أبحاث ودراساتأحمد بيرهاتمانشيتملف العدد 65

السياسة التركية والسير نحو المجهول نتائج الانتخابات المحلية والتوجه نحو العراق – أنموذجاً

أحمد بيرهات

أحمد بيرهات

المقدمة:

يجب تعريف ماهية السياسة التركية، وهل هناك مفهوم يمكن تسميته بالسياسة التركية بمعناه الأبستمولوجي، أم هناك ذهنية توسعية تسلطية إقصائية، وهل يمكن تسمية ذلك بالسياسة؟ فالسياسة سوسيولوجياً تعني فن إدارة المجتمع والمناقشة والوصول وفق ذلك إلى حلول لكل القضايا التي تمخضت عن السلطة الدولتية.

سُمّيت السياسة التركية المتّبعة في السنوات القليلة الماضية بـ”السياسة الحائرة”؛ نتيجةً لغياب الرؤية والنظرة الاستراتيجية فيما يخص مفهوم السياسة، فتارة مالت نحو الرؤى الغربية من خلال انضمامها لحلف الناتو عام 1952، وأحياناً تجدها تحن “للأمجاد العثمانية” من خلال طرح مشروع “العثمانية الجديدة” في نهاية الثمانينيات، وتارة أخرى عملت على إحياء “الميثاق الملّي” ومازالت تعيش هواجسه حتى الآن. تزامن ذلك بتطبيق سياسة “تصفير المشاكل” مع الجيران مع تولي حكومة العدالة والتنمية AKP الحكم في تركيا، ثم ركبت موجة ما تم تسميته غربياً “بالربيع العربي”، وارتكزت في سياستها هذه على فكرة الإسلام السياسي ومشروع “الإخوان المسلمين” تحديداً في بعض الدول العربية كمصر وتونس وسوريا وليبيا، أرادت من خلالها تبني ودعم جماعات الإسلام السياسي وإيصالها إلى السلطة مثلما تحقق ذلك في تونس ومصر، على أمل أن تؤدي هذه السياسة بتركيا لأخذ دور هام في قيادة الشرق الأوسط في إطار المشاريع التي طرحت لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، تحت عنوان “إقامة الشرق الأوسط الكبير – الجديد”. وعلى رغم من فشل تركيا فيما تصبو إليه؛ إلا أنها لم تتخلى عن هذه السياسة بعد.

وعندما لم تستطع إجراء التغيير في تلك البلدان كما أرادت ولم تتجاوب في ذلك مع السياسة الغربية والأمريكية منها خاصةً، مالت إلى السياسة الروسية التي تعدُّ ندّاً للسياسة الغربية في المنطقة والعالم، فتخلّت فترةً عن طلب انضمامها للاتحاد الأوروبي بعد أن هرعت نحوها عشرات السنين رغبة بالانضمام إليها.

فالمعضلات والقضايا التي تعانيها تركيا الآن؛ سببها تفريغ مفهوم السياسة من مضمونها، وعدم اتباعها السياسة الصحيحة، وتخبطها في إيجاد الرؤية الصائبة لسياستها هذه التي تقف سداً منيعاً أمام التحول الديمقراطي، والتي من المفترض أن تقوم بها لحل القضايا المتعددة لديها، وعلى كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية على حد سواء. والمفارقة هنا أنَّ تركيا رغم عدم نجاح سياستها، إلا أنها مصرَّة على السير في “فوبيا الكرد” والتي خلقتها بنفسها وباتت تلازمها منذ تأسيس وإعلان الجمهورية التركية عام 1923، من خلال ممارسة القمع والصهر وتهجير الشعوب والكرد منهم بشكل خاص وتسخير كل طاقاتها في ذلك.

ومع كل هذا التخبط في “اللا سياسة”؛ تخوض تركيا الآن تجربة حكم الأوليغارشية والتوتاليتارية على حد سواء، ويغيب عنها مفهوم السياسة بمعناه الأبستمولوجي والسوسيولوجي، وفي كل توجهاتها الحالية.

لنطرح سؤالاً قد يبدو تقليدياً، إلامَ تصبو السياسة التركية؟ وهل هناك سياسة تركية بالمعنى المعرفي؟ وما هي حيثياتها؟ وإذا كانت موجودةً؛ فلا بد من إيضاحها عبر الخوض في تفاصيلها وتشخيصها وتحليلها باستفاضة، والخروج برؤى تخدم سياسة التحول الديمقراطي في تركيا والشرق الأوسط.

سنحاول التطرق من خلال هذا البحث، وعبر محورين أساسيين، إلى تفاصيل السياسة التركية والمراحل التي عاشتها وحيثياتها، وقصور الرؤية الواقعية فيها وتوجهاتها، والمعوقات التي تواجهها، ومصالحها مع دول الجوار والمشاريع والأجندات التي مازال أردوغان يحاول تطبيقها في المنطقة فعلياً، وتحديداً من خلال الأجواء التي الانتخابات المحلية، التي جرت وأعطت مؤشرات واضحة. كما سنتطرق إلى الأجواء التي سادت الانتخابات المحلية التركية والنتائج التي تمخّضت عنها بالتفصيل، ومستقبل الرئيس التركي أردوغان وحزب العدالة والتنمية بعد أن مُنيا بهزيمة قاسية فيها، وسنخوض أيضاً في أسبابها وتبعاتها، وإعادة ظهور معادلة أن الكرد يشكلون بيضة القبان في الانتخابات التركية، وهبوب رياح التغيير على تركيا كضرورة واستجابة حضارية.

وفي المحور الثاني؛ سنتطرق إلى مستقبل العلاقات التركية مع دول الجوار، وتحديداً توجهها الأخير نحو الجمهورية العراقية، وسنبحث من خلال عدة عناوين أسباب هذا التوجه وأهدافه والأوراق التي قُدّمت في اللقاءات التي جرت بين البلدين، ومستقبل هذه السياسة “الجديدة”، والعوائق التي تقف في وجه تحقيق أهداف تركيا في العراق وإقليم كردستان بشكل تفصيلي، إضافة إلى قضايا أخرى تخدم مآلات بحثنا.

لقد اتخذنا في كتابة هذا البحث المنهج المعرفي والتحليلي والتفسيري منطلقاً، وسنشير في النهاية إلى الاستنتاجات التي توصلنا إليه خدمةً لأهداف بحثنا.

تركيا وخوض غمار سياسة التوازن الصعب:

تأسست الدولة التركية وفق معاهدة لوزان التي أبرمت في تموز 1923، وعلى حساب الشعوب الأخرى كالكرد واللاز والشركس والآشوريين. وتمخّض عن هذه السياسة الحقد والكره من قبل النخبة الحاكمة التركية للشعوب قاطبة، فلم نشاهد خلال قرن كامل أن مارست تركيا سياسة أخلاقية تجاه أيّ شعب أو مكوّن، بل على العكس مازالت تعمل وفق سياسة “يجب القضاء على كل من يختلف معي” وتعيش حلم العودة إلى الإمبراطورية العثمانية.

وكرد فعل مباشر على هذه السياسة؛ تمرد الكرد وانتفضوا ضد هذه العقلية الفاشية التي اعتمدت على صهر وإبادة الشعوب، فانتفض الشيخ سعيد في بالو وكنج، وإحسان نوري باشا في آغري، وسيد رضا في ديرسم وغيرهم الكثير. ارتكبت تركيا خلال هذه الانتفاضات مجازر مروّعة في “كليه زيلان وديرسم” وغيرها. ومع تنامي الوعي القومي الكردي وصعود التيار الاشتراكي في العالم والشرق الأوسط خاصة، ظهرت من رحم الشعب الكردي قيادة ثورية تلاحمت مع شخصيات من شعوب أخرى، وأسست معاً حركة حرية كردستان في سبعينيات القرن الماضي، وعملت سويةً على إسقاط هذه الذهنية الإقصائية في تركيا والمرتبطة بالأجندات الغربية الاحتكارية التي تحارب قيّم الشعوب والعيش المشترك، وما زال نضال هؤلاء مستمراً حتى الآن، وبشكل أوسع.

فالمتابع لتفاصيل السياسة التركية يلاحظ عدم الاستقرار على استراتيجية واضحة. فقد عاشت تحولات خلال قرن كامل كالنموذج العلماني الأتاتوركي (التي انتهت بتجميد عضوية تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2016). وأيضاً تحالفها وخلافاتها مع إسرائيل، كقضية اعتداء إسرائيل على سفينة “مافي مرمرة” التي كانت تقل مساعدات لغزة عام 2010 (رغم أن تركيا كانت أول دولة “إسلامية” اعترفت بإسرائيل عام 1949).

في عام 2002؛ بدأت حقبة جديدة في تركيا مع تولي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، الذي قال عنه الكاتب التركي المعروف “مردان ينارداغ” في كتاب له بعنوان “AKP مشروع أمريكي” وتزامن إصدار كتابه هذا مع التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط واحتلال العراق بحجة مكافحة الإرهاب عام 2003، ومع بدء ما تم تسميته بـ”الربيع العربي”، فتغيرت السياسة التركية مجدداً من “صفر مشاكل” إلى مشاكل مع كل دول الجوار (سوريا والعراق وإيران وأرمينيا وروسيا وغيرها)، وبدأت تركيا فعلياً بالتدخل في كل دول الجوار من خلال مشروع الإسلام السياسي ودعم حركات “الإخوان المسلمين” في دول المنطقة من مصر وتونس والسودان والصومال وتونس والمغرب واليمن وليبيا، وسوريا بشكل أوسع كونها بوابة الشرق الأوسط. وتحوّلت حدود تركيا مع هذه البلدان إلى بؤر توتر من خلال سماح تركيا بدخول الجهاديين والمتشددين والمتطرفين القادمين من كلّ أصقاع العالم إلى سوريا بشكل خاص.

وبذلك عادت الأطماع التركية في سوريا إلى الواجهة، كذلك تجدد الصراع العثماني – الصفوي ببعده المذهبي – الطائفي “السني والشيعي” مرّة أخرى، ولو بشكل آخر، وخاصة في بلدان كسوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى بعض الدول في القارة الإفريقية.

فقد تراوحت العلاقة التركية مع العالم العربي خلال هذه الفترة بين التوتر مع دول كمصر والسعودية والإمارات، بسبب دعم تركيا لحركة “الإخوان المسلمين”، والتحالف مع دولتي قطر والصومال، ومن ثم محاولتها تحسين العلاقات مع نفس الدول مجدداً، “مصر، السعودية والإمارات”، بسبب فشلها في إسقاط هذه الدول، أي أن تركيا عاشت حالة العداء والجمود، وبالتالي التخبط في هذه المرحلة.

هنا لا بد لنا أن نرى البعد الأيديولوجي (الإرث العثماني) وتأثيره الكبير في تسيير السياسات التركية وسعيها لأخذ دور إقليمي مهيمن، ورغبتها في أن تكون دولة ذات شأن، فهي تعتبر نفسها دولة مركزية ومحورية في رسم السياسات في الشرق الأوسط.

ومع فشل هذه السياسات التركية المتعدّدة والمشتتة، والتي لم تستقر على رؤى استراتيجية واضحة المعالم، وضعف رهاناتها؛ فإنّ هذا يدعونا إلى طرح سؤال جوهري وهو: هل يتكرر التاريخ التركي نفسه مرّة أخرى في إمكانية تحوّلها إلى “رجل الشرق المريض”؟، كما أطلق الغرب على أجدادهم العثمانيين “رجل أوروبا المريض”، وذلك بفعل المشاكل الجمّة، والقضايا الجدية التي تواجه تركيا سواءً في الداخل أو الخارج، وتبعات الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية عليها في خضم انخراط تركيا في القضايا المتناثرة في الشرق الأوسط والعالم.

مشكلة تركيا تكمن في أنّها تحاول أن تلبس لباساً أكبر من جسدها وحجمها وإمكانياتها، بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف والأغراض، وبأدوات لا تتناسب وأصول اتباع وممارسة السياسة والدبلوماسية في العلاقات مع الدول. فالسياسة التي اتبعتها تركيا في الآونة الأخيرة تمثّلت في السعي لاستبدال أنظمة بأخرى، واستخدمت أداتها الرئيسية “الأحزاب الإسلاموية” وتحديداً حركة “الإخوان المسلمين”. فكانت نتيجة هذه السياسة المتبعة عزلة عربية لها بعد سنوات من الانفتاح عليها (كما أشرنا إلى سياسة التخبط التركية آنفاً، لا سيما بعد سقوط حكومة مرسي في مصر، التي كانت مؤشراً واضحاً لنهاية المشروع الإقليمي التركي في عام 2013).

وإشارة إلى ما ذكرناه بأنَّ أردوغان وحزبه “مشروع أمريكي”، وتجلّى ذلك في عدم إيلاء دول العالم الاهتمام الكافي بالانتخابات التي جرت في تركيا، رغم كل المخالفات التي قامت بها اللجان المكلفة من قبل النظام الحاكم، ورغم تشديد قبضته الأمنية، إضافة إلى ورود حالات التزوير الكثيرة، وكثافة الضغوطات الممارسة من قبل أردوغان وجزبه عن طريق مؤسسات الدولة على المعارضة التركية والكُرد منهم بشكل خاص، الذين يعبرون عن طموحاتهم في بناء جمهورية ديمقراطية من خلال “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب”. ودعماً لما أشرنا إليه؛ هو ظهور “حزب الرفاه الجديد” كنِدٍّ قويٍّ لأردوغان وحزبه وربما بديلاً له، لأنه هو الآخر يتّخذ الإسلام السياسي أساساً في عمله، وبالتأكيد سيكون لأمريكا والغرب عموماً اليد الطولى في لعب دور أساسي في هذه التحولات مستقبلاً.

فتركيا تعيش أزمات عديدة نتيجة الضّبابية في سياستها بين العودة لإرثها القديم، وبين فشلها في بناء مجتمع متجانس يمتلك قراره بيده، فترتهن تركيا الدولة في سياستها على الاستفادة من موقعها الجيوسياسي لاستقطاب والتأثير على المشاريع المنفذة من قِبل الدول المؤثرة على المستوى العالمي في المنطقة. (فتارة تميل لصالح روسيا، وتارة أخرى نحو دول الخليج، وتارة نحو أمريكا وغيرها، وتعيش حالة اللا توازن التي نعتقد أنه آن الأوان ليتم حسم هذا الموضوع).

المؤكد أنّ التخبط التركي على المستوى الدولي سيزداد مع توجه العلاقات الروسية – التركية لمنعطف جديد. فالرهان الذي كان موضوعاً على التفاهمات التي كانت تجري بين تركيا وروسيا بين الفينة والأخرى بما يخص سوريا وأوكرانيا، واستغلالهما للقضايا الشائكة في العلاقات الدولية، بدأت تتغير رويداً رويداً، وهذا ما ظهر جلياً في تأجيل الرئيس الروسي بوتين لزيارته إلى أنقرة للمرة الثالثة على التوالي، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أنّ توتر العلاقات بينهما بدأ يظهر للعلن، خاصة بعد موافقة تركيا لضم دولتي فنلندا والسويد لحلف الناتو، وبذلك يكون هذا الحلف على حدود روسيا، والذي اُعتبر من “الخطوط الحمر” التي اتفق الاثنان، بوتين مع أردوغان، بعدم تجاوزها وعدم المساس بها.

عدم حصول تركيا على تنازلات من روسيا في القوقاز وسوريا بالشكل المطلوب، هو بالتحديد ما دعاها للاستنجاد بأمريكا في حل قضاياها الداخلية والخارجية، كون تركيا في الأساس غير قادرة على الخروج عن هيمنة السياسة الأمريكية. وبالمقابل تحاول أمريكا “إرضاء” تركيا من خلال موافقتها على ضرب أماكن تواجد مواقع حزب العمال الكردستاني، والمناطق الحيوية في إقليم شمال وشرق سوريا، وبيعها معدات وقطع غيار وطائرات – F16  التي كانت صفقتها مجمدة لوقت طويل.

فكلا الطرفين، تركيا وروسيا، تخطّطان للاستفادة من بعضهما البعض داخل المجال الحيوي لهما، ابتداءً من الناتو والتجمعات الاقتصادية والسياسية والعالمية الكبرى في كل الساحات، من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا، دون وضع أسس أخلاقية سياسية إنسانية، بل على العكس كانت مقارباتهما “ميكيافيلية” متعفّنة ونتنة بشكل كامل.

وعند العودة إلى الرهانات لدى الطرفين؛ يُلاحَظ خيبة الأمل من إمكانية عقد لقاء بين أردوغان والأسد قبل الانتخابات الرئاسية التركية في العام الماضي وحتى الآن.

فالقارئ لتاريخ البلدَين يدرك جيداً حساسية العلاقات التاريخية، فالرسائل الروسية كانت واضحة، وهي عدم اتخاذ تركيا مركزاً لنقل الغاز إلى أوروبا، وتجميد نقل الحبوب من أوكرانيا إلى البحر الأسود عبر تركيا ومنها إلى أوروبا. فكان الرد التركي هو نقل معمل صناعة المُسيّرات التركية “بيرقدار” إلى الأراضي الأوكرانية، كشكل متقدم وتعبير واضح على مستوى التوتر الذي وصلت إليه العلاقات بين الطرفين.

فتركيا تريد تسيير السياسة وفق سياسة “التوازن الصعب” واستثمار الفوضى الموجودة في العلاقات الدولية، في ظل تعدد المشاريع في المنطقة، وتجيرها لصالحها، لكن مؤشرات انتهاء هذه الفترة باتت قريبة.

فتركيا تحاول إعادة العلاقات مع الدول المؤثرة في المنطقة كمصر والسعودية والإمارات، لأن هذه الدول مرشّحة لتكون ذا ثقل كبير في السياسات المتبعة من قبل الدول العظمى في الشرق الأوسط في الفترة القادمة، خاصة بعد أن شكلت هذه الدول تحالفات اقتصادية، سياسية وعسكرية فيما بينها في كثير من المواقع، ونجحت فيها إلى حد ما، ويعدّ ذلك بمثابة ندّ أو بديل لهيمنة إيران وتركيا على سياسات المنطقة.

وسط كل هذه التوترات والصراعات والأزمات التي تشكّل تركيا جزءاً أساسياً ورئيسياً منها؛ فإنّ تركيا أجرت نهاية شهر آذار المنصرم الانتخابات المحلية، وتعدّ نتائجها الحدث الأبرز في هذه الفترة بالنسبة للسياسة التركية الداخلية والخارجية، وبالتأكيد نتائجها لها تأثيرها المباشر على دول المنطقة.

أهمية الانتخابات المحلية في تركيا وتأثيراتها:

قبل الخوض في تفاصيل هذه الانتخابات، يفترض التعرف على الأسس التي تجرى عليها الانتخابات المحلية في تركيا ومعرفة أهميتها. فالانتخابات المحلية تقام في تركيا كلّ خمس سنوات بهدف انتخاب مجالس مناطقية، تبدأ من القرية الصغيرة إلى المدينة الكبيرة. وتلك المجالس معنيّة في الأساس بالخدمات والبنى التحتية. وبالرغم من سيطرة الطابع العائلي والعشائري في اختيار المرشحين، إلّا أنّ الطابع السياسي يطغى عليها أيضاً، وتعطي نتائج هذه الانتخابات مؤشراً على ملامح مرحلة مقبلة، تكون مقدمة لنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية التي تلي إجراء الانتخابات المحلية.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف كان يفكر الرئيس التركي أردوغان قبل خوض حزبه للانتخابات المحلية؟

لنأخذ إسطنبول كنموذج، فالقول الشائع عنها “من يربح في إسطنبول يحكم تركيا”، إلا أن أردوغان كان يهدف من وراء الفوز ببلدية إسطنبول إلى تحقيق عدة أغراض، أهمها، أن استعادة بلدية إسطنبول من المعارضة، يعتبرها رمزاً شخصياً له، فهو قد فاز بها عام 1994، وبدأ حياته السياسية رسمياً آنذاك، فالجانب المعنوي طاغٍ هنا.

ومن جانب آخر فهو ينظر إلى رئيس بلدية إسطنبول الحالي “أكرم إمام أوغلو” بأنه المنافس الأخطر له في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستقام في عام 2028، فإذا فاز على “إمام أوغلو”، فهذا سيمنحه دافعاً معنوياً قوياً لإعداد دستور جديد يعدّل فيه البند الخاص بالترشح لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة، وعملياً هي الرابعة، ودون ذلك لن يستطيع أردوغان الترشح للرئاسة مرة أخرى. وهنا تكمن معضلة أردوغان المرتقبة، لذلك كان أردوغان يعتبر انتخابات بلدية مدينة إسطنبول معركة رئاسة الجمهورية (ظهر في نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة تقدُّم أكرم إمام أوغلو بفارق كبير بلغ 12 نقطة).

نتائج الانتخابات التركية:

لقد أُجريت الانتخابات المحلية التركية في 81 ولاية شارك فيها 61.5 مليون شخص، حصل حزب الشعب الجمهوري CHP على نسبة 37.76%، وهو لم يحقق هذا “الإنجاز” منذ عام 1977، حيث كان “بولنت أجاويد” على رأس الحزب آنذاك/ وحصل في الانتخابات النيابية على نسبة41.4%، وبموجب الانتخابات الأخيرة حصل CHP على رئاسة 35 بلدية وبزيادة 14 بلدية عن الانتخابات السابقة، أي تقدم بسبع نقاط عن انتخابات 2019 واثنتا عشر نقطة عن الانتخابات البرلمانية.

بالمقابل حصل حزب العدالة والتنمية على نسبة 35.48، كأدنى نسبة يحصل عليه منذ عام 2002، فقد تقلص عدد بلدياته من 39 بلدية إلى 24 بلدية، بتراجع 8 نقاط عن انتخابات 2019. وحصل “حزب الرفاه الجديد” على نسبة 6.19 وسيطر على ولايتين، فيما فاز حصل “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب/ DEM PARTI” على عشرة ولايات بنسبة 5.70، وحصل “حزب الحركة القومية” على 4.99 من الأصوات، وحصل “حزب الجيد” على 3.77 من الأصوات.

وفي هذا الصدد يشير الكاتب الأكاديمي اللبناني الدكتور “محمد نور الدين في مقال له “أنَّ تحالف العدالة والتنمية AKP والحركة القومية MHP لم يعد يملك العدد اللازم من النواب في البرلمان لتعديل الدستور أو حتى لتحويل اقتراح التعديل لاستفتاء شعبي”.

لقد برزت خلال الانتخابات شخصية ثانية إلى جانب “أكرم إمام أوغلو” وهو مرشح حزب الشعب الجمهوري CHP في أنقرة “منصور ياواش”، الذي فاز بفارق كبير على مرشح حزب العدالة والتنمية AKP بفارق كبير وصل إلى ثلاثين نقطة (60 مقابل 30).

إضافة إلى تقدم “حزب الرفاه الجديد” الذي يتزعمه “فاتح أربكان” نجل “نجم الدين أربكان”، حيث حصل على 6.19% من الأصوات، وأضيفت إليها هزيمة مرشح حزب العدالة والتنمية AKP في أورفه من خلال سحب كتلة المحافظين من حزب العدالة والتنمية.

فهذه النتائج والأرقام تشير إلى أنه لأول مرة يتقدم فيها حزب الشعب الجمهوري CHP على حزب العدالة والتنمية AKP وبفارق مليوني صوت (17 مقابل 15) في هذه الانتخابات الأخيرة، ويعد هذا مؤشراً على ترجيح كفة العلمانية على حساب فكر الإسلام السياسي كتوجه جديد للناخب التركي.

واعتبر الكثيرون أنَّ عدم إيفاء أردوغان بوعوده للشعب، وحالات الفساد الكبيرة المستشرية في المؤسسات التي يسيطر عليها حزبه، كانت سبباً مباشراً لهذه النتائج وهزيمة أردوغان وحزبه.

وقد عدَّ الكثير من المحللين الأتراك أن هذه الانتخابات إشارة تحذيرية للحكومة التركية حيال سياستها الاقتصادية والاجتماعية وسياستها الخارجية، ومواقفها من الأزمات الدولية، وتحديداً في أوكرانيا وغزة وسوريا.

وهناك مسألة أخرى تمخضت عن هذه الانتخابات وتعني كل الذين يدعون للسلام، وهي تراجع وتقليص أنصار الذهنية القوموية والفاشية، وانخفاض نسبة المقترعين لمرشحي حزبي MHP وحزب الجيد Iyi Parti، وهذا بالطبع مؤشر إيجابي سيخدم المرحلة القادمة، الجنوح نحو السلام والديمقراطية وهذه فرصة يجب ألا تفوت على القوى والأحزاب التي تؤمن بالديمقراطية والحرية وتنشد العدالة.

وفي هذه الحيثية؛ أعتقد أنه بعد حصول هذه النتائج والتغيرات في الرأي العام التركي، يجب على “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب” التقرب بمرونة سياسية فائقة من “حزب الرفاه الجديد”، خاصة في المناطق التي يقطنها الكرد في شمال كردستان وتركيا، وفق الطرح الأوجلاني “الإسلام الديمقراطي”، فالتفاهم والاتفاق مع هذا الحزب وفق مصالح الشعوب في تركيا تفرضها المرحلة، خاصة أنّ هناك تجربة سابقة بهذا الخصوص عندما كان “نجم الدين أربكان” في رئاسة الوزراء في تركيا عام 1997 والمراسلات التي جرت بينه وبين قائد حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان” آنذاك لإحلال السلام في تركيا، فالاستفادة من هذه التجربة مع أخذ اختلاف الزمان والمكان بعين الاعتبار، قد تحمل في طياتها أهمية مستقبلية.

أسباب تراجع شعبية وناخبي حزب العدالة والتنمية:

عندما نمعن النظر ونبحث في أسباب هزيمة حزب العدالة والتنمية AKP وتلقي الذهنية الإسلاموية – القوموية الهزيمة في الانتخابات؛ يمكننا القول: إنّ التآكل الشديد والفساد المستشري في بنية المؤسسات والتشكيلات الموجودة داخل هذه الأحزاب كان سبباً مباشراً في ذلك، إضافة لحالة الانقطاع عن الشعب والتقرب بسذاجة منه واعتبارهم رعاعاً، ويُمكننا استحضار المثل الشعبي بأنّها “كانت القشة التي قسمت ظهر البعير”.

ولنذكر بعض الأسباب الرئيسية لتلك الهزيمة:

1 – الأوضاع الاقتصادية:

عُدَّت الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا سبباً مباشراً في تراجع شعبية أردوغان في الانتخابات. فالزيادة النسبية لرواتب المتقاعدين التي أصدرتها الحكومة التركية قد أتت بنتائج عكسية، لا وبل شكَّلت سبباً بارزاً في تراجع أصوات الناخبين للحزب؛ كون أعداد المتقاعدين في تركيا تتجاوز 15 مليون، إضافةً إلى أنَّ الليرة التركية شهدت انحداراً سريعاً في قيمتها أمام الدولار وقد وصلت الآن إلى 32 ليرة مقابل الدولار الواحد. كما يعد من أهم أسباب هذا الانهيار هو الخوف من المستقبل، والتخبط في السياسة الاقتصادية غير المستقرة، وعدم وجود أسس وثوابت تعتمد عليها. فبحسب تحليلات وآراء الخبراء الاقتصاديين؛ فإنَّ الاستثمارات الداخلية والخارجية تُشكل ما يقارب 75% من حركة الاقتصاد التركي، وهي استثمارات وُظِّفت بشكل أساسي في قطاعات الإسكان والخدمات والسياحة، وهو ما يُفقِد الاقتصاد التركي حجماً لا يُستهان به من الدخل القومي، إضافةً إلى الميزانية العسكرية الضخمة التي تُصرف في قمع الكُرد والتدخل العسكري في الشؤون الإقليمية والدولية.

فعدم استطاعة حزب العدالة والتنمية إيجاد حلول اقتصادية للأزمات التي شهدتها البلاد، خاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، كانت وراء خسارته الانتخابات، حيث بلغت نسبة التضخم 70% وبحسب صحيفة “جمهورييت” التركية، فقد غادر تركيا خلال هذه الفترة أكثر من 46 ألف مستثمر وبات الناس يعانون من مستويات فقر وبطالة خطيرة، وهذا ما جعل الناخب يثور في وجه هذه السياسات التي فتحت الباب أمام الفساد والرشوة والمحسوبية.

هذا يعني أنَّ الاقتصاد التركي بات على المحك، وبحاجة إلى انطلاقة ورؤية حقيقية لتجاوز الأزمة الاقتصادية، ولم تعد تنطلي على أحد الفكرة التي يروّج لها أردوغان وإعلامه بأنّ هناك مؤامرة كونية لضرب الاقتصاد التركي. فسياسة الرئيس التركي تحمل في جوهرها مسؤولية الانهيار الاقتصادي، وستدفع تركيا تكلفة السياسة الداخلية والخارجية، حيث بدأت تدخل مرحلة غير واضحة المعالم.

فتركيا ينتظرها الأسوأ فيما يخص الاقتصاد في الشهور القادمة، إذا ما استمرت في أزمتها هذه ولم تستطع إيجاد حلول بنيوية لها.

2 – اكتفاء حزب العدالة والتنمية بتحالف وحيد مع حزب الحركة القومية الذي تراجعت نسبة مؤيديه بشكل كبير.

3 – التحالفات غير المعلنة لحزب الشعب الجمهوري CHP واستراتيجيته الانتخابية المدروسة، من خلال تركيزه على هموم الناس والأزمات التي يعيشونها بشكل يومي، بدلاً من الإفراط في الاحتفاء بإنجازاته.

4 – هناك عامل هام آخر اتفق الكثيرون على تأثيره الكبير في الانتخابات التي جرت، فقد كانت الأجواء والضغط الشعبي في تركيا آنذاك تدعو إلى قطع التبادل التجاري مع إسرائيل بشكل فوري والتدخل لدعم أهالي قطاع غزة، لكنّ عدم فاعلية وسرعة استجابة الحكومة لهذا المطلب؛ دفع الناخبين إلى التعبير عن استيائهم من خلال صناديق الاقتراع، وظهر ذلك بشكل واضح في وسائل التواصل الاجتماعي، واستفاد “حزب الرفاه الجديد” بزعامة “فاتح أربكان” و”حزب الله التركي” من هذه القضية لجذب الأصوات، وقد حصل ذلك بالفعل كما مرَّ معنا. هذا يعني أنَّ حرب غزة التدميرية لعبت دوراً رئيسياً في نتائج الانتخابات، فالخطاب الشعبوي المعروف لأردوغان كان قد خلق أجواء وأرضية للجمهور التركي مفاده أنه “كان عليه اتخاذ موقف قوي تجاه سياسة إسرائيل التدميرية في غزة” وهذا مالم يفعلْه أردوغان لحسابات كثيرة، ما أثار حفيظة واعتراض الفئة المحافظة في حزب العدالة والتنمية المؤيدة للقضية الفلسطينية، ليقودها إلى عدم اتخاذ الحكومة التركية موقفاً قويّاً اتجاه إسرائيل واستمرار العلاقة التجارية مع إسرائيل، فذهبت أصوات المعارضين لأردوغان وحزبه إلى “حزب الرفاه الجديد”، وهذا يعني بكل وضوح أنَّ تركيا دخلت مرحلة جديدة بعد هذه الانتخابات، وسيسعى من خلالها كل طرف بإعادة تموضعاته لمواكبة المرحلة القادمة.

بقي أن نذكر أنَّ الكثير من المحللين الأتراك قد أشاروا إلى سوء اختيار أردوغان للأشخاص المرشحين لرئاسة البلديات، كونهم لم يكونوا على قدر المسؤولية، وبذلك فقد اهتزت مكانة أردوغان وتراجعت شعبيته بشكل كبير، مما شكَّل ذلك ضعفاً لفرص حزب العدالة والتنمية في الفوز في أي انتخابات مقبلة، على عكس حزب الشعب الجمهوري الذي ركَّز على هذه النقطة بعناية. وربما هذه الملاحظة ستكون حافزاً للأحزاب التركية بشكل عام لتعمل بشكل مكثف وتركز جهودها للحملات الانتخابية المقبلة، لتعزيز ثقة الجماهير بها للوصول إلى سدة الحكم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية المقبلة. كل ذلك إلى جانب المشاكل في القضاء وفي نظام التعليم، أدى إلى انفجار الشعب في وجه أردوغان وحزبه.

بعض التبعات التي أفرزتها الانتخابات المحلية التركية:

أولها الهزيمة المدوية لحزب الجديد Iyi Parti وسقوط شخصية “ميرال آكشينر” رئيسة الحزب، بعد أن تراجعت أصوات هذا الحزب من 9% إلى 4% وهو كان مؤشراً واضحاً لعدم تقبّل الشعب للعقلية الإقصائية وعدم قبول الرهان على أصحاب الذهنية الفاشية والقوموية التي عمل وفقها هذا الحزب. فقد انتهت مرحلة هذا الحزب وشخصية “ميرال آكشينر” كما انتهت سابقاً مرحلة “رهشان أجاويد” و”تانسو جيلر”.

وفي هذه الحيثية يريد أردوغان وحزبه استغلال هذه النتيجة، في محاولة لاستقطاب جمهور هذا الحزب لكسب أصوات ناخبيه ونوابه في مواجهة الأحزاب الثلاثة الأخرى Yeniden Refah- CHP-DEM Parti) ). وإلى جانب هزيمة حزب العدالة والتنمية AKP وحزب الجيد Iyi Parti، فقد هزم حزب الحركة القومية MHP وتراجعت شعبيته من نسبة 10% إلى 5% خلال الانتخابات.

وكنا قد أشرنا إلى تأثير تبعات حرب غزة على الانتخابات المحلية في تركيا، لذلك تداركت الحكومة ذلك مباشرةً. فأصدرت وزارة التجارة التركية تعميماً بتوجيهات من أردوغان بتقليص حجم التجارة، ووقف تصدير 54 منتجاً إلى إسرائيل. والقرار ناجم عن قناعة أردوغان بأن الناخب المتديّن خذله في الانتخابات احتجاجاً على استمرار العلاقات التجارية مع إسرائيل لصالح “حزب الرفاه الجديد”. لكن القرار التركي يشير إلى أنَّ الصادرات ستستأنف فور التوصل إلى قرار وقف النار في غزة، كما أنَّ الكثير من الصادرات لم يشملها قرار تقليص حجمها.

وبكل تأكيد ستفتح هذه النتائج الباب أمام تغييرات جذرية داخل حزب العدالة والتنمية وسياسته وخطاب زعيمه أردوغان في المستقبل القريب، وعلى كل المستويات.

وفق كل المعطيات التي خضنا في تفاصيلها سيكون الهدف الرئيسي لأردوغان في هذه الفترة والأولوية لديه هب التفكير في كيفية تعديل الدستور الحالي للاستمرار في حكم تركيا، كون الدستور الحالي لا يخوّله بذلك.

وظهور نتائج انتخابات مدينة إسطنبول كانت كفيلة بذلك، وهذا يعني أنَّ هذه المدينة مازالت غير راضية عن سياسة أردوغان، هذه المدينة تعتبر العاصمة الاقتصادية وتجمع خُمس سكان البلاد، فهي تحتضن كل شعوب ومكونات تركيا، وبذلك تحولت إلى تركيا مصغَّرة.

السؤال المطروح هو؛ هل ستغير نتائج الانتخابات المحلية وهزيمة حزب العدالة والتنمية من سياسات الحكومة التركية الداخلية والخارجية، ومن مقارباتها إزاء العديد من القضايا، وهل هناك إمكانية عودتها لجادة الصواب واتّخاذ جانب العقلانية والوطنية؟

لقد ظهرت بعض المؤشرات الأولية مؤخراً من خلال اللجوء إلى أمريكا وأوروبا مجدداً، خاصة بعد بروز الخلافات الروسية – التركية على الواجهة لإرضاء أمريكا أو رؤيتها كملجأ لها.

وعدَّت هذه السياسة سبباً رئيسياً في تغير مواقف عدد من دول المنطقة من تركيا كمصر والسعودية والإمارات، وهي بالتأكيد جاءت على حساب مشروعه الإخواني في المنطقة.

وهناك جانب آخر يجب ألا نغفل عنه، أنّه يمكن أن تستغل تركيا وتضغط على بعض الدول، نتيجة حاجتهم لتركيا في تخليها عن ورقة الإخوان التي طالما تقلقهم. وفي الداخل يمكن أن تنتهج بعض السياسات المرنة تجاه الحركة الكردية في المرحلة المقبلة، ولكن قبلها سوف يستمرّ في تعسّفه بشكل أكثر من السابق، وظهر ذلك في استهدافاته المتكرّرة لإقليم كردستان ومناطق الدفاع المشروع تحديداً.

كلّ ما ذكرناه يشير إلى مدى تأثير تغاضي وتجاهل هموم ومشاكل وقضايا الناس على مستقبل ومصير أردوغان وحزبه، وعدم اتخاذها كأولوية في الانتخابات، وتجاهله لها سيؤدي إلى عدم تحقيق المكاسب التي تنشدها هذه الأحزاب للوصول إلى سدة الحكم، فناقوس الخطر والتغيير قد دُق في تركيا.

 

رياح التغيير تهب على تركيا:

بكل تأكيد بعد كل ما تطرقنا إليه من أحداث وتطورات قبل وبعد هذه الانتخابات واستعراضنا للسياسات التركية الحالية؛ نتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ تركيا تنتظرها التغيير.

فبعد أن أسدلت تركيا الستارة على الانتخابات المحلية التي جرت في 31 آذار 2024 ” كانت الرياح تجري بما لا تشتهي سفن أردوغان وحزبه”، فنتائجها حكماً ستفتح الأبواب لدخول مرحلة جديدة سترخي بظلالها المثيرة على السنوات الأربع المقبلة، فالبعد السياسي كان حاضراً بشدة، فيما شكَّل الجانب الاقتصادي والسياسي جزءاً أساسياً لخيارات الناخب التركي.

وبعد ظهور نتائج انتخابات المحلية في تركيا، عادت من جديد معادلة أن الكرد وأصدقاؤهم في “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب/DEM Partî ” يمثّلون “بيضة القبان” بفوزهم في عشر مقاطعات، مقابل ثماني مقاطعات للحركة القومية، وسيكون لهم دور مؤثر في قادم الأيام، خاصةً في الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2028 وربما قبلها. وقد أثبت الكرد ذلك بتصويتهم في إسطنبول لصالح حزب الشعب الجمهوري CHP، ولو أنها جاءت مبطَّنة.

بالطبع كان لمراجعة حزب الشعوب الديمقراطية واليسار الأخضر لسياسته ومقارباته وتحويله إلى “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب”، دور في هزيمة حزب العدالة والتنمية AKP والعودة السليمة لموقعه، والاستحواذ على أصواته الحقيقية (الوضع الطبيعي)، من خلال الارتقاء بالوعي الوطني التحرري لدى غالبية الشعب الكردي والديمقراطيين الحقيقيين، الذين باتوا يعرفون مصلحتهم وأظهروا إرادتهم لصالح “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب” ولم يمنحوا أصواتهم للأحزاب التركية الأخرى.

فنتائج هذه الانتخابات الأخيرة فرضت ضرورة حصول تغيير ملموس في المشهد السياسي التركي، لكنها قد لا ترتقي إلى مستوى تهديد الاستقرار السياسي ككلّ، فأردوغان ما زال رئيساً وفي منصبه، وتحالف حزبي AKP-MHP لا يزال يحتفظ بأغلبية برلمانية. والآمال بحسب مؤيدي أردوغان تبقى عالقة بتحسن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، وإعادة النظر في السياسة الخارجية. لكنّ المهم في هذه المرحلة ضرورة حلّ القضية الكردية التي حوَّلتها تركيا إلى فوبيا لديها وشمَّاعة للتدخلات في البلدان المجاورة، وتصرف المليارات للقضاء على حركتها التحررية، وتبدي الكثير من التنازلات لعدة أطراف ودول في سبيل إنهائها، ولم تنجح في ذلك، وهذه المرة اختارت العراق أوّلاً للتوجه نحوها.

التخبط التركي الكبير هذا له مؤشرات كثيرة، قد تحدد مستقبل أردوغان وحكومته ما لم ينجح ويتوجه نحو خيار السلام، وهذا هو الخيار السليم والصحيح لمستقبل تركيا وشعوب المنطقة عامةً.

 

التوجه التركي نحو العراق.. ماذا كان في جعبة أردوغان؟

في خضم الأزمة التي تعيشها الحكومة التركية، وللتخفيف عن الضغوط الداخلية عليها، هبطت طائرة الرئيس التركي أردوغان في 22 نيسان المنصرم في مطار بغداد، بعد غيابٍ دام ثلاثة عشر عاماً عنها، حيث كان آنذاك رئيساً للوزراء، لكن جاء هذه المرة برفقة وفد كبير، ومعه ملفات 26 اتفاقية موجودة تحت ذراعه، يبحث من خلالها عن حبل نجاة له بعد هزيمته المدوية في الانتخابات المحلية التي كانت رسالة قوية جداً له ولحزبه.

ويُعدّ توقيت الزيارة هاماً في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها السياسة التركية، وعلى المستويات الداخلية والخارجية ، كون رئيس وزراء العراق كان قد عاد للتو من زيارته من واشنطن، أي أنَّ هناك احتمالاً أنَّ الرئيس الأمريكي بايدن قد نصح رئيس الوزراء العراقي السوداني بضرورة تفعيل العلاقات العراقية التركية، بهدف سحب تركيا إلى جانبها، بعد أن أضاعت بوصلتها مع روسيا، وانجرَّت لسياستها في الصراع الإقليمي والدولي وفي أوكرانيا تحديداً، إضافةً إلى أنَّ تركيا تعيش مخاضات عديدة، ولديها ملفات اقتصادية وأمنية شائكة وتفاعلات إقليمية صعبة، لا سيما بعد توتر علاقاتها مع روسيا كما مرَّ معنا، واندلاع حرب “حماس” وإسرائيل التي بدأت في 7 تشرين الأول عام 2023، وتبعاتها على منطقة الشرق الأوسط والعالم، إضافة لنتائج انتخابات المحلية التي جرت في 31 آذار المنصرم.

هناك عدة ملفات وقضايا مشتركة بين الدولتين – العراق وتركيا – سواءً اتفق الطرفان أو اختلفا حولهما من ملفات أمن الحدود (تشكل أولوية تركية) إلى مسائل المياه والنفط (تشكل أولوية عراقية).

لذلك يفترض التساؤل عن الهدف الأساسي لزيارة أردوغان للعراق التي تأجلت عدة مرات، ولماذا تمت الزيارة خلال هذه الفترة تحديداً، وما الهدف منها؟ وماهي فرص نجاحها؟ وماهي العقبات التي تعترض نجاحها؟ الجواب على هذه الأسئلة يمكن أن يرسم وجه السياسة التركية الجديدة، على الأقل في حقبة أردوغان، وبالطبع سوف تؤثر، بشكل أو بآخر، على التوجهات العراقية أيضاً، وعلى كافة المستويات.

 

أسباب الاهتمام التركي بالعراق:

تسعى تركيا إلى الاستفادة من موقعها الاستراتيجي، خاصة أنَّها استُبْعِدت من المشاريع المقترحة بخصوص الشرق الأوسط، كالممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط (الممر الهندي). فقد كان ردّ أردوغان عليه في مؤتمر قمّة العشرين في أيلول 2023م بقوله: “لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا”.

فتركيا تنظر إلى نفسها أنها قاعدة إنتاج وتجارة مهمّة ويجب أن يمر الخط الأنسب لحركة مرور البضائع والسلع من الشرق إلى الغرب عبر أراضيها. التوجه التركي نحو العراق قد مهد له كرؤية استراتيجية تركية بعيدة المدى.

وعند التمعن في الأسباب المباشرة لتوجه تركيا نحو العراق، نتلمس هذه النقاط:

1 – ما تعيشه دول الشرق الأوسط من أحداث، وتراجع العلاقات التركية الروسية، والتحفظات الكبيرة والكثيرة في علاقات تركيا وإيران، أصابت السياسة التركية بالضعف في عدة أماكن في الشرق الأوسط.

2 – تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية AKP وحزب الحركة القومية MHP؛ بيَّن دور “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب” ومدى قدرته على ترجيح كفّة ميزان الانتخابات، وظهر ذلك خاصة في مدينة إسطنبول، وعودة “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب” إلى مكانه الطبيعي في الانتخابات المحلية الأخيرة بفوزه بعشر مقاطعات.

3 – ساهم الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK في تشجيع وتقوية المسار التركي هذا نحو العراق، لمصالحه الحزبية والعائلية والتجارية المتداخلة مع المصالح التركية.

وللبحث عن أهداف هذه الزيارة من الجانب التركي؛ فإنَّه يرتكز على هدفين رئيسيين:

1 – القيام بعملية عسكرية تُلحق من خلالها ضربة قوية و”قاصمة” بقوات حزب العمال الكردستاني في مناطق الدفاع المشروع “جبال قنديل”.

2 – فتح الطريق أمام مشروع “طريق التنمية” الذي يربط بلاده عبر العراق، وهو مشروع تجاري مهمّ لبلاده في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، وتزداد أهميته في ظل حرب الممرات التجارية المشتعلة بين الدول الكبرى والإقليمية في الآونة الأخيرة.

فمشروع “طريق التنمية” وفق ما أشار إليه الكاتب التركي المعروف “كمال أوزتورك” في مقال له “أنَّ الدولتين (تركيا – العراق) عبَّرتا عن اهتمامهما بتعزيز التعاون في مشروع الطريق التنموي الطموح، (طريق التنمية)، وهي مبادرة تهدف باختصار إلى “إنشاء خط مواصلات “بري وحديدي” تُقدَّر قيمته بحوالي 20 مليار دولار يمتد على مسافة 1275كيلومتر من البصرة في جنوب العراق إلى تركيا. وتشارك في المشروع كل من قطر والإمارات العربية المتحدة، ووعدت الدولتان الخليجيتان كلا البلدين باستثمارات مالية لتطوير شبكات الطُرق والسكك الحديدية، ويحظى هذا المشروع بأهمية كبيرة بالنسبة لتركيا، نظراً لدوره المُحتمل في تعزيز الروابط التجارية مع منطقة الخليج ودول أخرى. سيكون للمشروع تأثير عالمي، وبهذه الطريقة سيحقق كل من العراق وتركيا وحتى الدول المجاورة مكاسب اقتصادية كبيرة”، فما كان يشغل بال أردوغان هو تحقيق هذين الهدفين. لا ننسى أنّه في المقابل هناك مطالب للجانب العراقي أيضاً، والقيادة التركية تدرك ذلك جداً، وأهم مطالب العراق تتلخّص في:

1 – حلّ قضية المياه، من خلال ضرورة إطلاق تركيا لمياه نهرَي دجلة والفرات، وهي في الأصل من حقه وحصته بحسب القوانين الدولية.

2 – إيجاد حل لقضيّة التواجد العسكري التركي في العراق، فالسياسة التركية تعتمد دائماً على عسكرة جيوسياسية نتيجة العقلية التوسعية التي تمتلكها، وهواجس التاريخ العثماني لا تفارقها وعقدة التملك والنفوذ مازالت عالقة في ذهنيتها.

وتتمحور الاستراتيجية التركية بهذا الخصوص في التوصل إلى إقامة منطقة أمنية في العراق وحتى في سوريا أيضاً، فالأولوية التركية تكمن في ضرب المكتسبات التي تحققت للكرد في كلا البلدين، حيث تربط انسحابها من العراق والمناطق المحتلة من سوريا بالقضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان وإنهاء تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا.

فتركيا تريد إنشاء ممرّ أمني على طول الحدود المشتركة مع العراق الذي يمتد من 30 إلى 40 كيلومتر. ويعد التنسيق والاتفاق مسألتين أساسيتين لدى الطرفين، ويشكل ذلك تحدياً للعلاقات بين تركيا والعراق، على السواء.

فتركيا تأمل في توقيع اتفاقية أمنية استراتيجية (الاتفاقيات الأمنية تحظى بأولوية تركية مطلقة)، كما فعلت إيران ذلك مع العراق في عام 2023، حيث قاما بتوقيع اتفاقية أمنية لضبط الحدود العراقية – الإيرانية المشتركة، والاتفاقية مكَّنت إيران لاستهداف القوى الإيرانية المعارضة المتواجدة في إقليم كردستان.

فتركيا تعمل لتحقيق نفس الهدف كمقدمة لمشروعها “الميثاق الملّي”، عبر إحياء العثمانية الجديدة كحلقة أخيرة لها في حقبة أردوغان على الأقل.

وفي العودة إلى السبب الرئيس لزيارة أردوغان والوفد المرافق له للعراق، نلاحظ أنَّ الملف الأمني هو الأساس في زيارة أردوغان للعراق، وهدفه القضاء على نشاطات ومعسكرات مقاتلِي حزب العمال الكردستاني. وبالرغم من انتهاك تركيا لسيادة الأراضي العراقية في الثمانينات من القرن المنصرم، إلّا أنَّ العراق بات “متفهماً” للمخاوف التركية. فقد صرَّح رئيس الوزراء العراقي السوداني أنَّه “لن يسمح بأن تكون الأراضي العراقية منطلقاً للاعتداء على تركيا”، ويدعم ذلك العمل المتّفق بينهم سابقاً في مناطق “شنكال” باتفاقية ضمنية، على أن تعمل تركيا في محاولة جادة لوضع إطار قانوني لعملياتها ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني، كتأطير للمخرجات والنتائج المترتبة على العملية العسكرية التي تستعد لها. بمعنى أنَّ الوجود التركي في شمال العراق ولمسافة 30 كيلومتر يخلق واقعاً عمليّاً على الأرض يتمثّل في وجود قواعد عسكرية تركية، خاصةً أنَّ هذه القواعد موجودة في الأساس، وتصل إلى ستين قاعدة، بحسب الإحصائيّات العسكرية المتداولة. وهذا العدد الكبير من المعسكرات يحتاج إلى قوانين منظّمة لوجودها عسكرياً أشبه، بالقوانين التي نظّمت وجود التحالف الدولي في العراق (مع اختلاف الأهداف والسياقات)، لكن تركيا تواجهها في ذلك مصاعب جمَّة، أولها وجود القوى السياسية الشيعية المنضوية ضمن الإطار التنسيقي الذي يعمل وفق مصالحها المشتركة مع إيران، وحتى إن حصل تقدم في هذا الشأن مستقبلاً، وإنْ ظاهرياً، وتمّ التسويق له إعلامياً، حتماً سيشكل ذلك تجاذباً سياسياً داخل أروقة البرلمان العراقي، بصورة قد تصل إلى مرحلة نزع الغطاء القانوني عنها، أو استخدامها في المساومات السياسية بين القوى السياسة العراقية نفسها في مرحلة لاحقة.

 

الأهداف الاقتصادية المشتركة للبلدين ولحكومة إقليم كردستان:

تعاني العواصم الثلاثة، أنقرة، بغداد وهولير من أزمة اقتصادية، وتتقاطع مصالحهم المشتركة في العمل سويةً. فتركيا تعمل على زيادة معدل التبادل التجاري مع بغداد إلى أرقام كبيرة (15 مليار دولار حالياً)، والعراق يستورد منتجات تركية كثيرة كالمنتجات الغذائية والمعادن والصناعات الكيماوية، إضافة إلى تجارة النفط التي شكَّلت عام 2023 مشكلة بين البلدين، حيث قامت أنقرة بوقف تصدير النفط العراقي عبر خط أنابيب العراق اعتباراً من 25 آذار 2023، رداً على قضية التحكيم التي تقدمت بها الحكومة العراقية ضدها عبر غرفة التجارة الدولية (تعرَّضت بمقتضاها أنقرة لغرامة مالية ضخمة نتيجة تصديرها نفط إقليم كردستان بالتعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، دون الرجوع للحكومة العراقية خلال فترة 2014 – 2018)، وكانت نتيجتها وقف تصدير النفط الذي أدى إلى خسارة كل الأطراف منها (نُفّذ هذا القرار في 25 آذار 2023).

فثلاث أرباع نفط إقليم كردستان، أي حوالي 450 ألف برميل يومياً، كان يتم تصديره عبر الأنبوب الخاص في تركيا والمملوكة لشركة الطاقة التركية. ولأنَّ تركيا لها مصلحة في إعادة ضخ النفط عبر أراضيها، فهي تدعم ضمنياً أي تفاهم بين حكومة بغداد وإقليم كردستان، خاصةً أنها تعاني من أزمة اقتصادية خانقة.

عبَّر عن الموقف العراقي المتحدث باسم الحكومة العراقية “العوادي”، بقوله: “إنَّ وزارة النفط العراقية تحتاج إلى وقت للتفاوض مع حكومة إقليم كردستان لاستئناف الصادرات النفطية”.

بالطبع إنَّ بغداد وهولير بحاجة إلى تفاهمات جدية لخدمة المصالح المشتركة بينهما على أن يكون للشعب العراقي نصيب في ذلك.

وفي تعليق للخبير الاقتصادي “فاروق القره داغي”، أشار فيه إلى: “أنَّ تركيا وإقليم كردستان هما الخاسران الرئيسان بسبب توقف صادرات النفط من الإقليم”. لذلك يُعتقَد أنَّ أردوغان قد ناقش هذا الملف بعمق لإعادة تشغيل خط الأنابيب المارة عبر تركيا.

وفي هذا الجانب تلتقي أنقرة مع بغداد (السوداني) في إضعاف حكومة هولير على المستوى الداخلي، وفي العلاقات الخارجية أيضاً وخاصة مع تركيا، لذلك يسعى العراق لحصر علاقة أنقرة ببغداد فقط.

حكومة هولير وحزب الديمقراطي الكردستاني PDK تحديداً يدركان ذلك، والأخير يحاول أن يخوض شراكة أمنية مكلفة نتيجة أزمته المستفحلة؛ بمساعدة تركيا في تعقّب مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبكل السبل. وهنا تكمن خطورة عودة الاقتتال الكردي – الكردي من جديد، خاصة أننا نعيش مخاض هذا القرن وفي ربعه الأول.

 

اتفاق الإطار الاستراتيجي بين حكومة جمهورية العراق والجمهورية التركية:

نشر المعهد الدولي للدراسات الإيرانية دراسة، تقول بأن “العراق وتركيا أبرما اتفاقية إطار عمل استراتيجي للتعاون المشترك خلال الزيارة التي قام بها الرئيس التركي للعراق في 22 نيسان عام 2024. وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنه يدل على الالتزام بتعزيز التعاون عبر قطاعات متعددة. وقد شملت الاتفاقيات توقيع 26 مذكرة تغطي مجالات متعددة، بما في ذلك الطاقة والتجارة والنقل والاستثمار والبنية التحتية والعلوم والتكنولوجيا والزراعة وإدارة الموارد المائية. ومن المقرر أن تُنفذ اتفاقية تقاسم المياه من نهري دجلة والفرات والمشاريع المشتركة، بما في ذلك تحديث أنظمة الري العراقية على مدى عشر سنوات. ويهدف هذا الاتفاق إلى ضمان الإدارة العادلة لموارد المياه ومعالجة المخاوف القائمة منذ فترة طويلة إزاء تأثير السدود التركية على مستويات المياه وتفاقم قضايا الجفاف في العراق”.

فالمذكرة كانت على الشكل التالي:

– مذكرة اتفاق إطاري للتعاون في مجال المياه بين الحكومتين.

– مذكرة تفاهم لتشكيل لجنة تجارية اقتصادية مشتركة بين وزارتَي التجارة العراقية والتركية.

– اتفاقية تشجيع وحماية وتبادل الاستثمارات بين الهيئة الوطنية للاستثمار العراقية، ووزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية.

– مذكرة تفاهم بين اتحاد الغرف التجارية العراقية، ومجلس العلاقات الاقتصادية – الخارجية التركي.

– مذكرة تفاهم للتعاون الفني والعلمي والاقتصادي في مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بين وزارتي الصناعة في البلدين.

– مذكرة تفاهم مشروع طريق التنمية بين وزارتي النقل في البلدين.

فالمميز في زيارة أردوغان هذه المرة، أنه طرح مشروع إنشاء طريق التنمية بمشاركة كل من قطر والإمارات والعراق إضافة إلى تركيا، وفق مبدأ ” الفوز – الفوز”، وليس اتخاذ الأمن فقط كأولوية تركيا، دون أخذ المصالح العراقية بعين الاعتبار.

هذا المشروع، وفق المعنيين، سيوفر فرص اقتصادية كبيرة، لأنه سيربط الشرق بدول أوروبا عن طريق تركيا، وبالتالي يوفر فرص اقتصادية للتجارة العالمية بين دول الشرق المنضوية في المشروع، وبين الدول الأوروبية التي ستفتح أسواقها لمنتجات الأول.

هذا يعني أنَّ المصلحة مشتركة والمنفعة كبيرة، لكن الأولوية في تطبيق الاتفاقيات التي أُبْرِمت تُشكل هاجس أردوغان تحديداً، لأنَّ ذلك مرتبط بمستقبله كرئيس لتركيا وسيحدد مصير حزبه الذي يحكم منذ 22 عاماً.

على الجانب الآخر للعراق أولوية وهي تأمين المياه، فإيقاف تدفّق مياه نهرَي دجلة والفرات من قبل تركيا؛ جعل العراق عرضة لتصحر كبير نتيجة للجفاف الذي يتعرض له النهر من الجانب العراقي، وهذا يشكل ضغطاً على أردوغان وحكومته، لأنَّ ذلك يفرض تنظيم اتفاقية بين تركيا والعراق وسوريا (مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية) وضرورة استخدام المياه وتوزيعها بصورة عادلة على الدول التي يمر بها النهر، عبر تفعيل “اتفاقية الإطار لنهر الفرات” التي وقًعتها هذه البلدان الثلاث عام 2014. وتركيا غير مستعدة للعمل بها الآن، كونها تعتبر وجود الإدارة الذاتية الديمقراطية “إدارة غير شرعية”، وتماطل كثيراً في تنفيذ وعودها بمعالجة مشاكل المياه، لأنَّ ذلك يعني إعطاء مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية أيضاً حصتها من المياه، نظراً لأن دجلة والفرات يمران من مناطقها إلى العراق، وهذا ما لا ترضى بها تركيا.

تصرّ أنقرة وتشدد على تركيب وبناء العلاقة وفق أسس أمنية، إلى جانب تمثيل سياسي وازن داخل بغداد، عبر إعادة هيكلة الحضور السنّي في المشهد السياسي العراقي ما بعد الانسحاب الأمريكي، في حال تحقق، وهذا يعتبر تدخل مباشر في الشأن العراقي، ولقاءات أردوغان في بغداد مع القوى السنية دون الشيعية كانت رسالة واضحة في هذا الاتجاه.

فالسؤال الذي يمكن طرحُه هنا؛ هل من الممكن أن تتمّ المقايضة بين اتفاقية أمنية (وبذلك تكون الأراضي العراقية مباحة أمام الجيش التركي لتأسيس وشرعنة قواعده وبالتالي احتلال العراق)، مقابل تزويد تركيا العراق بحصته من المياه وتجاوز العراق حالة التصحر التي تعيشها جراء قطع مياه نهري دجلة والفرات، وتنفيذ مشروع “طريق التنمية” وزيادة التبادل التجاري النفطي؟ تلك هي الأهداف الرئيسية من زيارة أردوغان.

كان الملفت للنظر أنَّه كان في جعبة تركيا فكرة أن يتم التوقيع على 27 اتفاقية وتفاهم، إلا أنَّ الاتفاق الأساسي لم يتم، وهو الاتفاق الأمني الخاص بمحاربة حزب العمال الكردستاني PKK ومحاولة إشراك الجيش العراقي والحشد الشعبي مع الجيش التركي في تلك الحرب.

لم يتم التوقيع على الاتفاق الأمني بين البلدين، فقد قال مستشار رئيس الوزراء العراقي “سبهان ملا جياد”: “إنَّ هناك اعترافاً على المسودة المقدمة في الملف الأمني، لكن بغداد وأنقرة اتفقا على تشكيل لجنة لمتابعة وبحث ملف أمن الحدود وتبادل المعلومات بين الطرفين”.

كانت تركيا تأمل من خلال التوقيع على الاتفاقيات الاقتصادية المتعددة، إلى تليين موقف بغداد لصالح التوقيع على الاتفاق الأمني، ومحاربة حزب العمال الكردستاني، لكنّه لم ينجح. والمخطّط التركي تراجع نتيجة الموقف العراقي الرافض للطرح التركي، وسوق الإعلام التركي أخباراً حول تزويد تركيا العراق بتقنية عسكرية لحماية الحدود بين البلدين، بعدما كانت تركيا تأمل بضم الحشد الشعبي والجيش العراقي لمحاربة مقاتلي حزب العمال الكردستاني.

 

دلالات زيارة أردوغان السياسية لإقليم كردستان:

كان لزيارة أردوغان واجتماعه مع قيادة إقليم كردستان في هولير، وظهوره إلى جانب علم وصور الزعماء الكرد، تطوراً هاماً، واعتبرت الزيارة ذا أهمية كبيرة لجهة مزاياها والمصالح المشتركة المتبادلة بينهما. فقد توقف ضخ النفط عبر خط الأنابيب بين العراق وتركيا منذ آذار عام 2023 بسبب خلافات قانونية. ونتيجة فشل حكومة إقليم كردستان والشركات النفطية الأجنبية في تقديم عقود منقَّحة، فإن هذا الإجراء ترك تداعيات مالية على العراق. ويرجح أن تعمل الأطراف المعنية بحل هذه الإشكالية، خاصة تركيا لوضع نفسها كمركز إقليمي للطاقة يربط الشرق الأوسط بأوروبا.

وبصدد زيارة أردوغان للإقليم؛ أصدر رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني بياناً رحّب فيه بالزيارة، وأشار إلى “أهمية تطوير وتوسيع العلاقات التي تربط العراق وإقليم كردستان مع تركيا، والتنسيق المشترك في المجالات المختلفة، وتوطيد أواصر العلاقات الاقتصادية”. واعتبر الكثيرون ممن يختلفون مع قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في أسلوب استقبال أردوغان والمرافقين له، من خلال تزيين قلعة هولير وشوارعها وضواحيها بالأعلام التركية، بمثابة إهانة للكرد واستخفافاً بدماء ضحايا الاستهدافات والهجمات التركية، بل شرعنة للوجود التركي في الإقليم.

بالطبع لم يُكشف للعلن عن فحوى اللقاءات التي أجراها أردوغان مع نيجيرفان ومسرور البرزاني، ماعدا بعض التصريحات الدبلوماسية التي أشارت إلى أنَّ تركيا حريصة على دعم إقليم كردستان، والتعاون معه وتوسيع العلاقات في كافة المجالات، وحلّ مشاكله وضمان حقوق المكونات. لكن حقيقة الأمر أنَّ قيادات إقليم كردستان تدرك أنَّ تواجد قوات حزب العمال الكردستاني يعتبر قوة لهم، وإنهاء تواجده سيشكل كارثة بالنسبة لهم، فاهتمام تركيا بهم عائد لتواجد حزب العمال الكردستاني هناك. وقد أصدرت منظومة المجتمع الكردستاني KCK بياناً دعت فيه بغداد لعدم الانجرار للسياسة التركية، وأعادت تذكيرها بالعمل المشترك الذي قاما به معاً ضد “داعش”، معتبرة أنَّ الانجرار للسياسات التركية لن تخدم الشعوب.

لا بدَّ لنا هنا من التوقف عند نقطة مهمّة، ونشير إلى تنافس هولير وبغداد لاستقطاب أنقرة، لنيل مكاسب أنانية. فالحزب الديمقراطي الكردستاني يسعى لتخطي توسيع بغداد لسلطات المركز في إقليم كردستان، عبر قرارات المحكمة الاتحادية، بالاعتماد على تركيا، واستيعاب المتطلبات التركية داخل الإقليم، ومهما علا سقفها، بالرغم أنَّها تستهدف طرفاً كردياً قويّاً لحزب العمال الكردستاني. وهنا تكمُن خطورة العقلية القبلية في جانبها السلبي لدى الكرد.

وفي هذا الجانب؛ تستغل تركيا الخلافات بين هولير وبغداد لتعزيز مكانتِها في العراق. والزيارات المتكرّرة للوفود التركية في الأشهر الماضية، كانت واضحة في هذا المنحى، واتخاذها طابعاً أمنياً (وهو المطلب التركي الأساسي وهاجسها الكبير).

هنا يجب أن يكون لحكومة إقليم كردستان والقوى السياسية والمجتمع المدني موقفاً واضحاً وصريحاً، لا لُبْس فيه، تجاه مقايضات أنقرة وبغداد على حساب مصالح الكرد وكردستان والمكتسبات التي تحقَّقت نتيجة نضال مئات السنين.

في المحصلة هناك عوائق ومشاكل متشابكة تواجهها تركيا في تحقيق أهدافها في العراق، ومعوقات عدم توقيع اتفاقيات بين البلدين خلال الفترة الماضية يعود إلى عدة عوامل، منها دور ومصالح كل من دولتي إيران وأمريكا، كونهما مؤثرتين على الحكومة العراقية.

الدور الإيراني في إفشال المخططات والأجندات التركية في العراق:

يحمل الموقف الإيراني أهمية كبيرة في عرقلة المشاريع التركية في العراق، خاصةً بعد زيارة أردوغان الأخيرة التطورات التي قد تتمخّض عنها. فإيران وغالبية الشيعة العراقيين يرفضون التواجد التركي في العراق، لأسباب تاريخية تتعلق بالأطماع التركية في ولاية موصل، إضافة إلى أنَّ تركيا عضوة في حلف الناتو وتمثل المصالح الأمريكية في المنطقة.

ويُعتبر العراق نقطة عبور للميليشيات الإيرانية إلى سوريا، ويتم عبرها دعم ميليشياتها عسكرياً وتقنياً في سوريا ولبنان.

ويشير المطلعون على خفايا نقاط الاتفاق الأمني المقدم من تركيا إلى العراق، إلى إمكانية وصول قوات بيشمركة حزب الديمقراطي الكردستاني PDK إلى المناطق التي يسيطر عليها مقاتلو حزب العمال الكردستاني حتى الحدود السورية والإيرانية (وهذا يشكل خطراً على إيران وسوريا أيضاً ولن تقبل به الميليشيات الشيعية، لأنها منتشرة في تلك المنطقة، لذلك موقف هذين البلدين يحمل أهمية كبيرة). وعلى هذا الأساس فيجب ألّا يغيب عن بالنا أنَّ توجه وتحرك أيّ دولة نحو العراق يعني إيران بشكل مباشر، ولا يمكن لبغداد أن تدخل في عملية مشتركة مع تركيا (بالرغم من أنّها مستبعدة) دون موافقتها، ولا يبدو أن إيران في وارد الموافقة عليها، طالما أنَّ ذلك سيكون على حساب نفوذها ودورها وسياستها في العراق، خاصةً أنَّ الأمر بالنسبة لتركيا يتجاوز مناطق الدفاع المشروع (أماكن تواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني) إلى شنكال ومخمور وجلولاء والسعدية، والتي لقوات الحشد الشعبي القريبة من إيران قوات ونفوذ كبير فيها، وتعد صلة وصل جغرافية تصل طهران بالأراضي السورية.

لن تسمح إيران بتحقيق هذين الهدفين التركيين، وهي حتماً ستضع خطوطاً حمراء أمام العراق لعدم التوافق مع تركيا والتناغم مع أهدافها، وهذه النتيجة مهمّة بالنسبة لمدى تقييم نجاح زيارة أردوغان من فشلها، وهذا ما حصل بالفعل. فمعادلة المياه مقابلة العسكرة تبدو غير ممكنة في هذه المرحلة، على الأقل من خلال المعطيات الموجودة في المنطقة.

هناك تناقضات يجب رؤيتها لصالح عدم توصل الطرفين إلى توقيع الاتفاقية الأمنية مستقبلاً، وهو عمل حزب الاتحاد الديمقراطي YNK بين إيران والعراق، وهو يحد من توصل بغداد وأنقرة والحزب الديمقراطي الكردستاني PDK للتوقيع على هذه الاتفاقية، كون العلاقات بين تركيا وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني YNK تعد في أسوأ مراحلها، وسيرفض الأخير دخول الجيش العراقي والحشد الشعبي والجيش التركي لمحاربة مقاتلي PKK على أراضيها.

وموقف أحزاب الإطار التنسيقي كان واضحاً من الاتفاق التركي العراقي، عندما أشار القيادي في تحالف الفتح “علي الفتلاوي” لشبكة أخبار العراق في تصريح له بأن “الكرد والترك يريدون أن ينضم الحشد الشعبي إلى حرب لا مصلحة لنا فيها، أرواح أولادنا عزيزة علينا ولن نقبل أن نخوض حرباً بدلاً عنهم”.

فقد كانت تركيا تطمح من خلال محادثتها في العراق، خاصة في جانبها الأمني، بأن تُعطى صلاحيات وسلطات واسعة للتحرك ضد حزب العمال الكردستاني في المناطق التي يتواجد فيها الحزب، وهذا ما تدركه الكثير من الفصائل الشيعية، فالحشد يرفض مشاركة البيشمركه في مراقبة الحدود العراقية – السورية، فبالتأكيد لن تُشارك تركيا في هذا الإطار أو الطلب ضمن المعطيات الموجودة.

في المحصلة لم تنل تركيا ما تريده من العراق بإجراءات وخطوات فعلية وعملية، كون مسألة محاربة حزب العمال الكردستاني مسألة اختلاف بينه وبين القوى العراقية والكردستانية، حيث تدعي تركيا أن هناك بعض مواقع لمقاتلي حزب العمال الكردستاني على مشارف “طريق التنمية” المزمع إنشاؤه، وترى تركيا أنَّ عليها القضاء والتخلص منهم، إلّا أنَّ العراق وإيران والحشد لن يقبلوا هذه الحجة لأسباب عديدة منها؛ معرفتهم أنَّ قوات هذا الحزب قد شاركتهم في محاربة “داعش”، ولا تشكل خطراً على أمن واستقرار العراق، ولن يفتحوا جبهة قتال معها، لقناعتهم أنّ أيّ قتال مع PKK يخدم تركيا وحلف الناتو وأجنداته في العراق والمنطقة، بالرغم أنّه – أثناء زيارة أردوغان للعراق – اعتبرت بغداد أنَّ حزب العمال الكردستاني PKK يعدّ من “الأحزاب المحظورة” في العراق، ورغم أن أردوغان كان يأمل أن تبقي بغداد هذا الحزب في هذا التصنيف، ويستثمر ذلك لأهدافه.

إذاً فالموقف الإيراني من التطورات الجارية وفي شكل العلاقات التركية – العراقية، هو أنَّ إيران لن تقبل أن تلعب تركيا دوراً موازياً لها في العراق، بالرغم من بعض التفاهمات والاتفاقات فيما بينهما، خاصةً فيما يتعلق بالقضية الكردية، وهي مدركة لما تقوم تركيا به من محاولة للعب على الوتر الطائفي والقومي السني – التركماني، وهذا يعدّ خطراً تدركه إيران والشيعة جيداً ولا حاجة لهم بهذا الشيء.

ولا تشعر إيران بالراحة من مشروع “طريق التنمية”؛ لأنه سيزيد نفوذ الإمارات وخطر السعودية عليها في العراق.

فإيران تتابع وتشعر بالقلق من الأهمية التي توليها تركيا للقوى السنية في العراق، وهو أمر مرفوض من قبل الإطار التنسيقي أيضاً، إضافةً إلى رفضها دور ونفوذ دولة مرتبطة بالناتو على حدودها، خاصةً أنَّ حكومة السوداني أرادت من خلال استمالة تركيا أن تُرضي أمريكا، كسياسة براغماتية، ولخلق حالة توازن توازي مكانة إيران في العراق. هذه السياسة بالرغم من أنها براغماتية، إلا أنها محفوفة بالمخاطر على حكومة بغداد، وتركيا ورئيسها أردوغان أراد أن يستغل الأجواء الإيجابية التي ظهرت لديهم بفعل التقارب مع واشنطن، لكن فرص نجاح هذه البراغماتية قليلة، كون الدولة العراقية لم تتخلص من مشاكلها الداخلية بأشكالها المتعددة، ولم تصل إلى عافيتها من تبعات الحروب التي خاضتها في الأربعين سنة الأخيرة، والحكومات الضعيفة لم تستطع أن تعبّر عن الجمهورية المستقلة القادرة على ضبط تفاصيل السياسة داخل وخارج العراق.

صحيح أنَّ حجة تركيا هي محاربة حزب العمال الكردستاني PKK، لكن الحقيقة هي السيطرة والهيمنة على العراق.

لن تسمح أمريكا أيضاً لتركيا بأن تنفرد بالسير في تحقيق مبتغاها بشكل منفرد دونها وبهذه السهولة، وهي التي تعمل على مشروع “الشرق الأوسط الجديد – الكبير” في المنطقة.

الموقف الأمريكي في هذا الشأن يحمِل في طيّاته أهمية كبيرة، فهي لن تسمح بحلول تركيا مكانها في إقليم شمال وشرق سوريا بهذه السهولة وفق ذهنيّة العسكرتارية التركية، ومازال خطر “داعش” موجوداً وقوات سوريا الديمقراطية هي التي تحارب هذا الإرهاب. وعبَّرت أمريكا عن رفضها لأي حرب أو توتر داخل العراق، وتسعى لاستقرار العراق، وعبرت عن هذا الموقف عندما التقى مسؤولوها مع السوداني في البيت الأبيض.

السؤال الذي يطرح نفسه؛ أين موقع الكرد بين التفكير التركي والمصلحة العراقية؟

تركيا وضعت العراق في صلب اهتماماتها بعد أن مهدت لها من خلال وسائل الإعلام والزيارات إلى بغداد، ترافق ذلك بنشر أخبار حول إمكانية الانسحاب الأمريكي من إقليم شمال وشرق سوريا والعراق، واتبعت سياسة توسيع مساحة التبادل التجاري والمشروعات الاقتصادية المبنية على البعد الأمني، وقوننة حالة الأمر المواقع العسكرية في إقليم كردستان العراق (أي شرعنة القواعد العسكرية التركية في العراق).

فالفوضى والتخبّط اللذان تعيشهما تركيا وتوجههما نحو العراق، كان سببه الفشل في القضاء على حزب العمال الكردستاني، ومعرفته مدى تأثير قائد هذا الحزب ورؤيته السياسية في الوقوف أمام مشروعها في المنطقة، إضافة إلى فشل أردوغان وحزبه الفوز بالبلديات الكبرى في تركيا في الانتخابات التي جرت في 31 آذار المنصرم، ما يشير إلى تراجع قوته وشعبيته.

بالتأكيد إنَّ لجوء تركيا إلى العراق جاء بغرض استخدامها كحبل نجاة لها في خضمّ حالة التضخم والانهيار الكبيرَين في العملة المحلية مقابل الدولار، حيث أنّ الحالة الاقتصادية في تركيا قد وصلت إلى مرحلة مزرية، وباتت تخنق هذه الحكومة المشكلة من ثنائية الإسلام السياسي والفكر القوموي الفاشي، وخطاب هاتين الذهنيتين المتحالفتين معاً منذ عدة سنوات، وعقدتهم هي إلحاق الهزيمة بحركة حرية كردستان، حتى أنهما تنازلان عن الكثير من مطالبهم للدول الأخرى في سبيل مساعدتهما في القضاء على هذه الحركة، وهذا يشير إلى مدى الفوبيا التي تعيشها هذه الحكومة والشرخ الكبير بينها وبين المجتمع الذي تحكمه بقبضة من حديد وتكتم أنفاس مواطنيها.

ظهرت مواقف رافضة ومناهضة للعملية (المرتقبة) التركية ضد العمال الكردستاني من الساسة والقوى العراقية، خاصة من الإطار التنسيقي الذي تأسس عام 2012 من مجموعة أحزاب وقوى شيعية، فهي تدرك مدى خطورة تواجد دولة تركيا على أراضي العراق، ومحاولاتها جمع كل الأطر السنية تحت قيادتها، وتجلى ذلك في اجتماع أردوغان ووفده مع الشخصيات والقوى السنية دون الشيعية في بغداد أثناء الزيارة الأخيرة لأردوغان للعراق.

وهناك مصلحة عراقية أيضاً من استمالة تركيا، عبر التأكيد على مشروع طريق التنمية لربط ميناء الفاو الكبير بتركيا وصولاً إلى أوروبا. ويأمل العراق جعل المشروع أحد المغريات لحل مشكلات المياه واستعادة حصتها المائية، إلى جانب تصدير سلس للنفط عبر ميناء جيهان، وإيجاد حل للمشكلات الأمنية والحدودية وخرق الأتراك سيادةَ العراق بشكل فاضح منذ مدة طويلة نتيجة ضعف الحكومات العراقية المتعاقبة.

فقد ركزت تركيا في سياستها على أولوية الشراكة الأمنية مع دول الجوار، واستفادت من نجاح بغداد في تحييد هولير نفطياً، عبر قرارات المحكمة الاتّحادية العليا العراقية، وكذلك كسبها دعوى للتحكيم رفعتها أمام هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس ضد أنقرة في حزيران عام 2023 بشأن تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، وخضوع أنقرة لقرار التحكيم دون إبداء أي اعتراض. كما أثار أردوغان خيبة أمل هولير التي كانت تعتمد على إمكانية رفض تركيا نتائج عملية التحكيم، إذ طالما شكّل تصدير نفط إقليم كردستان عبر تركيا المادة الجاذبة لعلاقة مستقرة بين أنقرة وأربيل، ومن شأنها سحب ورقة تصدير النفط من يد الأخيرة، تراجع مكانة إقليم كردستان بالنسبة لتركيا.

ولتتمكن تركيا من تجاوز أزماتها، يلجأ أردوغان وحزبه وحكومته بين الفينة والأخرى لاتباع السياسية الكلاسيكية التي أثبتت الأيام فشلها، بتهديد مناطق إقليم شمال وشرق سوريا، من خلال استهداف بناها التحتية وقواتها العسكرية، وكذلك استهداف إقليم كردستان ومناطق الدفاع المشروع، رغم الهزائم الجسام لقواتها في جبال قنديل والسلاح المطور الذي امتلكته قوات حزب العمال الكردستاني، كما أعلن عنه مركز الدفاع الشعبي في نوروز 2024.

وتلجأ تركيا لإعادة إحياء وإنعاش تنظيم “داعش” وربيباتها، كونها تستفيد منها بشدة، ويجب الانتباه إلى ما تهدف إليها تركيا بشخص أردوغان وحزبه في هذا الشأن.

مقابل هذه المصالح والمعطيات والأوضاع الحالية التي تشهدها المنطقة، فإن الوضع الكردي الراهن بحاجة ماسة لرؤية كردية مشتركة تتجاوز الخلافات البينية والحزبية الضيقة. فعلى الكرد أن يتحولوا إلى لاعبين أساسيين في معادلات وسياسات المنطقة، للأهمية الجيوسياسية والثقافية والاستراتيجية لهم.

لكن السؤال المطروح، هل لتركيا وأردوغان بعد هزيمته في الانتخابات التركية، وضعفه السياسي على المستويات الداخلية والخارجية، تعطيه القوة الكافية لتنفيذ ما اتفق عليه مع العراق ودول الجوار، خاصةً بعد أن استنفذ أردوغان خطاباته الشعبوية وسياسته الميكيافيلية، ولم تنفعه موافقته على انضمام السويد، ومحاولاته لإعادة العلاقات مع مصر بشيء. فالذهنية التي رسخها أردوغان بتحالفه مع حزب الحركة القومية التركية MHP في تركيا، تدعو المرء للدهشة، فمن تداعيات ذلك بحسب تقرير صحيفة “جمهورييت” التركية “يوجد اليوم سلاح في كل بيت من بيتين في تركيا، وهناك على الأقل 20 مليون قطعة سلاح فردي، 85% منها غير مرخص، أي أن كل أربعة أشخاص لديهم قطعة سلاح”.

فالأوضاع في الداخل التركي باتت خطيرةً، حيث يشغل بال الاتراك حالياً قضايا كثيرة كالتدخلات التركية في دول الجوار، وعدم حل القضية الكردية، والحكم التوتاليتاري الشمولي القابض على كل مفاصل الحياة في تركيا، وإقصاء أي نواة لتحول ديمقراطي في تركيا، وغيرها من قضايا تخص المنطقة والعالم.

العوامل التي ساهمت في أضعاف أردوغان وحزبه:

1 – تصعيد نشاطات وعمليات “حركة الشعوب المتحدة” في المدن التركية باتت تقلق السلطات التركية والعاملين معهم من موظفين ورجال بوليس والمرتهنين عليهم، وكذلك تنفيذ قوات الدفاع الشعبي الكردستاني HPG عمليات نوعية في السنتين الأخيرتين، تخطت كل التدابير الأمنية في المدن التركية، مثلما جرى في عمليتي “مرسين وأنقرة” الأخيرتين، كرسائل واضحة المعالم لمستوى النضال الذي وصل إليه مقاتلو هذه الحركة، إضافة إلى المقاومة التي يبديها مقاتلي حركة حرية كردستان في أماكن تواجدهم في جبال وسهول كردستان ومناطق الدفاع المشروع، وفشل تركيا في القضاء على هذا الحراك الثوري.

2 – فشل الرهان التركي على تنظيم “داعش” الإرهابي، وهذا ما سوف يكون له تداعيات في الداخل التركي، أهمه بروز “حزب الرفاه الجديد” بقيادة نجل ورئيس الوزراء التركي الأسبق “نجم الدين أربكان”، ونيله أصوات الكثير من أصوات المحافظين في حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية التي جرت مؤخراً في تركيا.

3 – النجاح الساحق لحزب الشعب الجمهوري CHP في الانتخابات المحلية الأخيرة، مما شكل مؤشراً واضحاً على وعي وقناعة الناخب التركي ببرنامجه، أو على الأقل شكل ذلك رداً ورفضاً صريحاً لسياسة حزب العدالة والتنمية AKP الذي أتى بـ”رخاء مؤقت”، تحول لاحقاً لمشاكل وقضايا مستفحلة على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، ولن تحل إلا بخطوات وتغيرات سياسية اقتصادية جذرية في المستقبل.

4 – فشل الرهان على أسلوب إقصاء الكل لصالح الشخص الأوحد، من خلال فتح الجبهات مع الداعية الإسلامي “فتح الله غولان”، وشن الحرب في كل الساحات ضد المؤسسات والقوى السياسية والديمقراطية والنسوية، وزج عشرات الألوف في السجون والسيطرة على القضاء، والتوجه الكامل نحو الحكم المطلق، من خلال التحول إلى النظام الرئاسي، كل ذلك كان لصالح سياسة أردوغان ونرجسيته، وظهر ذلك جلياً بعد الفضائح التي ظهرت بعد الزلزال الذي ضرب تركيا، والبناء الهش للمقاولين والتجار الذين كانوا يدعمون أردوغان وسياساته.

باتت الأمور واضحة، وأنه لم يعد ينطلي على الشعب التركي بعد الآن تهميشه، فكان لا بد من موقف شعبي قوي وكانت نتائج الانتخابات التركية بداية النهاية لسياسة أردوغان في شقيها “الدونكيشوتي” و”الشعبوي”.

الخاتمة:

أخيراً يمكننا القول: إنّ هناك خياران أمام أردوغان للتعامل مع هذه الظروف والأوضاع؛ إما التوجه في التعامل مع الداخل والخارج بشراسة غير معهودة، وشن هجمات لا حدود لها ضد الكرد وحركتهم السياسية وقوات حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان وتركيا، إضافة إلى شن هجوم هستيري تجاه إقليم شمال وشرق سوريا، والتضييق على النشطاء وكل شيء يمس الديمقراطية، وهذا سيعني أنه يكتب نهايته بيده، لأنَّ ذلك سيحدث خللاً في التوازنات الاقليمية والدولية وسيُجابه بشدة.

وإما التوجه لانتخابات مبكرة، ستكون نتائجها مشابه للانتخابات المحلية، وسيكون للكُرد دور رئيسي وأساسي فيها. وهذا يعني أنَّ تركيا وصلت لمرحلة صعبة جداً في سياستها وتعاني اختناقاً كبيراً وانسداداً في توجهاتها.

فالدونكشوتية لن تجدي نفعاً لأردوغان وسياسته، وظهر ذلك جلياً في مشروع الإسلام السياسي في المنطقة، والمؤشر الأقوى كان في هزيمته في الانتخابات المحلية، والتودد للعراق والحزب الديمقراطي الكردستاني PDK واستقطاب أنصار حزب الجيد Iyi Parti في تركيا، لتجميع ما تبقى من قواه قبل انتهاء حقبته في الانتخابات القادمة المقررة في عام 2028.

فأردوغان المعروف بحنكته وميكيافيليته، أمامه طريق واحد للخلاص من الضغوط التي يعانيها؛ وهي فك الارتباط مع MHP والتواصل مع ممثلي الكرد والحركات الديمقراطية في تركيا.

وكذلك طرق باب جزيرة “إيمرالي”، ليشكل بذلك نواة ومفتاح تحوّل تركيا إلى بلد ديمقراطي، والأمل بتحقيق ذلك موجود، خاصة بعد مقاومة الأهالي في مدينة “وان” واسترجاع بلديتهم التي سحبهما أردوغان منهم، وعلى ضوء هذا المعطى؛ يبدو أنّ مرحلة إطلاق عملية السلام باتت قريبة.

لكن قبل ذلك يبدو أنّ أردوغان سيفرغ ما في جعبته، وسيهاجم مناطق إقليم شمال وشرق سوريا وإقليم كردستان ومناطق الدفاع المشروع تحديداً، ولفترات محدودة (للحفاظ على ماء الوجه)، لأنه بات مُسلَّماً به أنه لن تحل القضية الكردية وقضايا الديمقراطية في تركيا والمنطقة إلا بالسبل السلمية والسياسية.

نهاية “رجل الاستبداد الشرقي” باتت قاب قوسين أو أدنى في إعلان رسوبه في امتحانه المستمر منذ 22 سنة، وقد تكون قبل حلول عام 2028.

مراجع البحث:

– أردوغان في العراق مسار جديد للتعاون الاستراتيجي – مركز الأهرام – صافيناز محمد أحمد.

– الانتخابات التركية – موقع الجزيرة نت.

– التوتر بين روسيا وتركيا – مجلة الديمقراطية – كرم سعيد مؤسسة الأهرام.

– العراق وتركيا – صحيفة الخليج – كمال أوزتورك.

– الموسوعة العالمية ويكيبيديا.

– تقلبات المشهد التركي السياسي في تركيا – محمد نور الدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى