افتتاحية العددعواس عليمانشيتملف العدد 65

الثورة السورية بين الواقع والمأمول

عواس علي

عواس علي

عواس علي
عواس علي

ربما تُعتبر الثورات لب التاريخ بالرغم من اختلاف الفلاسفة حول ايجاد تعريف مشترك لها، فقد قال عنها الفيلسوف كارل ماركس: ” الثورات قاطرات التاريخ، وعرفها معجم أوكسفورد بأنها ” الإطاحة بنظام سياسي أو اجتماعي قائم لصالح نظام جديد”

وعرفها المفكر مالك بن نبي بتعريف مختصر: “عملية تغيير جذري يتسم بالسرعة منسجما مع التنسيق الثوري لتغيير الإنسان ” فحسب تعريف مالك نبي الثورة لا معنى لها فيما لو لم تُغير الإنسان مِن حيث افكاره، فتُعتبر الثورة بشكلها العام حالة انقلاب جذري على نظام ما، يشهد حالة من حالات الاستقرار، وغالباً ما يحافظ ذلك النظام على استقراره بالقوة.

وقد تتعدّد أنواع الثورات من حيث الأهداف؛ فهناك ثورات التحرر الوطني، والثورات الشعبية؛ ثورات التحرر الوطني ضد الاستعمار بنوعيه الحديث والقديم، وربما هذا النوع من الثورات بات محصوراً في القارة الإفريقية، أما الثورات الشعبية فهي الثورات التي تقوم داخل الدولة في مواجهة نظام حكم وطني، وتتنوع هذه الثورات، فهناك ثورة سياسية وثورة اجتماعية وعلمية و ثقافية،  وقد نوه الفيلسوف الاغريقي أرسطو إلى نوعين من الثورات الشعبية؛ الأولى ثورة ضد الدستور وتغييره بشكل جذري، والثاني ثورة تهدف لتعديل الدستور بشكل جزئي، وكل ثورة تمر بمراحل عديدة، مرحلة البناء أو التأسيس، ومرحلة النهوض، ومرحلة النصر والعمل على تحقيق الأهداف, وكل مرحلة تنقسم في حد ذاتها إلى جزئيات، فرحلة البناء تبدأ من الدعاية الجماهيرية واستقطاب النخبة، ثم وضع البرنامج العام للثورة والذي يحتوي على مبادئ وأسس الثورة وأهدافها العامة والخاصة، وتأسيس القاعدة الجماهيرية المؤيدة للثورة، وربما أصعب مرحلة تمر بها الثورة هو قدرتها في الحفاظ على تحقيق أهدافها والعمل وفق برنامجها الخطط المعدة للنهوض وطرق تحقيق النصر، من المعروف أنّ كلّ ثورة تقوم في مواجهة وضع ما مستقر “نظام” يمتلك كافة الوسائل التي تمكنه من مواجهة أيّ تغيير يزعزع استقراره ومسيرته، فتبدأ المواجهة بين الثورة وعناصر الواقع المراد تغييره وذلك في مرحلة النهوض، فكل طرف من الطرفين يعد العدة للمواجهة المرتقبة.

عادة تتمّ مرحلة البناء للثورة من قبل طلائع الثورة، وغالباً ما تكون أحزاب ثورية تعمل في الخفاء تُهيئ الحاضنة الشعبية لتلك الثورة من حيث تحديد دوافع الثورة وموجبات قيامها والاهداف المراد تحقيقها واختيار الوسائل التي تساعد على تحقيق تلك الاهداف عبر برنامج متكامل وشامل يدعى برنامج الثورة.

مرحلة النهوض تتكشف أهداف الثورة لعموم الشعب وقد تجد بعض الفئات أو المجموعات السياسية المعارضة التي تستغل نهوض الثورة وتنخرط في صفوفها محاوِلةً تغيير مسارها وفق برنامج يعنيها هي بذاتها, و يدعى ذلك؛ (ركوب موجة الثورة) فتحاول تلك الفئات أو المجموعات أن تقود الثورة وفق مصالحها، وتلك المرحلة تبدو أصعب مرحلة باتجاه مرحلة النصر.

في حال نجاة الثورة من تلك المرحلة والوصول إلى مرحلة النصر وتحقيق الأهداف فمن المحتم أنّها ستواجه صعوبة التحول من الحالة الثورية إلى الحالة التنظيمية فحالة الإدارة المدنية، وحالة التحول من المرحلة الثورية إلى الحالة التنظيمية التي تتولى فيها الأحزاب قيادة تحقيق الأهداف العامة للثورة، ثم تأتي مرحلة التحول للإدارات المدنية ” المؤسساتية” وفي هذه المرحلة تتمّ المواجهة بين القوات العسكرية التي ترى بأنها الأولى في إدارة الدولة فهي مُحققة النصر ومُقدمة التضحيات، والإدارات المدنية.

ومن ضمن الثورات الشعبية المندلعة هي الثورة السورية، والتي أطلق عليها من قبل بعض الساسة اسمَ الحراك السوري في مواجهة نظام الحكم في سورية الموصوف بالشمولية والدكتاتورية الأمنية والطائفية.

وقد يتوقف مدى نجاح الثورة من فشلها بقدرتها على تحقيق أهدافها عبر المنهجية المرسومة للوصول إلى تلك الأهداف المنشودة.

وسنبدأ هذا البحث المختزل من خلال الجواب على أسئلة عديدة أثارها الحراك السوري.

ـ ما حقيقة الثورة السورية التي أثارت مشاكل عديدة امتدت آثارها للمجتمع الدولي من حيث التفرعات التي نتجت عنها عبر مسيرتها الطويلة مقارنة بالثورات الأخرى، حتى أنّها تحولت إلى مشكلة دولية؟

ـ ما هو الواقع السياسي والاجتماعي الذي اندلعت منه الثورة السورية؟

ـ هل الثورة السورية كانت ثورة شعبية أم صراعاً على السلطة ذا منهج طائفيٍّ؟

ـ ما حقيقة التيارات التي تمخّضت عن الثورة السورية في بداية حراكها ومن وراء تلك التيارات؟

ـ ما هو دور الإعلام في توجيه الثورة السورية وتحفيزها وتقويضها؟

ـ هل كانت الثورة السورية عبارة عن مؤامرة ضد الشعب السوري كما عرفها النظام؟

ـ هل كانت البُنية الوطنية للشعب السوري عبارة عن بنية هشة ومكونات متشرذمة، متماسكة بحكم السلطة والقبضة الأمنية؟

ـ لماذا انحرفت الثورة السورية عن مسارها الصحيح وهل كان هناك مساراً صحيحاً لتلك الثورة؟

ـ لماذا باتت الثورة السورية عصيّة على الحل، وهل يمتلك الشعب السوري مفاتيح الحل بعد أن تحولت ثورته إلى مشكلة إقليمية ودولية لاعبيها الأساسيين دول خارجية، والشعب السوري بات جالساً على مقاعد المتفرجين على الصراع والبعض منهم لاعب احتياطي خائر القوة.

ـ لماذا تحولت الجغرافية السورية إلى ساحة حرب لدول خارجية تصفّي حساباتها على حساب الشعب السوري؟

ـ ماذا حققت الثورة السورية بعد مضي ما يقارب ثلاثة عشر عاماً؟ وما الحلول التي تلوح في الأفق؟

إنّ الهدف من هذا البحث هو:

  • تقديم حقيقة واقعية وموضوعية عايشها الباحث في الثورة السورية للباحثين والمحللين السياسيين والكشف عن بعض الخفايا الإعلامية المحورة لتحقيق أهداف ومصالح خارجية.
  • تقديم تجربة واقعية للباحثين في الثورة السورية.
  • التعرفُ على اسباب انحراف الثورة السورية عن مسارها وأهدافها الحقيقية عبر وقائع واكبها الباحث.

الحقيقة صدرت دراسات عديدة حول الثورة السورية أكثرها كانت دراسات من قبل باحثين لم يعايشوا الثورة عن قرب في واقعها وأحداثها؛ بعضها كانت دراسات إقليمية والبعض دراسات دولية لم تواكب أحداث الثورة بشكل واقعي، والقليل منها كانت دراسات لوقائع جزئية، خلال فترة زمنية محدودة, كدراسة الكاتب وليد الفارس تحت عنوان: “حمص الحصار العظيم” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من خلالها تم توثيق سبعمئة يوم من الحصار الذي فرضه النظام على مدينة حمص تطرّق من خلال دراسته لتركيبة السُكانية المحلية لمدينة حمص، وكيف تحولت الثورة من ثورة سلمية إلى ثورة العسكر، ووثّق بعض المجازر التي ارتكبت من قبل قوات النظام وميليشياته كمجزرة الحولة, والحقيقة أن هذا البحث يقتصر على مساحة محدودة من سورية و لم يتطرق لكامل المساحة السورية التي عمّتها الثورة، وكذلك مُذكرات الكاتب خطيب بدلة تحت عنوان: “تجرُبتي في الثورة السورية، كفريا والفوعة وريف إدلب” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يتحدّث خطيب بدلة عن تجربته الشخصية في بقعة جغرافية محددة تقطنها مجموعة من المواطنين السورين المُنتمين للمذهب الشيعي والحقيقة جاءت الدراسة محدودة من حيث الزمان والمكان ولم تشمل كامل المساحة السورية، ولم ترصد أحداث تاريخ الثورة المديد، ومن الكُتب المهمة؛ كتاب ” الطائفية في الحرب الاهلية السورية ” “civil sectarianism in the Syrian civil war ” للكاتب الهولندي “فابريس بلانش” تطرق من خلاله إلى الكشف عن وجه مخفي من قبل جميع الأطراف في الثورة السورية وهي الحقيقة التي تجلّت من خلال استيلاء القوة العسكرية على الثورة، وأخذتها باتجاه منحى صراع من أجل السلطة، وهو صراع سني علوي، تطرق الكاتب لجانب مهم من جوانب حقيقة انحراف الثورة من بدايتها ولم يتطرق إلى الأسباب ومَن وراء إثارة الصراع الطائفي وأسبابه.

الواقع:

اندلع الحراك السوري بشكل عفوي في المنتصف من شهر آذار عام 2011 على إثر اعتقال مجموعة من الشبان لم يعرف النظام التعامل مع هذه الأحداث البسيطة، ربما كان التعامل السيء مقصوداً من قبل أحد الجهات الأمنية التابعة للنظام،  وتوسّعت الاحتجاجات مقلّدة الثورات في مجموعة دول ما يدعى بالربيع العربي، ولا شك فيه أنّ جميع الظروف الموضوعية الداخلية كانت مساعدة لاندلاع الثورة من خلال الواقع الاقتصادي الهشّ، وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة والقطاع العام، حتى أنّ مؤسسة الاتصالات في نهاية السنة كانت ميزانيتها خاسرة، وكذلك مؤسسة مياه نبع عين الفيجة خاسرة، والحقيقة أنّ اختلاس المال العام أضحى في أوجه، ويُضاف لذلك التذمّر واليأس من الواقع الذي أصاب الشعب السوري من جراء الإصلاحات الموعودة، والقبضة الأمنية التي باتت تخنق كل مَن يتذمّر من الوضع الداخلي، وتحول الحكم في سورية من جمهوري رئاسي إلى حكم شبه وراثي، وتأجيج الصراع الطائفي ما بين العلوية والسنة بشكل مخفي على إثر الاغتيالات التي طالت بعض القادة من الحرس القديم.

يُضاف للظروف الداخلية الظروف الخارجية المساعدة لاستنهاض الحراك في سورية، و في مقدمتها حثّ البعض من الإسلامين في سورية، وتقديم المساعدة لهم للقتال ضدّ الأمريكان في العراق، وحفاظ سورية على علاقتها مع روسيا كدولة وحيدة في الشرق الاوسط كندٍّ للولايات المتحدة الامريكية وحُلفائها في المنطقة، ومنح روسيا حق استثمار آبار الغاز في مواجهة قطر التي ترى نفسها الأولى في حق الاستثمار.

مفهوم الثورة:

تُعرّف الثورة على أنّها نوع من أنواع التغيير الذي يطال وضعاً مستقراً، وتكاد تكون المحرك الأساسي للتاريخ حتى أنّ بعض العلماء قال عنها هي التاريخ بحد ذاته، وربما هي محور التطور عبر تاريخ البشرية، وجنح بعض العلماء إلى تعريف الثورة بأنها انقلاب جذري في مجتمع ما أو دولة ما، ولكن الحقيقة ربّما تُطال الثورة جزءاً محدوداً من ذلك المجتمع، وليس كلّ ما فيه من بُنى تحتية وفوقية، كالثورة المصرية التي أحدث تغييراً في نظام السلطة على مستوى شخصي فقط، ولم تطلْ بقية الأنظمة في الدولة، كالنظام الاقتصادي أو النظام السياسي، ولا شك فيه أنّ كلّ ثورة لا بدّ أن تُواجَه بالعنف من قبل النظام أو القانون المستقر على وتيرة محددة، وتدعى بالثورة المضادة[1]، وإنْ تمعّنا في أسس الثورة السورية لوجدنا أنّها كانت  في بنيانها الأساسي، تهدف إلى تغيير جزئي[2]، كتغيير بعض مواد الدستور ورفع الأحكام العرفية وكفّ القبضة الأمنية.

يختلف مفهوم الثورة حسب أنواع الثورات؛ فثورات التحرر ذات مفهوم عسكري بالدرجة الاولى، تهدف في مفهومها إلى تحرير شعب وبناء دولة أو تحرير دولة ما من استعمار دولة أخرى مستعمرة لها، لكن في الثورات السياسية تعني في مفهومها تغيير النظام السياسي، وحقيقة الأمر فإنّ الثورة بمفهومها العام هي تغيير جذري لوضع مستقر، وربما ما هو المهم فيها هو تغيير عقلية المجتمع أو ذهنه، فالبعض اعتبر الأصل في الثورة السياسية، هو تغيير نمط التفكير لدى المجتمع، وبُرهنَ على ذلك في انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شيدَ على أساس الثورة الشيوعية عام 1917 وأحدثت ثورته تغييراً جذريّاً في نظام الدولة من نواحي عديدة، اقتصادي، اجتماعي، سياسي، لكنّها فشلت في تغيير ذهن المجتمع أو نمط تفكيره، فقد لامست فكر المجتمع ملامسة سطحية، وفشلت في تغيير نمط تفكيره، لذلك كانت النتيجة الانهيار والعودة إلى نمط جديد يحمل في طياته نوعاً من النمط القديم النابع من قناعات المجتمع.

وكما هي الثورة السورية هناك اختلاف على مفهومها، فالبعض اعتبرها مؤامرة خارجية على الشعب السوري، والبعض اعتبرها ثورة الكرامة، والبعض اعتبرها ثورة فكرية، وكل ما تم ذكرة لم يلامس واقع الثورة السورية، وكل ما ورد ذكره كان عبارة عن ترويج إعلامي.

دور الاعلام في الثورات والحروب لا يمكن تجاهله، فما أكثر الثورات التي تم إجهاضها على يد الإعلام! و كذلك لعب الإعلام دوراً كبيراً في انهيار جيوش جبارة،  وقد يقال: ” أعطني إعلاماً ناجحاً أعطيك نصراً مؤكداً” ويتوارد لأسماعنا كثيراً ما يُوعى بالإعلام الحر، والحقية لا يوجد إعلام  يمتاز بالموضوعية أو الحياد أو الحرية، فمن المعروف عن الإعلام؛ بأنه قطاع استهلاكي وغير منتج، ولا بد له من جهة تموّله ليقوم بدوره الفعال في تقديم الخدمات لها، مهما تظاهر الإعلام بالحيادية فهو إعلام مأجور يقدم خدماته الإعلامية للجهة التي تقدم له الدعم، ولا يفوتنا أنّ البعض اعتبر الصراع والحروب في القرن العشرين حروباً إعلامية تقودها وتوجهها وسائل الإعلام المرئية وغير المرئية، والمَهمّة الرئيسة للإعلام هي تضخيم الأمور البسيطة في خدمة أحد الأطراف على حساب طرف آخر، وطمس بعض الحقائق، وتشويهها لصالح الطرف الآخر، وحقيقة الإعلام تقوم على أساس الحرب النفسية التي تؤدّي دورها في نفوس البشر، فيمكن للإعلام أن يقنع الجمهور بكذبة لا تصدق، وتفنيد حقيقة جلية وطمسها، لذلك يطلق على الإعلام مسمّى السلطة الرابعة، لِيلعب دوراً أساسيا في تضخيم الأمور وتبسيطها،   فالثورة السورية في حقيقتها لم تكن ثورة فكرية، بل كانت ثورة ضد السلطة، ومن أجل السلطة[3]، لكن قناة “أورينت” الإعلامية قدمتها على أنّها ثورة سلمية ذات طابع اجتماعي، وليس لها أيّ علاقة بالعسكرة، بينما كانت قناة الدنيا الموالية للنظام تقدم الثورة على أنها مؤامرة خارجية معسكرة، والحقيقة أنّ قناة الجزيرة القطرية وقناة “اورينت” استطاعتا أن تجرّا الثورة إلى خندق حزب الإخوان المسلمين، وربطه بتركيا، حتى أنّ الاستخبارات التركية راحت تمد بعض الشخصيات القيادية بالأموال، فتحولت الثورة من الشارع إلى المساجد، وتمّ تسمية كل يوم جمعة باسم معين، يضاف إلى ذلك دور الإعلام المضاد للثورة؛ القيام بمهمة تصوير بعض الشبان وهم يحملون السلاح، ولصقهم بالثورة وإظهارها على أنها ثورة مسلحة كما يريدها النظام لمواجهتها بالسلاح، ولا ينسى الدور الذي قامت به وسائل التواصل الاجتماعي من فيس و وتويتر وغيرها كانت تستخدم ضدّ الثورة بطريقة مبرمجة لصالح جهة محددة، ونقل رسائل للعالم عن تلك الثورة، كانت تلك الأفكار التي تنادي بها الثورة غير مقبولة لدى المجتمع الدولي خاصة الشعارات الإسلامية.

 أسباب قيام الثورات وأبعادها:

تبنى أسباب الثورة من خلال تحليل الواقع الذي تنبثق عنه الثورة، والإعداد لمرحلة البناء أو التأسيس للثورة، فالأوضاع العامة في سورية كانت أوضاعاً متردّية من كافة النواحي؛ الأوضاع السياسية؛ حيث حكم الحزب الواحد والأحكام العرفية المفروضة على المجتمع، والقبضة الأمنية الخانقة، والأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الفساد والنهب الذي يطال المال العام، وأكثره من قبل أفراد السلطة وعلى رأسهم قيادات حزب البعث والدولة، فبعض الموارد الاقتصادية كانت تُستجر وتورد في الخفاء كموارد النفط، كذلك الوضع الاجتماعي المرهب من قبل الأمن فحسب إحدى الإحصائيات والاستبانات في عام 1997 خصص لكلّ مواطن سوري يحمل أفكاراً سياسية ثلاث رجال من الأمن يترقبون تحرّكاته، والأهم من كل ذلك الوضع الاجتماعي المهلهل، فالمجتمع السوري كان عبارة عن خليط من قوميات وأديان مختلفة، عاشت تلك المكونات صراعاً مبطناً ومتناحراً تسببت فيه السلطة السياسية، كالصراع بين الكرد والعرب والسنة والشيعة والسنة والعلوية، فالتفرقة بين مكونات المجتمع السوري أضعفت الانتماء الوطني على حساب الانتماء الحزبي والسلطوي، فالعلوي لا تعنيه سوريا دون قيادة العلويين، والكردي لا تعنيه سورية لطالما هو عبارة عن شخص مجرد من كافة حقوقه[4]، والسني لا تعنيه سوريا المحكومة من قبل الطائفة العلوية، وكذلك المحافظات الشرقية التي كانت سيطرة النظام فيها ضعيفة مقارنة بباقي المحافظات، كانت تلك المحافظات ذات بنى عشائرية وقبلية، ولاءها للقبيلة أكثر من الوطن، ولم تكن أهدافها غير تحقيق مصالح قبيلته، وكذلك الإقطاعي الثائر على النظام الاشتراكي الذي استولى على أرضه بعد قانون الاستيلاء على أملاك الإقطاع، كلّ تلك الاسباب كانت كافية لتشكيل مجتمع متناحر من الباطن ومتشرذم.

استطاع حزب البعث العربي أن يبني بدل المجتمع الوطني مجتمعاً حزبيّاً موالياً للسلطة، واعتبر الوطن عبارة عن السلطة.

ومع كلّ تلك الأسباب المتهيّئة لقيام الثورة كانت القبضة الأمنية تمنع بناء أسس لقيام ثورة عامة.

 اندلاع الثورة السورية:

الواقع الذي بدأت الثورة السورية منه، والتي يأخذ على تسميتها مآخذ عديدة فلم تحمل في طياتها معنى الثورة الحقيقية، وربما السبب الأساسي هو انعدام وجود بنية تحتية كافية لقيام الثورة، أو الافتقاد لمرحلة البناء أو التأسيس” قاعدة جماهيرية”، اندلعت الثورة على إثر ثورات عديدة في الوطن العربي، فجاءت الثورة السورية عبارة عن حراك قلّد ثورات الربيع العربي، بدون أي برنامج سياسي واقتصادي، وبدون تخطيط وتنظيم لقيام الثورة، كانت الأقرب إلى حراك عفوي من قبل مجموعة من الأشخاص الذين يحملون أفكاراً نيرة[5]، وما لبث أن تولّى الحراك مجموعة من الأشخاص الخارجين عن القانون، والذين يفتقدون لأدنى مستوى من الوطنية، جلهم تمّ إطلاق سراحه من داخل سجون النظام، وتشجيعه لقيادة الحراك[6]، كان ذلك في بداية الثورة والفوضى، وعلى رأسهم المجموعات الإسلامية التي بعث بها النظام إلى العراق لمقاتلة الأمريكان، فتم اعتقالهم على إثر عودتهم، وبسبب الأطماع الخارجية و العداوات الخارجية للنظام السوري فقد تم احتضان هؤلاء من قبل بعض الدول، وتقديم الدعم العسكري لهم على أساس أنّهم ثوار، والحقيقة أنّ الثوار الحقيقيين لم يجدوا من يقدم لهم الدعم، فانكفؤوا على أنفسهم في إحدى الدول البعيدة.

سياقات تطور الثورة السورية وانحرافها:

إنّ السبب الأساس لانحراف الثورة السورية؛ هو افتقارها لبرنامج هادف ومنظم، فجاءت على شاكلة حراك عفوي، ليس له أهداف معلومة وواضحة، والسبب وراء ذلك هو فقدان المجتمع السوري أيّ تنظيم ثوري مهيّئ لقيادة الثورة باستثناء الشعب الكردي المنظّم سياسياً، والذي تم تحييده من قبل الإسلامين الموالين لتركيا، وكل ما كان هناك عبارة عن أفراد قلة تحمل أفكاراً ثورية أكثرها تعرض للاعتقال والتعذيب في سجون النظام فخرجوا من السجون يائسين، يضاف إلى مراقبتهم اللصيقة من قبل رجال الأمن، فلم يجرؤ أحد منهم أن يلتقي بالآخر ليتحاور معه لوضع برنامج لبناء الثورة أو التأسيس لها أو تهيئة القاعدة الجماهيرية.

اندلع الحراك وسرعان ما تولى زمام الأمور أفراد لا يحملون أي فكر ثوري أو أخلاق ثورية، وكانوا عبارة عن عناصر تحمل ذات الفكر الشوفيني، فجاءت البداية من عدم تقبل التنوع المجتمعي السوري، واتخاذ منحى طائفي، والشاهد على ذلك هو قتل العناصر العلوية في الجيش السوري على الرغم من أنهم عبارة عن أفراد يخضعون للخدمة الإلزامية في الجيش السوري، ذلك ما دفع العلويين إلى اتخاذ موقف المعادي للثورة، والشواهد عديدة على ذلك، وما زلت أذكر حين طلبت من أحد قيادات الثورة أن يمنع أحد الكتائب من نهب بيت شخص علوي معارض للنظام و معتقل سابق، فكان الرد من ذلك الشخص (ما المانع؟ أليس علويّاً) وتوجت تلك التصرفات بانعدام الأخلاق الثورية، فأهمّ ما يميز الثورات هو الأخلاق الثورية التي تأتي تاجاً للثورة، أذكر ذلك المشهد حين وقف أحد الشبان أمام أحد رجال الأمن وهو رجل ستيني، وراح يذكره بأيام قضاها في السجن تحت إشراف ذلك الرجل، كنت أظنه سيندفع ويقبله، ويقول له: وها أنا أمامك، أستطيع أن أفعل بك ما أشاء، ولكن اخلاقي لا تسمح لي بذلك، ويقبله ويطلق سراحه، جاء الرد بصفعات متتالية على وجه الرجل المسن، عندها علمت بأن هذه الثورة فاقدة للأخلاق.

إنّ وجود فراغ قيادي طليعي للثورة قد سهّل للعناصر الإسلامية تولي القيادة، وتأسيس كتائب مسلحة بدعم مادي خارجي يهدف إلى تدمير سورية في بنيتها الاقتصادية والعسكرية، والشواهد كثيرة لا تُحصى من خلال التسميات التي تم إطلاقها على الكتائب المسلحة (كتيبة الفاروق ـ رايات الإسلام ـ كتيبة عائشة…) وكل كتيبة لا تستمد اسمها من شعائر الاسلام تم محاربتها واتهامها بالكفر.

وأيضا لم يكن هناك جيش وطني كما كان عليه الجيش المصري؛ الذي رفض التدخل لصالح السلطة قائلاً: (نحن جيش مهمتنا حماية مصر من العدوان الخارجي وليس هدفنا حماية السلطة من الشعب). لكن وقف الجيش السوري موقفاً معاكساً للجيش المصري، موقفاً معادياً للحراك مع السلطة، وتبين أنّه جيش هدفه الدفاع عن السلطة، و ليس الشعب والوطن.

إنّ إطلاق النظام سراح الإسلامين المتطرفين في سجونه بشكل هادف لتولي قيادة الثورة، واستجرارها إلى فخ التسليح والإرهاب والتطرف الدولي، قد دمّر الثورة، وبالمقابل تشكيل كتائب مسلحة من قبل العشائر هدفها حماية العشيرة من خطر السلب والنهب الذي يتعرضون له من قبل الكتائب المقادة من قبل أشخاص هاربين من القانون، وملاحقين بجرائم جنائية، هدفهم السلب والنهب والتخريب، ما نتج عنه صراع بين تلك الكتائب حول الغنائم الحربية التي تم استنباتها من قبل كتائب وقادة إسلاميين جاؤوا من الخارج تحت ذريعة الجهاد الإسلامي.

مررت من أحد الشوارع فرأيت مجموعة من الشبان المسلحين يقومون بانتزاع حماية نوافذ إحدى المدارس، بعد أن انتهوا من نزع النوافذ الداخلية، قلت لهم يا ثوار هذه المدرسة ليست للنظام إنّها مدرسة إخوتكم وأبنائكم، فانتفضوا بوجهي قائلين: (من أين سنحص على المال لشراء السلاح؟) فدرت ظهري وقلت: (تبّاً لثورة تشتري سلاحها من ثمن بيع نوافذ المدارس)

إنّ انقسام المجتمع السوري بين كرد وعرب، ومسلم و مسيحي، وعلوي وسني، على إثر بروز أهداف تنادي بالطائفية والقومية بين الكتائب المسلحة التي كانت تهدف إلى النهب والسلب[7]، ولم تكن تعلم أي هدف من أهداف الثورة، واذكر ذلك الشخص في إحدى المدن التي أودع أبنائه وزوجته لدى جاره الكردي فيها، وغاب أياماً معدودات، وبعد أن عاد سأله جاره: أين كنت؟ فأجابه كنت أقاتل الكرد الملاحدة، فقال له جاره الآخر لطالما هم ملاحدة، لماذا تركت عائلتك عند رجل كردي؟ فجاء الجواب صادماً: (إنهم أوفياء للجوار، لا يخونون) وأذكر تماماً قتل شبان يحرسون مستودعاً لأسطوانات الغاز على يد إحدى الكتائب، من أجل نهب المستودع.

إنّ التدخل الخارجي و تحوير الثورة وفق معايير و مصالح بعض الدول وعلى رأسها تركيا التي ساهمت في تقسيم الثورة السورية إلى قسمين؛ كرد وعرب، فتحولت من ثورة ضد النظام ومحاربته، إلى ثورة لمحاربة الكرد، ولتحقيق أهداف تركيا لمنع وجود كيان كردي آخر على حدودها يشجع إلى ثورة كرديّة في تركيا حيث يبلغ عدد الكرد في تركيا أكثر من 30 مليون كردي، ذلك الموقف جعل الكرد يمتنعون عن المشاركة في الثورة، واتّخاذ موقف محايد بين النظام والكتائب المسلحة، وتم رفع شعار الكرد الانفصاليين على الرغم من صراخ الكرد بأنّهم لا يريدون الانفصال، ولا يوجد أيّ شاهد لدى تاريخ الأحزاب الكردية في سورية يطالب بالانفصال.

ربما أكبر خطأ ارتكبته الثورة هو لجؤها إلى تركيا التي تكنّ عداء لسورية[8] بالإضافة إلى أطماع تاريخية[9] في سورية، كانت تلك الأطماع تتعدّى الصراع مع النظام، فساهمت تركيا مساهمة فعّالة في انحراف الثورة، فهناك دلائل تشير إلى تقصّد تركيا بنهب المعامل السورية وترحيلها مع معداتها، وشراء كلّ ما يتم نهبه من قبل الكتائب المسلحة، وتشجيع تلك الكتائب على النهب، فتم تفكيك معامل ومعداتها بملايين الدولارات وبيعها لتركيا بأثمان بخسة، وكان لتركيا دور بارز في زرع الشقاق بين الكرد والعرب، ففي أول مؤتمر للمجلس الوطني السوري في تركيا 2012[10] تم تغيير شعار المؤتمر من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية بضغوطات تركية، فانسحب الكرد من المؤتمر وعندما سُئل هيثم المالح؛ عرّاب الثورة السورية من قبل إحدى قنوات التلفزة “الأكراد انسحبوا من المؤتمر؟” أجاب بكل هدوء: “أي يسطفلوا”.

 نتائج الثورة السورية ومآلتاها.

