حسان يونس
في مقدمة كتابه ثلاثي المجلدات “الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة”، يستحضر الصحفي البريطاني الراحل “روبرت فيسك” والده معاتبا، باعتباره أحد جنود الحرب العالمية الأولى بالقول: “بعد النصر الذي أحرزه الحلفاء عام 1918م قسّم المنتصرون البلاد التي كانت تحت حكم أعدائهم السابقين. وخلال 17 شهراً فحسب أوجدوا حدود إيرلندا الشمالية، ويوغسلافيا، ومعظم الشرق الأوسط. وقد صرفتُ كامل أيامي المهنية في بلفاست وسراييفو وبيروت وبغداد – أشاهد الناس يحترقون ضمن تلك الحدود – لقد غزت الولايات المتحدة العراق من أجل تغيير خريطة الشرق الأوسط على غرار ما فعل الجيل الذي كان أبي في عداده منذ اكثر من ثمانين عام”.
خلال عمله مراسلاً لصحيفة التايمز البريطانية ومن ثم الاندبندنت، لثلاثة عقود، شارك “روبرت فيسك” في تغطية إحدى عشرة حرباً في المنطقة القلقة والمتموضعة على صفيح ساخن بين المغرب العربي، وحدود الصين، وهي المنطقة التي تصفها بعض الأدبيات بالشرق الأوسط، فيما تجعلها أدبيات أخرى متمحورة حول الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط:
يعدّ “الشرق الأوسط” مفهوماً بريطاني المنشأ اجترحه جنرالات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (الجنرال توماس جوردن عام 1900م، والجنرال الاميركي الفرد ماهان عام 1902م)، مطلع القرن العشرين، في معرض توصياتهم حول أهمية المنطقة بالنسبة لحماية المستعمرات البريطانية في الهند وهو يقع، وفق هذا التحديد، بين الشرق الأقصى الآسيوي والشرق الأدنى الذي يقع على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
خلال الحرب العالمية الثانية عاد الاستعمال البريطاني للمفهوم عندما أنشأت بريطانيا “مركز إمداد الشرق الأوسط” أو “ميسك” لتحقيق التعاون بين دول المنطقة والتغلب على مصاعب الواردات من أوروبا نتيجة حرب الغواصات في البحر المتوسط.
وبالتالي فان هذا المفهوم لا يستند إلى خصائص جغرافية تاريخية مشتركة، بل إلى الحاجات الجيوسياسية للأقطاب الدولية المسيطرة، وهو وفقاً لذلك مشروع متحرك، تتعدّد صياغاته السياسية والجغرافية، وفقاً لمصالح تلك الدول (بريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة الأميركية.(
الشرق الأوسط الجديد :
واذا كان الشرق الأوسط مفهوماً بريطاني المنشأ فإنّ الشرق الأوسط الجديد (ومن ثم الكبير) مفهوم أمريكي المنشأ، ظهر مع انتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الفائت وتفرُّغ الولايات المتحدة لإعادة ترتيب العالم وفق رؤيتها. وكانت اكثر الطروحات شهرة للشرق الأوسط الجديد ما وضعه رئيس الوزراء الإسرائيلي الاسبق شيمون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، إبان ازدهار “عملية السلام” بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م، ودعا فيه إلى اعتماد النموذج الأوروبي في التكامل كحل للصراع في الشرق الأوسط واختراق العالم العربي، من خلال النشاط الاقتصادي بالتوازي مع الدعم الأميركي السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية.
ومن ثم أعاد المؤرخ والمستشرق البريطاني، داعية الصراع “المقدس” بين الغرب والإسلام، برناند لويس التأكيد على مفهوم “الشرق الأوسط الكبير” في مقال نشره في مجلة الشؤون الخارجية بعنوان “إعادة هيكلية الشرق الأدنى” عام 1992م.
