العمارة الطينية “القبّة” أنموذجاً
محمد عبد الله العزو
محمد عبد الله العزو
نشأت العمارة عندما اقتضت حاجة الإنسان أن يحمي نفسه من الأخطار التي كانت تحيط به, فبنى لنفسه مسكناً وفق ما كان متاحاً, بمعنى أنه استخدم الموجود أمامه من إمكانات السكن, فاستعمله كمأوى، فبدأ اللاقطون الأوائل إلى اتخاذ الكهوف والمغاور الصخرية سكناً لهم .
بعد انحسار الجليد من على وجه الكرة الأرضية قبيل نهاية العصر الحجري القديم. في سنة/16000/ق.م خرج الإنسان من مخابئه في الكهوف والمغاور، وبدأ برحلة معرفية طويلة حتى اهتدى إلى معرفة البناء فوق سطح الأرض, فكانت البداية في “تل المريبط” على الفرات الأوسط حيث كان أول ظهور للعمارة الطينية, حيث استطاع الإنسان هناك بناء أول بيت دائري كبير وفق تقنية ملائمة للبيئة والمكان. و حفر هذا البيت على منحدر التل الغربي المطلّ على نهر الفرات, وتبيّن أن الجدار الشرقي لهذا البيت بكامله من الطين، وتم تثبيت التربة الطينية من داخل البيت بواسطة أعمدة خشبية من شجر الحور الذي كان ينبت بكثرة في حوائج الفرات القريبة من التل، رصفت هذه الأعمدة بجانب بعضها البعض وكُسيت بمادة الطين، أما جدار البيت من جهة الغرب فكان بكامله تقريباً فوق سطح الأرض وقد شُيّد من الطين المدكوك، وتم تدعيمه من الخارج بالأعمدة، وكانت تقسيمات هذا البيت من الداخل قد قسِّمت بجدران بُنيت من الطين تتخللها ألواح خشبية، وفيه يُلاحظ بداية بناء منزل طيني متعدد الأجزاء منفصلة بعضها عن بعض وفق وظائفها المختلفة. أما سقف البيت فكان يتكون من دعامات خشبية مغطاة بطين مدكوك, وفي البرح الفاصلة بين البيوت وُجدت حفر للمواقد شبه دائرية ( كوش) وفسحات عمل مرصوفة بالحجارة الصوّانية بشكل منتظم. حين اكتشفت هذه البيوت الطينية إنشائياً لفت الانتباه إلى أن هناك لمسة جمالية في فن العمارة ورقياً ملحوظاً في بناء هذه المنازل، وكانت بعض جدران هذه البيوت مزينة برسوم ذات أشكال هندسية محورة عن الطبيعة. في مرحلة لاحقة لوحظ تغير هادف على أشكال البيوت هندسياً، إذ أثار الانتباه ظهور غرف مستطيلة الشكل لكنها قليلة العرض عرضها بحدود مترين اثنين، وبعض هذه الحجر استخدمت للمؤونة، لكن مع ازدياد عدد أفراد الأسرة وعدد الحيوانات المدجّنة كانت هناك ضرورة لبناء بيوت أكبر سعة ومستطيلة الشكل, ولاحقاً شيدت بيوت مربعة الشكل أكثر دقة من الناحية الهندسية لاستيعاب عدد أفراد الأسرة وعدد الحيوانات المهجنة مع لوازم البيت.
في الفترة التاريخية التي بدأت فيها تتكون حضارات وثقافات جديدة, كانت العمارة من أهم الثقافات المادية للإنسان، كما أن المسكن كان يمثل نمط حياة هذا الإنسان ودرجة تحضّر المجتمعات، ولذلك لجأ الإنسان إلى إعادة ترتيب الحيّز المكاني – المعاشي المحيط به باستمرار, وكانت العمارة هي النتاج المباشر للجهود الإنسانية وكانت تعبيراً عن البيئة الطبيعية التي كانت دائماً المصدر الأساسي للمواد التي تم استخدامها في العمارة. وقد أبدع الإنسان في تشييد مبانٍ حضارية خلال المرحلة الكتابية ومن ثم في المرحلتين المسيحية والإسلامية. ظلت العمارة الإسلامية سائدة طيلة القرون الوسطى حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي, ففي هذه الفترة أعيد إنتاج بناء القبب الطينية في أنحاء كثيرة من بلاد الشرق الأوسط وخاصة في شمال وشرق سوريا. إن أول القباب في سوريا وكذلك في منطقة الشرق الأوسط شيدت بمادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس, لا سيما في منطقة الجزيرة الفراتية في شمال وشرق سوريا وشمال العراق، وكانت هذه الديار قد عرفت بناء القبة منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد أي قبل الحضارة السومرية. وتعد العمارة الطينية فناً يعكس تاريخ الشعوب وثقافتهم وظروف معيشتهم, ويمكن القول إن لبيوت الطين في سوريا وخاصة البناء المقبب؛ انعكاس لتراث المنطقة وعمق تاريخي يظهر تفاصيل صعوبة الحياة في الفترات الصعبة التي واجهها الناس بحلول ذكية ضمنت استدامة الحياة وتسهيلها, عبر بيوتهم الطينية ذات الحلول الذكية التي استخدم الطين فيها كمادة أساسية وتتميز بأنها مادة عازلة للحرارة أثناء فصل “الكيض” أي الصيف.
يكون بناء البيت الطيني على شكل مداميك مشيدة من مادة اللبن والواحدة منه تسمى لبنة, وشكل بناء القبة يتميز بقاعدتها المنخفضة، إذ أن القبة تبدأ بقاعدة مربعة منخفضة وقريبة من مستوى الأرض لتتحول بسلاسة إلى الشكل الدائري. وتتمتع القباب في كافة أشكالها ببنية إنشائية رائعة، وبعض القباب خاصة في منطقة حماة مزودة بدرجات من الحجر من الخارج وليس من الداخل تساهم في أعمال الترميم والصيانة. أما عن شكل بناء البيت الطيني الذي شيد في منطقة الرقة بدءاً من بداية القرن التاسع عشر ميلادي في المدينة والريف؛ فإما أن يكون مستطيل الشكل أو مربعاً أو يبنى على شكل قباب. وكانت البيوت الطينية نوعاً من المنازل تضم غرفاً مستوية الأسطح أو مخروطية، أو مقببة، وجميعها مشيدة من مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس المصنوع من التراب والقش. كانت منازل المدينة المبنية من الطين في بدايات الإعمار والاستقرار تتوزع بحسب مخطط شطرنجي، له حوش يحتوي على كافة ضرورات الحياة. أما بيوت القرى والأرياف فأغلبها مقببة، فهي تتوزع حول فناء داخلي محوّش بسور، وكانت هذه المنازل واسعة نسبياً وتحتوي على بئر وحظيرة حيوانات للخيل والبغال والحمير والأبقار، وعربة النقل الخشبية، وفضاءات أخرى مسوّرة مثل “الصيرة” لتربية الأغنام والماعز والدواجن. العمارة الطينية تعد ارتقاء ورمزاً لأجدر استخدام جائز لمادة التراب، خاصة في طريقة بناء البيوت المقببة والقبة حصراً.
ريف وقرى الرقة يزخران بمجموعة هائلة من المباني المقببة، ولهذا النوع من المنازل المخصصة للسكن مظاهر وأبعاد مغايرة. لا شك أن نمط بناء القبب للسكن يُشاهد في المناطق الريفية الفقيرة، كون هذا النمط يتلاءم مع الظروف المناخية والبيئية والاقتصادية. معمارياً يصل بعض القبب السكنية بحدود خمس أمتار، وكل قبة لها شبّاكان (نافذتان) يطلان على الفناء وشبّاك آخر يطل على جهة الشمال، ولكل قبة باب خشبي، وأحياناً كل قبتين تشتركان بباب خشبي واحد، وكل قبة مزوّدة بفتحات صغيرة في الأسفل تسمح بالتهوية الطبيعية. أما على سطح القبة الخارجي، فيشاهد بروز حجارة مسطحة على مسافات منتظمة، تسهل الوصول إلى القسم العلوي إذ تساعد الساكنين في عمليات الصيانة وترميم القبة وطلائها بالوحل, خاصة في الشمال والشمال الشرقي لسوريا، أما في الجنوب فالسكان يطلون القبب من الخارج بمادة الكلس الأبيض لحمايتها وتجميلها, وريف حماة مثال على ذلك.
ومن خلال التقصي والمشاهدة لمنازل القبب وبشكل عام, فإن معظمها بيوت متواضعة من الداخل والخارج. وتعد القباب من الناحية الإنشائية حلاً نموذجياً وتحدياً لمواجهة المناخ شبه الصحراوي كما في الرقة والجزيرة الفراتية, فالقبب أقل امتصاصاً للحرارة إذا ما قورنت مع المنازل ذات الأسطح المستوية، فشكلها الدائري يساعدها على التخلص من الحرارة التي خُزّنت في النهار ، ليلاً، إضافة إلى (عدم انتظام توزع الإشعاع الشمسي على كامل سطحها ليبقى جزء من القبة مظللاً دائماً), وهذا الجزء المظلل يساهم بشكل محسوس في تخفيض درجة الحرارة داخل القبة، كما أن القبة في هذه الحالة تضفي المزيد من الفراغ الداخلي, مما يساهم في دفع الهواء الساخن ليتجمع في الأعلى، ويظل الهواء البارد قليلاً في القسم السفلي من الفراغ.
مثل هذه التقنية التي أطلق عليها العلماء تبريد المسكن بالهواء البارد، تم اكتشافها في موقع “تل حمو كار” الواقع بالقرب من بلدة اليعربية عند الحدود العراقية – السورية، وكذلك تم الكشف عن هذه الطريقة في قصر البنات في مدينة الرقة الإسلامية التي على الفرات.