أبحاث ودراساتفارس عثمان

انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري والموقف الدولي

فارس عثمان

فارس عثمان

فارس عثمان
فارس عثمان

دخلت الإمبراطوريةُ العثمانية في القرن التاسع عشر في أزمةٍ سياسية واقتصادية وعسكرية، وباءت محاولاتُ الإصلاح بالفشل، وقد تعمقت هذه الأزمةُ بعد حرب القرم ” 1854 – 1856 ” والحرب الروسية – التركية عام  1887- 1878 التي ساهمت في زيادة تدهور الاقتصاد حتى شارفت الدولةُ على الإفلاس، وانعكس ذلك بشكلٍ كبير على كردستان التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية، والتي كانت تعاني أصلاً من الإهمال والتهميش وفرض الضرائب المتنوعة والتجنيد الإجباري، مما أدى إلى تدهور الزراعة وتحول العديد من الفلاحين إلى عمال أُجراء لدى كبار الملاكين، أو انتقلوا للعمل في المدن.

 بالإضافة إلى هذه الظروف الصعبة، انتشرت في شتاء عام 1879م مجاعةٌ كبرى في كردستان كانت أشد وطأةً من مجاعة عام 1856 وانتشرت معها الأوبئة، ومات نتيجتها مئاتُ الآلاف من الجوع، وترك القرويون قراهم باتجاه المدن، وتقاعست الدولة العثمانية عن مساعدة مواطنيها، في حين سارعت القنصلياتُ الأجنبية إلى تقديم المساعدة للسكان، وأرسل القنصلُ البريطاني لحكومته يطلب منها ” الغوث على استعجال ” وكانت الجماهيرُ ترفع أصواتها دون خوف أو وجل لتلعنَ الدولةَ العثمانية. ويقال بأنه عندما مرّ القنصلُ الفرنسي بالجماهير المحتشدة عند باب السراي في الموصل، خاطبته إحدى النساء: (( بارك الله فيك فإنك خيرٌ من المسلمين ما دمتَ تحنو على الفقراء.))[1]. والتجأت بعضُ القبائل الكردية إلى روسيا القيصرية لتجاوز هذه المحنة. ولم تقتصر هذه المحنةُ على كردستان تركيا بل شملت كردستانَ إيران أيضاً، وقام الجياع بمهاجمه مستودعات الحبوب للحصول على ما يقتاتون به، ثم انتقلوا بالتدريج من الهجوم العفوي على مستودعات الحبوب التي يحميها الجنود إلى الهجوم المنظم المسلح الذي تحول عام 1880 إلى انتفاضه شعبية واسعه بقياده الشيخ عبيد الله النهري* شيخ  الطريقة النقشبندية، والذي كان يتمتع بسلطه ونفوذ واسعين بين الكرد في تركيا و إيران، وكذلك بين سكان المنطقة من غير الكرد.

 كان (( الشيخ عبيد الله متنوراً ذكيا بعيد النظر رغم مركزه الديني، وكان مركزه الاجتماعي وثقله السياسي يتقدم أحياناً مركزه الديني، ويسعى لدراسة نظم وأفكار المجتمعات المتحضرة، ويبذل جهوداً كبيرة ليجعل من شعبه شعباً متحضرا.))[2].

 ومن أجل تحقيق هدفه أخذ يستعدّ لتنظيم انتفاضة عامة ضد الدولة العثمانية، ومن أجل ذلك تواصلَ مع الزعماء المحليين لدعمه ومساندته، وحينما علم السلطان عبد الحميد الثاني بمحاولاته أرسل إليه مفتي وان لثنيه عن هذه الفكرة، واستمرت المباحثاتُ بينهما أسبوعاً لم تأتِ بالنتائج التي خطط لها السلطان، ولمعرفه الشيخ بمناورات السلطان العثماني وغدره.

 وجد الشيخُ ضرورةَ كسب الشعوب الأخرى التي تعيش مع الكرد وتعاني من ظروف مشابهة كالأرمن والآشوريين والعرب، فأجرى الاتصالاتِ مع زعيم الآشوريين مار شمعون الذي وافق على تقديم المساعدة للشيخ. كذلك بارك زعماءُ الأرمن خطوةَ الشيخ عبيد الله، وظهر في الأفق بوادرُ اتحاد كردي آشوري أرمني ضد السلطة التركية وذهبت (( هدراً كل مساعي الاستفزازيين الأتراك لأجل زرع بذور الخلاف والشقاق بين الكرد والأرمن، وتحريض الكرد ضد جيرانهم المسيحيين الأرمن. ))[3]. كذلك حاولت بريطانيا إبعادَ الآشوريين والأرمن عن هذا الاتفاق بحجة أن الدولَ الأوروبية وحدها هي القادرة على حماية المسيحيين.

 ومن ضمن محاولاته لتقوية مركزه اتصل الشيخُ عبيد الله بـ (( خديوي مصر ومع شريف مكة وزعيم القبائل العربية في العراق فرحان باشا لتنسيق المواقف ضد الدولة العثمانية. ))[4].

وفي المجال الخارجي أيضاً سعى جاهداً من أجل كسب تأييد روسيا القيصرية لدعم انتفاضته لمعرفته بأن بريطانيا لن توافق على إنشاء دوله كردية قوية تهدد مصالحها في المنطقة، فأرسل أكثرَ من مبعوث إلى القنصل الروسي في أرزروم للحصول على دعم الروس، ولشرح موقف الشيخ من الدولة العثمانية أكد المبعوثُ الكردي بأن روسيا تتمتع باحترامٍ كبير بين الكرد أكثر من بريطانيا وإنها مجاورة لتركيا … كمان أكد بأن كردستانَ تتمتع بموقع استراتيجي خاصة الممرات الجبلية فيها، وأن الشعبَ الكردي يستطيع التأثير على مجريات الحرب إذا ما نشبت بين روسيا وتركيا… وشرح أسباب الانتفاضة الكردية وظلم الدولة العثمانية، وعدم قدرتها على توفير الأمن والحماية للكرد… لكن القنصل الروسي رفض العرضَ الكردي، وأمتنع عن إعطاء إجابة واضحة للمبعوث الكردي، وذهب إلى أكثر من الرفض، إذ كتب لحكومته برفض الاستجابة لطلب الكرد.

 وفي هذه الفترة جرت اضطراباتٌ شرق بحيرة ” وان ” قامت بها القبائلُ الكردية ضد الحكومة العثمانية فأعلن الشيخ تأييده لها، واتخذت الدولةُ العثمانية بعضَ الإجراءات ضدها وضد محاولات الشيخ عبيد الله، وعينت ” سامح باشا ” قائداً لجيش الأناضول ومنحته صلاحيات واسعة، وحاول السلطانُ عبد الحميد الثاني صرفَ الشيخ عبيد الله عن محاولته وأراد استمالته بالوعود والهدايا، وأرسل إليه مساعده ” بحري بك ” لثنيه عّما يخطط له، لكن الشيخ تمسك بموقفه.

 وكانت لانتفاضة هكاري التي شملت مناطق واسعة تأثيرٌ إيجابيٌ على مساعي الشيخ عبيد الله وأنصاره ولا سيما في إيران، وحثهم الشيخُ على تنشيط العمليات العسكرية ضد السلطات الإيرانية وحكومة الشاه، واستجاب الناسُ لنداءات الشيخ (( فما أن يسري خبر تحرك أو انتفاضة كردية يسارع السكان للانضمام إليها وتتوسع رقعتها لتشمل مناطق مختلفة.))[5]، ولبت عشيرةُ شكاكا “Şikaka” نداءَ الشيخ عبيد الله وعبرت جماعة مسلحة كبيرة منها الحدودَ التركية للانضمام إلى قوات الانتفاضة، وكان الشيخ متأكداً من أن أكرادَ منطقة هكاري لا يستطيعون بمفردهم تحقيقَ النجاح وإنشاء دولة كردية، و يدرك جيدا أنه لن يفلحَ في الوصول إلى غايته – في إنشاء دوله كردية مستقله – دون توحيد الكرد.

 فاتصل بزعماء القبائل الكردية في المنطقة ودعاهم لعقد اجتماع موسع في شمزينان لإنشاء اتحاد كردي ” اتحاد قبلي ” وأرسل مبعوثيه إلى جميع مناطق كردستان لدعوة الزعماء إلى ضرورة النضال المشترك ضد الأتراك والإيرانيين مؤكدين لهم أن تركيا وإيران لا تمتلكان أيَّ حق في حكم الكرد، كما أرسل الشيخُ رسله إلى أكراد روسيا للمشاركة في الانتفاضة وتقديم المساعدة لها.

