شمال وشرق سوريا بين الأحزاب المُستنسَخة والمناسباتيّة, والمهامّ الوطنية
فوزي سليمان
فوزي سليمان
لكل عصر سماته وخصائصه التي تميّزه عن العصور الغابرة التي سبقته وتطبعها بطابعه التقدمي، ويعدّ ذلك واحداً من قوانين التطور الديالكتيكي، هذا القانون الذي أخذ طابع الأبدية، وهو الوحيد الذي عصى على قوانين الديالكتيك الثلاثة ولا يتغير، ألا وهو قانون: “كل شيء يتغير، كل شيء يتبدل”. وقد عبر عن ذلك الفلاسفة اليونانيون بمثال يبسّط الأمر بشكل لا يقبل الجدل، وذلك من خلال مقولة: “لا يمكن للمرء أن يستحمَّ في نهر جارٍ مرَّتين”.
ولكن يبدو أن هذا القانون لا يأخذ مفاعيله مع أغلب أحزابنا في شمال وشرق سوريا، على الرغم من الكمّ الهائل لأسمائها التي تكون غالباً غير معروفة لعامة الشعب، وأنا كفرد من هذا المجتمع حقيقة لا أعرف أكثر من ثلاثة أو أربعة أحزاب، في حين يُقال إنه هناك أحزاب بالعشرات, وقد نُتَّهم بالجهل والسَّطحية لعدم معرفتنا في هذا المجال.
هنا لن نخوض في تعريفات الحزب أو الأحزاب ومهامها وأسباب تشكيلها، ولكن وجود هذا العدد الهائل من الأحزاب في بقعة جغرافية صغيرة مثل شمال وشرق سوريا والتي تعداد سكانها لا يتجاوز خمسة ملايين، أمر يستوجب التوقّف عنده. وقبل أي شيء آخر، وقبل الخوض في الأمر وسبر أغوار هذه الظاهرة الغريبة، لا بدّ من الإشارة والتأكيد على أن التعددية في أي مجتمع هو أمر صحي وإيجابي ولا بدّ منه، ولكن مع كل أسف هذا الأمر لا ينطبق والحالة المُعاشة على أرض الواقع هنا في شمال وشرق سوريا، ولفهم الواقع أكثر؛ يمكننا الاستشهاد بالأحزاب الشيوعية – الماركسية اللينينية – التي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط خصوصاً والعالم عموماً.
لن نخوض كذلك في مسألة صوابيّة أو عدم صوابيّة الفكر الماركسي اللينيني، إنما مقصدنا معرفة الظروف والأسباب التي أنتجت عملية الاستنساخ التي تم فيها تشكيل هذه الأحزاب، فبدلاً من أن تعمل على تطبيق النظرية الماركسية اللينينية استناداً على واقع وتطور كل مجتمع، انجرَّت نحو نسخ التجربة السوفييتية أكثر من السوفييت أنفسهم في بلدانهم، لدرجة أضحت الشعوب تستهجن الأمر بطريقتها، وللتَنَدُّر كانت تصف الأمر بمقولة “لو أمطرت في موسكو، نجد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية قد فتحت المظلات هنا ..”، وهو تشبيه فيه الكثير من الحقيقة؛ إذ لم تستطع تلك الأحزاب تجاوز أطر النسخ التي أقحمت نفسها فيه، وقد تجلى ذلك بكل وضوح مع انهيار الاتحاد السوفياتي لتنهار هي الأخرى الواحد تلو الآخر، وفي أحسن الأحوال بقاء الاسم فقط، ولكن دون أي فعالية تذكر، اللهمّ إلا في المناسبات والتي غالباً لا صلة لها بالمجتمع مثل الاحتفال بثورة أكتوبر التي قادها لينين ورفاقه البلاشفة.
والأنكى من ذلك؛ هو أن هذه المناسبات تُقام ضمن أطر مقولبة وخطاب جامد لا يتغير, وهو مكرّر، هذا ناهيكم عن مواقفها الهزيلة إزاء العديد من القضايا، والتي غالباً ما تكون ضمن إطار ما يُرضي الأنظمة في هذا البلد أو ذاك. في حين أنها في بدايات انطلاقاتها كانت تمثّل قوة فاعلة وتمتلك أرضية جماهيرية واسعة ومؤثرة في القرار السياسي ككل، لكن ونتيجةً لتقوقعها داخل أطر نظرية بحتة، بالإضافة إلى الجمود العقائدي وتحالفاتها الخاطئة والقاتلة مع القوى القومية الحاكمة, كما شاهدناه في العراق وسوريا وغيرها من الدول القومية، تحوَّلت إلى أحزاب قومية ذيلية تدور في فلك الأنظمة القومية، والتي هي الأخرى – الدول القومية – طبَّقت الفكر القومي، عن طريق الاستنساخ أو النقل، وبأسوأ الأشكال، لتتحول نحو الديكتاتورية والفاشية، بل وأسوأ من ذلك بكثير، والواقع المعاش في الشرق الأوسط يؤكد هذا الأمر.
وهكذا نجد هذه الأحزاب (الماركسية اللينينية) ما هي إلا نسخة مشوّهة عن القومية المقيتة، ولكن بأسماء اشتراكية.
وإذا ما انعطفنا إلى حال الأحزاب في شمال وشرق سوريا؛ قسنجد أن عملية الاستنساخ الآنفة الذكر تنطبق عليها لدرجة كبيرة، وهنا لا بد أيضاً من استذكار مقولة لينين حول هذا التشبيه “كل تشبيه أعوج”، رغم ذلك سنتطرق إلى هذا التشبيه كلوحة جميلة أصيلة تحمل من المعاني والأفكار الفلسفية التي لا نهاية لها، إلا أنها تعرَّضت للكثير من عمليات الاستنساخ والتلاعب بها، لدرجة ضاعت الأصيلة بين الكمّ الهائل من التزييف، ليتوه معها المرء في معمعة طاحنة بين الحقيقة والرِّياء, وهذا بالضبط أحد أهم الأمور التي يعاني منها الشعب في شمال وشرق سوريا والشعب الكردستاني عموماً. وإذا ما أردنا في هذه النقطة بالذات التعمق في الأمر والخوض فيه؛ نجد أن للدول المستعمرة لكردستان دور أساسي في هذه العملية الاستنساخية، لنكون وجهاً لوجه أمام أحزاب – وجميعها طبعاً تدَّعي الوطنية – عديدة، وزمام أمور أغلبها السّاحق ليس بيدها، إنما تخلت عنه تماماً للغير، ولا حول لها ولا قوة إلا في مجالات محددة معروفة للجميع، وتنحصر في المناسبات والأعياد وتوزيع الروزنامات السنوية وجمع التبرّعات، وضمن إطار ضيق جداً ومحصور، وهكذا نكون وجهاً لوجه أمام أحزاب مستنسخة مناسباتيّة يعلو ضجيجها مع صغائر الأمور، وتكون غير مرئية في الأمور المصيرية التي تمسّ مستقبل الشعب والوطن والدفاع عنهما تجاه جميع المخاطر المحدقة بهما من كل حدب وصوب، والتي يجب أن يكون للأحزاب الدور الفاعل والطليعي في مواجهتها. وهذه هي الطّامة والمصيبة والعلة التي نعاني منها على جميع الأصعدة السياسية والدبلوماسية والعسكرية، في حين أن الحقبة التي نمر بها، ومنذ أكثر من عقد، تُعَدُّ الأخطر منذ قرن، وفي نفس الوقت هي فرصة تاريخية لا يمكن أن تتكرر, ويجب الاستفادة منها في اليوم الواحد خمساً وعشرين ساعة وأكثر، هذا مع إدراكنا أنه هناك تغييرات كبيرة على المستوى العالمي يجري الإعداد لها على قدم وساق وتتجه بخطى متسارعة نحو حقبة يرغب الجميع أن يطبعها بطابعه، حتى لو أدى ذلك إلى نشوب حرب عالمية ثالثة.
ما يجري على أرض الواقع، وخصوصاً في كردستان ككل وأوكرانيا؛ يُثبت أننا مقبلون على حقبة خطيرة وليست بطويلة وبعيدة المدى، سيتم فيها إعادة رسم مناطق النفوذ من قبل القوى المهيمنة على العالم، وهذا الأمر أضحى من بديهيات سياسة المصالح، وبنفس الشكل يفسّر التحرّكات المكوكية للأنظمة المعادية لتطلعات الشعوب في الحرية والديمقراطية. وقد قطع أبناء شعبنا في شمال وشرق سوريا أشواطاً جداً مهمة على المستويين الداخلي والخارجي, ورغم كل المكتسبات التي تحققت؛ مازال هناك خطر كبير يهدد وجودها أرضاً وشعباً، وهنا لن نخوض في التهديدات الخارجية؛ لأنها قائمة دائماً وأبداً وتتصاعد بشكل مستمر، لذلك علينا الولوج إلى الداخل وسدّ الثغرات العديدة التي يتسلل منها الأعداء لضرب التجربة الفتية من الداخل.
بناءً على ما تقدَّم؛ فإن للأحزاب الدور الأكثر فاعلية في تحويل التطورات لصالح إحقاق الحقوق لشعوبها، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دعوات لتلبية متطلبات المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم أجمع، ولا حتى إلى نقاش، فالهدف بالنسبة للكرد هو تبنّي هُويَّته الوطنية والتاريخية والثقافية، ولكن تشرذم الأحزاب على الساحة في شمال وشرق سوريا إلى عُصَبٍ وكُتَلٍ متفرّقة ترك الساحة مفتوحة على مصراعيها أمام المتربّصين بها، رغم ذلك مازال الوقت متاحاً أمام إعادة قراءة المرحلة التي نمرّ بها وأداء المهام الملقاة على عاتق الجميع، وبدون استثناء.
ولكن – وللأسف – فإن تحوّل بعض الأحزاب إلى أداة سيئة بأيدي الأعداء، والتي ربطت وجودها بوجودهم، لا يبعث على الكثير من التفاؤل، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال توخّي حدوث أي تغيير في بنية تفكيرهم المعتمد بشكل كلي على الارتزاق والتبعية، حيث أنها أفلست على جميع الأصعدة، وفي مقدمتها على الصعيد الأخلاقي. هنا لسنا بصدد توجيه الإملاءات على أي كان؛ ولكن لا بد من وضع بعض النقاط على الحروف.
ولنتطرق إلى السؤال السهل الممتنع، الذي لطالما طرحه الفلاسفة (أفلاطون): من أنت …؟! وماذا تريد…؟! إن طلب الأجوبة ممَّن قيَّد إرادته بسلاسل التبعية للغير ويعمل على تعويم وشرعنة الاحتلال؛ لهوَ أمر عقيم ويكون قد أقحم نفسه في شرك تلك الجهات التي تسعى أساساً إلى إلهاء وتشويش القوى الوطنية وإخراجها عن مسيرتها، وفعلياً يتم العمل من جهة أخرى – ومن قبل العديد من القوى الفاعلة والمؤثرة – على تعويم هذه الأحزاب، أو على الأقل ملء الساحة بهم من خلال نِسَبٍ محددة مسبقاً، والتي تُعَدُّ شكلاً آخر من أشكال الضغط على هذا الطرف أو ذاك. والأنكى من كل هذا؛ هو أن بعض الأحزاب في شمال وشرق سوريا فاقدة للشخصية الخاصة بها التي تميزها، فهي ذات شخصية مشوَّهة تماماً، وهي أشبه بخليط من كل شيء باستثناء الوطنية، فلسان حالها لا علاقة له لا بالجغرافيا ولا التاريخ ولا الأرض، إنما هو لسان حال الأعداء، ليتحولوا إلى مجرد أوراق تستخدم خلال فترة محددة جداً، ومن ثم تُرمى في المكان المخصص لها. وما الفضائح الأخيرة التي تداولتها وسائل الإعلام، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، إلا مؤشراً على الانحطاط والمستنقع الذي غرقوا فيه وأقحموا أنفسهم بأنفسهم في متاهات لا يمكن للذاكرة المجتمعية أن تتخطّاها, ففي الوقت الذي يتخبَّط الشعب بدمائه للحفاظ على وجوده المُستهدَف بأبشع أشكال الحروب التي يندى لها جبين الإنسانية، نجد في الوقت عينه (قادة) الأحزاب يعيشون حياة الخُزيِ والعار في الفنادق المخملية ضمن حالة من الترف والبذخ، وهم ليسوا سوى عبيد وببّغاوات تقلد ما يُملى عليها من توجيهات. في هذه النقطة بالذات نعود ونستذكر مقولة لينين التي وجّهها للقس غابون: “لا تحقّروا أنفسكم أمام عدوكم اللدود”.
بناءً على ما تقدّم؛ ورغم أهمية وحساسية المرحلة والوقت معاً، بإمكاننا القول وبصوت عالٍ للجميع، اقتربنا من نهاية مئة عام من المآسي والآلام والعذابات، من خلال التعرّض لأبشع أشكال الإبادة والتمييز العنصري المقيت، ولقد فشل الأعداء في تحقيق مآربهم وأهدافهم، بشكل جعلهم أكثر وحشية وفاشية. والزلزال الذي ضرب المنطقة مؤخّراً؛ إثبات على دناءة العدو الذي نواجهه، وبنفس الشكل إثبات للعالم على الوجه الحقيقي للإرهاب. وفي الطرف المقابل هناك الكثير من المنجزات التي تحققت لأول مرة في تاريخنا القديم والحديث، ولا يمكن لأحد الاستهانة بها وهي في تصاعد مستمر، ولذلك لا بد للجميع قراءة ودراسة حقيقة المرحلة التي نمر بها، واتخاذ الخطوات اللازمة لتلبية متطلباتها، ويكون ذلك فقط وفقط من خلال تبني الهُويّة الوطنية، بغضّ النظر عن المعتقد، فالتاريخ لا يرحم أحداً، وللشعوب ذاكرة لا يمكن لأحد محوها.