1 ـ أثار الثورة على المجتمع السوري:

إن تتبعنا النتائج التي حققتها الثورة السورية لوجدناها نتائج عكسية وسلبية، فهي لم تحقق أيّ أثر إيجابي على صعيد المعارضة، تُجمع النتائج كلّها في الدمار والخراب وانهيار الاقتصاد بالإضافة إلى التدخلات الخارجية، واحتلال أجزاء من أراضي الدولة السورية من قبل تركيا، ناهيك عن الاستعمار، وتقسيم الجغرافية السورية، ويكاد ينحصر الأثر الإيجابي في شمال وشرق سوريا في الأماكن التي يقطنها الكرد، وتعود أسباب ذلك كون الكرد شعباً منظماً سياسيّاً عبر الأحزاب، فقد تمت المحافظة على الأملاك العامة من النهب والسلب، على الرغم من تعرض تلك المناطق لهجمات عديدة من قبل الجيش الحر وداعش لتحقيق أهداف تصبو إليها تركيا، وكسب الغنائم.

 2 ـ آثار الثورة السورية إقليميّاً وعالميّاً:

إنّ الآثار التي تركتها الثورة السوريّة على المستوى الإقليمي عبارة عن امتداد مصالح لدول خارجية ضمن سورية، فجاء أثرها على تركيا إيجابيّاً، حيث استطاعت تركيا أن تحتلّ أجزاء من سورية؛ بحجة محاربة الكرد وضمان أمنها القومي، وقامت تركيا باستقبال جميع الإسلاميين المتطرفين، وإدخالهم إلى الأراضي السورية كرافد لتنظيم داعش الذي كانت تطمح في توسعه للضغط على دول الخليج التي كانت شحيحة في الدعم الاقتصادي لتركيا، وكذلك ابتزاز أوربا وحصولها على مليارات اليورو بحجة إيواء اللاجئين[11] السوريين، وتقديم الدعم لهم[12]، والحقيقة أنّ الحكومة التركيّة لم تصرف أرباع المبالغ[13] المقدّمة من أوربا على اللاجئين، ويضاف إلى ذلك تشكيل جيش مرتزق من الجيش السوري الحرّ أرسلته للقتال خارج تركيا؛ لرعاية مصالحها، كما في الحرب بين أرمينية وأذربيجان، وكذلك إلى ليبيا للقتال بجانب قوات عبد الحميد الدبيبة، ومن ثمة إلى النيجر للقتال إلى جانب القوات الروسية، ومن المؤسف أن يتحول جيش انبثق من رحم الثورة السورية إلى جيش مرتزق تحت إشراف قيادة الثورة، وبما يسمى بحكومة الائتلاف السوري، وإن أجرينا مقارنة بسيطة بين حكومة الائتلاف المعارضة، والنظام وجدنا أنّ النظام ينوف على قيادات تلك الثورة، ولا يوجد وجه من أوجه المقارنة، فالمعارضة باعت، وتنازلت عن أجزاء من وطنها لتركيا، فنجد بأنّ اللغة التركية تُدرَّس، والعلم التركي يُرفع، والعملة الرسمية هي العملة التركية، حتى أنّ النشيد الوطني أضحى تركيّاً، ناهيك عن التغيير الديموغرافي للمناطق المحتلة من قبل تركيا، والغريب في الأمر؛ كيف يرضى إنسان احتُلَّ بيتُه أن يحتَل بيتَ غيرِه.

ما إن بدأ الحراك في سورية حتى وجدنا الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاضرة على الأرض لدعم النظام، مستغلّةً موضوع الطائفة العلوية الذي ترى فيها طائفية قريبة من الطائفة الشيعية، وغايتها الأساسية طموحها في الإبقاء على معبر يدعم حزب الله المسيطر الفعلي في لبنان، والذي يمثل الطائفة الشيعية، فسوريا تعتبر عمقاً استراتيجيّاً، وبوابة إيران للبحر المتوسط، وتسهيل للتوسع، والامتداد الشيعي في المنطقة، وكل ذلك بحجة محاربة إسرائيل وتحرير القدس، وحقيقة الأمر إيران لا تحمل لإسرائيل سوى الشعارات التي تُعتبر شماعة تعلّق عليها أهدافها في المنطقة الاسلامية لتشييع الإسلام، والحقائق تشير إلى تدفّق آلاف الإيرانيين لسوريا، وتوطينهم وانتشار المذهب الشيعي في سورية، فإيران اقتربت من تحقيق أهدافها في سورية، لولا الصراع بينها وبين الحليف الروسي الأوّل لدمشق، وعودة دول الخليج إلى احتضان النظام من جديد، بعد أن يئسوا من العثور على بديل له، فهو الأفضل مقارنة بجبهة النصرة وداعش وأحرار الشام، والحقيقة المجتمع الدولي حاذت دول الخليج حذوه بعد أن يئس من العثور على بديل للنظام على الساحة السورية.

لم تطمح العراق ذو الحكومة والدولة المهلهلة التي يصعب عليها ضبط حدودها البرية والجوية مع سورية في وجه العبور الإيراني بغير الاستقرار الذي بات حلماً بوجود صراع شيعي سنّي أبديّ بين أكبر طائفتين في العراق، فهو صراع أبدي على السلطة ويستحيل التوصل إلى وفاق بين الطائفتين إلا بالتقسيم؛ دولة شيعية إيرانية ودولة سنية خليجية.

الاردن التي تتقدم بالشكوى للمجتمع الدولي من النظام السوري الذي جعلها سوقاً لتصريف المخدرات التي ينتجها بغاية إنعاش اقتصاده المتدهور، طالته أمواج الثورة السورية التي راح يعاني من نتائجها.

استطاعت الثورة السورية استقطاب جميع الإسلاميين المتطرّفين في أوربا تحت سقف داعش، وتحوّلت الأرض السورية إلى ساحة معركة لتصفية الإسلاميين المتطرّفين في العالم، وبعد التصفية بات الشمال الشرقي السوري بإدارته الذاتية يعاني من هؤلاء المعتقلين الإسلاميين بعد أن تخلت دولهم عنهم، فهؤلاء الذين يبلغ عددهم أكثر من 60 ألف شخص، يحملون ما يقارب 60 جنسية من دول مختلفة يتم احتجازهم في بقعة جغرافية ضيقة، ويعتبرون قنبلة موقوتة لا يعلم متى تنفجر بوجه العالم برمته.

أميركا التي جاءت لنجدت حلفائها في الخليج العربي الذين راحوا يتوجّسون من توسع داعش، فحققت مكاسب مادية عبر دول الخليج التي تكفلّت بالمصاريف المادية لمحاربة داعش، والبعض يتوهّم بقدوم أميركا لنصرة الكرد في سوريا، وهذا بعيد كل البعد عن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، كانت أميركا بحاجة إلى قوات مقاتلة على الأرض، ولم تجد أمامها سوى القوات الكردية المقاتلة والمنظّمة في ظلّ امتناع دول الخليج عن تقديم قوّات محاربة على الأرض، والاكتفاء بتقديم الدعم المادي، فالولايات المتحدة الأمريكية لا يهمها القانون الإنساني والحريات العامة والقانون الدولي، بالقدر الذي تحافظ فيه على موازين القوى في العالم، فكفة الميزان الأمريكي دائماً ترجح الأقوى، فخير من مثل السياسة الأمريكية هو الرئيس الامريكي “ترامب” الذي لا يتعدّى تفكير التاجر الماهر الذي يبحث عن الربح أبداً.

3 ـ  واقع انحراف الثورة السورية:

الواقع الذي وصلت له الثورة السورية يجب أن يواجه بجرأة من الأشخاص الذين يحملون أفكاراً ثورية ديمقراطية.

حسب الإحصائية المقدّمة من المرصد السوري حتى عام 2022 بلغ عدد القتلى أكثر من 400000 ألف قتيل، وأكثر من مليونين مُعاق، وتهجير 13 مليون إلى مناطق ودول متفرقة، بلغ عدد القتلى من الأطفال 12000 طفل، وبعد كل ذلك فالسوريون لم يعد بيدهم أي مفتاح من مفاتيح الحل للقضية السورية، والحل أضحى بأيادي دول متعددة كالولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وإيران، وتركيا، وأظن أنّ الحل لن يتم إلا بعد إيجاد توافق بين هذه الدول على حل القضية السورية التي أصبحت قضية عالمية، فالولايات المتّحدة الأمريكية تجد الحل بتقوية الإدارة الذاتية بالاتفاق مع نظام دمشق الذي لم تجد له بديلاً، وإرضاء لحلفائها الخليجيين المتخوّفين من التوسع الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، والولايات المتحدة الأمريكية لا تثق بأيّ تنظيم عسكري عربي في سورية، وتقديم الدعم العسكري له؛ من خلال تجاربها العديدة معهم في إدلب بقيادة استخباراتها العسكرية فجلهم معروفون بتطرفهم الإسلامي لدى الاستخبارات الأمريكية، فالإدارة الذاتية تلقى القبول من قبل دول الخليج الذين ينظرون لها كسدٍّ منيع في مواجهة التوسع الشيعي، الذي يهدّد كيانهم كدول يحكمها السنة، في ظلّ تخوّف من هبة الجامعة العربية وطموحاتها في قيام كيان قومي عربي، ترى إيجابية الإبقاء على الحكم العلوي وانتشاله من أحضان إيران الشيعية، وذلك عبر تقديم الدعم المالي لذلك النظام.

تركيا التي تصرح بالتنازل عن جميع القضايا العالقة في الشرق الأوسط مقابل منع وجود كيان كردي في سوريا، ذلك الكيان الذي يشجّع على ثورة مرتقبة من قبل الشعب الكرديّ في تركيا، والإبقاء على حزب العمال الكردستاني في قائمة الإرهاب الأوربية والأمريكية، تطالب بالضمانات، ولا مانع لديها من الانسحاب من جميع الأراضي السورية المحتلة، وتسليم قيادات الجيش الحرّ، والمعارضين لحكومة دمشق، والتضحية بطموحاتها بإنشاء الإمبراطورية العثمانية من جديد.

إيران التي تتمسَّك بحكومة دمشق حتى الرمق الأخير كورقة ضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل إجراء تسوية معها, وربما لن تجد أيّ تسوية مع الولايات المتحدة الأمريكية سوى السماح لها بإقامة مفاعلها النووي ورفع الحصار عنها، ومنع قيام أيّ كيان كرديّ يشجع الكرد في إيران بالثورة، والمطالبة بحقوق الكرد في إيران.

جميع تلك التداخلات وتضارب المصالح الدولية باتة تشكّل معضلة الحل للقضية السورية، فلا يمكن إيجاد حل للقضية السورية إلّا بوجود توافق في مصالح الدول المتأثرة بتداخلات الحراك في سورية، ناهيك عن المصالح القطرية الداعمة لتركيا في مواجهة النظام في سورية.

إسرائيل النول الذي تحاك عليه جميع الخلافات والنزاعات في الشرق الأوسط، لا مانع لديها من الإبقاء على النظام في دمشق مقابل القضاء على جميع قوّته العسكرية والاقتصادية، وقطع علاقاته مع إيران المحرك الأساسي لحزب الله، وعداوته مع إسرائيل.

أوربا الطامحة بقيادة فرنسا لتشكيل حلف عسكري خاص بها في مواجهة الحلف الأمريكي والروسي في العالم، والتوجّه بتجاه القارة الإفريقية، وما زالت تطُنّ في آذانهم كلمة الرئيس الامريكي “دونالد ترامب ” حين قال في مواجهة الاتحاد الأوربي الرافض للانسحاب من شمال شرق سوريا عام 2018 وترك الإدارة الذاتية في مواجهة تركيا (فليذهب الأوربيون وليقاتلوا مع الكرد) فالاتحاد الأوربي طموحاته محدودة في سورية بالرغم من النظرة الإنسانية التي ينظرونها للسوريين الذين أصبحوا معضلة أوربية تحتاج للحل والتخلص من اللاجئين السوريين وفي ذات الوقت يواجهون مشكلة التماس مع تركيا ومصالحهم الاقتصادية معها.

والحقيقة التي يجب أن تقال بأنّ السوريين لا يملكون أيّ مفتاح من مفاتيح الحلّ وليسوا إلّا عبارة عن دوما تحرّكها الدول حسب متطلبات مصالحها، ومتى ما تحققت تلك المصالح، ووجد توافُق بين تلك الدول ستجد السوريين يتراكضون لعقد الاجتماعات تحت مظلات تلك الدول.

الخاتمة:

من خلال الثورة السورية وتجربتها، نجد أنّ الثورة السورية ولدت معاقة في مرحلة النهوض كونها تفتقد لمرحلة البناء أو التأسيس الصحيح، يتضحُ لنا بأنّ التاريخ لا يقوم على الصدف والاحتمالات بل هو تحرك ممنهج وفق قوانين ثابتة ككل القوانين الكونية تحمل قطبين؛ السالب والموجب، فالتمسُّك بالطائفية حتماً سيؤدي إلى صراع طائفي، وعدم الاعتراف بحقوق الآخر حتماً سيؤدي إلى الاعتداء على حقوقك، إنها جدلية الكون المتكامل في أصغر جزيئاته، وليس أمام السوريين في الأفق سوى الانتظار لتوافق المصالح الدولية، وسيأتي اليوم الذي ترحل فيه جميع الدول، ويبقى السوريون كاليتامى يناظرون وجوه بعضهم البعض بكلّ هدوء، ويعودون إلى جمع الشتات، والأشلاء المتناثرة مُطأطئ الرؤوس خجلاً من بعضهم البعض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1ـ جريدة ـ دنيا الوطن ـ الثورات قاطرات التاريخ ـ بقلم محمود فنون ـ 1 ـ 2011

2ـ مالك بن نبى ـ  بين الرشاد والتيه ـ  دار الفكر المعاصر ـ 1 ـ 1 ـ 2019.

3ـ الجزيرة ـ مدونة التغيير ـ حمزة زوبع ـ 1 ـ 1 ـ 2019

4ـ حمص الحصار العظيم ـ وليد فارس ـ المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات ـ 2017.

6 ـ أطماع تركيا في الأراضي السورية  ـ سيرة مفتوحة ـ شورش درويش ـ المركز الكردي للدراسات ـ فبراير 1 ـ 2023 .

7 ـ  تركيا في سورية بين الأطماع التوسعية  والتهديد الاستراتيجي ـ LEVANT  بالعربي ـ 2022 .

8 ـ العملية  التركية شمال سوريا … محاربة الإرهاب أم أطماع توسعية ـ SWI  ـ شؤون خارجية ـ 17 اكتوبر ـ 2019 .

9ـ تجربتي في الثورة السورية ـ كفريا والفوعة وريف إدلب ـ مذكرات شخصية ـ خطيب بدلة ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ 2017 .

10ـ أنماط الحكم المحلي في سورية بعد الثورة ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ مايو 2016 .

11ـ قاموس بنغوين للعلاقات الدولية ـ غراهام ايفاتز و جفري نوينهام ـ مركز الخليج للأبحاث ـ الطبعة الاولى 2004 .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1] ـ عرفها علماء السياسة بأنها الحركات التي ترفض ثورة ما ، فتعمل للحفاظ على الوضع المستقر ما كان عليه قبل اندلاع الثورة.

[2] ـ كان هناك بعض الأحزاب التي تنادي بتغير جذري في الدولة، كحزب الإخوان المسلمين، غير أنها لم تكن مقبولة لدى عامة الشعب.

[3] ـ كانت هناك لعض الاحزاب السياسية المتشرذمة تنادي بتغير فكري، لكنها كانت احزاب ضعيفة في تنظيمها و شعبيتها، بسبب القبضة الامنية والاعتقالات التي طالت تلك الاحزاب كحزب العمل الشيوعي.

[4] ـ عام 1964 تم تجريد الكرد في سورية من جنسيتهم السورية و الاستلاء على اراضيهم في محافظة الحسكة بتعليمات وقائية من قبل حزب البعث العربي، على اساس التخوف من الوجود الكردي في تلك المناطق واحداث تغير ديموغرافي.

[5] ـ تم اعتقال اكثر الاشخاص الذين يحملون افكار نيرة من قبل الجيش الحر وحركة جبهة النصرة وداعش والنظام وتم تصفيتهم، والبعض فرى هارباُ من الثورة إلى الخارج ناجياً بروحه.

[6] ـ بلغ عدد الكتائب المسلحة في محافظة الرقة عام 2013 ما يقارب 120 كتيبة، يقود اكثرها اشخاص مطلوبين للقانون الجزائي، قاموا بعمليات نهب وسلب في المحافظة تحت شعار الثورة، يضاف إلى اعتقال وتصفية كل من يعارضهم أو يقف في وجههم، اكثرهم تم تسليحه من قبل النظام بعد أن ترك لهم الاسلحة في متناول يديهم.

[7] ـ قال احد القادة للكتائب المسلحة” المناطق الكردية هي مناطق بكر” وحين تم الاستيضاح عم يقصده كان جوابه صادما ” هي مناطق فيها الكثير من الغنام ” فكان هدف تلك الكتائب هو السلب والنهب وليس الثورة.

[8] ـ كانت العلاقات السورية التركيا في اوج توترها  في عهد الرئيس حافظ الاسد على اثر لجوء حزب العمال الكردستاني لسورية واستقبال قائده “عبد الله أوجلان” 1999 .

[9] ـ تعتبر تركيا حلب ولاية تركيا وتدرس في منهاجها على انها ولاية تركيا تم اغتصابها من قبل السوريين.

[10] ـ  في أواخر عام 2012  استضافت مدينة أنطاليا التركية مؤتمر جمع أكثر من 300 شخصية  معارضة سورية من ضمنهم عسكريين، وتم الإعلان  عن هيئة اركان  بقيادة العميد المنشق سليم ادريس.

[11] ـ صرف الاتحاد الاوربي  الخميس 17 ـ كانون الأول  2020 مساعدات بقيمة ستة مليارات يورو لتركيا مقابل استقبالها للاجئين ـ D.W القناة الالمانية.

[12] ـ الاتحاد الاوربي  يسدد لتركيا 6 مليارات يورو لمساعدة اللاجئين ـ قناة ـ d w الالمانية.

[13] ـ  بلغ مجمل المساعدات المقدمة من الاتحاد الاوربي  لتركيا من اجل دعم اللاجئين السوريين 3.34 مليار يورو من عام 2021 لغاية 2024 ـ بروكسل الاناضول ـ 15 ـ 6 ـ 2022 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى