أبحاث ودراساتافتتاحية العددصلاح الدين مسلممانشيتملف العدد 65

“اليهودية” بين الفكر اليهودي اليساري العالمي، واليمين المتطرّف الصهيوني، وتأثيرها في القضيتَين الفلسطينيّة والكردية

صلاح الدين مسلم

صلاح الدين مسلم

صلاح مسلم
صلاح مسلم

القسم الأوّل: مخطط  البحث

  • المقدمة: أضحت القضية اليهوديّة الشغل الشاغل للعالم، والشرق الأوسط بشكل خاص، وباتت الصراعات بين اليمين اليهودي واليسار اليهودي تؤثّر على العالم وعلى الشرق الأوسط مباشرة، ومن المحال وصف القضيتين الكرديّة والفلسطينيّة دون استيعاب الحقيقة اليهوديّة، فهناك علماء ومفكّرون يهود غيّروا النظرة إلى الكون، ومنهم كارل ماركس، وحنّة أرندت، وموراي بوكتشين، وهنري كيسنجر، وسيغموند فرويد… وغيرهم، ووجودهم التاريخي في الأناضول وميزوبوتاميا حتى العهد البرسي، ووجودهم الحالي مع الفلسطينيين، وكان لليهود دور كبير في الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ تأسيسها وحتّى دمارها، فلا يمكن التفكير في الإمبراطوريّة العثمانيّة دون تحليل الكرد واليهود، ولا يمكن تحليل اليهود في القرنين العشرين والحادي والعشرين دون التطرّق إلى العرب والفلسطينيين. بالمقابل لا يمكن تحليل القضية اليهوديّة دون تحليل اليسار واليمين فيهما، وتأثيرهما في خلق دولة إسرائيل، وجعلها دولة محوريّة في ظرف قياسيّ.

وقد حلل الكثير من الباحثين والمفكّرين المسألة اليهوديّة، فحتّى كارل ماركس قد ألّف كتاباً بعنوان: “حول المسألة اليهوديّة”، وقد بحث المفكّر عبد الله أوجلان في مرافعاته هذه القضية المهمّة وشرّحها بجرأة، وخاصة في بحث مطوّل بعنوان: “اليهودية، العلاقات التركية – الإسرائيلية، والقضية الكردية”.[1]

  • مشكلة البحث: من خلال البحث في المراجع والكتب والنت، والتاريخ الطويل في تتبع هذه القضية عبر الوسائل الإعلاميّة منذ الصغر، فقد كانت القضية اليهودية، ومصطلح الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينيّة حديث الساعة، والشغل الشاغل للإعلام العربي في تصدير أزماتها، وتأزيم القضية الفلسطينيّة عوضاً عن حلّها، وكذلك بعض التابوهات الموجودة في نبش التاريخ اليهودي، وسيطرة اليهود على الإعلام وطمس الحقائق، واتهام الكرد على أنّهم عملاء، وأن كردستان هي إسرائيل الثانية، وتفريق الشعوب عبر دعايات مجانيّة للتفريق بين الشعبين الكرديّ والفلسطيني، وبالمقابل هناك مشكلة في تشويه كلّ اليهود، فهناك مفكّرون قدّموا للبشرية خدمات جليلة، ومن خلال قراءتي للمرافعات لفت انتباهي علاقة اليهود بالكرد، أو مدى تأثير اليهود على القضية الكرديّة، ومدى التشابه بين التغريبة الفلسطينيّة، والإبادة الكرديّة.
  • أهمية البحث: تكمن أهمّية هذا البحث من خلال إيجاد العلاقة بين هذه القضايا المتشعّبة، في تشويه العلاقة الكرديّة العربيّة والفلسطينيّة على وجه الخصوص، ووقع الكرد واليهود في فخ العداء دون أيّ رابط بينهما، فسياسة الحداثة الرأسماليّة وأذرعها في العالم تحاول أن تشوّه الحقائق، وتحارب أي تكاتف اجتماعي، بل زرع العداء بينهم.
  • أهداف البحث: هدف هذا البحث للتعرّف على اليسار اليهودي واليمين اليهودي والصهيونيّة, والفروق بينها، والعلاقة بين اليهود والقضية الكرديّة، والعلاقة بين القضية الكرديّة والقضية الفلسطينيّة، وإيجاد حلول تؤدّي إلى السلام بين اليهود والعرب والكرد، ومن الذي يؤجج هذه الحرب بينهم، ولماذا لا يُصنع هذا السلام؟
  • أسئلة البحث:
  • ما اليسار اليهودي؟
  • ما الصهيونية واليمين اليهودي؟
  • ما الفروق بين اليمين واليسار اليهوديَّين؟
  • ما العلاقة بين اليهود والقضية الكرديّة؟
  • ما العلاقة بين القضيتين الكردية والفلسطينية؟
  • ما “اليهودية” بين الفكر اليهودي اليساري العالمي، واليمين المتطرّف الصهيوني، وتأثيرها في القضيتَين الفلسطينيّة والكردية؟
  • مصطلحات البحث:

اليهودية:

لغة: بمعنى العودة أو التوبة، وهي من المصطلحات التي تسبب اختلافاً في دلالتها. يشير اليهود إلى عقيدتهم باسم) التوراة (أي القانون، أو الشريعة. وأول من أشار إلى عقيدة اليهود باليهودية هو المؤرخ اليهودي المتأغرق يوسيفوس فلافيوس، وذلك بالمقارنة مع «الهيلينية»: عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس. فالمصطلحان بدءا اسمين جغرافيين قبل أن يشيرا إلى النسقين العقائديين.

والصيغة الأكثر شيوعًا هي مبادئ الإيمان الثلاثة عشر التي وضعها وطوّرها موسى بن ميمون، وإن أيّ يهودي يرفض حتى أحد هذه المبادئ يعتبر مرتدًا ومهرطقًا.

وفي العصر الحديث، تفتقر اليهودية إلى سلطة مركزية تملي عقيدة دينية محددة. وبسبب هذا، فإن العديد من الاختلافات المختلفة في المعتقدات الأساسية تعتبر ضمن نطاق اليهودية.

أمّا ما يهمّنا في هذا البحث فهو مصطلح اليهوديّة كشريحة اجتماعيّة مؤثّرة فكرياً واقتصاديّاً وجيوسياسياً, ومن كلّ النواحي على العالم عامّة وعلى الشرق الأوسط خاصّة.

اليمين واليسار: يدعو التيار اليميني إلى التدخل في حياة المجتمع، للحفاظ على تقاليده على النقيض من تيار اليسار الذي يدعو إلى فرض المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، كما أنّ الأحزاب اليمينية تنادي بتعزيز وتمتين هيكل النظام الراهن, بينما في الجانب المقابل الأجنحة اليسارية تدعو إلى تغيير جذري للأنظمة والقوانين الحالية.

ليس من الضرورة أن يكون اليميني متطرّفاً، لكن في الحالة اليهوديّة لا يمكن أن تفصل اليمين عن الدين، فاليهودية مصطلح ديني، وإن تحوّل إلى مصطلح سياسيّ فكريّ، لكنّه دينيّ المنشأ، وعندما يكون اليهوديّ يمينيّاً فهو غالباً ما ينحو نحو التطرّف، وهذا التطرّف موجود عند التيارات الإسلاميّة اليمنيّة، كحماس على وجه المثال، وقد ظهر مصطلح اليمين المتطرّف حديثاً وكان أول مَن صاغه واستخدمه هو الأمريكي ريتشارد سبنسر المولود عام 1978 والذي يعدّ من أبرز رموز هذا الفكر المتطرف والمتعصب لتفوّق الجنس الأبيض الذي ينتمي إليه، ويستخدم سبنسر مصطلح اليمين المتطرف للإشارة إلى (هوية الجنس الأبيض وتفوقه).وقد كان من مؤيديه أيضاً أندرو أنجلين، ومايلو يانوبولوس. ومن عوامل انتشار اليمين المتطرف:

  • الالتفات إلى الأصول العرقية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
  • اندماج الدول الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما جعل كلّ دولة أوربية تلتفت إلى أصولها القومية.
  • أدّى انتشار البطالة في أوروبا والركود الاقتصادي كلّ فترة إلى النظر إلى الأجانب نظرة ازدراء حيث يرونهم مزاحمين على الوظائف وخاصة المسلمين منهم.

القضية الفلسطينية أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: في 3 /1 /1919 وقِّعت اتفاقية فيصل وايزمان من قبل الأمير فيصل بن الشريف حسين مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام سنة 1919م يعطي بها لليهود تسهيلات في إنشاء وطن في فلسطين والإقرار بوعد بلفور.

فالقضية الفلسطينيّة مصطلح يشار به إلى الخلاف السياسي والتاريخي والمشكلة الإنسانية في فلسطين بدءاً من عام 1897 (المؤتمر الصهيوني الأول) وحتى الوقت الحالي, وتعدّ جزءاً جوهرياً من الصراع العربي الإسرائيلي، وما نتج عنه من أزمات وحروب في منطقة الشرق الأوسط. ويرتبط هذا النزاع بشكل جذري بنشوء الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيطان فيها، ودور الدول العظمى في أحداث المنطقة. كما تتمحور القضية الفلسطينية حول قضية اللاجئين الفلسطينيين وشرعية دولة إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية بعدة مراحل. وما نتج عن ذلك من ارتكابها للمجازر بحق الفلسطينيين وعمليات المقاومة ضد الدولة العبرية، ويُعتبر هذا النزاع، من قبل الكثير من المحللين والسياسيين القضية المركزية في الصراع العربي الإسرائيلي وسبب أزمة هذه المنطقة وتوتّرها.

ففي أواسط 1880، قامت الحركة الصهيونية في أوروبا بتكوين مجموعة «عشاق صهيون» (المؤتمر الصهيوني الأول كان في بازل عام 1897). طالبت هذه الحركة بإقامة دولة خاصة باليهود، ورأى العديد من الصهاينة أن موقع هذه الدولة يجب أن يكون في مكان الدولة التاريخية اليهودية، المنطقة التي تعرف باسم فلسطين. كانت فلسطين حينئذ جزءاً من الدولة العثمانية وتحظى بحكم محلي (ولاية)، وكانت المنطقة مأهولة بالفلسطينيين العرب بشكل رئيسي (ظل اليهود يشكلون نسبة أقل من 8% حتى عام 1920).

لاقى هذا المشروع الصهيوني غضباً شعبياً عمَّ كل فلسطين، ورفضاً قاطعاً من كل الشخصيات السياسية آنذاك، كان من بينهم مفتي القدس أمين الحسيني وعز الدين القسام ولاحقاً عبد القادر الحسيني، وزعماء سياسيين ودينيين وعسكريين آخرين، وكانت هذه هي بدايات نشوء المقاومة الشعبية في فلسطين. فيما تباينت مواقف الشخصيات العربية والحكام العرب في تعاملهم مع هذا المشروع, فمنهم من أيد الفلسطينيين في تحقيق مصيرهم ومنهم من التزم الصمت، ومنهم من مدّ يده لزعماء الحركة الصهيونية من أجل نيل رضى الحكومة البريطانية، مثل الأمير فيصل بن الحسين الذي التقى حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وغيره.

أمّا بالنسبة للدول الغربية فقد رحبت بالمشروع الصهيوني في فلسطين، فتلقى المشروع دعماً مالياً وعسكرياً ولوجستياً من دول كبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا. والتي رأت في كون الدولة العبرية التي يطمح الصهاينة لإنشائها في فلسطين، حماية لمصالحها في المنطقة.

القضية الكرديّة: هي من أعقد القضايا في العالم، إذ أنّ هناك شعب مقسّم بين أربعة دول، هي غرب كردستان في الجزء الشمالي الشرقي في سوريا، وجنوب كردستان في شمال العراق، وشمال كردستان في الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا، وشرق كردستان في الجزء الشمالي الغربي من إيران، والشعب الكرديّ يمتلك لغة وثقافة وهوية تميّزه عن شعوب المنطقة، وقد كانت الشعوب الكرديّة في اتفاق مع الإمبراطوريات الإسلاميّة المتعاقبة، وإن كانت هناك مظالم تاريخيّة لا بدّ منها، لكن في بداية القرن العشرين وإثر اتفاقيتي سايكس بيكو ولوزان قسِّمت كردستان إلى أربعة أقسام.

ونظراً لابتعاد الشعب الكرديّ عن الانخراط في مأزق الدولة، وعيشها حياة طبيعية بعيدة عن الصراع المديني، قد دفعت ثمن هذه الطبيعيّة، وعوقبت بحرمانها من حقوقها الثقافية والسياسية والاجتماعية في دول تبنّت المشروع القوميّ المستورد.

وقد تطوّرت القضية الكرديّة عبر القرن الماضي، ومورس على الشعب الكرديّ أبشع حملات الصهر والإبادة المنظّمتين من الدولة التركيّة خاصّة أنّ الجزء الأكبر من كردستان في شمالها (تركيا) ” ونظراً لأنّ الكردَ انقسموا إلى أربعةِ أجزاءٍ تعرَّضَ كلُّ واحدٍ منها لممارساتِ تصفيةٍ استهدفَت وجودَه بما يختلفُ عما في الجزءِ الآخر؛ فإنّ سياقَ الإبادةِ سارَ بمنوالٍ مختلف، بحيثُ نالَ كلُّ جزءٍ نصيبَه منه بنسبةٍ متباينة. ولا يفتأُ هذا السياقُ مستمراً انطلاقاً من طابعِ الإبادةِ المُسَلَّطةِ على الكرد. من هنا، فالواقعُ الكرديُّ الذي يواجِهُ الاحتلالَ والاستعمارَ والصهرَ وفناءَ عِرقِه وأصولِه، يتعينُ علينا تقييمه ضمن إطارِ هكذا مرحلة: إنه واقعٌ يُعمَلُ على إخراجِه من كونِه هويةً وطنية.

تدورُ المساعي راهناً حول نعتِ الواقعِ الكرديِّ بالهويةِ الكردية. وكلمةُ الهويةِ تُقابلُ لفظَ الوجود. والحالُ هذه، فالخاصيةُ الأوليةُ التي تقتضي التحليلَ والتقييم، تتعلقُ بماهيةِ وسِماتِ الهويةِ الكردية. بمعنى آخر، من غيرِ المستطاعِ استيعابُ تَكَوُّنِ الواقعِ الكرديّ، أو الهويةِ الكرديةِ حسبَ التعبيرِ الراهن، إلا بإدراكِ كيفيةِ بنائِه بكلِّ الممارساتِ المُطَبَّقةِ بحقِّه والخاصةِ بالزمانِ “الحاضر”، بقدرِ فهمِ الماضي التاريخيِّ المديدِ من جهة؛ والقيامِ من الجهةِ الأخرى بتقييمِ كيفيةِ إخراجِه من كينونتِه Xwebûn على جميعِ الصُّعُد. أي إنه حينها يغدو حقيقة. وبقدرِ ما تُعَدُّ البحوثُ المعنيةُ بتطورِ الكردِ أو الكردِ الأوائلِ ضمن سياقِ التاريخِ ذاتَ أهمية، فدراسةُ شتى أنواعِ الممارساتِ التي يُواجِهُها الواقعُ الكرديُّ راهناً تتميزُ أيضاً بأهميةٍ مماثلة. لن أدخلَ في التكرار، نظراً لقيامِنا سابقاً بتحليلِ العلاقةِ بين التاريخِ والحاضر. ولكن، من الضرورةِ بمكانٍ الإدراكُ على أتمِّ وجه، أنه محالٌ تعريفُ أيةِ ظاهرةٍ اجتماعيةٍ بالاقتصارِ على الأساليبِ التحليليةِ الحاضرة، دون البحثِ في واقعِها ضمن مسارِ التاريخ؛ وأنه في حالِ تناوُلِها خارجَ نطاقِ تاريخيتها، فسيَكُونُ إدراكُ واقعِها الاجتماعيِّ مشحوناً بالأخطاءِ والنواقص. ولهذا السببِ بالذاتِ نبحثُ في كلِّ الوقائعِ الاجتماعيةِ التي نتناولُها ونتدارسُها ضمن إطارِ تاريخيتها.”[2]

القسم الثاني: بحث”اليهودية” بين الفكر اليهودي اليساري العالمي، واليمين المتطرّف الصهيوني، وتأثيرها في القضيتَين الفلسطينيّة والكردية

توطئة:

تُعدّ القضيّة اليهوديّة من أكبر القضايا أهمّيّة في الشرق الأوسط من خلال تأثيرها على مكوّناته بشكل مباشر وعلى الديمغرافية والهوية والتاريخ والحقيقة، بل امتدّ هذا التأثير على العالم بأسره، وعلى النظام العالمي الجديد، ولا يمكن معالجة وتصوير أيّة قضيّة شائكة في الشرق الأوسط دون التطرّق إلى الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، أو القضيّة اليهوديّة بشكل عام، ولعلّ الكيان الإسرائيلي الذي زُرع في فلسطين بات حقيقةً، وأضحى العداء تحصيل حاصل ما بين أصحاب الأرض الفلسطينيين وبين الدولة الإسرائيليّة التي فرضت كأمر واقع، فتحليل هذا الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ لا يمكن إلّا من خلال تشريح القضيّة اليهوديّة.

لا ريب أنّ هناك خلطاً كبيراً ما بين اليهود والصهاينة، اليهود كأقلّية دينيّة قومية بدئيّة، والصهيونية كقوميّة رأسماليّة عالميّة، وهذا الخلط قد أثّر في الصراع في الشرق الأوسط، بل أثّر على العالم، وعلى الرأسماليّة التقليديّة وعلى الحداثة الرأسماليّة والليبرالية والنيوليبرالية.

لقد أنتجت الحداثةُ الرأسماليّةُ اليمينَ المتطرّف اليهوديّ، الذّي أجّجَ الحروب وساهم في استدامتها، وضرب الاستقرار والأمن، وخطّط لعمليّات التهجير، والتغييرات الديموغرافية في الشرق الأوسط، منذ بدايات القرن العشرين حتّى اللحظة الراهنة.

بالمقابل كان اليسارُ اليهوديُّ الجهةَ المقابلةَ لهذا التطرّف الوحشيّ، وكان لسانَ حالِ الشعوب الديمقراطيّة وكفاحها في مواجهتها المستدامة ضدّ التغوّل الرأسماليّ، وهناك أسماء عظيمة في هذا المجال، أدّت دورَها الفريد في هذه الحرب الشعواء، بل صار الصراع خفّياً بين قطبين يهوديين كلاهما يحاول أن يلجم الآخر، وكان العالم عامة والشرق الأوسط خاصّة ضحيّة هذا الصراع بين هذين القطبين غير العلنيين.

ففي تاريخ السياسة اليهودية، ظهرت عدة تيارات وحركات تميزت بوجهات نظر وأهداف مختلفة. من بين هذه الحركات، يبرز اليسار اليهودي والصهيونية كاثنين من أبرز التيارات التي أثرت بشكل كبير على اليهود في العالم. على الرغم من أن كليهما نشأ في سياقات تاريخية متقاربة ولديهما بعض القواسم المشتركة، فإن هناك اختلافات جوهرية بينهما من حيث الأيديولوجيا والأهداف والنهج السياسي.

يشكل اليسار اليهودي والصهيونية تيارين بارزين لهما تأثير كبير على مسار التاريخ اليهودي الحديث. بينما تمثل الصهيونية حركة قومية تسعى لإقامة دولة يهودية في فلسطين التاريخية، يتميز اليسار اليهودي بتبنّيه أفكار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. يهدف هذا البحث إلى استعراض الفروق الجوهرية بين اليسار اليهودي والصهيونية من حيث الأيديولوجيا، الأهداف، المواقف السياسية، والتأثيرات التاريخية.

اليسار اليهودي:

يتألف اليسار اليهودي من يهود يتماهون مع القضايا اليسارية أو الليبرالية أو يدعمونها عن كامل إدراكهم كيهوديين، إما فرادى أو من خلال تنظيمات، علماً أن اليسار اليهودي لا يتألف من منظمة أو حركة واحدة فقط.

لقد شكّل اليهود قوى عظمى في تاريخ الحركة العمالية، وحركة مراكز الخدمات الاجتماعية، وحركة حقوق المرأة، والنشاطات المناهضة للعنصرية، والعديد من أنماط المنظمات المعادية للفاشية والرأسمالية في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل الحديثة.

يزخم تاريخ اليهود بانخراطهم في اللا سلطوية، والاشتراكية، والماركسية والليبرالية الغربية، ورغم أن مصطلح (يساري) يشمل مجموعة من السياسات، كان العديد من المعالم (اليسارية) المشهورة يهوداً مولودين لعائلات يهودية وعلى اتصال متفاوت الدرجات مع الدين اليهودي، أو المجتمعات، أو الثقافة، أو التقاليد اليهودية بمتغيراتها العدّة.

يشير اليسار اليهودي إلى مجموعة من الحركات والأفكار السياسية التي تجمع بين الفكر اليساري، مثل الاشتراكية والشيوعية، والهوية اليهودية. ظهرت هذه الحركات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كردّ فعل على الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي عانى منها اليهود في أوروبا الشرقية والوسطى. كانت هذه الحركات تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق العمال، وغالباً ما كانت تتبنى العلمانية.

تعتمد  أيديولوجيا اليسار اليهودي على العدالة الاجتماعية والمساواة، والعلمانية وحقوق الإنسان، إذ يركز اليسار اليهودي على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع الأفراد، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم. يدعو هذا التيار إلى إعادة توزيع الثروة وتحقيق حقوق العمال، وتميل العديد من الحركات اليسارية اليهودية إلى تبني العلمانية وفصل الدين عن الدولة، حيث تؤمن بأن الدولة يجب أن تكون غير منحازة دينياً، ويضع اليسار اليهودي قضايا حقوق الإنسان في مقدمة أولوياته، وغالباً ما يعارض الاحتلال والتمييز العنصري، ويدعو إلى السلام والتعايش.

أمّا بالنسبة لنظرتها للسياسات الإسرائيلية، فغالباً ما ينتقد اليسار اليهودي سياسات الحكومة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية. يدعو العديد من اليساريين اليهود إلى إنهاء الاحتلال وحل الدولتين كحل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ويميل اليسار اليهودي إلى تشكيل تحالفات مع حركات حقوق الإنسان والجماعات التقدمية الأخرى حول العالم، ويدعم القضايا العالمية مثل مكافحة العنصرية والعدالة الاجتماعية.

وقد لعب اليسار اليهودي دوراً بارزاً في الحركات العمالية والاشتراكية في أوروبا وأمريكا الشمالية. كان اتحاد العمال اليهودي الاشتراكي (البوند) في بولندا وروسيا نشطاً بشكل خاص في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مدافعاً عن حقوق العمال اليهود ومناهضاً لمعاداة السامية. كما ساهم اليسار اليهودي في تأسيس دولة إسرائيل من خلال الكيبوتسات (المزارع الجماعية) التي كانت تقوم على مبادئ الاشتراكية والمساواة.

يتبنى اليسار الإسرائيلي مواقف أكثر اعتدالًا وانفتاحًا تجاه السلام والتسوية مع الفلسطينيين. الأحزاب اليسارية مثل “حزب ميرتس” و”حزب العمل” تؤيد حل الدولتين وتسعى لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كجزء من تسوية شاملة. اليسار يميل إلى دعم حقوق الأقليات داخل إسرائيل ويدعو إلى السياسات التي تعزز المساواة والديمقراطية، ويشمل أحزاباً مثل “حزب العمل” و”ميرتس”.

يتميز اليسار اليهودي المعاصر بأنّه تيار سياسي يهتمّ بقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، وينظر إلى الشرق الأوسط وفلسطين على وجه الخصوص على أنها منطقة تحتلها إسرائيل وتحتاج إلى إصلاحات دستورية وسياسية كبيرة.

ويعود تاريخ اليسار اليهودي إلى بدايات القرن العشرين، حيث كان له دورٌ هام في الثورة البلشفية في روسيا وتأسيس الحزب الشيوعي السوفياتي. كما أن اليسار اليهودي شهد نشوء حركات التحرر الوطنية في فلسطين وتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني في العشرينات من القرن الماضي.

وبسبب تاريخ اليسار اليهودي، فإنه يحتوي على تيارات متعددة ومتنوعة، تتمثل بالشيوعية والاشتراكية والليبرالية والتحرر الوطني. ويمكن القول بأن اليسار اليهودي يتمركز حول قيمٍ مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين الشعوب.

ويتميز اليسار اليهودي المعاصر بعدة مواقف سياسية واجتماعية، منها:

  • الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ومطالبتهم بالتحرر والاستقلال، ورفض الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
  • الدفاع عن حقوق العمال والطبقات الفقيرة والمهمشة في المجتمع الإسرائيلي، والمطالبة بتوفير فرص عمل جيدة وحياة كريمة.
  • الدعوة إلى إنهاء الحصار على قطاع غزة وتحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
  • الدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين جنسياً والمرأة والأقليات الدينية والعرقية.
  • الدعوة إلى تحقيق السلام في المنطقة وتحقيق حل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين.

ويعاني اليسار اليهودي المعاصر من تحديات عدة، منها:

  • الانقسامات الداخلية بين التيارات المختلفة، والتي تؤثر على قدرته على التأثير على السياسة الإسرائيلية.
  • الضغوط الخارجية، منها الضغوط الأمريكية والتحالفات مع دول عربية محافظة، التي تحاول إرغام اليسار اليهودي على التخلي عن مواقفه الراديكالية.
  • التحول الديمغرافي في المجتمع الإسرائيلي، حيث ينحرف الكثير من اليهود الإسرائيليين نحو اليمين، ويصبحون أكثر قبولاً للاستيطان والتمييز ضد الفلسطينيين.

وبالرغم من هذه التحديات، إلا أن اليسار اليهودي المعاصر يحرص على مواصلة نضاله والدفاع عن قضاياه، والعمل على تحقيق العدالة والتغيير الاجتماعي في إسرائيل وفلسطين. ورغم التحولات السياسية والاجتماعية، فإن اليسار اليهودي يشكل جزءًا هامًا من الحركات السياسية المهمة في المنطقة، ويجب تقدير الجهود التي يبذلها في إحداث التغيير والتحول الإيجابي في المجتمع.

الصهيونية واليمين اليهوديّ:

الصهيونية هي حركة قومية يهودية تأسست في أواخر القرن التاسع عشر، مستلهمة من فكرة أن اليهودية ليست مجرد دين، بل قومية تستحق وطنًا قومياً في فلسطين. تأسست الصهيونية كرد فعل على معاداة السامية في أوروبا، وسعت إلى إيجاد حل قومي لليهود عبر إقامة دولة يهودية. كان ثيودور هرتزل أحد أبرز مؤسسي الحركة الصهيونية، وقد دعا في كتابه “الدولة اليهودية” (Der Judenstaat) إلى إنشاء دولة يهودية كملاذ آمن لليهود. تأثرت الصهيونية بفكر القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، وحققت هدفها الرئيسي بإقامة دولة إسرائيل في عام 1948.

تعتمد الأيديولوجيا الصهيونية على القومية اليهودية، إذ تتمحور الصهيونية حول فكرة أن اليهود يشكلون قومية يجب أن تكون لها دولة خاصة بها. هذا المفهوم تأثر بالقومية الأوروبية في القرن التاسع عشر. وتدعو الصهيونية إلى عودة اليهود إلى أرض إسرائيل التاريخية وإقامة دولة يهودية هناك، وتعتبر إقامة دولة يهودية هي الوسيلة الأساسية لضمان أمن اليهود وحمايتهم من معاداة السامية[3] والاضطهاد.

تتمحور المواقف السياسية للصهيونية حول دعم دولة إسرائيل وسياساتها. وهناك تباين داخل الحركة نفسها؛ فهناك تيارات معتدلة تدعم حل الدولتين وحقوق الإنسان، وتيارات أخرى أكثر قومية تدعم توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية, وتسعى إلى تأمين الدعم الدولي لإسرائيل من خلال التحالفات مع الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة.

نجحت الصهيونية في تحقيق هدفها الرئيسي بإقامة دولة إسرائيل في عام 1948. منذ ذلك الحين، أصبحت الصهيونية الإطار الأساسي للسياسات الإسرائيلية، مع تأثير كبير على السياسة الإقليمية والدولية. وساعدت الصهيونية في تشكيل هوية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، لكنها أيضاً جلبت تحديات كبيرة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الفلسطينيين ودول الجوار. يؤكّد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 أيّار 1948 أنّها قامت في فلسطين بفضل الحق الطبيعي والتاريخي للشعب اليهودي، وإنّ هذا المفهوم للحقوق التاريخيّة يرتبط في الدعاية الصهيونيّة بمفهوم الوعد بالأرض الذي يعطي للإسرائيليين حقّاً إلهيّاً بامتلاك فلسطين والسيطرة عليها، إذْ لا وجود لأيّ أثر لهذا المفهوم، خارج النصوص التوراتيّة وقصص العهد القديم قبل القرن العاشر (قبل الميلاد).[4]

يركز اليمين المتطرف الإسرائيلي بشكل كبير على تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية التاريخية. يرفض هذا التيار أي نوع من التسوية أو التفاوض مع الفلسطينيين ويدعو إلى فرض الدولة اليهودية بطابع ديني متشدد. أحزاب مثل “حزب الصهيونية الدينية” و”حزب يهودت هتوراه” تعتمد على أيديولوجيا دينية تعزز التفوق اليهودي وتروّج لطرد العرب أو تقييد حقوقهم في إسرائيل.

يتضمن اليمين المتطرف في إسرائيل، أحزاباً مثل “الصهيونية الدينية” و”حزب يهودت هتوراه”، ويتميز بمواقف متشددة تجاه القضايا الإقليمية، وهذا التيار يؤيد بشكل قوي الاستيطان في الضفة الغربية ويدعو إلى ضم هذه المناطق إلى إسرائيل وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة عليها.

ومثلما يعتبر إقامة دولة إسلاميّة على أساس قواعد مستخرجة من قراءته السياسيّة للنصوص المقدّسة (القرآن والسنّة) واجباً دينيّاً، كذلك هو الحال بالنسبة للأحزاب اليهوديّة في إسرائيل. نذكر هنا على سبيل المثال، أحزاباً مثل حريديم وغوش إيمونيم اللذين لا يقفان عند حدّ تزويد وجود إسرائيل بأساس دينيّ مزعوم، بل يذهبان إلى حدّ المطالبة بجعل النصوص الشرعيّة لدينهم (هالاخا) مثلاً أساس الدولة العبرية[5].

يعتقد اليمين المتطرف أن للشعب اليهودي حقًا دينيًا وتاريخيًا في كامل أرض فلسطين التاريخية، ويرفض أي تسوية أو تنازل لصالح الفلسطينيين، ويركز على بناء تحالفات استراتيجية مع جهات معادية لإيران؛ لتحقيق توازن إقليمي ومواجهة النفوذ الإيراني.

كُتب في مقال في موقع الجزيرة عن اليمين المتطرف: “ويتميز اليمين المتطرف في أوروبا بمعاداة شديدة لليهود، لاسيما في ضوء تمكن اللوبيّات اليهودية والصهيونية من مفاصل الاقتصاد والإعلام في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كما اشتدت تلك النزعة مع استغلال تلك اللوبيّات “المحرقة النازية ضد اليهود” لممارسة نوع من الإرهاب الفكري والأخلاقي للأوروبيين خاصة بعد قيام إسرائيل في عام 1948…… كما أنّ لليمين المتطرف نزعة متأصلة نحو رفض الرأسمالية والليبرالية ليس لذاتهما، وإنما خوفاً من التحوّلات العميقة التي عادة ما تصاحبهما، خاصةً على مستوى القيم والأخلاق، بل إنّ اليمين المتطرف معروفٌ بتحفّظه على بعض مقتضيات مواثيق حقوق الإنسان في الغرب، ودافعه إلى ذلك دينيّ نابع في أساسه من التقاليد المسيحية[6].”

الفروق بين اليمين واليسار اليهوديان:

تظل الفروقات بين اليمين المتطرف واليسار الإسرائيلي عميقة، حيث يركز اليمين على الأيديولوجيا الدينية القومية في مواجهة القضايا الإقليمية، بينما يسعى اليسار إلى حلول سياسية قائمة على التسوية والعدالة الاجتماعية

الفروق بين اليمين المتطرف اليهودي واليسار اليهودي في نظرتهم إلى الشرق الأوسط والكرد أو الأكراد موضوع معقد ويعكس تنوعًا كبيرًا في الأيديولوجيات والمواقف السياسية داخل إسرائيل.

فإن كان اليسار يمثّل الأيديولوجيا الاشتراكيّة الماركسيّة والتي ترى أنّها تستطيع إعطاء الجواب لكلّ جانب من جوانب الحياة، ولا ترى نفسها جامدة، بل متغيّرة، فاليمين يمثّل الآن الليبرالية التي ترى أنّها ديناميكية متطوّرة حسب معطيات المجتمع، وترفض الأيديولوجيات برمّتها، مع أنّ الأيديولوجيا حسب اليساريين تقدّمُ توصيفاً للنظام القائم، عادة ما يكون في شكل رؤية كونية، وتقدّم أنموذجاً للمستقبل المرجوّ، أي رؤية المجتمع الصالح، وتفسّر كيف يجب ويمكن إحداث التغيير السياسي[7]؟

إنّ مصطلحَي اليمين واليسار مصطلحان فكريّان سياسيان، وكانت نشأتهما نشأة اعتباطيّة، نشأ هذان المصطلحان ما بعد الثورة الفرنسية في مجلس الطبقات، حيث جلس على اليمين مؤيّدو الملكية والأرستقراطيّة، وكان المنادون بإسقاط الملكية على اليسار، وكذلك جلس أصحاب الاتجاه الرأسمالي المحافظ يميناً وأصحاب الاتجاه الاشتراكي العمالي يساراً في المجالس النيابية البريطانية، وبات هذا الأمر تقليداً متّبعاً، في المصطلحات السياسية.

إنّ كلا المصطلحَين يعبّران عن المواقف الفكرية والسياسيّة، فمناصرو الفكر اليميني يدعون إلى التدخّل في حياة المجتمع، للحفاظ على تقاليد المجتمع وثقافاته وعاداته، على النقيض من التيار اليساري الذي يدعو إلى المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، فالأحزاب اليمينية تنادي بتعزيز وتمتين هيكل النظام الراهن، وأغلبهم موالون للحكم الحالي، بينما التيار اليساري يدعو إلى تغيير جذري للأنظمة، والقوانين الحالية، بالطبع ضمن مظلّة الرأسماليّة، فاليمين واليسار تسميتان رأسماليتان، ويمكن أن نقول اليمين الرأسماليّ، أو اليسار المركّب بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، بالمقابل ظهرت المصطلحات السياسية المتفرعة من اليسار واليمين (اليسار الوسط – اليمين المعتدل – اليمين الديمقراطي – اليسار الاشتراكي….) وصولاً إلى مصطلح اليمين المتشدد أو المتطرف، وهو ذروة توحّش الرأسماليّة.

وإن كان اقتصاديّاً ما يميّز بين اليمين واليسار هو الموارد والاقتصاد، فاليسار يرى أنّ الدولة يجب أن تحتكر فائض الإنتاج، بينما يرى اليمين أنّ فائض الإنتاج يجب أن تحتكره السوق والفردية الليبرالية.

يرفع اليمين الشعارات المحافظة التي تبنّت الإصلاح التدريجي، والحفاظ على الموروثات بأنواعها، كما تبنّى عادة ما يُعرف باسم (القانون الطبيعي) والذي يعترف بوجود فروقات شخصية واجتماعية ويجد ذلك حتميًا، إلى جانب اعتناقه الراسخ أفكارَ حرية السوق والملكية الفردية وحرية التجارة. على الجانب الآخر تبنّى اليسار مفهومي (العدالة الاجتماعية) و(المساواة) واعترف عادة بالتقسيم الطبقي، إلّا أنّه وضع الآليات المختلفة لإلغائه أو تحجيمه، كما يعتبر التغيير الجذري والسريع أحد أهم آليات اليسار[8].

لقد ظهر مصطلح اليمين المتطرّف حديثاً وكان أول مَن صاغه واستخدمه هو الأمريكي ريتشارد سبنسر [9]المولود عام 1978 والذي يعدّ من أبرز رموز هذا الفكر المتطرف والمتعصب لتفوّق الجنس الأبيض الذي ينتمي إليه،

غالباً ما يتم وصف اليمين المتطرف على أنه حركة أو أيديولوجية، لكن التفسير الأقرب هو «كتلة سياسية» تسعى لتوحيد أنشطة حركات أو أيديولوجيات متطرّفة ومختلفة، ومصطلح اليمين المتطرف يشير في غالبيته العظمى إلى القوميين من الجنس الأبيض الذين يؤمنون بتفوقه على غيره من الأجناس[10].

إنّ أهمّ ما يدعو إليه اليمين المتطرّف هو معاداة تعدّد الثقافات، والحضّ على الكراهيّة، ومعاداة المرأة، والعودة إلى الوراء، حيث ثقافة الرجل الأبيض القويّ المسيطر على الواقع، مع العلم أنّ هذا الرجل الأمريكيّ الأبيض هو دخيل على ثقافة أميركا، فكما قضى على ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، فإنّه يريد أن يقضي على كلّ الثقافات في العالم، وبالتالي تتقاطع مصالح اليمين المتطرّف مع كلّ الحركات الإرهابيّة في الشرق ذات اللون الواحد، والفكر الواحد وتدمير الثقافات، والآثار، كتنظيم داعش الإرهابيّ ومثيلاته في الجيش الوطنيّ؛ مرتزقة أردوغان، وكذلك تتقاطع مصالح اليمين المتطرّف مع التيارات الأحاديّة الإقصائيّة، كحزب العدالة والتنميّة بقيادة أردوغان، فعلى الرغم من انتشار اليمين المتطرف حول العالم، فإن مركز الثقل الخاص به هو الولايات المتحدة الأمريكية، وبحسب موقع ذي أتلانتيك، فإنّ الولايات المتحدة غارقة في موجة من التطرف آتية من قمة الهرم من خلال السموم اللفظية التي يلقي بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يومياً من فوق أكبر منصة إعلامية في العالم وهي الرئاسة الأمريكية، وقد فتح استدعاء ترامب المستمر للعنف وشيطنته لمعارضيه السياسيين بوابات اندفع منها طوفان الكراهية بين مجتمعات يستعر فيها الغضب منذ فترات طويلة.

إنّ ما يميّز أعضاء اليمين المتطرّف في العالم أنّهم لا يصنّفون كإرهابيين، مع أنّهم داعمو الإرهاب، فالأقطاب العالميّة التي دمّرت سوريا والعراق، ومازالت تدمّرُها، إنّهم أنيقون يأتون إلى المحافل في أزياء رسميّة جميلة، لا يميّزون أنفسهم مقارنة بالنازيين الفاشيين، فلا شكّ أن العالم قد تدمّر من خلال هذه النازيّة، فاليمين المتطرّف يقود العالم مرّة أخرى إلى الهاوية، فلن يكتفوا بملايين الناس التي شرّدت في سوريا والعراق واليمن، فمازالوا يشعلون الشارع في لبنان والعراق، ويزيدون في تأجيج الوضع، وكلّ هذا يصبّ في مصلحة هذه الفكرة المدمّرة للكون (الفوضى الخلّاقة).

ومن العوائق التي تحول دون تطبيق الديمقراطيّة حسب نظرية فوكوياما، عوامل الدين والبنية الاجتماعيّة. والثانية صاغها صموئيل هنتجتون تحت عنوان صراع الحضارات، معتبراً أنّ النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضاريّاً وثقافيّاً. ويقسم الحضارة العالمية المتبقيّة إلى ثمانية وهي: الغربية والإسلاميّة والكونفوشيوسية واليابانية والهندوسيّة والسلافيّة واللاتينية والأفريقية. واعتبر أنّ النزاعات الدولية سوف تحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة. ذلك أنّ الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل[11].

إنّ فوكوياما يفترض تلاقي المنظومات العالميّة السياسيّة والاقتصاديّة، ثمّ منظومات القيم وأنّ الديمقراطية والرأسمالية قد فازت ولا يوجد في الأفق قوى قد تنتج عنها أحداث مهمّة، أما هانتغتون فإنّه يتنبّأ باستمرار اختلاف المنظومات العالميّة السياسيّة والاقتصاديّة، وأنّ العالم على حافة صدام الحضارات[12].

إنّ اليمين المتطرّف الذي يسيطر عمليّاً على القرار الأميركيّ هو الذي أفتى بضرورة ضرب الأوراق في الشمال السوريّ، فالشمال السوريّ يعيد إحياء الثقافات، وفيه التعايش المشترك، واللانزاعات، واللاأثنيات المتحاربة، وهذا لا يرضي اليمين المتطرّف في أميركا وبريطانيا وإسرائيل وتركيا… على أقل تقدير، فالمستشارون اليهود الأحد عشر لترامب يصارعون القيم الأميركية التي باتت تتهاوى يوماً بعد يوم في فضيحة الشمال السوريّ؛ بعد الغزو التركي للشمال السوريّ الذي دافع عن العالم ضدّ الإرهاب، فهذا الائتمان الأميركي على الحضارة الغربيّة وعلى مبادئ الديمقراطيّة الليبرالية جعلها تحمل هذا الشعار للتدخّل في الشرق الأوسط، فالتنظير الأيديولوجيّ لفوكوياما وهانتغتون في ظلّ النظام العالمي الجديد، هو تنظير لأيديولوجيا المصلحة والاقتصاد بالدرجة الأولى، وليس أيديولوجيا فكرية سياسيّة، وما إنتاج ترامب إلّا نتاجاً لهذه الأيديولوجيّة، فلو رشح شخص مثل ترامب قبل عشرين عاماً في أميركا لما حصل على أكثر من ألف صوت وهي أصوات عمال شركاته فقط.

“إنّ أطروحات فوكوياما وهانتغتون وفق نظرتهم لدول العالم، أدّت إلى زيادة الاستعمار في الشرق الأوسط، وهو استعمار يحمل فكراً جديداً, وكان نموذج هذا الاستعمار كما دعا له فوكوياما وهانتغتون في العراق وأفغانستان، واستمراراً لاحتلال فلسطين[13].”

يعتبر الإسلام السياسيّ يميناً متطرّفاً عند العرب والمسلمين على حدّ سواء، وذلك من خلال ربطه الدين بالسياسة، ولا يجب تفسير أيّ شيء من خلال النصوص الدينيّة المقدّسة التي تعدّ مرجعها السماء والعناية الإلهيّة، ورفض أيّة فكرة خارج إطار الدين، فإنّ إقامة السياسة على منظور الدين من وجهة نظر معتنقي فكرة الإسلام السياسيّ يضعهم على مستوى أخلاقيّ وروحي فوق مستوى البشر الذين يؤسّسون السياسة على أسس علمانيّة، وهذا واضح في فكر منظّري الحركات الإسلاميّة، فـ “سيّد قطب” الذي يعتبر من أبرز هؤلاء المنظّرين، يعتبر كلّ حالة لإقامة السياسة على أسس علمانيّة ضرباً من الجاهليّة. ولذلك فهو لا يتورّع مثلاً عن اعتبار مواقف لا سند لها في القرآن أو السنّة، كالاشتراكيّة، والرأسماليّة، والديمقراطيّة، تعبيراً عن جاهليّة عمياء[14].”

مثلما يعتبر إقامة دولة إسلاميّة على أساس قواعد مستخرجة من قراءته السياسيّة للنصوص المقدّسة (القرآن والسنّة) واجباً دينيّاً، كذلك هو الحال بالنسبة للأحزاب اليهوديّة في إسرائيل. نذكر هنا على سبيل المثال، أحزاباً مثل حريديم وغوش إيمونيم اللذين لا يقفان عند حدّ تزويد وجود إسرائيل بأساس دينيّ مزعوم، بل يذهبان إلى حدّ المطالبة بجعل النصوص الشرعيّة لدينهم (هالاخا) مثلاً أساس الدولة العبرية[15].

إنّ الرأسماليّة المالية واليمين اليهوديّ المتطرّف مع فكرة الحرب، وكلّ هذه الحرب الدائرة في الشرق الأوسط هي بدعم من هذا التيار، وعرقلة الحلول هي من صنع هذا التيار، فسواء الماسونيّة أو اليمين المتطرّف أو المافيات أو الدول العميقة… وغيرها من المؤسسات التي تروّج للحرب هي التي لا تريد أن يكون هناك نظام السلام والاستقرار، بل على العكس، فهناك ترويج للصفقات عبر هذه الحرب، وهناك شعوب تئنّ، وترزح تحت سقف الحرب والدمار والتشتّت، ولا يوجد حلٌّ في الأفق، ومصطلحات هنا وهناك حول تبسيط الأمور وجعلها ساذجة، إنّ اليمين المتطرّف هو الغول الذي سيفترس كل القوميّات، والمبادئ والأخلاق، ليظهر شعب روبوتيّ استهلاكيّ لا هوية له، وكلّ هذه الترسانة الإعلاميّة تروّج لهذا النفاق العالمي الذي فقد شرعيته الأخلاقيّة على الأقل في السنوات العشر الماضيّة.

لا شكّ أنّ كلّ الأقليّات والأثنيّات وأصحاب البشرة السوداء والصفراء… يدفعون الثمن غالياً نتيجة انتشاء اليمين المتطرّف في العالم، وتبنّي الرأسماليّة الماليّة هذا الفكر غير الإنسانيّ، وكذلك الشرق الأوسط يدفع الثمن غاليًا، كونه مهد الأثنيات والأعراق والقوميّات، ومن أكثر المتضرّرين هم شعوب الشمال السوريّ، فهذه التجربة التي تصبّ في مصلحة العيش المشترك بين المكوّنات لا تخدم اليمين المتطرّف، فلذلك قرّر داعش مهاجمة الشمال السوري عوضاً عن التوجّه جنوباً نحو العاصمة دمشق، فهذا الفكر المتطرّف لا يستطيع أن ينتشي في ظلّ وجود مشروع يؤكّد على المساواة والتعدّدية واللامركزيّة، والديمقراطيّة والحرّيّة، والتركيز على إحياء الثقافات المندثرة.

هناك تحالفٌ خفيٌّ بين اليمين المتطرّف في أنحاء العالم، ورضىً من اليمين المتطرّف في كلّ أنحاء العالم، فترى تحالفاً بين الرئيس ترامب والرئيس أردوغان لوأد هذه التجربة الديمقراطيّة في الشمال السوريّ، فلولا ترسّخ الديمقراطيّة وعراقتها في الولايات المتّحدة لباع الرئيس ترامب كلّ الشمال السوريّ للرئيس أردوغان، لتتعقّد المسائل أكثر فأكثر.

إنّ اللوبي اليهودي واللوبي اليوناني والأرمنيّ يقودون مسيرة تدمير الشرق الأوسط، وتدمير ثقافته وهويته، وطابعه، وخلق شرق أوسط جديد قائم على الروبوتيّة ونسيان الماضي، والعيش في الجهالة والانحطاط الأخلاقيّ، وما تشجيع الإخوان المسلمين في العالم، وتسهيل كل خطواتهم إلّا دليلاً على هذه العقليّة، ولن نبالغ إن قلنا: إنّ مشروع شمال وشرق سوريا هو العائق، والحدث غير المحسوب له من قبل قوى الرأسمال العالميّ، ويتمّ التعامل مع هذا الملفّ بطريقة لا أخلاقيّة البتّة، وما السماح لتركيا بغزو جرابلس حتّى أعزاز وعفرين، وآخرها غزوة كرى سبي – تل ابيض حتى سرى كانييه (رأس العين) إلّا من نتاج هذا الفكر.

اليهود والقضية الكرديّة

إذا كان الكرد متسلّحين بجبالهم التي خبروها فانزووا في مجتمعهم الطبيعيّ مبتعدين عن الحضارة المدينيّة، بالمقابل تسلّح اليهود بالقراءة والكتابة فتسلّح بالعلم والمال، فسادوا الحضارة المدينيّة.

أمّا بالنسبة لنظرة اليمين أو اليسار اليهودي للكرد، فلا يوجد موقف موحد واضح سواء من اليمين المتطرف أو اليسار في إسرائيل تجاههم، ومع ذلك، يعترف بعض السياسيين من اليمين المتطرف بالعلاقات الاستراتيجية مع الأكراد في جنوب كردستان (شمال العراق) في إطار مواجهة نفوذ إيران وتعزيز التحالفات الإقليمية. في المقابل، قد يدعم اليسار قضايا حقوق الإنسان للكرد كجزء من التزامه الأوسع بحقوق الأقليات والعدالة الدولية، لكنه لا يبرز هذا الموضوع كجزء من سياساته الرئيسية بشكل كبير. لكن في النتيجة ليس هناك موقف موحد أو واضح من الكرد داخل اليمين المتطرف، ولكن بعض الفصائل ترى في التعاون مع الكرد فرصة لتعزيز المصالح الإسرائيلية في مواجهة أعدائها المشتركين مثل إيران، وقد يتم تبرير هذا الموقف من منظور أمني واستراتيجي، لكن بالمقابل نرى عداء للكرد من خلال دعم الدولة التركيّة عسكرياً بالأسلحة الموجّهة ضدّ الكرد.

استطاعت الثورةِ الزرادشتية أن توحّد القبائل والسلالات، وأنشأت كونفدراليّة هوياتيّة جديدة، وكان هذا التحالف الديني الأخلاقي هو الأوّل من نوعه، ما قبل الأديان الإبراهيميّة، وقد همّشت الأديان الإبراهيميّة هذا الاتحاد ليستطيع المدّ على حساب هذه الكونفدراليّة، وقد أدّت المكائد البرسيّة الفارسيّة الأخمينيّة إلى تدمير هذه الكونفدراليّة الزرادشتيّة، وأدّت إلى المدنيّة الإيرانيّة، وكما شوّهت المدنيّة الدين المسيحي في أوروبا، وشوّهت المدنيّة الدين الإسلاميّ، وشوّهت الصهيونيّة الدين اليهوديّ، كان أوّل تشويه هو تشويه البرس للتقاليد الزردشتيّة الكونفدراليّة، وقد مكّنت الثقافة الميدية بروز الحضارات البرسية والهيلينية والرومانية وحضارةِ بحرِ إيجا، ورصفت أرضياتها.

إنّ الانتقام الداعشيّ من الآشوريين لا مبرّر له سوى أنّه يخدم الانتقام اليهوديّ، فالسبي البابلي في القرن السابع قبل الميلاد مازال حاضراً في ذاكرة اليهوديّ المتطرّف، فقد سبى الآشوريون مملكة إسرائيل،‏ وفي الفترة عينها تقريباً‏ أنبأ نبي الله أشعيا أنّ يهوه سيكسر آشور ويدوسها كما ذكر في الكتاب المقدّس، ويعيد إسرائيل إلى موطنها، حيث كتب قائلاً:‏ “يضمّ الله بقية شعبه التي بقيت من آشور”‏.‏

لقد ظهر حزب العدالة والتنمية بدعم إسرائيليّ وأمريكيّ وأوروبيّ بداية الأمر، وهي العادة التي تقع فيها هذه الأطراف دائماً، منذ مساندة أفغانستان، فقد انقلب أردوغان على أولئك الذين أوصلوه إلى الحكم بعد أن تعاقد مع إيران وسوريا في سبيل القضاء على الكرد، وكان هذا تمهيدًا للوصول إلى الاتفاق التركيّ الروسي، وبذلك بدأت تركيا تحيد عن محورها الرئيسيّ، لكنّ أوكرانيا أجبرتها على اتّخاذ القرار النهائي، كانت كلّ المحاولات الأميركيّة الترويضيّة في استخدام القوّة الناعمة هي لإعادة تركيا إلى جادة الصواب، لكن على الطريقة الأميركيّة التي خسر فيها الشعب في عفرين على سبيل المثال، وهو يدفع ثمن تهور الدول الحالية.

وفي إسرائيل نرى أنّ اليمين المتطرف قوي الشعبية ويدعو صراحة إلى عدم التسامح مع العرب والمسلمين وقتلهم، كما يدعو إلى قتل الأطفال وتشبيه المسلمين بالأفاعي، ومن أبزر المتنفذين في اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاخام يعقوب يوسف[16].

إنّ نشوء نظام أرغنكون التابع للغلاديو الذي صمّم خصيصاً ليكون الدولة العميقة التي تقود تركيا، وهذه التسميات كلّها ليست إلا لنسب جرائم مجهولي الفاعل إلى هذه التنظيمات التي تعمل بالتوازي مع دولة القانون، وهي فكرة إنكليزيّة إسرائيليّة ألمانيّة، فالتنظيمات الخفيّة التي يلجؤون إليها كالماسونيّة وغلاديو وأرغنكون وغيرها ليست إلّا غطاء هروبيّاً لتنفيذ أيّ مخطّط لا يستطيع رجال الدولة القيام به قانونيّاً، وهو التحايل الخبيث على القانون باسم هذه التنظيمات السرّيّة التي تموّلها الدولة سرّاً، وذلك للابتعاد عن مساءلة الشعب من جهة، وممارسة الإرهاب من جهة، ومكافحة من يخالف تطلّعات هذه الدولة القوميّة، إنّ هذه الأنظمة تنشط في العالم عامّة وفي تركيا على وجه الخصوص تريد أن يبقى الرأسمال محصّناً كقلعة منيعة ضدّ من يحاول إفساد مخطّطاتهم، ويتجسّد العداء الأوّل ضدّ تطلّعات الشعب الكرديّ في الدولة التركيّة الذي يمثّل 40% من الدولة أو أكثر إذا حسبنا الكرد المنصهرين، فهذه الشبكات تمثّل الدولة التي تقتل وتبيد الكرد وتُحرّك الشرق الأوسط عبر القنوات التي تقودها في إسرائيل وإنكلترا، فلا حراك في الشرق الأوسط دون القضيّة الكرديّة، وقد تمّ تصفية أرغنكون العلماني الذي كان بقيادة حزب الشعب الجمهوري “CHP” ليُستبدَل بأرغنكون الديني بقيادة حزب العدالة والتنمية “AKP”.

لقد كان قرار إنهاء آخر معقل من معاقل الاشتراكيّة في الشرق الأوسط، قد اتّخذ في عام 1999 من قِبل إسرائيل وأميركا، وذلك بإنهاء حزب العمال الكردستانيّ PKK  من خلال اعتقال قائد الحزب؛ عبد الله أوجالان، وإنهاء القضية الكرديّة من خلال التسرّب إلى الحزب في قنديل عبر قنواتها الاستخباراتية لتبثّ الفكر الليبراليّ، وتميّع الثورة عن طريق التصفويين، لكنّ أميركا كانت تريد أن تضرب الكرد والدولة التركيّة في آن واحد، وذلك بتصفية الحزب الثوريّ، وجرّ تركيا إلى دوّامة الحرب، وكي تغرق تركيا في وحل الحرب، وتشتعل المنطقة عبر القناة التركيّة، ليدير الغرب الرأسماليّ دفّة الحياة الشرق أوسطيّة بعد أن تنهك الأطراف جميعها، وهذه السياسة هي سياسة تقليديّة لدى الاستعمار، في خلق النزاعات وإضعاف الأطراف ومجيئها كدور المنقذ، فلكي  تستمر مواردهم الاقتصادية فيجب أن تستمر الحرب.

مازال الصراع بين إسرائيل وإيران في بسط النفوذ جارياً، وكلاهما يتنازعان فرض نظامه المهيمن على الشرق الأوسط، وكانت الثورة السوريّة بمثابة المنقذ لإسرائيل لإنهاك من يقف أمامها، فأطالت في عمر الأزمة، ممّا أدّى إلى التدخّل الإيراني، والروسي، وبالمقابل تركيا وقطر والسعوديّة، وصارت سوريا أرضاً خصبة لتصفية الحسابات، فهذه الطلقات والبراميل وكلّ هذا التدمير المبرمج يفوق ميزانية سوريا في تغطيّة هذه الحرب، وصارت الفرصة مواتية لأردوغان للقضاء على الكرد وإبادتهم وطيّ الصفحة الكرديّة في روج آفا وباكور، والانتقال إلى باشور للقضاء على هذه الدولة القوميّة الكرديّة هناك أيضاً وبسط نفوذه على الشرق الأوسط واستعادة أمجاد الإمبراطوريّة العثمانيّة بحلّة الحداثة الرأسماليّة، لكنّ ثورة روج آفا ومعركة المصير في كوباني كانت الفيصل لهذه الطموحات.

القضيتان الكرديّة والفلسطينية:

لا يمكننا الحكم على النضال الفلسطيني وفق حماس أو فتح، فهذان الحزبان – وإن كانا يناضلان ضد إسرائيل وكلّ منهما بطريقته – منخرطان أيضاً في مفهوم الدولة، فهناك صراع بين التنظيمات الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فالجهود الفلسطينية ضعيفة بعيدة عن المشروع المجتمعي الذي يجب أن يكون الحلّ الوحيد تجاه مفهوم الدولة الصهيونيّة، وهناك انقسامات كبيرة، وأسباب إيديولوجية وسياسية وتاريخية من خلال عدم توضيح المسار والطريق والبراديغما المتوافقة مع الشعب الفلسطيني.

ما يجمع القضيتين أكثر ممّا يفرقهما، فنضال الكرد والفلسطينيين منذ قرن، فوعد بلفور وسايكس بيكو لا يفصلهما سوى عام. فالقضيتان؛ الكردية والفلسطينية، هما أكبر قضيتين في الشرق الأوسط، وعليهما تعتمد عمليّة التحول الديمقراطي، فالحرب ضد الفلسطينيين ليست جديدة، لقد استمرت سياسات الحرب والإبادة الجماعية منذ عقود، فإعلان الحرب، منطقيّ بالنسبة للقوى المهيمنة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو (NATO)، وكذلك بالنسبة لبعض الدول الإقليمية التي تسعى إلى القوى والسلطة.

إنّ قوى الحداثة الرأسمالية تزيد من تفاقم المشاكل وتجعل الحل صعباً، والقضيتان؛ الكردية والفلسطينية أصبحتا من المشاكل المتجذرة في الشرق الأوسط، والأهداف التقليدية لدولة إسرائيل واضحة، فإسرائيل تريد القضاء على الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية، وبالمقابل موقف الشعب هذا لم يتغير، حيث تحاول دولة إسرائيل أو إدارة نتنياهو استخدام واستغلال ما قامت به حماس ضد المدنيين، والتي تسببت في الاحتجاجات ضد إدارته، لتغيير موقف شعبه، لكن رغم ذلك فإن الشعب لا يغير موقفه في خضم الحرب، الشعب يريد الحل الديمقراطي.

ومن ناحية أخرى، فإن هذه القضية العادلة للشعب الفلسطيني تحظى بدعم كافة الشعوب المضطهدة والاشتراكيين والقوى الديمقراطية والمحبة للحرية، وكل هذه العناصر تعزّز النضال الديمقراطي للشعب الفلسطيني والحل الديمقراطي للقضية. ونهج الدول والقوى الخاضعة لنفوذها هو العكس، إنهم يفاقمون المشكلة ويجعلون الحل صعباً، لأنهم لا يتعاملون مع المشكلة بالمنهج الديمقراطي، بل على أساس المصالح السياسية والاقتصادية والمختلفة ويتدخلون فيها وهذا ينطبق تماماً مع النهج الأمريكي، والنهج الذي تتّبعه الدول الأوروبية مماثل له، وفي المقام الأول تنتهج تركيا وإيران نفس الطريقة، وعلى وجه الخصوص.

إنّ النهج الذي تتبعه تركيا برغماتيّ للغاية، وهي تنتهج سياستها على أساس استمرار إبادة الشعب الكردي، والدول العربية تتخذ من حماية مصالحها نهجاً لها لأنّ الإدارات الحالية تسير سياساتُها وفق مصالح الدولة، لذلك نجد بأن الدول بعيدة كل البعد عن المجتمع في الشرق الأوسط، إن مصالح الدول تعتمد بالكامل على معاداة المجتمعات.

بالمقابل نرى أنّ الدول العربية غير قادرة على انتاج الحل الديمقراطي للشعب الفلسطيني، فلا تتمتع الدول العربية وغيرها من دول المنطقة بعقل ديمقراطي، وفي هذه الحالة، هل يمكنهم إظهار النهج الصحيح للقضية الفلسطينية، وإظهار العلاقة الصحيحة والإرادة لحل القضية الفلسطينية؟ بالطبع لا يستطيعون ذلك، وهذا لا ينطبق على الدول العربية فحسب، بل على جميع القوى والدول، من لا يملك عقلاً ديمقراطياً لا يمكنه أن يمثل قوة الحل.

لقد دفعت أوروبا ثمن الحربين العالميتين، والآن في حالة استقرار نسبياً، لكن الحرب لم تهدأ في الشرق، ولم تتوقف حروب إبادة الشعوب، فهناك حرب إبادة جماعية منذ قرن من الزمن في كل من كردستان وفلسطين، حيث يتم فرضها من قِبل الدول، كما أنه هناك مقاومة ونضال للشعب في مواجهة هذا الأمر، وستظل هذه الحروب مستمرة إلى أن توضع حلول دائمة، والمستفيدون من حروب الإبادة لا يريدون الحلول، فهي تصبّ في مصالحهم، ولطالما هذه الذهنية موجودة فلن تنجو المنطقة من فكرة تأجيج الحروب، ولن ينجو العالم أيضاً. ففي حين تنفق إسرائيل، حسب تقرير البنك الدولي أكثر من 50% من ميزانيتها على جهازها العسكري، وحين يعترف أنّ هدف هذه العسكريّة المرغمة، على لسان أرييل شارون، حسب مخطط الحركة الصهيونيّة تفتيت الدول العربيّة في المنطقة، وليس حماية إسرائيل، فإنّه يجري استخدام النصوص التوراتيّة لتبرير التوسع الدائم للحدود، كما لتبرير أساليب القتل والإرهاب من الدولة.[17]

إنّ صراع الشعب الفلسطيني ضدّ إسرائيل يعني صراعاً ضدّ الحداثة الرأسماليّة، وهذا ما يجب أن يدركه الشعب، وهو نفس المعاناة الكرديّة ضدّ تركيا التي تمثّل الحداثة الرأسماليّة في الشرق الأوسط.

وقعت العديد من الحروب ما بين الدول العربية وإسرائيل، حيث أن الدولة الإسرائيلية وبدعم من قوى الحداثة الرأسمالية لم تخسر في هذه الحروب وحافظت على وجودها، وانطلاقاً من أساس الذهنية والإيديولوجية التي تتخذها كأساس، نفذت سياسات الاحتلال والإبادة الجماعية في فلسطين، وكان القلق من انهيار الدولة الإسرائيلية حاضراً في مقاربات الدول العربية، حيث كان يُشاهد تحرير فلسطين في انهيار إسرائيل، وعندما لم يحصل هذا الأمر أيضاً، قطعوا علاقاتهم مع القضية الفلسطينية، فالضرر الأكبر على القضية الفلسطينية كان من خلال هذه المقاربة وسياسات الدول العربية، وكما هو معروف كيف تتعامل بعض الدول العربية مع النازحين الفلسطينيين، والآن أيضاً، ليس هناك مقاربة صحيحة وذات موقف للدول العربية، فعندما يتعاملون مع القضية بذهنية الدولة، لا يصبحون قوة للحل.

فما يهمّ هذه النظام العالمي هو استمراريّة الحرب في دول الشرق الأدنى والأقصى والأوسط، فالولايات المتحدة تنزع الأسلحة من هذا وتلزم ذاك باقتنائها، وتدمر أسلحة ذلك وفق برنامج يتوافق مع مصالحها، ومصطلح العقوبات على الدول القوية مثل روسيا هو أزيف مصطلح، فكل ما هو ممنوع على روسيا ستحصل عليه بطرق أخرى. فالعقوبات تؤثر على الكيانات الضعيفة فحسب، والأسلحة النووية تهديد مباشر وغير مباشر للشعوب لِترضخ لهذا النظام المهيمن. فهناك تسع دول في العالم تمتلك أسلحة نووية (الولايات المتحدّة، الصين، روسيا، فرنسا، كوريا الشمالية، باكستان، الهند، بريطانيا، إسرائيل) فهل الدور على باقي الدول المهيمنة والخاسرة من الحرب العالميّة الثانية كي تحصل هذه الأسلحة؟

إنّ الدول العربية غير قادرة على حل القضية الفلسطينية بذهنية الدولة، فما يقوّي الشعب الفلسطيني هو شعوب العالم، وأيضاً اليسار اليهودي الذي يلجم اليمين اليهودي المتطرّف.، والحركات اليسارية في العالم، بالمقابل نرى أنّ حركة حماس تمثل اليمين الديني الفلسطيني، وهذا الصراع الذي نراه الآن في فلسطين بين اليمين اليهودي واليمين الفلسطيني، بينما يراقب كلّ من اليسار الفلسطيني واليسار اليهودي، دون حلّ فعليّ.

وهناك الكثير من الأسباب التي جعلت من الحركة الفلسطينية في اليوم الحالي ضعيفة ومنقسمة، ويجب عليها أن توضح السبب الأهم من هذه الأسباب، وإن الأساس في تعزيز الحركة الفلسطينية هو التأثير والمساهمة الإيديولوجية الاشتراكية بمثابة أمر حاسم، كما أن التقدم الذي حققته الحركة الفلسطينية في أعوام الستينات والسبعينيات متعلق بهذا الأمر، وبدون شك، لم تكن جميع الجماعات المقاومة لديها الإيديولوجية الاشتراكية، ولكن حتى الذين لم يكن لديهم إيديولوجية اشتراكية، كانوا تحت تأثير هذا الأمر وحتى أنهم كانوا يستندون على الأساس السياسي والاجتماعي، وكانت تجري انطلاقات وتطورات مماثلة في الدول الأخرى أيضاً من الشرق الأوسط، وكانت إحداها كردستان، وبالطبع، إن هذه التطورات التي ظهرت في العالم وعلى وجه الخصوص في الشرق الأوسط، كانت تشكل خطراً على مصالح الحداثة الرأسمالية، وبدورها، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية من أجل منع التطور الاشتراكي، إلى دعم المجموعات التي تتبنى الأيديولوجية الدينية وإنشاء مثل هذه المجموعات، ونتيجة لذلك الأمر، ظهرت الجماعات الإسلامية المتطرفة في الشرق الأوسط، وقامت من خلال هؤلاء سد الطريق على التطور الاشتراكي، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وفقدانها نفوذَها الإيديولوجي الاشتراكي التقليدي، فقد اكتملت المهمة الموكلة لهذه الجماعات الدينية المتطرفة، وكانت هذه السياسة التي طوّرتها الولايات المتحدة الأمريكية، يتم تنفيذها من قِبل حلف الناتو، وكان يُقال لهذا الأمر “مشروع الحزام الأخضر”، وعلى سبيل المثال، عملوا على انضمام تركيا إلى حلف الناتو ومن ثم شكلوا جماعات الطرق الصوفية والدينية ضد الحركة الشعبية الديمقراطية النامية وجعلوا من كل جماعة ككونترا، وكان هذا الأمر يرتبط بهذا الهدف وهذه السياسة، فاليوم، إن الكوادر الذين يديرون تركيا، قد تلقوا التدريبات في جمعيات الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولذلك، فإن الخطابات المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل والناتو ليس أكثر من مجرد خطابات فحسب، والغرض من ذلك هو جعل مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف الناتو محل قبول بشكل أكبر والحصول على المزيد من الدعم منهم.

لا بدّ من اعتبار الوجود الإسرائيلي أمراً مفروغاً منه، مثلما يعتبر الكرد الوجود التركي على سبيل المثال أمراً مفروغاً منه، فلا بدّ أن يكون الحلّ بيد الشعب الإسرائيلي والفلسطيني معاً، لا بيد الدولة صانعة الحروب، فسواء أميركا والدولة التركية فكلاهما يقوّيان اليمين المتطرّف، وكلاهما يصنعان الحرب ولا يخلقان السلام، فاغتيال إسحاق رابين 1995 واغتيال تورغوت أوزال 1993لم يكن مصادفة.

ثورة روج آفا، من خلال التحالف الكردي والعربي، وبناء العلاقة الجديدة على الأساس الديمقراطي، وكما حصل في شمال كردستان (تركيا) من خلال حزب الشعوب الديمقراطي، وفي شرق كردستان (إيران) من خلال المظاهرات الكرديّة الإيرانية ضدّ العنف الدولتي ضدّ المرأة، وانتهاج إيران سياسة مزدوجة من خلال دعمها حزب الله وحماس من جهة، ومناهضة الشعب الكرديّ في إيران، وأيضاً السياسة الخبيثة لأردوغان الذي يدعم حماس إعلامياً، ويؤيّد الدولة الإسرائيليّة اقتصادياً وعسكريّاً، ومعظم هذه الطائرات التركية التي تقصف الشعب الكردي صناعة إسرائيلية، إذْ “تكشف هذه الحرب الأزمة المتفاقمة لنظام الحداثة الرأسمالية، وتحاول قوى الحداثة الرأسمالية الحفاظ على وجودها في الحرب العالمية، ولهذا، وعلى الرغم من أن هذه الحرب هي حرب على السُلطة بين الدول وهي من أجل امتلاك الموارد المادية، إلا أنها في الأساس حرب تشن ضد المجتمعات والشعوب، وإذا ما لاحظتم، فإن ضحايا هذه الحرب هم المجتمعات والشعوب، والحرب الدائرة في غزة هي خير مثال على ذلك، وتستخدم الولايات المتحدة وتركيا وإيران وقوى حلف الناتو والعديد من الدول الأخرى قضية الشعب الفلسطيني لتحقيق مصالحهم الخاصة، وهذا يشمل دولة إسرائيل وقادتها كذلك، ودولة إسرائيل هي جزء من الحداثة الرأسمالية أيضاً، وهي تحاول تأمين مصالح النظام من خلال الضغط والتخويف والمؤامرات التي تروجها على شعب إسرائيل، ومن الواضح أنه لا يمكن ضمان الحياة الحرة والآمنة للشعب اليهودي بهذه الأساليب والسياسات. كيف يمكن للشعب اليهودي أن يكون حراً ويعيش في أمان بينما يُباد الفلسطينيون ويتم احتلال فلسطين وضمها؟ فهل ستقوم الدولة اليهودية على هذا الأساس؟ من الواضح أن هذا غير ممكن. وهذا يعني أن دولة إسرائيل وإداراتها لا تتصرف إزاء المخاوف التي كثيراً ما تتحدث عنها، واليوم، نؤمن أن هذه الحقيقة يفهمها شعب إسرائيل أيضاً ونرى أن هذا أمرٌ مهم.”[18]

“إنّ ما يحدث داخل الدولة القومية مليء بالمكائد والمؤامرات وأكثر وحشية مما حدث في عهد الممالك والسلالات الحاكمة، ومن الخطأ الاعتقاد أن المجتمع سوف يستنير ويتطور مع مثل هذا النظام، وخاصة أولئك في تركيا الذين اتخذوا من فكرة العلمانية أساساً لهم لديهم مثل هذه الفكرة، ويُعتقد أنه عندما تصل القومية الدينية إلى السلطة وتستقر في الدولة، ستعاش الحياة الصحيحة مع القومية العلمانية وستحل المشاكل، لكن الدولة القومية هي عائق أمام التنوير والتحول الديمقراطي والحياة الصحيحة والحرة، ولذلك يمكن حل المشاكل وتحقيق التقدم من خلال التغلب على جميع أشكال القومية، وفي الشرق الأوسط، يعتبر عقل الدولة القومية الحل الحقيقي للمشاكل، والأمة الديمقراطية هي أسلوب حياة ديمقراطية وطنية حيث تُعاش الحقيقة الوطنية بطريقة حقيقية، ومع إزالة الجوانب الخاطئة من القومية، فعلى سبيل المثال؛ قد لا يتم الحديث عن الأمر كثيراً، ولكن بالإضافة إلى الشعوب، المجتمعات والمعتقدات الدينية، فإن المرأة وبشكل أكبر يمكنها التعبير عن نفسها في دولة ديمقراطية، والعيش بطريقة صحيحة وحرة، وفي الوقت ذاته، فإن الدولة القومية هي تجسيد لواجب السلطة والقوة من نتاج عقلية الهيمنة الذكورية، إن التعصب القومي والديني مجرد أشكال مختلفة للدولة القومية، ففي مثل هذا النظام، لا يمكن للمجتمع والناس والنساء أن يتواجدوا، ولا يمكنهم العيش بحرية والتعبير عن أنفسهم، وهذا واضح من الممارسة العملية.”[19]

“إن أساس المشاكل والصراعات العربية اليهودية هو القومية، ولذلك، فإن التغلب على هذه المشكلة والعيش معاً في سلام لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التغلب على القومية، بنسختيها الدولة القومية؛ والتعصب القومي والديني، وهذا هو أسلوب الحل الذي ندعو إليه، ولا نعتقد أن المشاكل سيتم حلها من خلال بناء الدولة القومية، ويُقدم هذا حالياً على أنه الحل الأكثر تقدماً لحل المشكلة الفلسطينية، ومما لا شك فيه أن دولة إسرائيل لا تقبل بذلك أيضاً، إلا أن الحل الجذري للمشكلة لا يمكن تحقيقه من خلال إقامة دولة للفلسطينيين، ففي البداية، لا بد من التغلب على عقلية الدولة القومية، وما لم يحدث هذا فلن ينتهي الصراع، ولا يمكن التوصل إلى حل بفصل الجغرافيا والجبال والأنهار والمدن عن بعضها البعض بمنطق الدولة القومية، إن الحل الذي تم التوصل إليه بالنسبة للقدس هو تقسيم المدينة إلى قسمين، هل هذا ممكن؟ حيث تعيش العديد من الشعوب والمجتمعات والمعتقدات معاً في هذه الأراضي القديمة، وفي جغرافية تتسم بمثل هذا التنوع، ليس من الممكن حل المشاكل المتعلقة بالقوموية والدولة القومية، وهذا لا يؤدي إلا إلى إبادة بعضنا البعض، وفي واقع الأمر، هذا ما يحدث منذ قرن، ولا يمكن التغلب على ذلك إلا من خلال عقلية الأمة الديمقراطية والحل الذي تعيش فيه جميع الاختلافات معاً وتعبر جميع المجتمعات الوطنية والثقافية والدينية عن نفسها، إن أكثر مكان ممكن أن يتم فيه تطبيق حل الأمة الديمقراطية هو جغرافية الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني.”

“إنّ إنكار الشعبين الكردي والفلسطيني وممارسة الإبادة الجماعية بحقهما هما نتيجة لهذا الأمر، ومن خلال ترك هاتين القضيتين دون حل وتركهما يتعرضا للإبادة؛ يستمر الوضع الإشكالي في الشرق الأوسط، وبذلك دخلت الدول القومية في الشرق الأوسط في صراع داخلها ومع بعضها البعض، وسيطرت عليها قوى مهيمنة، مما جعل الشرق الأوسط تابعاً بشكل كامل، لقد عانت شعوب الشرق الأوسط ولحقت بها أضرار كبيرة من ذلك، وكان الشعب الكردي والشعب الفلسطيني هما الأكثر تضرراً، فعدم حل هاتين القضيتين لم يؤثر على هذه الشعوب فحسب؛ بل إلى تطور هيمنة القوى الاستعمارية والإمبريالية على المنطقة كما ذكرنا، وإلى تضرر كافة الشعوب من ذلك، ويمكن القول إنه إذا تم حل هاتين القضيتين، فستحدث تطورات مهمة في الشرق الأوسط، وسينتهي الصراع والحرب، وسيتحقق السلام الحقيقي، إن القضيتين الكردية والفلسطينية هما أكبر قضيتين في الشرق الأوسط، ولكنهما تشكلان أيضاً أكبر ديناميكيتين لعملية التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، وبما أن حل هاتين القضيتين يتطلب عقلية ونهجاً ديمقراطيين، فإنه سيتم التغلب على التعصب القومي والديني والدولة القومية وجميع أنواع التعصب، التي هي مصادر المشاكل في الشرق الأوسط، وبالنظر إلى أن إيران والعراق وسوريا وتركيا وإسرائيل قد شهدت تحولاً ديمقراطياً نتيجة الحل الدائم لهاتين القضيتين، يمكن فهم أهمية وحجم التطورات، ومن ناحية أخرى، سيتم القضاء على أساس كل المخططات والعمليات والمؤامرات المعدة في الشرق الأوسط، إن حل القضية الكردية والفلسطينية سيكون له تأثير إيجابي على العالم أجمع.”[20]

الخاتمة:

نختتم بحثنا بمقتطف للمفكّر عبد الله أوجلان: إنّ البرجوازيةَ البيروقراطيةَ التركيةَ المتسمنةَ والمتورمةَ طردياً مع تصفيةِ الأقلياتِ منذ عهدِ سلطةِ “جمعية الاتحاد والترقي”، اتَّخذَت من الكادرِ اليهوديِّ واحتكاراتِ رأسِ المالِ اليهوديَّ أساساً لها في الداخل، في حين اتَّجَهت في الخارجِ نحو سياسةٍ تعمَلُ تدريجياً بموجبِ الهيمنةِ الإنكليزيةِ بصورةٍ رئيسية. وبذلك، فالتحالفُ البارزُ إلى الوسط، هو الفاشيةُ أو الفاشيةُ البِدئيةُ التركيةُ البيضاء ذات الشريكَين. ومع اقتطاعِ الموصل وكركوك من الميثاقِ الملليّ، يتمُّ الشروعُ بتطبيقِ مشروعِ إسرائيل البدئيةِ من ثلاثةِ اتجاهات. فالجمهوريةُ التركية، ونظامُ الانتدابِ الإنكليزيِّ في فلسطين، والقومويةُ الكرديةُ في شمالِ العراق؛ لكلٍّ منهم دورُه المشابهُ حسبَ خصوصياتِه. وجميعُهم مجردُ خطواتٍ على الدربِ المؤديةِ إلى إسرائيل. والمشروعُ المُعتَرَفُ به على الأرجح، والسائرُ قُدُماً على الدربِ المؤديةِ إلى تشييدِ إسرائيل، كان بهذا المنوال. فالغيومُ الضبابيّةُ التي تحيطُ بالجمهوريةِ التركية، وتقَوقعُها الشديدُ على نفسِها، والوضعُ المماثلُ المُلاحَظُ في الكيانِ الكرديِّ شمالي العراق؛ كلُّ ذلك على علاقةٍ بقصةِ ظهورِ إسرائيل إلى الوسط. أما الشريحةُ الاجتماعيةُ المُكَوَّنةُ تحت اسمِ البورجوازيةِ التركية، فلا علاقة لها البتة بالتركياتيةِ الحقيقية. بل هي كيانٌ أسطوريٌّ بحت. والأمرُ عينُه يَسري على الكيانِ الكرديِّ الذي في شمالِ العراقِ أيضاً. حيث إنه ترجمةٌ من المرتبةِ الرابعةِ للبورجوازيةِ التركية. وهو أيضاً كيانٌ أسطوريّ، لا سوسيولوجيّ. وبالفعل، فقد نُسِجَت الميثولوجيا حول كِلا الكيانَين، اللذَين هما كيانان اصطناعيان لا صِلةَ لهما بالحقائقِ التاريخيةِ– الاجتماعية. ولا يُمكنُنا إدراكُ دورِهما بشكلٍ كامل، إلا ارتباطاً بتكوينِ إسرائيل. إذ دارت المساعي حول إضفاءِ طابعٍ ميثولوجيٍّ على مصطفى البارزاني الكرديّ، مقابل مصطفى كمال التركيّ. إنني أُشَدِّدُ على ذلك بإصرار، ليس بهدفِ استصغارِ كِلتا الهويتَين أو المبالغةِ فيهما، بل بغيةَ تسليطِ الضوءِ على كيفيةِ طمسِ حقائقِ المجتمعَين التركيِّ والكرديِّ ضمن هالاتٍ من الضباب، بحيث يستعصي تحليلُها من الناحيةِ السوسيولوجية. فعندما يَلِجُ الشعبان التركيُّ والكرديُّ سياقَ الدمقرطة، يُسحَبُ عليهما ثانيةً غطاءٌ فاشيٌّ مشحونٌ بالمؤامراتِ والمكائدِ والانقلاباتِ الفريدةِ من نوعِها. وتُجعَلُ الإعداماتُ والاغتيالاتُ والنزاعاتُ الأخويةُ والحروبُ الداخليةُ لا تعرفُ هداوةً ولا نضوباً. هذا وتُفتَعَلُ الصراعاتُ اليساريةُ – اليمينية، والاشتباكاتُ المذهبيةُ والأثنية. موضوعُ الحديثِ هنا هو النضالاتُ الاجتماعيةُ والحركاتُ الشعبيةُ المُحَرَّفةُ عن مجراها، والمُجتَثةُ من أصلِها وفحواها، والمُحَيَّدةُ عن مسارها. ولكن، يُستَشَفُّ تمخضُ جميعِها عن قضايا اجتماعيةٍ وشعبويةٍ متفاقمةٍ ومزدادةٍ وطأةً. ووقائعُ هذه النتيجة، هي أفضلُ مَن يشرحُ لنا منطقَ التآمرِ والانقلابِ والاستفزاز.

يُثابَرُ على تطبيقِ المشروعِ الثلاثيِّ بعينِه مع إعلانِ إسرائيل في 1948، ولكنْ بآفاقٍ أوسع وبمستوى أرقى. ومَن يعارِضُ ذلك، أو يتطلعُ إلى التمسكِ بهويتِه وأهدافِه؛ يُحكَمُ عليه بأشدِّ العقوبات، ويُمسحُ من على وجهِ البسيطةِ دون تمييزٍ بين يمينٍ أو يسار، تقدميٍّ أو رجعيّ، تركيٍّ أو كرديّ. وتتسترُ هذه الوقائعُ المجحفةُ وراء انقلاباتِ أعوامِ 1960، 1971، 1980، 1993، 1997، وكذلك وراء عددٍ كبيرٍ من الانقلاباتِ المُطَبَّقةِ على أرضِ الواقعِ منذ 2002. وغالباً ما لعبَت هذه العقليةُ دورَها أيضاً في ممارساتِ الإفناءِ والتهجيرِ والاعتقالِ والتعذيبِ والصهرِ القائمةِ منذ سنةِ 1925، والتي استهدفَت الكردَ واليساريين والإسلاميين، بل وحتى القومويين الأتراك المُوالين للألمان. فمع إرساءِ تنظيماتِ الغلاديو التابعةِ للناتو، تمرُّ هذه العقليةُ كالجَرّافةِ فوق كافةِ شرائحِ المجتمعِ الكادحةِ والديمقراطيين والاشتراكيين الأتراك والكردِ على حدٍّ سواء، وتسحقُهم تحت وطأتِها بشكلٍ أرفع مستوى. لا ريب أننا بسردِ هذا التحليلِ تأسيساً على مواكَبةِ الشرائحِ اليهوديةِ – التركيةِ – الكرديةِ العليا ركبَ العصر، لا نرمي إلى النزعةِ المناوئةِ للساميّةِ أو التركياتيةِ أو الكردايتية. بل على العكس، فقد أبدى الديمقراطيون والاشتراكيون اليهودُ – الأتراكُ – الكردُ على مستوى الشرائحِ التحتيةِ آياتٍ عظيمةً من المقاومةِ والصمودِ بتعاضدٍ متينٍ في وجهِ تحالفاتِ شرائحِهم العليا. وما انفكّت النضالاتُ المشتركةُ قائمةً في الأجندةِ على صعيدِ الكادحين والشعوبِ المسحوقة، بما في ذلك الشعبُ اليهوديُّ أيضاً، منذ المشروطيةِ الثانيةِ وحتى يومِنا الحاليّ. وعليه، ليس وارداً إمكانيةُ التفكيرِ بالاشتراكيةِ والديمقراطيةِ من دونِ اليهود، تماماً مثلما الأمرُ عليه في عمومِ أرجاءِ أوروبا وروسيا.[21]

المراجع:

  • أوجالان، عبد الله، ترجمة: شيار، زاخو (2013). مانيفستو الحضارة الديمقراطية (القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافية. المجلد الخامس. مطبعة آزادي. العراق.
  • ضاهر، عادل (2001)/ أولية العقل، نقد أطروحات الإسلام السياسيّ. دار أمواج. بيروت.
  • غارودي، روجيه، ترجمة: حسين حيدر (1990). إسرائيل بين اليهوديّة والصّهيونيّة. دار التضامن للطباعة والنشر. بيروت.
  • قاعود، يحيى سعيد (2015). أطروحات فوكوياما وهانتغتون والنظام العالمي (دراسة مقارنة). مركز البيان للبحوث والدراسات. الرياض.

مواقع إلكترونية:

https://anfarabic.com

https://ar.m.wikipedia.org

https://www.aljazeera.net

https://www.ida2at.com

 

[1] –            أوجالان، عبد الله (2013). مانيفستو الحضارة الديمقراطية. المجلد الخامس. ص: 458

[2] أوجالان، عبد الله (2013). مانيفستو الحضارة الديمقراطية. المجلد الخامس. ص: 171

[3] معاداة السامية أو معاداة اليهود، واستخدم المصطلح الباحث الألماني فيلهم مار أول مرة لوصف موجة العداء لليهود في أوروبا الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر. ومع انتماء العرب والآشوريين وغيرهم إلى الساميين، معاداتهم لا تصنف معاداةً للسامية. معاداة اليهود تُعدّ شكلاً من أشكال العنصرية.

[4] غارودي، روجيه. إسرائيل بين اليهوديّة والصّهيونيّة. ص: 39

[5] المصدر السابق – ص 9

[6] https://www.aljazeera.net

[7] أطروحات فوكوياما وهانتغتون والنظام العالمي (دراسة مقارنة) – تأليف: يحيى سعيد قاعود / ص34

[8] https://www.ida2at.com

[9] ريتشارد سبنسر: أمريكي الجنسية هو أول مَن استخدم مصطلح اليمين المتطرف ليعبر عن تفوق الجنس الأبيض وهو رئيس معهد السياسة القومية، ويدعو إلى «التخلص السلمي» من كل الأعراق غير البيضاء في أمريكا، وإلى توحيد أوروبا كوطن للبيض فقط، يشبه نفسه بأدولف هتلر وتم تصويره أكثر من مرة وهو يستخدم التحية النازية ويلقي عبارات استعملها الزعيم النازي.

[10] https://www.ida2at.com

[11] المصدر السابق – ص29

[12] أطروحات فوكوياما وهانتغتون والنظام العالمي (دراسة مقارنة) – تأليف: يحيى سعيد قاعود / ص14

[13] المصدر السابق / ص 329

[14] أولية العقل – نقد أطروحات الإسلام السياسيّ / عادل ضاهر / ص 8

[15] المصدر السابق – ص 9

6https://ar.m.wikipedia.org

[17] غارودي، روجيه. إسرائيل بين اليهوديّة والصّهيونيّة. ص: 24

[18]  حوار أجرته وكالة ANF مع الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني؛ السيد جميل بايك. في ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٣.

[19] نفس المصدر.

[20] نفس المصدر

[21]أوجالان، عبد الله (2013). مانيفستو الحضارة الديمقراطية. المجلد الخامس. ص: 460

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى