحقول الثقافة واسعة وسعَ حياة الإنسان, ورحبة كرحابة المجتمعات عبر امتداها الاجتماعي والجغرافي.

المثقف ومن خلال النافذة التي تم الإشارة إليها لا يختلف عن أي فرد في بيئته, غير أنه يمنح للمواقف أبعاداً مختلفة عن الإنسان العادي, ويقرأ الإشارات والإيحاءات والإيماءات بطريقة مختلفة, ويستطيع في الوقت عينه أن يترجمها للآخرين, وقد يتطور به الأمر إلى استشراف المستقبل بناء على سبر خبرات وتجارب الماضي وفهم معطيات الحاضر, فهو قيمة ثقافية فكرية وفلسفية إذا نما ونبغ في بيئة صالحة تتوفر فيها أسباب التأمّل والتفكّر.

الثقافة ليست شهادة تخرّج في جامعة أو مركز أو معهد, هي أبعد وأشمل من ذلك, فهي جملة من المعارف والمفاهيم والقيم التي يصارع بها المثقف الحياة ويواجه من خلالها المستقبل, فالأديب مثقف في الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية ومسرح, والفنان مثقف في الموسيقا والرسم والمسرح والسينما, والمزارع مثقف في الأرض والتربة والطقس وما إلى ذلك.

يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون متميزاً عن غيره من المثقفين عندما يترجم أفكاره النظرية إلى أفعال عملية, فيكون على تماس بمحيطه وعلى مسافة قريبة من بيئته الاجتماعية, فهو بهذا يخرج من زمرة المثقفين الذين ينطوون على أنفسهم وعلى ثقافتهم بأنه فاعل عملي لا مبدع نظري, وبهذا المعنى يمكن وصف المثقف على أنه “حالة فاعلة ومؤثّرة” قبل كل شيء, فهو يكتب المقالة لأنه يرى حاجة لطرق أبواب موصدة, ويكتب الرواية لأن ضرورة ما ينبغي لها أن تخرج إلى العلن عبر العمل الأدبي, ويكتب في السياسة والاقتصاد والمجتمع وينتقد, لأنه ثمة إلحاح لصدور جملة من الأفكار والإعلان عن مجموعة من الآراء التي ينبغي لها أن تتحرر من قمقم وحيّز الآراء والأفكار النظرية, وهنا نكرّر مرة أخرى أنّ المثقف “حالة فاعلة ومؤثرة” لأنّه يمارس نشاطه الثقافي من غير تكليف من أحد, إنّه إنسان انتدب أو اختار لنفسه هذا الدور, فهو يمارس نفسه كمثقف في الميادين والأطر الثقافية الواسعة, ولأنّ الثقافة تتنوع مجالاتها؛ فتبعاً لذلك نجد المثقفين أيضاً على أنماط وتيارات مختلفة متعددة, ولكن الجملة الفاصلة والحاكمة في هذا الصدد, هي أن المثقف يتخذ موقفاً من المحيط الذي يعيش فيه, سواء كان موقفاً سياسياً أو موقفاً أخلاقياً أو عقائدياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً, أو موقفاً علمانياً, وبناء على هذا التصور فإن كل إنسان يتبنى موقفاً من المواقف السابقة هو إنسان مثقف, وعلى هذا يُعتبر صاحب الإيديولوجيا الدينية مثقفاً مثل صاحب الإيديولوجيا العلمانية, إن كانا اجتماعيَين، ومن يتبنّى الموقف الأخلاقي هو إنسان مثقف حاله حال صاحب الموقف العقائدي, وهكذا, لكن جدير أن نذكر أن كل هذه المواقف يعبّر عنها أصحابها كل بحسب أدوات المعرفة والثقافة التي يمتلكها؛ بقلم الأديب والباحث أو ريشة الفنان أو إيماءة المسرحي ….إلخ.

2ـ أنواع المثقفين ـ تصنيف المثقفين وطبيعة دورهم

ـ هل تصنيف المثقف يبُنى على أساس طبيعة ونوع الكتابة التي يبدعها أم على أساس طريقة الفن الذي يسلكه, أم من طبيعة الموقف الذي يتبنّاه ويتخذه إزاء المواقف السياسية والاجتماعية في مسيرته وثقافته؟.

ـ هل هذا التصنيف يأخذ بعين الاعتبار مدى تأثير الثقافة كممارسة وفعل في المحيط الاجتماعي للمثقف, أم يركّز على مجرد الرأي الثقافي دون ترجمته إلى “حالة فاعلة ومؤثرة”؟.

ـ هل الانطلاق في تصنيف المثقف يتوقف حقاً على ما يبنيه من مواقف إزاء الأوضاع التي يعيشها “المثقف نفسه” باعتباره أحد أفراد المحيط والوسط الاجتماعي؟ والمقصود هنا أن يتبنى المثقف موقفاً ذاتياً شخصياً نابعاً من تجربته الخاصة لا موضوعياً عاماً صادراً عن المنظومة المجتمعية الواسعة, لأنه من المعروف أن بعض المدارس الأدبية وحتى الفلسفية بنت منطلقاتها وأسسها على الرؤية الذاتية لهذا العالم, ومنها مدرسة الشعر الرمزي على سبيل المثال.

قدّم الفيلسوف الإيطالي “غرامشي” تصنيفاً للمثقف, فهو يجد أن هناك (مثقفاً عضويّاً, مثقفاً ذاتيّاً).

ـ المثقف العضوي: هو الذي ينتمي إلى هموم الناس, ويتبنى مصالح الجماهير, فيعلن موقفه بشكل صريح أنّه مع هموم وآلام الناس أينما كانوا.

ـ المثقف الذاتي: هو مثقف متقوقع على نفسه منطوٍ على ذاته, غير آبه بمآسي الإنسانية, إنه يتصرف على نحو غير مبالٍ بما يدور من حوله, فهو يكتب عما يجول في خاطره هو وما يتأثر به هو, بمعنى أن ثقافته ما هي إلا انعكاس لحالته الذاتية الخاصة.

من الواضح أنّ تصنيف “غرامشي” متجانس مع تصنيفات المدارس والمذاهب الأدبية, فالمثقف العضوي لدى غرامشي هو الأديب الواقعي الملتزم الذي تبنّى والتزم هموم الناس, بينما نرى أنّ المثقف الذاتي هو الصورة المتطابقة مع الأديب أو الشاعر الرمزي الذي نأى بنفسه عن كل ما يتعلق بالناس وهمومها وآلامها.

ويمكن إضافة تصنيفات أخرى للمثقف اقتضتها ظروف الواقع الثقافي والواقعي الاجتماعي والأخلاقي:

ـ المثقف المنتمي: هو الذي حمل على عاتقه الدفاع عن مجموع القيم الإيجابية التي ينبغي أن يعيش بها الناس على الأقل من وجهة نظره, فهو المدافع عن الحريات والحقوق الفردية والعامة, ويناهض كل أشكال القمع والاستبداد والفقر والاستسلام والخنوع, إن انتماءه الشديد هذا إلى الجماهير والمجتمع والإنسان يجعله متمرّداً على القضايا العامة لا الخاصة, يتمرّد على البؤس والشقاء والفقر والجهل وخنق الحريات وقمع الرأي, يتمرّد ويناهض الديكتاتورية ويناصر قضايا الفئات المسحوقة, فهو المثقف المناضل.

لكنّ السؤال: متى يظهر هذا المثقف المنتمي المتمرّد؟ إنه يظهر في مرحلة الصمت وفي مرحلة الحراك, إنه يُظهر نفسه في حالة الصمت فيكتب عن الواقع السيّئ المعاش, ويظهر في مرحلة الحراك الجماهيري وثورة الشعب بالانتماء إليها, ولذلك نجده في القصيدة وفي الرواية وفي الفن, ولكنه قد يلجأ اضطراراً إلى التلميح بدلاً من التصريح, ويلجأ إلى التورية والترميز لأسباب ودواعٍ تتعلق بالبطش والمظالم والقمع.

ـ المثقف الفوقي: هو المثقف المتعالي على مجتمعه, الذي يعيش في برجه الذي رسمه لنفسه وضرب من حوله الأسوار لمنع الاحتكاك بالناس وقضاياهم، بالتالي يبتعد عن المجتمع، فلا يعدّ مؤثّراً.

ـ مثقف السلطة: هو بوق للسلطة الحاكمة, بل هو محامٍ مراوغ يدافع عن قضية غير عادلة إذا كانت السلطة الحاكمة ظالمة جائرة, وبالعكس فهو مواطن شريف قبل أن يكون مثقفاً في حال كان دفاعه وثقافته في سبيل نظام حكم عادل ومنصف, نظام انبثق عن الجماهير ووضع كل ثقله وإمكاناته لخدمة تلك الجماهير التي منحته ثقتها وسلّمته مصيرها وفق عقد اجتماعي بين الطرفين. ولكن لسوء الحظ أن اسم مثقف السلطة وشاعر السلطة ورجل الدين الذي يعمل لخدمة السلطة, قد اقتُرن دائماً بفساد السلطة, فكان دورهم تجميل صورة الأنظمة الفاسدة, وإيجاد التبريرات لكل شاردة وواردة, والبحث عن تسويق المبررات لجرائم الأنظمة الديكتاتورية. والحقيقة أن هذا الصنف من المثقفين يشكل خطراً على المجتمع والدولة, لأن لغة التزوير والتزييف التي يعتمدها تقدم للديكتاتور والمستبدّ شهادة حسن سلوك, ولكنه يلتفّ على الأمور تحت مسميات ومفاهيم برّاقة مثل الدفاع عن الوطن ومواجهة الخطر الخارجي وما إلى ذلك من هذه العبارات, ومن غير المستبعد أن يشكل هذا النوع من المثقفين خطراً على سيده الحاكم أيضاً متى انقلبت الموازين وسُحب البساط من تحت رجلي السيد الحاكم؟

إنّ الاستقامة العقلية لا يستقيم معها الوقوف في صف ظالم على ظالم آخر, ولا يستوي معها الاحتماء بظالم للنجاة من ظالم آخر, ومع هذه الاستقامة العقلية السليمة والسوية, ليس مقبولاً من المثقف أن ينأى بنفسه ويحشر نفسه في زوايا مظلمة أو أن يقف في منطقة رمادية, هذا ما تقتضيه الفطرة البشرية السليمة, وليس من الغريب أن يكون هذا الدور منوطاً بالمثقف وموكلاً إليه. إن الدعوة إلى التعايش السلمي في ظل تعدد ثقافي يعمل على تجميع الثقافات المختلفة تحت مظلة واحدة, هو من أسمى القيم والموضوعات المنتظرة من الطبقة المثقفة الواعية لحقيقة التنوع الطبيعي في المجتمعات, فالثقافة في إطار هذا المفهوم هي الحاجة الأرقى والأسمى التي تسعى لتحقيق التلاحم ما بين الأفراد والجماعات وتأسيس علاقاتهم على أسس سلمية بعيدة عن كل أشكال الصراع والإنكار والإقصاء والنفي للآخر, وبهذه الوسيلة الناعمة يمكن التوصل إلى التكامل بدلاً من التصادم الفكري والثقافي الذي قد ينسحب إلى صراعات في ميادين أخرى, لأن التعددية الثقافية حالة طبيعية وصحية في عالم اليوم وكانت كذلك في الماضي أيضاً, فمفهوم التعددية الثقافية هو الدافع إلى أن تتعايش جميع المجتمعات الإنسانية بانسجام دون صراع أو انصهار، وهذه التعددية يمكن اعتبارها من أهم ملامح المجتمعات الحديثة, لأن المجتمعات الأحادية تفصح يوماً بعد يوم عن المشاكل الداخلية فيها, لأن السلطة واتخاذ القرار في مجتمع أحادي الثقافة لا يعكس حقيقة البيئة الاجتماعية المعاشة، فحينها الثقافة تكون ممثّلة فقط بالفئة الاجتماعية أو السلطة المسيطرة والأكثر انتشاراً, وعلى العكس من هذا؛ تضمن التعددية الثقافية المشاركة الواسعة والشعور القوي بالانتماء عند جميع أعضاء المجتمع, فتنتفي حينئذ مشاعر الحرمان والإقصاء والإنكار، وبالتالي هل يمكن أن نسمّي مثقف السلطة بمثقّف؟ فهناك مشكلة في التعاريف.

3ـ جدلية العلاقة بين المثقف والدولتية ـ المثقف والسلطة الحاكمة المستبدّة

بحسب التصنيف الذي مرّ من قبل حول المثقفين وطبيعة العلاقة التي تربطهم بالسلطات الحاكمة, يتضح معنا أن العلاقة التاريخية بين المثقف ونظام الحكم القائم آنذاك, كانت تأخذ خطين متعاكسين تماماً:

الخط الأول حين يكون المفكر والفيلسوف متماشياً مع طبيعة الحكم الموجود ومسايراً لرجال السلطة, ففي هذه الحالة لن تحصل صدامات ـ على الأقل مباشرة وساخنة ـ بين الطرفين, وعلى هذا فقد كان لكل حقبة زمنية ومع اختلاف من يمتلكون مفاتيح الحكم فئة أو نخبة مثقفة, نجدها تقف إلى جانب الدولة بشكلها القائم آنذاك, وكذلك نجد أشخاصاً متلوّنين بألوان السلطة والنظام الحاكم, منهم الأديب والشاعر والمفكر ورجل الدين والمنظّر والفيلسوف.

أما في الخط الثاني فنجد أن الرياح لا تجري دائماً كما يشتهي رجل الدولة, وفي هذه الحالة كثيراً ما يكون المثقف عرضة للتنكيل به والنيل منه, فيقع ضحية أفكاره ورؤاه, لأن رجال الدولة المتسلطين يكيدون المصائد والمكائد لكل من يتبنّى فكراً مغايراً لطبيعة أفعالهم وطريقة إدارتهم للحكم, والتاريخ يشهد على الكثير من الحوادث التي وقع المفكر والفيلسوف والأديب والعالم ضحية فلسفته وفكره وأدبه وعلمه, منهم “سقراط وكاليلو وابن رشد”, وغيرهم الكثيرون الذين كانت نهايتهم إلى الموت أو السجن أو النفي, ذلك أن العقول المستبدّة لا تستطيع أن تستوعب أو أن تتفهّم وتقبل بفكر يناهض طريقة إدارتهم للحكم والدولة والمجتمع, فهذه الفئة الحاكمة ترى أن أصحاب الفكر التنويري يشكّلون خطراً عليهم لأنهم يعادون الحكم والحاكم, هذه من وجهة نظرهم, ومن هنا يبدؤون يكيلون التّهم الباطلة والكيدية لهم.

في عصر سيطرة الكنيسة على مقاليد الحكم والسلطة, حارب أرباب الحكم والسلطة كلّ من كان يُقدم على المساس بثوابت كانت مقدّسة في الفكر والضمير الجمعي للشعب والمجتمع, ولذلك كانت التُّهمة جاهزة, وهي معاداة الكنيسة والرب, وفي بعض الحقب الإسلامية نرى الشيء ذاته, حيث يُلاحَق كل من كان يحمل أفكاراً تنويرية مختلفة عن فكر السلف الذي ظلّ الكثيرون متشبّثين به سواء عن إيمان وقناعة, أو حفاظاً على مواقعهم ودفاعاً عن مصالحهم المرتبطة ببقاء الأمور على حالها, وهنا أيضاً كانت التهمة جاهزة وهي “الزندقة” فكان ابن رشد مثلاً ضحية فكره التنويري كنتيجة طبيعية لصراع تاريخي مستمر بين الفكر الحر التنويري والفكر المقيّد الظلامي.

هذه الجدلية أو الإشكالية ليست مقصورة في زمان معين, إنها مشكلة متجدّدة, فهي أزمة فكرية قديمة حديثة, ففي كل وقت لا بدّ من بروز شخصيات تنويرية مجدّدة تواجه الفكر الظلامي والمستبدّ, ولهذا نجد في عصرنا الحديث الذي يتغنّى بمبادئ برّاقة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير, نجد من جديد أنّ التاريخ يعيد نفسَه, لماذا؟ لأن الصِّدام بين الفكر والسلطة يتجدّد, نعم يتجدّد لأن الاستبداد الفكري والتسلط اللذَين كانا سمة الأنظمة الدولتية القديمة يستمر ويتجدّد وينسحب على الحقب الزمنية الجديدة, وسيرورة الحياة والصيرورة الاجتماعية للمجتمعات ستفرز أشخاصاً يناهضون تلك العقلية الديكتاتورية, ومن هنا يبدأ الصراع من جديد, لكنه صراع قد يختلف عن الصراعات الماضية في أدواته بحكم التقدّم في الزمن, ومع مراعاة ظروف البيئة والمكان وطبيعة القضية التي ولّدت هذا الصراع, فأكثر القضايا التي كانت سبباً في نشوب الحروب الفكرية والكلامية قديماً, كانت تطرح نفسها في ثوب المواقف والرؤى الفلسفية وكانت تتعارض مع الدين والعقيدة والمذهب, وهذا بالدرجة الأولى من جهة المفكر والفيلسوف الذي كان يؤمن بمذهبه الفلسفي والفكري ثم يستميت في الدفاع عنه عن قناعة وإيمان, لكن الأمر كان مختلفاً من وجهة النظر الأخرى, وهي وجهة نظر رجال الحكم سواء السلطة السياسية أو السلطة الدينية, ولا فرق بين السلطات الدينية التي تقف إلى جانب السلطة السياسية الحاكمة وتقاتل بسيفها سواء في الديانة المسيحية أو اليهودية من قبلها وحتى لدى الديانة الإسلامية فيما بعد.

قلنا إن معظم القضايا الخلافية في الأزمنة القديمة كانت ترتدي ثوباً دينياً, ولكن في عالم اليوم أخذت القضايا الخلافية المعقدة والشائكة تأخذ أبعاداً أخرى ذات طابع جديد ومنظور حديث, فمنذ الثورة الفرنسية 1789 بدأت مفاهيم ومصطلحات جديدة تظهر إلى العلن, منها حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها, ثم مع القفزات التاريخية والتجديدية للعقد الاجتماعي, بدا أنّ الحاكم ليس إلهاً ولا حتى نصف إله, ولا يستمدّ سلطته من الإله, بل هو أحد أفراد الشعب ويحكم وفق العقد الاجتماعي الذي ينظّم كل شاردة وواردة من أمور الحكم والدنيا والحياة, وانطلاقاً من هذا الانفتاح الفكري والتفكير العقلاني أخذت قضايا وهموم الناس تأخذ منحىً جديداً, فبدأت قضايا مثل البطالة والاستغلال والجهل والأمية تظهر بقوة, كما برزت وبشدّة موضوعات أخرى مثل الحقوق الثقافية والفكرية وحرية الرأي والتعبير, ولكن مع تجدّد المطالب والقضايا بدأت السلطة الدولتية هي الأخرى تجدّد مواقفها تجاه المطالب الجديدة, وأخذت تتفنّن في التعامل معها, وهذه إشارة واضحة إلى استمرار الصراع وتجدد الجدلية ما بين المثقفين وأصحاب الفكر التنويري من جهة والسلطة الحاكمة المستبدّة من جهة ثانية, وهذا هو السبب بالضبط في وجود رجال ونساء على السواء وقعوا ضحايا أفكارهم الرائدة وأقلامهم النيّرة, قديماً كان ابن رشد وسقراط على سبيل المثال, وحديثاً نرى المفكر عبدالله أوجلان يواجه مصير من سبقه من أولئك الفلاسفة والمفكرين, فماذا كان ذنبهم؟ كانت خطيئتهم أنهم سبقوا زمانهم, كان ذنبهم أنهم تجاوزوا أنفسهم ووضعوا مسيرة وخلاصة فكرهم وفلسفتهم في خدمة الناس والمجتمعات والإنسانية جمعاء, فأحدثوا ثورة فكرية فلسفية, وهذا ما يخشاه كل ظالم مستبدّ على مرّ الزمان.

خاتمة

من الممكن تفسير الاختلافات في المجتمعات بناء على فهمنا للواقع الثقافي داخل كل جماعة, لأن ثقافة مبنية على قيم وأبعاد اجتماعية إنسانية راقية مثل (التسامح والاعتذار والتعايش والتنوع) كفيلة بأن تكون بديلاً عن مفاهيم مثل (التفرقة والتعصب والتعالي بسبب اللون أو العرق أو الدين أو البيئة الطبيعية), وهذا بطبيعة الأمر من شأنه أن يقوم بدور مهمّ في عملية فهم الآخر والقبول الطوعي بعملية التحول الفكري والأخلاقي داخل البيئات الاجتماعية, الأمر الذي سيقود حتماً بمرور الزمن إلى التخلص من تلك المفاهيم القديمة التي جاءت مبنية على مفاهيم قاصرة ومغلقة. ولا شك أن الثقافة في أبعادها وقيمها الإنسانية تمتلك القدرة على التأثير في تلك المفاهيم البالية المنغلقة على نفسها, والمؤكّد أيضاً أنّ المثقف هو صاحب هذا الدور وهذه المبادرة, فالثقافة من هذا المنظور هي طريقة الحياة الشاملة لكلّ مجتمع، وتعبّر بشدّة عن طبيعة هذه المجتمعات الإنسانية المتنوعة والمختلفة في طبيعتها وتكوينها, ومن هنا تبرز فكرة الهوية الثقافية لكل شعب, فالهوية تعكس ذلك الشعور العميق بالوجود الأساسي للإنسان، إنه شعور الانتماء، شعور الاستمرارية في الحياة, شعور المحافظة على الوجود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى