مصطفى شيخ مسلم
“سايكس بيكو” معاهدة اتسمت في بادئ الأمر بالسرية بين فرنسا وبريطانيا، لتقاسم تركة الدولة العثمانية بينهما، ولتحديد مناطق النفوذ غرب آسيا، وبالتالي تقسيم الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على تلك المنطقة حتى الحرب العالمية الأولى.
نُسِجَتْ هذه الاتفاقية على أمل نجاح هذا الوفاق في إنهاء الدولة العثمانية إبَّان الحرب العالمية الأولى، وقد جرت المفاوضات الأولية التي نتج عنها الاتفاق بين العامين 1915 و1916، وهو ذاته التاريخ الذي وقّع فيه الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا بيكو، والبريطاني مارك سايكس على وثائق مذكرات تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، لتُصادق حكومات تلك البلدان على كل بنود الاتفاقية فيما بعد أي في مايو 1916.
عندما كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني صيف عام 1916، وكانت تتنازع بريطانيا على مناطق النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط مع فرنسا، التي كانت تحتل هي الأخرى مناطق كثيرة بها أيضاً, وكانت نواة هذه الاتفاقية اجتماع سري ما بين السير “مارك سايكس” من بريطانيا، والسيد “إم فرانسوا جورج بيكو” من فرنسا, وقد تفاوض الطرفان على تقسيم كعكة الشرق الأوسط فيما بينهما، في محاولةٍ منهم لإقصاء روسيا القيصرية وحرمانها من إمكانية الخوض في الشرخ الناتج عن تصارعهما في الدخول وفرض أمر حال واقع بالسيطرة على مناطق كثيرة في تلك المنطقة.
كانت بريطانيا مسيطرة وقتذاك على مصر وفلسطين وأجزاء واسعة من المملكة العربية السعودية، التي كان يُطلق عليها الحجاز، ومناطق متفرقة من العراق الذي لم يكن قد أعلِن دولة بعد، وكانت فرنسا تسيطر على سوريا، فيما كانت روسيا منذ أيام بطرس الأكبر، تسيطر على تركيا بما في ذلك القسطنطينية ومضيق الدردنيل، تلك القناة الواصلة ما بين البحر الأسود إلى البحر المتوسط، والتي كانت تربط الأسطول الروسي بالمياه الدافئة.
ومع انهيار السيطرة الروسية على تركيا، على إثر قيام الثورة البلشفية وظهور تركيا العلمانية آنذاك إلى السطح، أدى ذلك لخروج تركيا من معادلة الصفقة السرية ما بين بريطانيا وفرنسا.
حدودٌ مصطنعة هشَّمَتْ آمال الكرد
تزامناً مع رسم خرائط جديدة، تلك التي قطعت أوصال الشرق الأوسط وفي مقدمتها كردستان التي وقعت في مصيدة شباك الدول الراعية للاتفاقية، لم يتم إيلاء أي أهمية للأعراق والثقافات والقوميات التي ضاعت أراضيها بين مخالب الاتفاقية المجحفة بحقهم.
وألحقت على أثرها كردستان بأربع دول (سوريا والعراق وإيران وتركيا) التي تم خلقها برسم حدود وأسلاك شائكة امتثالاً لاتفاقية سايكس بيكو، ما حطّم آمال الكرد في تقرير مصيرهم نتيجة لمؤامرات ووعود زائفة من جهات عديدة.
كشّرت هذه الدول عن أنيابها وبات انحيازهم ومساعدتهم لتركيا جلياً في إقامة حدودها الحالية في معاهدة لوزان 1923، مقابل تخليها عن الموصل للبريطانيين، فيما قدّمت فرنسا لواء إسكندرون السوري على طبق من ذهب لتركيا عام 1939.
رغم هذا كله، ظل خطر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي يلاحق الكرد في كردستان في الأجزاء الأربعة.
عنصرية سايكس
قبل الجلوس على طاولة المفاوضات اعتمد سايكس على ثروة عائلته الكبيرة للسفر إلى منطقة الشرق الأوسط بالكامل، للوقوف على أفضل الأماكن التي يمكن أن تسيطر بلاده عليها، حتى أن منزله في يوركشاير لا يزال يمتلئ بالكثير من المقتنيات التي حاز عليها خلال رحلاته من مختلف العصور القديمة المصرية والبابلية والآشورية والعربية والفارسية.
لورانس العرب
عام 1916، بدأ “سايكس- بيكو” استغلال رجل مخابرات عسكري عُرِف باسم “لورانس العرب”، وكلّفه بأن يتسلل لمنطقة الحجاز، ليدرس قوة الهاشميين حينها فيما كان يُطلق عليه “المملكة العربية” التي كانت تسيطر على منطقة الخليج والعراق بالكامل تحت سيطرة الحكم العثماني.
وارتدى على إثرها لورانس الزيّ العربي التقليدي، ودخل فعلاً إلى المدن المقدسة “مكة المكرمة والمدينة المنورة”، وأجّج نار الفتنة والصراع ضد الحكم العثماني.
وبعد فترة وجيزة وعد لورانس كلاً من “سايكس” و”بيكو” بالاستقلال العربي والتخلص من الحكم العثماني، وبالفعل دفع الهاشميين لخوض الحرب مع العثمانيين.
الحرب الهاشمية
رأى المفوّض السامي البريطاني في مصر أن استقلال المملكة العربية عن عباءة الحكم العثماني، وجعلها تحت حكم ملك واحد، سيكون خطراً كبيراً، وقد ينتج عن ذلك مشاكل كبيرة لبريطانيا وفرنسا وحتى روسيا، حتى لو كانوا حلفاء لبريطانيا في ذلك الوقت، لأنه لا ضمانات لاستمرار الولاءات لبريطانيا في المستقبل.
فيما بعد، استطاعت الجيوش العربية بشكلٍ فعلي، وبمساعدة القوات البريطانية، طرد الأتراك من أراضي المملكة العربية وفلسطين وسوريا، واستفادت تلك الجيوش من نصائح وخطط لورانس العسكرية التي لم يكن العرب يعلمون بها بعد، وتسبّب بمفاجأة الأتراك بها في ذات الوقت.
ثم بعد ذلك بدأ “لورانس العرب” في السعي باحثاً عن أمير هاشمي ليكون واجهة لهذا التحرك العسكري الكبير، ليجد ضالته أخيراً في الأمير فيصل أحد الأبناء الأربعة للملك حسين الهاشمي، وقطع مسافاتٍ شاسعة لمقابلته عام 1916.
وبدوره أثار الأمير فيصل إعجاب لورانس، فهو يسكن بيتاً طينياً يتوسط قاعدة معسكره، ذو مظهر ملكي، حيث كان طويل القامة رشيقاً قوياً، وذكياً فطناً، كما كان الشخص الأقلّ تعقيداً والأكثر تفهّماً للأفكار الجديدة مقارنةً بباقي أخوته، وفقاً لما نقله عنه لورانس في مذكراته.
الخريطة
بعيد أن بلغت الحرب نهايتها، بدأ لورانس وبشكل تدريجي بتسريب تلك الخريطة التي سبق للبريطانيين والفرنسيين الاتفاق عليها، أي الخريطة الجديدة للمنطقة، فبدأ بالكشف عن معالمها للأمير فيصل، وفي الوقت الذي كان يسعى فيه الأمير دخول سوريا، حذّره لورانس قائلا “مكاننا هنا في الوادي الأصفر، ما زلنا بعيدين بصورة كبيرة عن دمشق”، كما حذّره من أنه إذا ما قرر دخولها بالقوة سيصطدم بالطموح الفرنسي وسيخوض حرباً شرسة معها.
فيما بعد وصلت الرسالة للأمير فيصل، حيث كانت تشير الخطة لضرورة دخول الجيوش العربية دمشق وحمص وحلب، ليتمكنوا من دحر العثمانيين، ومن ثم انسحابهم منها لترك المساحة خالية أمام الفرنسيين.
وفي مطلع العام 1917، بسطت الجيوش العربية سيطرتها على القدس لتنهار الإمبراطورية العثمانية بالكامل، وبدأ فعلياً تطبيق اتفاقية “سايكس- بيكو” وتنفيذ الخريطة التي اعتمدها الأمير فيصل حينها.
اليهود
تزامناً مع تطبيق اتفاقية سايكس بيكو التي تضمنت بنداً ينص على أن “فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي”، حيث لاقى هذا البند امتعاضاً كبيراً من جنرالات بريطانيين في مصر, فكتب أحد الجنرالات حينها رسالة نشرت في الصحافة البريطانية: “فلسطين ليس بلداً ملائماً لليهود، فهي أرض فقيرة غير قادرة على التطور الكبير”. ولكن بعد صراع استمر لعدة سنوات أصرت الحكومة البريطانية على اعتبار فلسطين دولة يهودية فيما أطلق عليه لاحقاً “وعد بلفور”.
وأصبحت خطة “سايكس- بيكو” جاهزة للتنفيذ، بعدما أثّرت الثورة الروسية على قدرات موسكو العسكرية، وطالب لورنس في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 بضرورة إقرار تلك الخريطة والاتفاقية دولياً.
وبالفعل كانت أيام الأمير فيصل في دمشق معدودة، حيث اتجه الفرنسيون سريعاً للسيطرة عليها، وتم ترضية الهاشميين من قبل السطات البريطانية عام 1921 بمنح الهاشميين مملكة جديدة شرق الأردن، وحصل فيصل على جائزة ترضية أخرى أيضا في عرش جديد في بغداد أسّس من خلاله دولة العراق فيما بعد.
المراجع:
– سبوتنيك.
– ويكيبيديا.
-وكالة هاوار.
– وكالات.