انتقل “الشرق الأوسط الجديد” بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وانطلاق الحرب الأمريكية على الإرهاب وغزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق من صفحات المقالات والكتب إلى استراتيجية أمريكية تتمحور حول إعادة رسم الخرائط في هذه المنطقة، وتصحيح أخطاء معاهدات سايكس بيكو وما تفرّع عنها. فأعلنت مستشارة الأمن القومي الأميركي، كونداليزا رايس، عام 2002م، أنّ الولايات المتحدة تريد تحرير العالم الإسلامي ونشر الأسلوب الديموقراطي في ربوعه أولاً، وثانياً تريد تغير الأنظمة السياسية العربية.
ضمن السياق أعلن الرئيس الأمريكي في 9 أيار 2002 في جامعة كارولينا الجنوبية وفي خطابه أمام الأمم المتحدة في 21 أيلول 2004 عن رغبته في إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير بجغرافية جديدة تمتد من الصحراء الغربية إلى باكستان، مؤكدا أنّ الحرب على العراق هي حلقة في سلسلة تشكيل الشرق الأوسط الجديد. وفي 2004م، قدّمت الإدارة الأميركية مشروع “الشرق الأوسط الكبير” إلى مجموعة الدول الصناعية الثماني؛ في اجتماع عقد خصيصاً بالولايات المتحدة؛ وطرحت آنذاك مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية وتحديث المجتمعات والأنظمة السياسية للمنطقة؛ لإبعاد شرور الإسلامين الراديكاليين، مستنداً إلى تقريرَي الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية 2002 ـ2003.
توهّج مفهوم الشرق الأوسط الجديد وتورّم في حرب تموز 2006م التي شنتها إسرائيل على لبنان ودفع ذلك وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس إلى زيارة تل أبيب أواخر تموز 2006 لتعلن عن “ضرورة بناء شرق أوسط جديد”، وفق رؤية المحافظين الجدد في واشنطن، معتبرة ان ذلك “حل لكافة مشاكل الشرق الأوسط”، وان حرب تموز هي “آلام الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”، وهو ما كرره الرئيس جورج بوش الابن في خطابه التقليدي للشعب الأميركي أواسط آب 2006 :”إن الشرق الأوسط يشكّل ساحة الصراع الأولى بين الحرية والإرهاب، وإنّ هذه المنطقة الآن أمام لحظة مفصلية من تاريخها باعتبار أنّ الحرب في لبنان مظهرٌ أساسي لصراع الحرية ضد الإرهاب”.
وفي عام 1999م، غيّرت وزارة الدفاع الامريكية من التقسيمات الإقليمية التابعة لها بما يتناسب مع “الشرق الأوسط الكبير”، فنقلت أمر القيادة العليا للقوات الأميركية في آسيا الوسطى من قائد القوات الأميركية في الباسفيك (المحيط الهادي) إلى القيادة المركزية للشرق الأوسط التي كانت تعرف بقوات الانتشار السريع.
بين المفهومين (الشرق الأوسط والشرق الأوسط الجديد):
رسمت حدود منطقة الشرق الأوسط من خلال مجموعة اتفاقيات كاتفاقية سايكس – بيكو- ادانوف 1916م ووعد بلفور 1917م ومعاهدة لوزان 1923م واتفاقية انقرة 1921م (بين فرنسا وتركيا) واتفاقية أنقرة 1926م (بين بريطانيا وتركيا) ومعاهدة جاندماك 1879م (بين بريطانيا والامارة الأفغانية) وبقيت هذه الحدود محلّ رفض من قبل كافة المجموعات القومية في الشرق الأوسط كالفلسطينيين والقوميين العرب والقوميين الأتراك والقوميين الفرس والقوميين الكرد والقوميين السوريين والقوميين البشتون المنتشرين في أفغانستان وباكستان. ونتيجة هذا الرفض متعدد الأطراف كان الشرق الأوسط البؤرة الأكثر كثافة للحروب الداخلية والخارجية خلال النصف الثاني من القرن العشرين واستمر المشهد بكثافة اعلى خلال العقدين الفائتين.
وكان الفلسطينيون والكرد هم الضحايا الأكبر لخارطة الشرق الأوسط من حيث التعرض لتغيير ديمغرافي واقتلاع من الأرض وتهجير ممنهج ومحاولة قتل هوياتي. فيما واجهت بقية المجموعات القومية مصيرا أقل سوءاً من حيث الخضوع لمنظومة كيانات سياسية تحكمها دكتاتوريات قومية – دينية شوفينية مختلفة الانتماءات، اعتمادًا على شعارات قومية، بعيدا عن أي حضور لدولة القانون ومفاهيم المواطنة والحقوق السياسية والثقافية للأفراد والجماعات.
شاهد روبرت فيسك، خلال ثلاثة عقود، “الناس تحترق ضمن تلك الحدود”، قبل أن يقرّر المنظرون والساسة الأمريكيون “تصحيح ذلك الخطأ”، وفق ما عبّر عنه رالف بيترز، وهو ضابط متقاعد يحمل رتبة مقدم كان يعمل في الاستخبارات العسكرية الأميركية، في مقال نشره بمجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد حزيران 2006 تحت عنوان “حدود الدم” وانطلق فيه من “الظلم الفادح الذي لحق بالأقليات حين تم تقسيم الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين” مشيرا إلى أهم هذه الأقليات: الكُرد، والشيعة العرب. ومسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين. ويرى بيترز أنّ ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والأثنية في المنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه.
ويقدم بيترز خريطة للشرق الأوسط الجديد تقوم على تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية بالجنوب، ودولة سُنية بالوسط ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن. ويقترح أن يقتطع من المملكة السعودية “دولة إسلامية مقدسة” في الغرب ودولة شيعية في الشرق تنضم اليها الإمارات العربية المتحدة وتلتفّ حول الخليج الفارسي، بحيث تصبح قوة توازُن مقابل الدولة الفارسية الناشئة عن تقسيم إيران التي ستفقد الكثير من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة، والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها تكسب أراضي من أفغانستان حول هيرات. لتصبح في النهاية بلدا إثنيا فارسيا.
ينتهي بيترز إلى أنّ تعديل حدود الشرق الأوسط الأكبر، بناء على روابط الدم الطبيعية والعقيدة الدينية، ضرورة ملحّة لحقن الدماء!! ومن هنا مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها!
ومن أجل الانتقال بالشرق الأوسط إلى صياغته الجديدة وضع المفكر الاستراتيجي الأمريكي “مايكل ليدن”، الباحث في معهد “أمريكا انتر برايز”، عام 2003م، آلية جديدة أطلق عليها (الفوضى والبناء) و(التدمير والبناء) ، وقد جرى تبنّي هذه النظرية من قبل الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” ومستشارة الأمن القومي الأمريكي “كوندوليزا رايس”.
ترتكز الفوضى الخلاقة على فشل مشروع الدولة في الشرق الأوسط وغلبة الانتماءات القومية والطائفية والعشائرية على النظام السياسي والاجتماعي في هذه المنطقة، وما ينتج عن ذلك من صراعات داخلية طائفية وقومية واثنيه وعشائرية عند أي تغيير في معادلات السلطة والنفوذ والثروة.
لكن هذا المشروع لقي رفضاً شديداً في العالم العربي، ولدى القوى الإقليمية الفاعلة كإيران وتركيا، وإذا كان مفهوماً أن يرفض الأتراك والإيرانيون هذه الخريطة التي تنهض على حساب حدودهم وتركيبتهم السكانية، فإنّ العرب وخاصة حركاتهم القومية، رفضت المشروع باعتباره مؤامرة لفرض سيادة إسرائيل عليهم وإدماجها في نسيج “منطقتهم” و”تقسيم المقسم” وما إلى ذلك من المصطلحات التي تعج بها الأدبيات القومية العربية. وإجمالا فإنّ القوميين العرب تسلّحوا بنظرية المؤامرة في مواجهة المشروع الأمريكي، جرياً على عادتهم في الهروب إلى الامام ورفض ما يضطرون لاحقاً إلى المطالبة والتفاوض على بعضه، كما حصل عند رفضهم قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947م بين دولتين عربية ويهودية ثم قضوا عدة عقود يحاربون ويفاوضون لاستعادة بعض ما رفضوه في ذلك القرار.
إنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد مستمر الحدوث، رغم خفوت الحديث عنه. وما آلت اليه موجات ما يسمى “الربيع العربي” في سوريا والعراق يصب في سياق هذا المشروع. ويحضر في هذا السياق ما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال جلسة في منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار”، نشرين الأول 2018م، من أن “الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، وأنّ هذا الهدف سيتحقق 100%”. وهي استعارة مباشرة لما أورده شيمون بيريز في كتابه آنف الذكر، ولا بد من الإشارة هنا إلى ان المشروع الاثير لدى ولي العهد السعودي لإقامة مدينة نيوم التي ستقع في الشمال الغربي للمملكة وستضمّ أراضي مصرية وأراضي أردنية على مساحة 26 ألف كيلو متر مربع وستكون على حدود اسرائيل، هو أحد التطبيقات النموذجية لمشروع الشرق الأوسط الجديد وفقا لرؤية شيمون بيريز.
الكُرد ومشروع الشرق الأوسط الجديد:
يعتبر الكرد من أكبر شعوب العالم التي لا تمثلها دولة، إذ يعيش نحو أكثر من 50 مليون كردي في منطقةٍ تمتد رقعتها في تركيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا.
وخلال القرن العشرين نظرت الدولة التركية إلى الكرد باعتبارهم أتراك الجبال كما نظرت الأنظمة القومية العربية في كل من العراق وسورية إلى الكرد باعتبارهم عرباً ذوي لهجة مختلفة، وفي بعض المراحل جرى التعامل معهم باعتبارهم تهديداً ديمغرافياً وجسماً سكانيّاً غريباً يجدر التخلص منه، وفي إيران رفض نظام الشاه الاعتراف بأيّة حقوق سياسية أو ثقافية للكُرد كما رفض النظام الإسلامي الاعتراف بالخصوصية الثقافية الكردية وفرض عليهم، لعقود، الشريعة الإسلامية. لذا فان المظلومية الكردية كانت ماثلة بقوة في مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ينطلق الدور الكردي في مشروع الشرق الأوسط الجديد من النواقص الثلاثة التي حددها الكتاب العربي لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية 2002و2003م: الحرية والمعرفة وتمكين النساء، واستند اليها مشروع الشرق الأوسط الكبير (الجديد) الذي قدمته الولايات المتحدة في قمة الدول الثماني آنفة الذكر، شباط 2004م، وبحسب المشروع فإنّ هذه النواقص “ساهمت في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكلّ أعضاء مجموعة الدول الثمان، وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة نشهد زيادة في التطرف والارهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة .ولهذا صار من الضروري القيام بتغييرات ديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وأنّ الولايات المتحدة ستدعم كل الجهود الإصلاحية في المنطقة في إطار مبادرة الشرق الأوسط الجديد. تلك المبادرة التي تهدف إلى تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، وتشتمل على مشاريع يقصد بها تقديم مساعده تقنية لإدارة الانتخابات، وترتيب التبادل البرلماني والتدريب، وإنشاء أكاديميات قيادية إنسانية، وزيادة الجهود الإقليمية لمحاربة الفساد، وتعزيز منظمات المجتمع المدني الإقليمية”.
- وفقا لهذا الدور ساعد الكُرد بين عامي 2003 و2017 في الإطاحة بنظام صدام حسين، وقتال تنظيم “القاعدة”، وطرد تنظيم “الدولة الإسلامية” من شمال العراقوسوريا حيث شكلت قوات سوريا الديمقراطية ركيزة أساسية في قتال تنظيم “الدولة الإسلامية” في شرق سورية وفي العراق، تعتبر قوات البشمركة الكردية حليفا أساسيا في الحرب ضد الجهاديين.
خلال العقد الفائت شهدت أفغانستان والعراق وسوريا واليمن موجة عاتية من الفوضى الخلاقة والنزاعات الطائفية بين تنظيمات “القاعدة” و”جبهة فتح الشام” و”الدولة الإسلامية” (داعش) و”منظمة بدر” و”حزب الله” و”سرايا السلام” و”طالبان” والعشرات غيرها. إلا أن الكُرد (يعتنقون الإسلام بنسبة 95%) بقوا خارج هذا المشهد. ولم يشاركوا في النزاع الشيعي – السني العابر للحدود والموارد والمتوائم مع المشاريع القومية التركية والإيرانية.
هذا الموقف الكردي المحايد إزاء الصراعات الدينية انعكس في تقرير نشره معهد كارنيجي للأبحاث في 5 يناير 2016 تحت عنوان “الكُرد في دور صنّاع السلام في الشرق الأوسط”، وبحسب هذا التقرير فان “من شأن دعم المجموعات الكردية في سورية أن يمنحها التمكين اللازم للعب دور في إرساء السلام، ليس في سورية وحسب إنما أيضاً في العراق وتركيا. ومن شأن إشراكهم في أي اتفاق لتقاسم السلطة في سورية أن يؤثّر في العلاقات بينهم وبين الدولة في البلدان الأخرى التي تضم جاليات كردية كبيرة. الكُرد هم من أكبر المجموعات الأثنية في الشرق الأوسط، إذ يشكّلون نحو عشرين في المئة من مجموع السكان في تركيا والعراق على السواء، وعشرة في المئة من مجموع السكان في إيران وسورية”.
كما انعكس الدور الخاص بالكُرد “كصناع للسلام” في تقرير نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في 10 يناير 2017م، تحت عنوان “كيف يجدر بالرئيس الأمريكي الجديد استعمال “الورقة الكردية” في الشرق الأوسط الإسلامي؟”. واعتبر التقرير “أنّ تواجد ستين ألف جندي من “قوات سوريا الديمقراطية” ضمن تحالفٍ متعدد الأعراق والديانات بين الكُرد والعرب والتركمان والأشوريين والمسيحيين والمسلمين قد يساهم في ضمان قيام نظام اتحادي في شمال سوريا. ومن شأن النظام الاتحادي غير الديني أن يمنع تحوّل سوريا ما بعد الحرب إلى تهديدٍ للمجتمع الدولي. كما أن إشراك الكُرد السوريين في إدارة حكومتهم الخاصة سيؤدي إلى تطور المصالح المشتركة بين تركيا و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الأمر الذي قد يؤدي إلى استبدال النزاعات المسلحة وتزعزع الاستقرار المتواصل بعمليات سياسية رسمية في تركيا”.
وفي السياق اعتبر تقرير لمركز “وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فنك”، 7 اكتوبر 2021 أنّ الكرد في العراق، أصبحوا بيضة القبان في الانتخابات العراقية التشريعية، إذ لا تستطيع أي كتلة برلمانية الحصول على الأكثرية البرلمانية دون الاعتماد على الصوت الكردي الذي بات يحظى على ما يصل إلى 20% من مجموع مقاعد البرلمان العراقي حالياً.
- تمتاز المرأة الكردية “بتمكين ذاتي” لا يتوفر في المجتمعات الذكورية المحافظة المجاورة، مثلا تولت القائدة الكردية قرة فاطمة، في القرن التاسع عشر، قيادة كتيبةٍ عثمانية ضمت في صفوفها 700 رجلاً و43 امرأة في مواجهة الإمبراطورية الروسية. وفي القرن السابع عشر أشار الرحالة الايطالي بيترو ديلا فالي إلى “تنقّل النساء الكرديات بحرّية دون حجاب”. ولفت في كتابه “رﺣﻠﺔ اﻟﻰ ﻛُﺮدﺳﺘﺎن ﻓﻲ ﺑﻼد ﻣﺎ ﺑين اﻟﻨﻬﺮﻳﻦ”، المنشور عام ١٦٦٧ إلى أن النساء “يتعاملن مع الرجال الكُرد والأجانب دون أية مشكلة”.
هذا الإرث المميز للمرأة الكردية نضج في البنية الفكرية والممارسة السياسية لدى حزب العمال الكردستاني اليساريّ، الذي يعد من أكثر الحركات المناصرة للمرأة في منطقة الشرق الأوسط .حيث عقد مؤتمره الأول لحقوق المرأة في عام 1987. وأصبحت النساء تتمتع بالحقوق القانونية نفسها التي يتمتع بها الرجال في مناطق الادارة الذاتية لشمال شرق سوريا التي تستلهم قوانينها من النية الفكرية لحزب العمال الكردستاني. وتفترض قوانين الإدارة الذاتية أن يتقلد كل منصب رئيس ورئيسة مشتركة يتشاركان الصلاحيات والسلطة، كما تمنع هذه القوانين الزواج المتعدد تحت طائلة التعرض للسجن وغرامات مالية ضخمة.
نضج هذا الإرث مجددا في العقد الاجتماعي لشمال شرق سورية الذي أعلن عنه في تموز 2016م ونص على ان “النظام الفيدرالي الديمقراطي في العقد يعتمد على ثقافة الآلهة الأم ويؤكد على حرية المرأة في مواجهة الهيمنة الذكورية للرجل”.
من النقاط اللافتة والدالة على تمكين المرأة في شمال شرق سورية هي وحدات حماية المرأة، وهي وحدات نسائية بالكامل ومستوحاة من أيديولوجية التحرير النسوية الخاصة بحزب العمال الكردستاني، وتشتمل على ما يزيد عن 25 ألف امرأة كردية في سوريا . شاركن في العام ٢٠١٤ بإنقاذ آلاف الأيزيديين ممّن عانوا من الحصار الذي فرضه عليهم تنظيم “الدولة الإسلامية” في جبل سنجار/ شنكال بالعراق، كما ساهمت هذه القوات في تحرير مدينة الرقّة من التنظيم عام ٢٠١٧.
خاتمة :
إنّ المنحى الاجتماعي المتطور بعيداً عن الدين، وآلياته في الحكم وإدارة المجتمع الذي تنتهجه الإدارات الكردية في الشمالين العراقي والسوري هو حاجة مجتمعية ملحّة في كافة مجتمعات الشرق الأوسط المنهكة بفعل التيارات الدينية سواء المتطرفة أو المعتدلة، وبفعل العلاقة الوثيقة بين أنظمة الحكم والحركات الدينية.
ثم هناك سياسات الجندرة المتطورة التي تتبعها الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية ولا يمكن، في هذا الإطار، فصل الانتفاضات المطالبة بحقوق المرأة في إيران بعد مقتل “مهسا جيني أميني” على يد الشرطة الشرعية الإيرانية في أيلول 2022 عن الإرث المتراكم لدى المرأة الكردية وتجلياته في التجربة السورية، ويمكن اعتبار هذه الانتفاضات والمطالبات المرافقة لها أحد جوانب الدور الكردي في تطوير المجتمعات والنظم المحافظة الذكورية، ويمثل هذا الدور أخطر ما يمكن أن يقدمه الكُرد لمجتمعات الشرق الأوسط الغارقة في الذكورية الدينية.
ففي اختصار للمشهد الكردي في الشرق الأوسط، فإن هذه المسألة لم تهدأ. وأينما وجد الكُرد كانت تتحقق إنجازات خاصة بهم ولو على حساب وحدة وسيادة الدول. ولم تقتصر هذه التحولات على بلد دون آخر. وربما نرى بعد سنوات أن المشهد الشرق أوسطي الذي يتحدث الآن عن توازنات وصراعات بثلاثة أضلاع بين عرب وأتراك وفرس، قد يتحول إلى توازنات وصراعات مربعة الأضلاع.