 وبعد أن انتشر خبرُ جهود الشيخ في توحيد الزعماء الكرد حاول القنصلُ البريطاني بكل الوسائل منعَ عقد المؤتمر الكردي الذي دعا إليه الشيخ، ومن أجل إعاقة تشكيل الاتحاد الكردي، وكتب القنصل الإنكليزي” تروتر* ” إلى جورج.ج. كوشن سفير بلاده في استانبول يقول إنني لا أكاد أصدق أن الحكومةَ التركية مسؤولة عن حماقة مثل تشكيل الاتحاد – الكردي – وإن هذا الاتحاد سيكون موجهاً ضدها، ولقد أقلق تشكيلُ الاتحاد الكردي (( بريطانيا لدرجة أن بعضَ النواب في البرلمان الإنكليزي أسرعوا في طرح هذه المسألة على بساط البحث..))[6].

 انعقد مؤتمرُ زعماء الكرد في شمزينان ” تعرف أيضا بـ شمدينان ” وبدأ أعماله في نهاية شهر تموز عام 1880 بحضور  وفود من السليمانية والعمادية وهورامان وبوطان ومن جبال صاصون وسيرت وموش ووان وبعض الزعماء من كردستان إيران… ويعد هذا المؤتمر هو أول مؤتمر تمثيلي في تاريخ الكرد في القرن التاسع عشر. وكان هدفُ عبيد الله من هذا المؤتمر إنشاءَ اتحاد بين القبائل الكردية، ويعرف بـ ” جمعية العشائر الكردية ” وفي المصادر الغربية ” الاتحاد الكردي “، هو الإعداد والتمهيد لانتفاضة عامة، وقد أفتتح الشيخ عبيد الله المؤتمر بكلمة جاء فيها: (( قبل خمسمائة وخمسين عاماً تأسست الإمبراطورية العثمانية وتسلمت الحكمَ من غير أن تكون مستحقة له، وبعد مضي أربعمائة سنة إلى خمسمائة سنة من حكمها بدأت تقترب من السقوط والانهيار بصورة سريعة، ويجب ألا ندع مجالاً للشك بأنها ستنهار قريبا.

يا أبناءنا الأعزاء: لنسمع إلى وصية آبائنا وأجدادنا ولا نقبل بالظلم والاضطهاد الذي يتعرضُ له شعبنا من الترك حتى نتخلص منهم، ولا يقتصر ذلك علينا نحن الكردُ في الدولة العثمانية، بل أن الأمرَ كذلك فيما يخص الكرد في إيران، فالدولتان تحولان دون تقدم الكرد.))[7]، كما ناقش المؤتمرُ العلاقاتِ الكردية الأرمنية، خاصة بعد مؤتمر برلين 1878 ودعوة الدول الأوروبية إلى منح الحكم الذاتي للأرمن. وقد أكد الشيخُ عبيد الله على أهمية العلاقة بين الكرد والأرمن، وتطرق إلى محاولات الدولة العثمانية وبعض الدول الأوروبية إلى زرع بذور الفتنة بين الشعبين مبيناً عواقبها الوخيمة على الكرد، وشرح بإسهاب هدفَ الحكومة العثمانية التي تسعى لاستخدام الكرد ضد المسيحيين، والتي ستستهدف الكرد بعد الانفراد بهم، إذ قال لهم (( أن الأتراك يريدون أن يضربوا بنا المسيحيين وحين يقضى على المسيحيين سيوجه الأتراك اضطهادهم إلينا. ))[8]، وأنه (( يجب أن نعيش كالأخوة مع الأرمن، وأن نعمل من أجل تمتين أسس التفاهم والانسجام بيننا. ))[9]. وكان ذلك محلّ ترحيب غالبية المشاركين في المؤتمر الذي أيدوا مقترحَ إنشاء دولة كردية مستقلة.

وأثناء انعقاد المؤتمر غيّر الشيخُ عبيد الله خطة الانتفاضة على أن تبدأ المناطق الكردية في إيران وتأجيل الحراك في تركيا إلى المرحلة الثانية، إذ أكد: (( بأنه من الحكمة استخدام الظرف المناسب، ففي الوقت الذي يحارب الفرس التركمان سيرسلون كل قوتهم إلى هناك وهذا يعني أن الوقت ملائم جداً لدخولنا إلى فارس… وبما أن قسماً من كردستان يتبع فارس فإننا نكون قد حررنا إخواننا، ونكون بحربنا ضد الأضعف قد استولينا على بلد غني وخصب كأذربيجان، نملك فيه نبعاً لا ينضب من أجل حربنا ضد – العثمانيين.))[10]. وقد رحب أغلبيةُ المشاركين في المؤتمر بهذا الاقتراح، ثم بحثوا آلياتِ الاستعداد للانتفاضة، وتأمين الأموال والسلاح والذخيرة لثوار.

اندلعت شرارةُ الانتفاضة في إيران في شهر آب 1880 بقيادة حمزة آغا زعيم قبائل منغور* الذي نفذ قراراتِ المؤتمر واتصل ببعض الزعماء الكرد في المنطقة، وقد أثار نشاطه غضبَ السلطات الإيرانية التي لجأت إلى التنكيل بالسكان الكرد في المنطقة، فاستعان حمزة آغا بالشيخ عبيد الله الذي أرسل ابنه عبد القادر على رأس جيش قوامه (( ألف فارس كردي ))، وفي طريقه إلى إيران انضمت إليه عددٌ كبير من الخيالة والفرسان الكرد، على أن يلحق به لاحقا.

 قسم الشيخ عبيد الله النهري جيشه إلى ثلاثة أقسام الأول بقيادة ابنه عبد القادر وحمزة آغا ومهمته تحرير سابلاغ ” مهاباد ” وتبريز، والثاني بقيادة ابنه محمد صديق والثالث بقيادة خليفته محمد سعيد وكان الشيخ يقوم بقيادة الفرقتين الأخيرتين.

في 10 أيلول عام1880 تمكن الثوار من الاستيلاء على مقاطعه منغور وفي 15 أيلول سيطروا على مقاطعات لاخيدجان التي تسكنها قبيله بيران الكردية – أكثر القبائل إخلاصاً لفكرة وحدة الكرد – وأرسل الشيخ مجموعة رسائل إلى زعماء إيران ووجهائها لكسبهم، وضمان حيادهم بهدف ضمان نجاح الانتفاضة، ثم استولى الثوار على مدينة ” سردشت ” وسرعان ما انتشرت الانتفاضة وامتدت إلى جميع المناطق الكردية في كردستان إيران وانضمت إليها جميع القبائل الكردية تقريبا، وتقدم الثوار نحو مدينه مهاباد والمدن الرئيسية في كردستان دون مقاومة تذكر، ودخل محافظها في مفاوضات مع الثوار انتهت بمغادرته وحاشيته للمدينة تاركين السلاحَ والأموال للثوار، هكذا تم الاستيلاء على المدينة دون إطلاق رصاصة واحدة، و قبل مغادرتها عيّن لها الشيخ المسؤولين لإدارة المناطق المحررة كما تم تشكيل حكومة مؤقتة لكردستان.

 وقد أكد الشيخُ في تعليماته للثوار وللمسؤولين على ضرورة عدم التعرض إلى رعايا الدول الأجنبية والسكان المسيحيين وطلب وضع أعلام زرقاء فوق بيوتهم لمنع الاعتداء عليهم، وقد أكد مينورسكي عدم تعرض الثوار للمسيحيين إذ يقول: (( لم يتضرر الأرمن من حركة عبيد الله. ))[11].

وتقدم عبيد الله نحو تبريز وفي طريقه استولى على مقاطعة شوشيفان ومدن ” اشتاروك، زافار ، مياندوب، مليل، وكاندا ثم زحف على تبريز وأثناء وصوله إلى تبريز دب الذعر في المدينة وبدأت (( المواجهات الضارية في الشوارع التي أقيمت فيها المتاريس وتهيأت القنصلية الروسية لنقل أرشيف القنصلية. ))[12].

 وعلى جبهة أورميه كان الوضع مختلفاً، فرغم سيطرة الثوار على بحيرة أورميه وجوارها، إلا أن القواتِ الإيرانية استطاعت الاحتفاظ بها، ورفض حاكمها ” إقبال الدفلي ” تسليمها إلى القوات الكردية التي يقودها الشيخ عبيد الله بنفسه ولكسب الوقت أرسل الدفلي القنصل الانجليزي ” آبوت* ” للتفاوض مع الشيخ عبيد الله ليقوم هو بتحصين المدينة والحصول على المساعدات من حكومته التي بدت في موقف محرج، وقام ” آبوت ” بالمهمة واستقبله الشيخ بالترحاب، إلا أنه رفض الدخولَ في مفاوضات مع إقبال الدفلي كما عبر عن عدم ارتياحه للحكومة الإيرانية. ثم أرسل الشيخ خليفته إلى ” آبوت ” لإقناع حكومته البريطانية باتخاذ موقف محايد من الانتفاضة، وإبلاغه بموقف الشيخ الودي تجاه الدول الأوروبية، وجاء في رسالة الشيخ عبيد الله: (( أن الشعبَ الكردي له خصوصيته، وديانته مختلفة عن ديانة الآخرين، وكذلك تقاليده وأعرافه، وزعماء كردستان سواء أكانوا رعايا للفرس أم للترك، وإن سكان كردستان سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين قد اتحدوا وأجمعوا على أن الأمور باتت لا تطاق مع ممارسات الحكومتين التركية والفارسية، ومن الضروري أن يتم شيء ما. ولا سيما بعد أن فهمت الحكوماتُ الأوروبية قضيتنا، وتحققت من حالتنا السيئة.

إننا نريد أن تكون شؤوننا في أيدينا، وإلا فإن كردستانَ سوف تضع زمام الأمور في أيديها… وهي غير قادرة على الاستمرار في تحمل الأعمال الشريرة المتواصلة، وهذا الاضطهاد الذي تمارسه الحكومتان بنيات غير صادقة.))[13]، واقترح على آبوت إقناع الدفلى بإخلاء المدينة من السكان لكن الدفلي رفض ذلك، وكتب آبوت عن هذه المحادثات (( إن الشيخ يعتزم القضاء على قطاع الطرق من القبائل المختلفة، والتي يستمر قيامها من جانب إيران وتركيا وذلك لأن ممثلي هاتين الحكومتين ليس بإمكانهم وقف هذه الأعمال وإعادة الأمن والنظام إلى حدودهما ومنح المسيحيين والمسلمين حقوقاً متساوية والمساهمة في نشر التعليم وبناء المدارس والكنائس والشيء الوحيد الذي يريده الشيخ هو التأييد المعنوي من الدول الأوروبية العظمى، ويقترح الشيخ اختباره وإذا لم يفلح في إنشاء كردستان وإقامة حكومة قوية فيها عندئذ فهو مستعد للمثول أمام محكمة أوروبية وتحمل جميع العواقب الناجمة عنها. ))[14].

 وعلى الجانب الثاني من الحدود أي الجهة التركية اتخذت حكومةُ السلطان عبد الحميد الثاني كافةَ استعداداتها لمواجهة الانتفاضة بحشد قواتها في ” أرزوم ” ثم تم نقل القوات إلى منطقة ” وان ” لتكون قريبة من منطقة الأحداث في كردستان.

 وبعد أن استوعبت الحكومة الإيرانية الصدمة، تمكنت من إعادة تنظيم صفوفها فأرسلت إلى تبريز ثلاثةَ جيوش من طهران وخوي وكان الجيش الرئيسي بقيادة اعتماد السلطاني يرافقها ضباط نمساويون، وفي الوقت الذي كانت إيران تستعد للهجوم على الثوار خففت الفرقُ الكردية عملياتها العسكرية في ضواحي تبريز وغادر الكثيرون من الكرد معسكرَ الثائرين إلى بيوتهم بعد أن حصلوا على بعض الغنائم، مما أدى إلى ضعف قوى الكرد وأثر ذلك تأثيراً كبيرا على مجرى العمليات الحربية ضد جيوش الشاه فيما بعد. وقد طلب الشاه الإيراني من انكلترا وروسيا الضغطَ على تركيا لإقناعها بالدخول في الحرب ضد الانتفاضة الكردية، فاستجاب السلطانُ لذلك ووضعت تركيا قواتها على الحدود لقطع طريق العودة على الثوار.

 وقامت السلطاتُ الروسية بحشد قواتها في منطقه نخجوان لمنع انتقال الثوار إلى روسيا وتم (( محاصرة الثوار من ثلاث جهات بالقوات المناوئة.))[15].

وفي طريقها إلى تبريز استخدمت الجيوشُ الإيرانية النظامية وغير النظامية كل أساليب البطش والقتل ضد الكرد فأحرقت خلال تقدمها أكثر من 200 قرية كردية، ونهبت المحاصيلَ وقتلت السكان و لم تفرق بين الشيوخ والأطفال والنساء، إذ أصدر القواد الأوامر بقتل الكرد دون رحمة وسيطرت روح السلب والنهب على الجيوش الإيرانية (( وراقت هذه الأعمال للضباط النمساويين الذين أمروا الجيشَ بحرق جميع قرى منطقة مجيد خان وقتل سكانها، ورداً على احتجاج الدفلي ضد هذه الإجراءات المتطرفة هدد أحدُ الضباط النمساويين بتقديم شكوى سريعة ضده إلى طهران التي أمرته على حد قوله بالقضاء على كل شيء في كردستان على الطريق.))[16].

وبعد معارك دامية اضطر عبد القادر بن عبيد الله إلى الانسحاب، وفي شهر تشرين الثاني عبر الحدودَ التركية بينما استمرت قبيله منغور في المقاومة بقياده حمزة آغا الذي أثار الذعرَ في صفوف القوات الإيرانية على الحدود الإيرانية – التركية، لكنه اغتيل غدراً بعد أن نال الأمانَ من حكام إيران ثم قامت الحكومة الإيرانية كعادتها بتوزيع سكان المنطقة من الكرد على مختلف مناطق البلاد وذلك لتلافي قيام انتفاضة كردية أخرى في المستقبل، كما طلبت إيرانُ من تركيا تسليمها زعماء الانتفاضة وأيدت كل من بريطانيا والنمسا هذا الطلبَ.

 وبعد عودة الشيخ وأولاده إلى الأراضي التركية تمركز في منطقه شمزينان وأخذ يعد العدة لانتفاضة جديدة، وتوجه بنداءات مكتوبة إلى الزعماء الكرد يدعوهم للثورة، كذلك أرسل مفوضاً إلى روسيا للحصول على دعمها له ضد تركيا، مؤكداً أنه لم يفقد الأملَ في دعم روسيا للأكراد… كما حاول من جديد استمالةَ العرب والأرمن والآشوريين ثانية إلى جانبه وأهتم كثيراً بالتعاون الكردي الأرمني، إذا وجد في مساعدتهم إمكانية تأسيس دولة كردية فكان يقول: (( رغم كل شيء فإنني أثق بالأرمن أكثر من ثقتي بالأتراك والفرس، فالأفضل بالنسبة لنا الاتحاد مع الأرمن بدلاً من الفرس والأتراك، إذ أن الفرسَ يكرهوننا والأتراك يرغبون في أن يجعلوا منا أداة لسياساتهم.))[17].

 لاقت فكرةُ الثورة الاستحسانَ بين الصفوف الكرد والآشوريين والعرب ووصل إلى مقر الشيخ عبيد الله حوالي 5000 عربي من الموصل* وبغداد، وتؤكد وثائق الخارجية الروسية ذلك إذ تشير إلى (( أن عدة آلاف من المسيحيين العرب عبروا عن كامل استعدادهم للاشتراك في الانتفاضة الكبيرة التي قادها الشيخ عبيد الله ومنهم من وصل إلى المنطقة فعلا.))[18].

وأثارت الأعمالُ التحضيرية للانتفاضة كل من روسيا القيصرية وانكلترا التي ضغطت على السلطان العثماني لاتخاذ التدابير للحيلولة دون اندلاع الانتفاضة، وطلب السفيرُ البريطاني من السلطان إما معاقبة الشيخ عبيد الله أو تسليمه إلى إيران. وأرسلت تركيا قواتٍ إضافية إلى منطقه هكاري ووجهت إنذاراً إلى الشيخ تدعوه إلى لقاء فوري مع ممثل السلطان العثماني، فطلب الشيخ إنشاءَ لجنة خاصة تبحث الوضع على أن يكون فيها ممثلين عن الدول الأوروبية، ووقف تحشدات القوات التركية حتى تتفرغ اللجنة من مهامها وتتخذ القرارات المناسبة لمعالجه وضع الكرد المزري، وحاول الشيخ عبيد الله النهري جاهد (( تأمين استقلال الكرد ليس بقوة السلاح وحده، بل وعقد الآمال على اللجنة الدولية.)).[19]

ثم اضطره الشيخ للسفر الآستانة لملاقاة السلطان عبد الحميد الثاني الذي اتخذ كافة الاحتياطات للحيلولة دون فراره، وقد استقبل الشيخ بحفاوة واحترام لائقين بشخصية لها مكانتها وخرجت جميع الشخصيات الرسمية في المدينة لاستقباله واكتظت الشوارع بالناس، وأثناء دخول عبيد الله إلى المدينة دوت المدفعية بطلقات التحية على شرف الضيف الكبير.

أدرك الشيخ أن قصرَ السلطان هو سجنه، وأنه مقيم تحت الإقامة الجبرية، رغم ذلك لم يتخلَّ عن فكرة إنشاء دولة كردية مستقلة، فصمم على الهروب وفي أواخر عام 1882 تمكن من الوصول إلى كردستان، وقد أثار ظهوره الأملَ بتجدد الانتفاضة، وازدادت مخاوف الحكومة الإيرانية التي حذرت السكان من الانضمام إلى الشيخ وأرسلت قواتها لتعزيز منطقة الحدود، وقامت بترميم سور مدينه أورميا وطلبت من تركيا إبعاده عن حدودها، وحينما علمت السلطات التركية بهروبه أرسلت وفداً لصرفه عن هدفه، لكنه رفض ذلك فأرسل السلطانُ عبد الحميد الثاني سكرتيره كامل باشا (( لإقناع الشيخ بالسكن في إحدى المدن المقدسة في السعودية وعلى نفقة الحكومة التركية، كما وعده السلطانُ براتب شهري تقاعدي قدره 150 ليره وغيرها من الامتيازات.))[20]. لكن الشيخ رفض المقترحات التركية وقرر متابعة طريقه فتحصن في قلعة أورامار لمواجهة القوات التركية التي حاصرت القلعة، وعندما أدرك الشيخ بعدم قدرته على المواجهة ولكي يتجنب إراقة الدماء أعلن عن نيته السفر إلى الموصل فوافقت الحكومة التركية على طلبه، بعد أن أخذت ابنه محمد صديق كرهينة إلى استانبول. وقد خرج سكان الموصل لاستقباله، ورحب زعماء الموصل بقدومه، فخافت الدولة العثمانية من عودته إلى الثورة و قامت بإرساله إلى الحجاز، وبقي فيها حتى فارق الحياة في مكة في 23 تشرين الأول عام 1883.

كانت حركه الشيخ عبيد الله مفاجأة ليس لتركيا وإيران فحسب بل لإنكلترا وروسيا وغيرهما من الدول الأوروبية، وأتهمت كل دولة الأخرى بأنها كانت وراء الانتفاضة فادعت الصحف التركية والانكليزية بأن روسيا كانت وراء الانتفاضة الكردية، بينما اعتبرت الصحف الروسية والإيرانية والأرمنية بأن تركيا وبريطانيا لهما دور في اندلاع هذه الانتفاضة متناسية دور الجهات الأربع روسيا وإيران وتركيا وبريطانيا في اخماد الثور.

 إن انتفاضةَ الشيخ عبد الله النهري كانت بحق من أهم الانتفاضات في القرن التاسع عشر التي قام بها الشعب الكردي للتخلص من عبودية الدولتين العثمانية والإيرانية معاً، وعكست بصدق رغبة الشعب الكردي بكامله في الاستقلال، وتمتع قائدها بنضج ووعي سياسي، ومقدره فائقة في تحليل ومعرفة الظروف المحيطة به وبعد نظر سياسي بدليل تواصله مع ممثلي بعض الدول الأوربية وروسيا، وكذلك مع زعماء الشعوب الأرمنية والآشورية والعربية والاتفاق معها على سبل الخلاص وضمان حقوقها، ومع ذلك فشلت الانتفاضة. ويعود أهم أسباب فشلها إلى عدة عوامل منها:

1- عدم وجود تنظيم سياسي يشرف على الانتفاضة ويوجهها ويشرح أهدافها بوضوح لعامة الناس.

2- العداوات الداخلية بين القيادات الكردية وتأثير ذلك على مجريات الانتفاضة.

3- النظرة القبلية لدى بعض زعماء الانتفاضة والسعي وراء المصالح الآنية.

4- غياب وحدة الصف الكردي، وعدم التنسيق العالي بين الكرد والأرمن رغم مصلحتهم المشتركة في التخلص من السيطرة التركية والإيرانية.

5- الموقف المعادي للحكومتين البريطانية والروسية للانتفاضة ولتطلعات الشعب الكردي، خوفا على مصالحها في الدولة العثمانية الضعيفة.

6- عدم توفر دعم أية دوله أوروبية للانتفاضة.

7- عدم توازن القوة العسكرية بين القوات الكردية وقوات الحكومتين الإيرانية والتركية.

هكذا اجتمعت هذه العوامل مع بعض العوامل الأخرى، ولا سيما العداء والتنافس بين روسيا القيصرية وبريطانيا حول التوسع في الأناضول والهضبة الإيرانية، كل ذلك ساهم في إخفاق  الثورة الكردية.

 وفي النهاية ألا يحق لقائد الانتفاضة أن يرتاح نهائياً وذلك بإعادة رفاته إلى وطنه، كغيره من قادة العالم الذين فارقوا الحياة خارج أوطانهم، أليس من حقه على شعبه أن يفكر بذلك؟.

المصادر والمراجع:

1- ( البرواري )، د. محمد زكي، الكورد في الدولة العثمانية. دار الزمان. ط1. 2009.

2- ( الصالح )، جهاد، الطورانية التركية بين الأصولية والفاشية. دار الصداقة. بيروت. ط1. 1987

3- ( جليل )، جليلي. نهضة الأكراد الثقافية والقومية. ت/ بافي نازي. ولاتو. كدر.ط1. 1984.

4- ( جليل )، جليلي. انتفاضة الأكراد عام 1880. ت/ سيامند سيرتي. رابطة كاوا للثقافة الكردية. بلا. 

5- ( زكي )، محمد أمين. خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور وحتى الآن. ت/محمد علي عوني، كرد برس، بيروت. ط4. 1996.

6- ( سافراستيان )، أرشاك، الكرد وكردستان. ت/ د. أحمد محمود الخليل، دار الزمان، دمشق. ط1 2008.

7- ( قاسملو )، د. عبد الرحمن. كردستان والأكراد. المؤسسة اللبنانية للنشر. بيروت. ط6. 1970

8- ( محب الله )، ن، موقع الأكراد وكردستان تاريخيا وجغرافيا وحضاريا ، بلا 1992 .

9- ( مظهر )، د. كمال أحمد. كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى.ت/ محمد ملا عبد الكريم. بلا.

10- ( مكدول )، ديفيد. تاريخ الأكراد الحديث. ت/ راج آل محمد. دار الفارابي. بيروت.ط1. 2004.

11- ( مينورسكي )، الأكراد ملاحظات وانطباعات. ت/ معروف خزنه دار. دار الكاتب. بيروت. ط1. 1987.

12- ( الاتحاد ) صحيفة. الصحيفة المركزية للاتحاد الوطني الكردستاني.  العدد 33 -26/6/1993.

 

 

[1] – ( الاتحاد )، صحيفة، الصحيفة المركزية للاتحاد الوطني الكردستاني. العدد 33.

* – تعرف عائلته بسادات نهرى ( تلفظ نايري ) أصبح سيد عبد الله احد خلفاء مولانا خالد بعد اعتناقه الطريقة النقشبندية، وكانت للعائلة نفوذ ديني ثم اصبح لها نفوذ مادي دنيوي ايضا وقد ازداد هذا النفوذ بصورة متزايدة جدا في زمن الشيخ عبيد الله. هو عبيد الله طه النهري الشمزيناني . نسبة إلى منطقة شمزينان ” شمدينان ” التابعة لولاية هكاري.

[2] – ( جليل )، جليلي، انتفاضة الأكراد 1880، ص 61.

[3] – ( جليل )، جليلي، نهضة الأكراد الثقافية والقومية. ص 8.

[4] – ( جليل )، جليلي، انتفاضة الأكراد 1880، ص 52.

[5] – ( صالح ) جهاد، الطورانية التركية بين الأصولية والفاشية. ص 116.

* –  الميجر هنري تروتر : هو القنصل البريطاني العام في وان .

[6] – ( جليل )،جليلي، انتفاضة الأكراد 1880. ص 57.

[7] – ( البرواري )، د. محمد زكي، الكورد في الدولة العثمانية. ص 244.

[8] – ( قاسملو )، د. عبد الرحمن، كردستان والأكراد. ص 49

[9] – ( مكدول )، ديفيد، تاريخ الأكراد الحديث. ص 168.

[10] – ( جليلي )، جليل، انتفاضة الأكراد 1880. ص 49.

* – يتمركزون في محافظة بيرانشهر الواقعة على جبال زاغروس، في أذربيجان الغربية.

[11] – ( مينورسيكي )، مينورسكي، الأكراد ملاحظات وانطباعات. ص 45.

[12] – المصدر السابق، ص 42.

* – ويليام آبوت القنصل البريطاني في تبريز عاصمة اقليم اذربيجان الشرقية في ايران

[13] – ( سافراستيان )، أرشاك، الكرد وكردستان. ص 87.

[14] – ( جليل )، جليلي، انتفاضة الأكراد 1880، ص 72.

[15] – ( زكي )، محمد أمين، خلاصة تاريخ كرد وكردستان. ص 244.

[16] – ( جليل )، جليلي، انتفاضة الأكراد 1880، ص 78.

[17] – المصدر السابق، ص 81.

* – كان الشيخ عبيد الله يخطط لجعل الموصل عاصمة لدولته.

[18] – ( مظهر )، د. كمال أحمد، كردستان في سنوا الحرب العالمية الأولى. ص 123

[19] – ( جليل )، جليلي، انتفاضة الأكراد 1880. ص 83.

[20] – ( محب الله )، ن، موقع الأكراد وكردستان تاريخيا وحضاريا وجغرافيا. ص 93.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى