النَّقشبنديّة.. تطوّرها وصراعاتها وانقسامها بين الانتماء الدّينيّ والقوميّ
جميل رشيد
جميل رشيد
يحفل تاريخ الشَّرق بالحركات الدّينيّة التي ألقت بتأثيراتها على المجتمعات، وغيَّرت
ثقافاتها وتركت بصماتها على مراحل معيّنة من تاريخها، لتشكِّلَ نقطة تحوّل نقلتها
على أعتاب دخول عصر جديد، بكُلِّ ما تحمله من آلام ومخاضاتٍ، مثلما حدث للحركة
“الكالفنيّة” في بداية القرن الخامس عشر، وتحوَّلت فيما بعد إلى المذهب
البروتستانتيّ، وأشعل حروباً دينيّة في أوروبا المسيحيّة، لم تنطفئ نيرانها إلى بعد
توقيع جميع الأفرقاء المتحاربين على وقف الاقتتال الدّينيّ في معاهدة فيستفاليا
عام 1648.
ومنطقة الشرق الأوسط، وباعتبارها مَهَّدَاً للأديان السَّماويّة والفِرَق والنِّحَل المنبثقة منها، شهدت ولادة حركات
ومذاهب دينيّة وطرق صوفيّة عديدة، منها باطنية، وأخرى ظاهريّة، لتتحوّل في فترة لاحقة إلى أعداء
متخاصمين، تتقاتل فيما بينها على الانتماء المذهبيّ والطائفيّ، أكثر ممّا تختلف على أمور العقيدة والدّين، فكان
في أغلب مفاصل التّاريخ الدّينيّ والمذاهب المتشعِّبة منها السَّيف هو الحكم بينها، دون الأخذ بأسباب
موضوعيّة وفكريّة وعقيديّة لخلافاتها مع المذهب والطَّريقة الأخرى.
كانت القطيعة وتكفير المذاهب والطرق الأخرى حاضرة في صلواتهم ودعواتهم وفي كُلِّ طقوسهم الدّينيّة، ولم
تعش فترة وئام بينها، ما أحدث شرخاً مجتمعيّاً كبيراً وبَوْناً بين الأفراد، زاد اتِّساعاً مع تَسَيُّد شيوخ المذاهب
والطرائق الدّينيّة لزعاماتهم، وإصدارهم فتاوى تحلِّل وتُحرّم وفق مشيئتهم، ليرسِّخوا حالة عداء مستعصية
على الحَلّ، أسبغت بها مجمل مناحي الحياة، في الزَّواج والعادات والتَّقاليد والأعراف العامّة، حتّى في الفصل
بين الأحياء التي يقيم فيها المذهب المخالف له، واستمرّت تلك الحالة بكُلِّ مساوئها وسلبيّاتها إلى يومنا هذا،
وبكُلِّ أسفٍ.
إنَّ دراسة الحركات الدّينيّة والمذاهب والطرق المتفرِّعة عنها، ليست بتلك السُّهولة التي يتوقَّعها البعض،
وتتطلَّب سبراً في أعماقها وكُنهِها، واتّخاذ الموضوعيّة والحياد في الاستنتاجات، وكشف مَواطن الضعف
والخلل فيها، طالما كانت السَّبب في تشابكها، وبالتّالي الإلمام بقدرٍ كافٍ من الدِقَّةِ في إطلاق الأحكام عليها.
ينبغي في البداية الإقرار بأنَّ تلك الحركات والطرق الدّينيّة لعبت في فترة تاريخيّة ما، على الأقلّ إبّان نشوئها،
دوراً هامّاً في تحديد ورسم مستقبل الشُّعوب والمجتمعات، رغم حالة الانغلاق العامّة على نفسها التي اتّسمت
بها، وتحوّل قسمٍ منها إلى حركات وطرق باطنيّة خفيّة، لا تُظهر ما تُبطنه، وتقع في مغالطات عقيديّة وفكريّة
فجَّة، حوَّلتها من حركة تنويريّة إلى مضادَّةٍ لها، ولتعيش حالة التقمُّص والانكفاء عن الحياة العامّة، وتَسجُنَ
نفسها ضمن أسوار صنعتها هي بنفسها ولنفسها، وتغدو مع مرور الزمن حركات رجعيّة كابحة لتطوّر
المتجمعات وعقبة أمام الفكر والتنوير، بل انبرت لتحاربه بكُلِّ الوسائل والطرق التي برَّرتها لنفسها من خلال
سيل من فتاوى التَّكفير.
سنحاول في دراستنا هذه دراسة الحركة النَّقشبنديّة، وتاريخيّة نشوئها، وامتدادها في عدَّة مناطق وبلدان،
والتطرُّق إلى أهمّ الأدوار التي قامت بها في المجتمعات الشَّرقيّة، وكيف تَمَّ استغلالها فيما بعد من قبل
السُّلطات الحاكمة، لتتحوّل إلى حركة مضادَّةٍ لأيِّ تطوّر علميّ وفكريّ خارج إطار المنظومة الدّينيّة التي
آمنت بها. وكذلك سنحاول أن نبحث في صراعاتها مع الحركات الدّينيّة الأخرى والطرق المخالفة لها، وكيف
اختصرت الدّين والمجتمع في طريقتها، إلى أن وصل بها الأمر إلى إصدار أحكامها وفتاويها المستندة إلى
توجُّهات ورؤى متزمّتة لشيوخها أحدثت شروخاً في المجتمعات التي انتشرت فيها، لتدخل مع بداية القرن
التّاسع عشر والعشرين في الصراعات السِّياسيّة وتستغلّها الطبقة السِّياسيّة في خدمة مصالحها واستدامة
سلطتها، وخاصَّةً أثناء الانتخابات.
سنركِّز على دور الحركة النَّقشبنديّة في تاريخ الشَّعب الكُرديّ، ونحاول كشف سلبيّات وإيجابيّات دورها
وانعكاسه على القضيّة الكُرديّة سابقاً وحاضراً، وكيف تحوّلت إلى مذهب دينيّ – سياسيّ؛ تتّكِئ عليها بعض
الحركات والأحزاب الكُردستانيّة لتكوين حاضنة مجتمعيّة لها، إلى جانب تبيان التراتبيّة الدّينيّة في الطَّريقة،
وكيفيّة إصدار الأوامر والقرارات، خاصَّةً داخل كردستان، باعتبارها الموطن الأوَّل لنشوئها، وكذلك سبر أهَمّ
المنعطفات التّاريخيّة التي مرَّت بها الحركة، ومعرفة خصومها وأعدائها، إلى جانب استعراض الطقوس
الدّينيّة والطرائقيّة التي تُميّزها عن غيرها من الطرق الدّينيّة المنتشرة في كردستان والشَّرق الأوسط.
النشأة التّاريخيّة للحركة النَّقشبنديّة:
حسب المصادر التّاريخيّة؛ تعود الجذور الأولى لنشأة الحركة النَّقشبنديّة إلى القرن الثّامن الهجري، وأسَّسها
“مُحمَّد بهاء الدّين النقشبند” في قرية “قصر هندوان”، من قرى بخارى “أوزبكستان” حاليّاً.
وفي رواية أخرى، يَعتبر مؤرّخون أتراك أنَّ النَّقشبنديّة مشتقَّة من الحركة “اليَسويّة”، حيث أنّ “أحمد يسوي”
أسَّس الحركة اليَسويّة، وانتشرت بشكل واسع بين الأتراك في أواسط القرن الثّاني عشر الميلاديّ. وهي أوَّل
طريقة صوفيّة سعت لنشر الإسلام بين الأتراك، خاصَّةً عندما ربط “أحمد يسوي” بين طريقته الصوفيّة
والإسلام، فلاقت تعاليمه رواجاً كبيراً بين الأتراك.
أثَّرت الحركة اليَسويّة بشكل عميق في النَّقشبنديّة، من خلال صلة شيوخها بـ”أحمد يسوي”، حيث تؤكِّد عدّة
مصادر تاريخيّة أنَّ الشّيخ النَّقشبنديّ “بهاء الدّين نقشبند” نالَ تعاليمه الطرائقيّة على يد كُلٍّ من الشّيخين “قاسم
وخليل آتا”، وهما من أبرز شيوخ اليَسويّة. وعن طريق “اليَسويّة” انتشرت النَّقشبنديّة بين أتراك تركستان،
وفق مؤرّخي التراث الدّينيّ.
في فترة زمنيّة لاحقة؛ اندمجت اليَسويّة بالنَّقشبنديّة، لتذوب في تعاليمها وطرائقها، ولتحقّق انتشاراً واسعاً في
بلدان الشَّرق والقفقاس، حتّى أطلق عليها مريدوها اسم “السِّياحة الدّينيّة”، نظراً لكثرة المريدين المنضمّين
إليها.
ومن حيث الطقوس والعقائد؛ للحركتين ذات المنهج الصوفيّ والعقيديّ، ولهذا السَّبب لم يتأخَّر اتّحادهما
واندماجهما معاً.
يمكن القول بأنَّ النَّقشبنديّة تشبه إلى حَدِّ كبير “الطَّريقة البكتاشيّة”، لجهة قدرتها على احتواء عدد من الطرق
الصوفيّة، وكذلك – وهذا هو الأهَمّ – من حيث أنَّهما حركتان باطنيّتان تعملان في الخفاء وفي العلن معاً، طبقاً
للطقوس والعقائد المحدّدة لكُلّ طريقة.
ويورد الكاتب التُّركيّ “فؤاد كوبرولي” في كتابه “قيام الدَّولة العثمانيّة” رواية مغايرة عن جميع مؤرّخي
الحركات والطرائق الدّينيّة، حيث يعتقد أنَّ النَّقشبنديّة انبثقت عن “اليَسويّة”، ويذهب إلى حَدِّ القول “حملت
النَّقشبنديّة واليَسويّة ما حملت من التَّشابه في عاداتها وعقائدها ومراسيمها وطقوسها؛ بل لنا أن نقول إنَّها
تأسَّست على قواعد وأصول اليَسويّة”. وينعته باحثون دينيّون بأنَّه يقدِّم قراءة قوميّة للطريقة اليَسويّة، وأنَّ
فهمه اقتصر على أخذ جانب واحد من الطَّريقة دون الإلمام بجميع أبعادها المجتمعيّة والفلسفيّة والإيديولوجيّة.
لقد راجت النَّقشبنديّة في تركيّا بعد اندماج اليَسويّة، وفرضت نفسها كبديل لها، لما لها من عمقٍ دينيّ وقوَّة في
أداء الطقوس والعقائد، ما أدّى إلى انتقالها إلى خراسان وخوارزم. ويؤكّد “كوبرولي” “اتّساع رقعة نفوذ
شيوخ النَّقشبنديّة في آسيا الوسطى خلال القرنين التّاسع والعاشر الميلادي”، ويضيف “سلالة تيمور أولت
الطَّريقة النَّقشبنديّة بالغ الأهميّة، وكُلّ الأمراء إبّان حكم الشيبانيّين في القرن السّادس عشر الميلاديّ عاشوا في
كنف شيوخ النَّقشبنديّة وأصبحوا مريدين لهم”، وهذا يشير إلى الانتشار الواسع للنَّقشبنديّة.
تنتشر الطَّريقة النَّقشبنديّة في كردستان وإيران ومصر وعدد من دول القفقاس مثل أوزبكستان وأذربيجان، كما
أنَّها تعتبر واحدة من أكبر الطرق الصوفيّة، وهي الطَّريقة الوحيدة التي تدّعي نسبها للسلاسة المباشرة من نبيِّ
الإسلام “مُحمَّد” من خلال “أبو بكر الصدّيق”. فيما بعض المؤرِّخين ينسبونها إلى “علي بن أبي طالب” عن
طريق “جعفر الصّادق”.
إلا أنَّ تركيّا هي أكثر ما انتشرت فيها الطَّريقة النَّقشبنديّة من حيث عدد المنضمّين إليها، وأضحت مذهباً
سياسيّاً دينيّاً تدين بالولاء للأنظمة المتعاقبة، وتعتمد عليها القوى والأحزاب السِّياسيّة في تشكيل تكتلات
وتحالفات عريضة، لتدخل مستندة إليها في معترك الحياة السِّياسيّة والانتخابات. وتشير المصادر التُّركيّة أنَّ
النَّقشبنديّة “تتَّخذ من جامع إسكندر باشا بحيّ مُحمَّد الفاتح في مدينة إسطنبول مركزاً رئيسيّاً لها” ويترأسّها
“محمود أسعد جوسشان”، فيما تتبع لها جماعات وفرق أخرى مثل: “جماعة إسماعيل آغا، جماعة يحيالي،
جماعة أران كوي، وأوقاف المرادي”. كما أسَّست لاحقاً أحزاب سياسيّة – دينيّة لها أمثال “حزب الإنقاذ
الوطنيّ” عام 1970، الذي أسَّسه وأشرف عليه الدّاعية الإسلاميّ ورئيس الوزراء التُّركيّ السّابق “نجم الدّين
أربكان”، فيما رئيس “حزب الفضيلة” الدّينيّ “رجائي قوطان” أيضاً له صلة قوية بالطَّريقة النَّقشبنديّة.
يذكر الكاتب الصحفي التُّركيّ “مُحمَّد علي بيرانت” في صحيفة “2000” أنَّه كان للطَّريقة النَّقشبنديّة دور
كبير في إقناع الشَّعب التُّركيّ في التَّصويت على دستور عام 1982، عقب انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول بقيادة
رئيس هيئة الأركان آنذاك الجنرال “كنعان إيفرين”.
تطوّر الطَّريقة النَّقشبنديّة عبر التّاريخ وانتشارها:
مَرَّت الطَّريقة النَّقشبنديّة منذ تأسيسها بثلاث مراحل رئيسيّة، استطاع الشّيوخ القائمين عليها تطويرها وإضافة
طقوس جديدة عليها، حتّى غدت المرجعيّة الدّينيّة لعدد من السَّلاطين العثمانيّين، يأخذون مشورة شيوخها في
قضايا تَهُمُّ الإمبراطوريّة، فأصبحت للشّيوخ حظوة لدى السَّلاطين.
فإن كانت المرحلة الأولى (النشأة) قد تميَّزت باندماج الطَّريقة “اليَسويّة” معها؛ وتحقيقها انتشاراً لها في عدَّةِ
بلدان؛ فإنَّ المرحلة الثّانية في التطوّر التّاريخيّ للنَّقشبنديّة اتَّسم بالعلاقة مع الطَّريقة “الملاميّة”، وهي طريقة
صوفيّة انتشرت في عهد السُّلطان بايزيد الثّاني، وكذلك في عهد سليمان القانونيّ.
وتذكر المصادر العثمانيّة أنَّ السُّلطان مُحمَّد الفاتح “أولى أتباع النَّقشبنديّة بالغ اهتمامه حينما كانوا يعيشون
بعيداً عن مناطق حكمه، فقام بدعوة كبار شيوخهم من أمثال “نور الدّين عبد الرَّحمن الجامي” و”عبيد الله
أحرار”، وأمر بحمايتهم، وتولّى رعايتهم ليعاونوه ضُدَّ التَّهديد الشّيعيّ من جانب الإيرانيّين، والحَدّ من نشر
عقائدهم بين التُّرك أهل السُنّة”.
فالنَّزعة التُّركيّة “السُنّية” لدى الإمبراطوريّة العثمانيّة، والتي دخلت في وقتٍ مبكِّرٍ في صراعات مع
الإمبراطوريّة الصفويّة “الشّيعيّة”، سعت إلى استخدام النَّقشبنديّة في تحصين نفسها ضُدَّ التمدّد الشّيعيّ، فكان
لفتاوى شيوخ النَّقشبنديّة بالغ الأثر في تكوين حاضنة “سُنيّة” تتواءم مع تطلُّعات الإمبراطوريّة العثمانيّة، بل
وتنفِّذ مطالبها وتطلّعاتها للتمدّد في المنطقة. فكان شيوخ النَّقشبنديّة بمثابة مستشارين لدى السُّلطان العثمانيّ
ومن جلسائه وندمائه.
ويؤكِّدُ الكاتب التُّركيّ أكرم إيشن في مؤلّفه “عثمان بابا ولايت نامه سي” أنَّ النَّقشبنديّة لم تكن تتجاوز حدود
العاصمة العثمانيّة إسطنبول في أوّل نشأتها حتّي ظهور الخالديين.
والمرحلة الثالثة، وهي الأهم في تاريخ النَّقشبنديّة، هو المرحلة “الخالديّة”.
الطَّريقة النَّقشبنديّة الخالديّة وولادتها في كردستان:
تبدأ هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ الطَّريقة، مع الشّيخ الكُرديّ “ضياء الدّين خالد حسين” المعروف باسم
“مولانا خالد النَّقشبنديّ” والذي ينحدر من قرية “قره داغ/ Çiyayê Reş/ الجبل الأسود” في “سهل
شهرزور” التّابعة لمدينة “السُّليمانيّة” الكُرديّة، وهي تقع في إقليم كردستان العراق الآن. ويُعَدُّ “مولانا الشّيخ
خالد” مؤسّس الطَّريقة النَّقشبنديّة بداية من عام 1808. وتقول بعض المصادر التّاريخيّة أنَّ “الشّيخ خالد”
يتّصل نسبه إلى الإمام “علي بن أبي طالب”. ودخلت منذ بداية نشأتها في صراع مع أتباع الطَّريقة “القادريّة”
المنسوبة إلى الشّيخ الكُرديّ “عبد القادر الجيلاني”، لكن النَّقشبنديّة استطاعت أن تفرض نفسها. ومن العائلات
والعشائر البارزة التي يتولّى أفرادها مشيخة الطَّريقة في كردستان: “شمدين، تافيلي، والبرزانيّ”.
توجَّه “الشّيخ خالد” إلى الهند إبّان الاحتلال الإنكليزيّ لها، ونهل من علوم الشّيخ “عبد الله الدهلوي” شيخ
الطَّريقة النَّقشبنديّة في الهند، فتوسَّعت معرفته بعقائد وطقوس الطَّريقة أكثر، وأسَّس فيما بعد ما أطلق عليه اسم
“العلم الصوفيّ” في الطَّريقة النَّقشبنديّة.
أضاف “الشّيخ خالد” طقساً جديداً على الطَّريقة، غَيَّرَ من توجُّهاتها، حيث كانت طقوس الطَّريقة تُمارَس قبله
بشكل علنيّ “جهوريّ”، إلا أنَّ “الشّيخ خالد” جعلها سُرّيّةً “باطنيّةً” مثلما هي لدى طائفة الموحّدين الدّروز
والعديد من الطرائق البكتاشيّة الباطنيّة، وتكوَّن لها مجلس خاص بها، يناقش فيه أمور الدّين والرَّعيّة، في
معزل عنها، وهذا حسب اعتقاد بعض المؤرّخين مكمن قوَّتها وخطورتها في ذات الوقت. فدائماً الحركات
الباطنيّة شكّلت تهديداً للكيانات السِّياسيّة، خاصَّة بعد أن ظهر ما يُسمّى بـ”الإسلام السِّياسيّ” في فترة لاحقة،
ولم تكن النَّقشبنديّة بعيدة عن ذاك التَّفكير.
فالسُّلطة الدّينيّة لشيوخ الطَّريقة في المناطق المنتشرة فيها، كانت في ذات الوقت متناغمة مع السُّلطات
السِّياسيّة للبلاد، بل جزءاً مكمِّلاً لها، ولا تعارُضَ بينها، مثلما حصل مع الشّيخ “سعيد النَّورسيّ/ بديع الزَّمان”
النَّقشبنديّ في كردستان وتركيّا إبّان انتشارها في بدايات القرن الماضي، حيث لم تعارضها السُّلطات العثمانيّة،
وكذلك سلطات الجمهوريّة التُّركيّة الحديثة التي أسَّسها كمال أتاتورك، رغم أنَّه تعرَّضَ للاعتقال مَرَّاتٍ عديدة،
ونفي إلى المناطق الباردة في روسيّا، لكنَّه من حيث منهج التَّفكير؛ لم يعارض العثمانيّين ولا الجمهوريّين، بل
على العكس من ذلك؛ يورد بعض الثُّقاة في كتابة تاريخ “سعيد النَّورسيّ” بأنَّه وقف ضُدَّ ثورة “الشّيخ سعيد”
في عام 1925 المطالبة بالحقوق الكُرديّة، وقد نعت في رسائله التي كتبها “رسائل النّور” الثَّورة بأنّها “مخالفة
لتعاليم الدّين الإسلاميّ، ويجب ألا تتمرَّد على سلطة الجمهوريّة”، فلم يطالب في رسائله بالحقوق المشروعة
للكُرد، بل غرق في تفاسير القرآن والأحاديث الدّينيّة، إلى جانب ممالأته لأتاتورك في العديد من المواقف.
اتَّخذَ “الشّيخ خالد” طريقة فلسفيّة جديدة في التَّعبير عن فهمه للدّين والطَّريقة النَّقشبنديّة، خاصَّةً بعد عودته من
الهند مُحمَّلاً بالكثير من العلوم الدّينيّة ومعارفها، حتّى أنَّه هو من أدخل طريقة قراءة الآيات القرآنيّة بشكل
سُرّيٍّ، دون الجهر بها. “فهم لا يُصرِّحون بحقيقة اتّجاههم الدّينيّ؛ لئلا يتدخَّلَ في شؤونهم الآخرين”.
كما أنَّ “الشّيخ خالد” ومن خلال مذهبه الجديد في الطَّريقة النَّقشبنديّة الصوفيّة، ابتدع طريقة الغناء الدّينيّ،
وهذه الطَّريقة لا تزال منتشرة بكثرة في معظم مناطق كردستان، حيث ينشد أتباعه بعض “الإلهيّات” والتي
يطلق عليها الكُرد اسم “الأبيات”، وهي “نمط من الشِّعر الدّينيّ يناجون فيه المولى عزَّ وجلّ، يؤدّيها منشدوهم
بأداء يَهُزُّ القلوب ويُحرّك المشاعر ويقع في النَّفس موقعا حسناً، غير عازفين بأيٍّ من آلات الطرب، ويحبّذون
ارتداء ملابسهم التَّقليديّة التي أصبحت عرفاً لديهم وتدلُّ على زهدهم في الحياة”، ويقيم مريدو الطَّريقة حفلات
الذِّكرِ في السّاحات العامّة في المدن ويتجوّلون في القرى، وأضافوا عليها فيما بعد استخدام “الدّف”، وكذلك
الضرب بالسّيخ، وغالباً ما تنتهي حفلاتهم الدّينيّة بالأدعية الدّينيّة والمواعظ، فيهرع النّاس إلى التبرُّع لهم
بالأموال، وهذه الطَّريقة شائعة كثيراً في مناطق كردستان.
إلا أنَّ النِّظام الاجتماعيّ والسِّياسيّ الذي أسَّسهُ “الشّيخ خالد” في مناطق كردستان، ساهمَ إلى حَدٍّ كبير في
فرض الأمن والاستقرار، فانخفضت نسبة السَّرقات وجرائم القتل، وشاع بين النّاس الأمن والأمان، والصدق
والثِّقة المتبادلة، فاستطاع خلق حاضنة شعبيّة واسعة له في أوساط الفقراء وكذلك بين الطبقة المالكة
“الإقطاعيّة”، ويفرض قوانينه الخاصَّة النّاظمة للمجتمع.
برز الدَّور السِّياسيّ للنَّقشبنديّة في وقت مبكِّرٍ، فوقفت مع الإمبراطوريّة العثمانيّة في قمع الثَّورات التي كانت
تندلع ضُدَّها في أوقات ومراحل مختلفة من تاريخ الإمبراطوريّة العثمانيّة؛ مُبرِّرَةً موقفها بأنَّها “تدافع عن
المذهب السُنّيّ”.
فتذكر كتب التّاريخ بأنَّه “كان للنَّقشبنديّة دور في إخماد الحركة الوهّابيّة في بداية نشوئها في الحجاز، التي
تمثّل الفكر السلفيّ”. ويؤكِّدُ بعض الباحثين في تاريخ الحركة النَّقشبنديّة أنَّ “الدّولة العثمانيّة استغلَّت التَّنافر
الدّينيّ بين الوهّابيّة والنَّقشبنديّة، وحرَّضت الشّيخ خالد ضُدَّ الوهّابيّين”.
إنَّ وجود /65/ تكيّة نقشبنديّة في إسطنبول وحدها إبّان الفترة العثمانيّة؛ يؤكِّد حقيقة الخدمات التي قدَّمتها
الطَّريقة النَّقشبنديّة لـ”الثَّقافة التُّركيّة”، حتّى أنَّها أصبحت جزءاً من موروثها الأدبيّ والشَّعبيّ الشِّفاهيّ
والمكتوب أيضاً.
النَّقشبنديّة “الكُرديّة” والتحوّلات التّاريخيّة التي طرأت عليها:
تكثر التكايا النَّقشبنديّة في عموم أجزاء كردستان، لكن جنوب كردستان يَضُمُّ أكبر عدد منها، بتأثير مباشر من
“الشّيخ خالد” وانتشار تعاليمه فيها، حتّى أنَّه كوّن فلسفة وإيديولوجيّة خاصَّةً به، عدا عن مفاهيمه المختلفة عن
بقيّة الطرق الصوفيّة الأخرى، فهو استطاع أن يُضعف “الطَّريقة القادريّة” إلى حَدٍّ ما، حيث انضمَّ معظم
مريدو “القادريّة” إلى النَّقشبنديّة، بعد أن سَهَّلَ ممارسة طقوسها، واتَّخذ منهجاً جديداً في التَّفكير الباطنيّ
والظاهريّ (المجاهرة) أيضاً.
وكنوع من الارتباط الجمعيّ بالنَّقشبنديّة؛ تُطلقُ في قرية “بريفكا” بجنوب كردستان عبارة “الشّيخ” على جميع
أفرادها النَّقشبنديّين، دون أيّ اعتبار لعمر الشَّخص، حتّى لو كان يافعاً. وتعتبر القرية مركزاً لتكيّة الشّيخ “نور
الدّين البريفكاني”، وهي موجودة منذ عام 1620، في عهد الدّولة العثمانيّة، ومؤسُّسها الشّيخ “شمس الدّين
الأخلاطيّ”. وتقام حلقات الذِّكر علناً في القرية، وداخل المنازل ويشارك فيها بالعادة الجميع.
“يرتاد أتباع الطَّريقة النَّقشبنديّة في قرية بريفكا في أيّام محدَّدة من الأسبوع، لأداء ما يُعرف، حسب منهج
الطَّريقة، بـ “الذِّكر”، حيث يتحلَّق المريدون على شكل دائرة مغلقة، يتوسّطُها قارعٌ للطبل وناقِرٌ للدفِّ،
وتتعالى الأصوات بالأذكار الدّينيّة المختلفة حسب رأي الطَّريقة”.
وتحتوي التكيّة البريفكانيّة على مكتبة مخطوطات إسلاميّة قديمة نادرة، نقلت بعضها إلى دار المخطوطات في
بغداد.
وتقول المصادر الكُرديّة؛ بأنَّه لا توجد أيّ إحصائيّة دقيقة حول عدد التكايا في جنوب كردستان، إلا أنّه
وبحسب أرقام وزارة الأوقاف في إقليم كردستان العراق، هناك في كردستان فقط /157/ تكيّة، هي لأتباع
الطَّريقة القادريّة والنَّقشبنديّة، فيما ليست هناك إحصائيّة حول عدد مريدي تلك الطرق.
وتعتبر الطَّريقة النَّقشبنديّة ثاني أكبر الطرق الصوفيّة في كردستان، بعد “القادريّة”، ولها مركز دينيّ كبير في
عاصمة إقليم جنوب كردستان “هولير/ أربيل”، ويرأسها الشّيخ “رشيد شيخ كاكا”.
يؤكِّد الباحث الكُرديّ “حسين جمّو” في دراسة له بعنوان “النَّقشبنديّة الكُرديّة في ظِلِّ الجمهوريّة.. من
“كردستان للكُرد” إلى “كُلُّنا مسلمون” نشرها المركز الكُرديّ للدّراسات، بأنَّه “وبينما كانت النَّقشبنديّة الكُرديّة
على خصومة مع السُّلطة زمن السُّلطان عبد الحميد، فقد ازداد النُّفور منها في عهد الاتّحاديّين”، ما يدلّل على
تراجع نفوذ النَّقشبنديّة بعد تأسيس الجمهوريّة التُّركيّة.
ويعتبر “جمّو” أنَّ مرحلة الانفصال بين القوميّة الكُرديّة والنَّقشبنديّة “الكُرديّة” بدأت عقب فشل ثورة “الشّيخ
سعيد” عام 1925، ويقول “استمرَّ هذا التَّناقض في المسيرة اللّاحقة للقوميّة الكُرديّة حتّى نهاية عام 1925
الذي يمكن، بدون جدال، اعتباره بداية تاريخ انفصال الدّين (النَّقشبنديّة) عن القوميّة الكُرديّة. ويضيف “جمّو”
قائلاً “هذا الخطّان: “النَّقشبنديّ والأميريّ” عَمِلا سويّاً حتّى عام 1925، وفي الوقت نفسه تركا ثغرات كبيرة
للسُّلطات التُّركيّة أو القوى الأجنبيّة بإفساد الكثير ممّا كان يمكن تحقيقه. ووصل الأمر إلى الخلاف على
“خرائط كردستان” بحسب ما إذا كانت تشمل مناطق القادة السِّياسيّين أم لا. وهناك عامل آخر قلّلَ من التأثير
الفعليّ للتيّارين الدّينيّ (النَّقشبنديّ) والأميريّ (البدرخانيّ)، وهو عودة زعماء الإقطاع كقوّة أكثر ارتباطاً
بالمكان مقارنة بالآخرين”.
وهنا يطرح سؤال في غاية الأهميّة نفسه، ويتعلّق بمرجعيّة الثَّورات والانتفاضات الكُرديّة: هل كانت ثورة
الشّيخ سعيد وغيرها من الثَّورات الكُرديّة ذات طابع إسلاميّ (نقشبنديّ)، وهل وصلت إلى مرحلة الوطنيّة،
وكذلك ثورة أيلول التي أطلقها الملّا مصطفى البارزانيّ في جنوب كردستان؟
رُبَّما من الصعب تقديم إجابة قطعيّة على هذا التّساؤل، نظراً لتداخل العامل الدّينيّ مع الوطنيّ في أغلب
الثَّورات الكُرديّة. فقراءة أوَّليّة سريعة لمسارها وقادتها تفيد بأنَّها “دينيّة صرفه”، فأغلب قادتها كانوا
“شيوخاً”، ولكن في ذات الوقت لا يمكن تجاهل أنَّ دوافعها كانت “وطنيّة”.
ونظراً للشَّعبيّة الكبيرة التي كان يحظى بها رجال الدّين ومشايخ الطرق الصوفيّة في كردستان، فقد استغلّت
القيادات السِّياسيّة الكُرديّة هذا الدَّور إبّان الثَّورات والانتفاضات الكُرديّة، فيذكر الباحث “حسين جمّو” في
دراسته “أنَّ تسليم راية قيادة الثَّورة للشّيخ سعيد بيران لا يعدو كونه تكتيكاً من الزُّعماء القوميّين، المدنيّين
والعسكريّين، في سبيل حشد التأييد. لم يكن الضُبّاط العسكريّون يمتلكون التَّأثير الشَّعبيّ الذي يوازي شيوخ
الدّين ولا يتحدّثون بلغة خطاب عامّة السُكّان”.
لكنَّه في ذات الوقت يؤكِّد على الدّور السّلبيّ لانتماء واعتناق “الشّيخ سعيد” للنَّقشبنديّة في فشل انتفاضته
“أعاقت طبيعة القيادة النَّقشبنديّة للثَّورة تلقّي المساعدات الإقليميّة. وهناك حالة واحدة موثَّقة تشير إلى ما هو
أكثر من ذلك، فقد رفض الشّيخ سعيد بحزم مساعدات سخيّة “قَدَّمها الأرمن والمسيحيّون في حلب
وأرضروم”.
ويذكر “جمّو” في دراسته بأنَّ شيوخ النَّقشبنديّة انقسموا على أنفسهم إبّان الحرب العالميّة الأولى، خاصَّةً بعد
أن تقلَّصَ نفوذهم داخل المجتمع الكُرديّ، ويَسرُد قصّة واقعيّة جرت آنذاك، بأن “أرسل القوميّون الكُرد
وبعض زعماء العشائر الرُسُلَ إلى الشّيوخ، ومن بينهم الشّيخ “مُحمَّد زوقيدي” النَّقشبنديّ الذي رَدَّ على جميل
جتّو (وهو آغا من غرزان) بالقول: “والله يا جميل قد بلغتُ الـ70 عاماً، ولم يَعُدْ باستطاعتي أن أجلبَ جيش
الرّوس على شرف المسلمين. لكن لأنَّكم تريدون تأسيس دولة لكم، فافعلوا. لكنَّني لن أتدخَّلَ بأمركم”.
هذه الحادثة تُدلِّل، بشكل واضح، عدم إيلاء شيوخ النَّقشبنديّة أيَّ أهميّة لحَلِّ القضيّة الكُرديّة ونيل الكُرد حقوقهم
أو تشكيل دولة خاصَّة بهم، ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّهم عارضوا ضمنيّاً أيَّ محاولة لنشوء دولة كُرديّة، ولو في
الخفاء، وعلى هذه الطَّريقة عمل “سعيد النَّورسيّ/ بديع الزَّمان” أيضاً. فاتّخاذ شيوخ الطَّريقة “الحياد” حيال
الثَّورات الكُرديّة، يغدو سلبيّاً ومُعوِّقاً لها، وأحياناً كثيرة عارضوها ووقفوا بالضُدِّ منها، كما في ثورة الشّيخ
“سعيد بيران” و”سعيد النَّورسيّ”.
اصطدمت النَّقشبنديّة مع بريطانيا في جنوب كردستان، ما ولَّد غضباً لدى الأخيرة، فغارات قبيلة
“السُّروجي”، والتي تتحرّك بأوامر من المَشيخة النَّقشبنديّة، ضُدَّ البريطانيّين في العراق وكردستان، كانت
القشَّة التي غيَّرت الموقف البريطانيّ في تشكيل دولة كُرديّة، وقبلها اتّهمت بريطانيا الشّيخ “أحمد البارزانيّ”
وأتباعه بأنَّهم يُمثِّلون “الرَّجعيّة الدّينيّة”، فيما استرسلت سكرتيرة المندوب البريطانيّ في العراق “غرترود
بيل” في مؤتمر القاهرة الأوَّل عام 1921، في وصف الكُرد بـ”البدو” وأنَّهم “لا يستحقّون دولةً خاصَّةً بهم”،
واتَّهمتهم بالوقوف مع تركيّا، وأنَّهم يسعون للاتّحاد معها لضرب المصالح البريطانيّة في العراق.
ويشرح “جمّو” الانقلاب في موقف النَّقشبنديّة حيال القضيّة الكُرديّة، لتأخذ صبغة قوميّة “خلال فترة الغموض
السِّياسيّ في تركيّا بعد 1918، ويسرد بالقول “خرجت النَّقشبنديّة الكُرديّة في شمال كردستان من “التكيّة”؛
واندمجت مع الحركة القوميّة الكُرديّة بشكل غير مسبوق. حتّى السيّد “طه النَّهريّ” الذي استمرَّ في موقعه
الدّينيّ؛ فقد اضطرَّ في النِّهاية إلى تبنّي المطالب القوميّة الكُرديّة – وإن كان ذلك بطابعٍ إسلاميٍّ – من مقرِّهِ في
“راوندوز”، غير أنَّه لم يتحالف مع النُّخبة السِّياسيّة الدّينيّة التي كان يقودها عَمَّهُ السيّد “عبد القادر”، والأمراء
بقيادة “آل بدرخان وشريف باشا”.
لم تكن النَّقشبنديّة بمنأى عن التَّأثيرات المذهبيّة الضيّقة، فيذكر الباحث “جمّو” في دراسته أنَّ “الشّيخ سعيد
بيران” الكُرديّ النَّقشبنديّ، ورغم أنَّه كان “شخصاً مقبولاً وذا صيتٍ جيّد لدى جيرانه العلويّين الكُرد، غير أنَّ
مقامه الدّينيّ وصفته النَّقشبنديّة كانتا كافيتين ليرفض زعماء عشيرتي “هورماك ولولان” العلويتين من
الاشتراك في ثورته، خصوصاً بسبب ثارات كبيرة لهما مع قبيلة “جبران” الذين كانوا القادة الفعليّين للثّورة.
وكان العلويّون الكُرد قد تعرَّضوا لمقتلَةٍ كبيرة على يد الأتراك في ثورة كوجكري بين خريف 1920 وربيع
1921، بدون أيّ مساندة من العشائر السُنّيّة وشيوخ النَّقشبنديّة. وفضلاً عن ذلك، من الصَّعب أن ينخرِطَ
الكُرد العلويّون في ثورة ترفع شعار كردستان وتربطها بعودة الخلافة”. وهذا يشير بكُلِّ جلاء أنَّ أحد أهداف
ثورة الشّيخ سعيد هو إعادة إحياء الخلافة الإسلاميّة، وهذا ليس اتِّهام، بل حقيقة تؤكِّدُها العديد من الوقائع
والمصادر التّاريخيّة الكُرديّة.
يُفكِّكُ “جمّو” العلاقة الوثيقة بين النَّقشبنديّة والحركة القوميّة الكُرديّة في شمال كردستان، وكيف أنَّ فشل ثورة
“الشّيخ سعيد بيران” عام 1925 “كرّست الانفصال بين الحركة النَّقشبنديّة والحركة القوميّة في كردستان
الشَّماليّة. وهذا الانفصال أسفر عن فقدان النَّقشبنديّة طابعها الكُرديّ الذي لازمها منذ التأسيس الأوَّل للطريقة
في كردستان عام 1811 بجهود مولانا خالد”. غير أنَّ بعض المؤرِّخين يشير إلى استمرار تأثير النَّقشبنديّة في
الحركة القوميّة الكُرديّة، وتجلّت في الثَّورة التي قادها الملّا مصطفى البارزانيّ في جنوب كردستان، حيث
ألقت بتأثيرها على مفاصل هامَّة من مسيرتها، ودفعت أكلافاً باهظة بسبب هذا الانتماء، بعد أن غلَّبت الانتماء
للطريقة النقشبندية على الانتماء القوميّ الكُرديّ.
ويورد الكاتب السيّد “فريد أسَسَرد” القياديّ في الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ ومدير مركز كردستان للدّراسات
الإستراتيجيّة في السُّليمانيّة، عندما فتح ملفّ (الجذور التّاريخيّة لأصول العقائد البارزانيّة)، أنَّ “العمامة
الحمراء” التي يعتمرها أبناء قبيلة “البارزانيّ” هي للدَّلالة على انتمائهم للنَّقشبنديّة، ويؤكِّد أنَّ عهد البارزانيّين
في قيادة الطريقة النَّقشبنديّة “يبدأ منذ العقد الثّالث من القرن التّاسع عشر، حينما سلَّم الشّيخ “طه النَّهريّ”
خلافة الطَّريقة النَّقشبنديّة الى الشّيخ تاج الدّين (عبد الرَّحمن بن ملّا عبد الله البارزانيّ) في منتصف القرن
التّاسع عشر”. وهو يعتبر رأس عائلة الشّيوخ في بارزان.
ويشير الكاتب بأنَّ “حَدَثَين اثنين ساهما في تفعيل العقائد البارزانيّة وتعاظم دور التكيّة النَّقشبنديّة في الحياة
العامّة للبارزانيّين وهما: الهزيمة التي مُنِيَ بها البارزانيّون في صراعهم ضُدَّ القبيلة “البرواريّة” وحلفائهم من
المسيحيّين الجبليين (التيّاريّين) في زمن يقع ما بين 1820 و1830، ونجم عنها إبادة ممثّلي الأرستقراطيّة
الزّراعيّة (آغوات بارزان) الأوائل، الامر الذي مَهَّدَ لتولّي شيوخ الطَّريقة النَّقشبنديّة زمام الأمور. أمّا الحدث
الثّاني؛ فهو الهزيمة التي لَحِقَت بالشّيخ “عبيد الله النَّهريّ” في حربه ضُدَّ الدَّولة القاجاريّة (إيران) عام 1880،
ممّا أدّى إلى توتُّر العلاقات بين الدّولتين العثمانيّة والقاجاريّة، وكان من نتائج ذلك أن نفت السُّلطات العثمانيّة
الشّيخ “عبيد الله” وأسرته الى الحجاز، باعتباره من رعاياها، حيث وافته المنيّة سنة 1883. وبسبب هذا
الفراغ الذي حصل بانهيار سلطة مشيخة “نهري”؛ تطلَّعت “مشيخة بارزان” في عهد الشّيخ “مُحمَّد” المتوفّى
سنة 1902 (وهو والد الشّيخ أحمد وملّا مصطفى) إلى ممارسة دور أكبر في الحياة، اعتباراً من عام 1895.
كما يذكر المستشرق البريطانيّ “سبنسر ترمنغهام” في كتابه “الفرق الصوفيّة في الإسلام” بأنَّه “كانت دعاية
الشّيخ خالد (الجاف النَّقشبنديّ) ناجحة في جعل أعضاء العائلات “القادريّة” الهامّة في كردستان تتحوَّل إلى
النَّقشبنديّة، مع تأثير ملموس على التّاريخ اللّاحق للقوميّة الكُرديّة”.
إنَّ أحد أوجه الصراع بين الطالبانيّة والبارزانيّة تمثَّلت في اختلاف الانتماء الطرائقيّ الدّينيّ لدى كُلِّ واحد
منهما، حيث تتَّبع الأولى الطَّريقة “القادريّة”، فيما الثّانية تتَّبع “النَّقشبنديّة”، وكلتا القبيلتين كانتا من طبقة
“المشايخ”.
وفي معرض معارضة النَّقشبنديّة لإقامة تحالفات كُرديّة مع حركات غير كُرديّة وغير إسلاميّة، يأتي دور
التيّار الذي كان يقوده السيّد “طه النَّهريّ النَّقشبنديّ” في معارضة الاتّفاق الإستراتيجيّ بين جمعيّة “خويبون”
الكُرديّة بقيادة “جلادت بدرخان” وحزب “الطاشناق” الأرمنيّ.
لم تتمكَّن النَّقشبنديّة الخروج من إطار الأفكار التي أسَّستها وأغلقت نفسها فيها، الأمر الذي شكَّلَ عبئاً ثقيلاً
عليها، خاصَّةً في المجتمع الكُرديّ. الشّيخ “سعيد النَّورسيّ/ بديع الزَّمان” لم تغادر فكرة “العداء للأرمن”
مخيّلته، وظَلَّ يُبدي مقاربات إيجابيّة من الجمهوريّة التُّركيّة والحزب الدّيمقراطيّ التُّركيّ الحاكم، وهذا ما
يُفسِّر انكفاءه عن تأييد ثورة “الشّيخ سعيد بيران”، بزعم أنَّها ضُدَّ توجُّهات الجمهوريّة، حيث كان حينها على
وفاق معها.
هزيمة النَّقشبنديّة “الكُرديّة” وتَسيُّد “التُّركيّة”:
الهزيمة التي مُنِيَتْ بها النَّقشبنديّة الكُرديّة في شمال كردستان عقب فشل سلسلة الثَّورات والانتفاضات التي
قادتها في مطلع القرن العشرين؛ استغلّتها النَّقشبنديّة التُّركيّة، لتتسيّد هي قيادة الحركة والطَّريقة. فبعد موت
الشّيخ “عبد الحكيم الأرواسي” الكُرديّ عام 1943، لعب الشّيخ النَّقشبنديُّ التُّركيّ “مُحمَّد زاهد كوتكو” دوراً
بارزاً في استلام قيادة النَّقشبنديّة، وجعل من جامع “إسكندر باشا” في إسطنبول مقرّاً ومنطلقاً لعمله. رغم أنَّ
نشاط “الأرواسي” الدَّعوي للنَّقشبنديّة ظَلَّ محصوراً في إسطنبول، حيث اعتقدت تركيّا الجمهوريّة بأنَّ
النَّقشبنديّة المدينيّة يمكن ضبطها والسَّيطرة عليها، على عكس النَّقشبنديّة الرّيفيّة.
شهدت فترة السّتينات وبداية السّبعينات صراعات بين أنصار ومشايخ النَّقشبنديّة التُّركيّة المتحوِّرة عن طريقة
“مولانا الشّيخ خالد”، حيث غلب عليها الطابع القوميّ التُّركيّ. فرغم أنَّ الزَّعيم السِّياسيّ الدّينيّ التُّركيّ “نجم
الدّين أربكان” يُعَدُّ أحد تلامذة “مُحمَّد زاهد كوتكو”، إلا أنَّ هذا لم يمنع من ولادة الخلافات بينهما، تطوَّرت
إلى صراع انتهت مع وفاة “مُحمَّد زاهد” في بداية عام 1980.
لم يتوقَّف تأثير النَّقشبنديّة على السِّياسيّين الأتراك، فانحاز الرَّئيس التُّركيّ “تورغوت أوزال” إليها، فيما أظهر
“سليمان ديميريل” تمسُّكه بالطَّريقة “القادريّة/ النَّورسيّة”.
انعكس الصراع بين “زاهد وأربكان” على أتباعهما من الجيل الجديد من السّاسة، فانحاز الثُّنائيّ “غول –
أردوغان” إلى شيخهم “زاهد” ووقفا ضُدَّ توجّهات “أربكان” واعتبرا أنَّه خرج عن الطَّريقة، وهذا ما دفعاهما
إلى تشكيل “حزب العدالة والتَّنمية” الذي جمع بين الطَّريقة النَّقشبنديّة والفكر السَّلفيّ الإخوانيّ في نسخته
الحديثة المتأثِّرة بأفكار مؤسِّسها “حسن البنّا” و”السيّد قطب” و”أبو الأعلى المودوديّ”، ليغدو الحزب الدّينيّ
الأكثر تَطرُّفاً في تركيّا؛ من خلال تحويل مؤسَّسات الدّولة إلى تكايا للطريقة، والزَجِّ بأنصاره ومريديه للعمل
ضمن هيئات ومؤسَّسات الدّولة، ليبسط سيطرته على الدّولة والمجتمع.
كما أنَّ “أردوغان” انقلب على أحد أهَمِّ معلِّميه، “فتح الله غولن”، حيث تمسَّكَ الأخير بالسَّير على الطَّريقة
“النَّورسيّة”، فيما جعل “أردوغان” الطَّريقة مَطيَّةً له لتحقيق أهدافه السِّياسيّة. فرغم أنَّ حزب العدالة والتَّنمية
وأردوغان وصلا إلى السُّلطة بدعمٍ من “غولن” وحركة “الخدمة” التي يقودها، إلا أنَّ أردوغان تنكَّرَ له.
وجوهر الخلاف بينهما يكمن في نقطتين أساسيتين: دينيّ، وآخر سياسيّ.
تغلغلت النَّقشبنديّة في مفاصل الحركات والأحزاب السِّياسيّة التُّركيّة والمؤسَّسات العسكريّة، ويذكر الزَّعيم
الكُرديّ الأسير عبد الله أوجلان في لقاء مع محامييه عام 2006 ما يلي: “ثَمَّةَ معلومة أخرى لديَّ؛ حيث
وصلتني معلومة في عام 1982 تفيد بأنَّ كنعان أفرين كان قد عقد لقاءات في ذلك التّاريخ في ماردين مع قسم
من الشّيوخ من كُلٍّ من تركيّا وسوريّا، وكذلك مع شيوخ عائلة “الخزنوي”. بل حتّى أنَّ الجنرال القائم على
انقلاب 12 أيلول كان يذهب ويقوم بعقد اللِّقاءات معهم أيضاً. لقد كانوا يتحدَّثون عن العلمانيّة وغيرها، ولكنَّهم
في المقابل كانوا يدعمون ويُساندون الكيانات المتمحورة حول الدّين تجاه الشّيوعيّة الرّوسيّة. كما أنَّهم
استخدموا قسماً من هؤلاء ضُدَّنا في السّنين الثَّلاثين الأخيرة”.
ووفق تحليل “أوجلان”؛ مَرَّت النَّقشبنديّة ومعها الحركة السِّياسيّة الدّينيّة بثلاث مراحل رئيسيّة:
1 – في مرحلة الخمسينات وحتّى بداية السَّبعينات من القرن الماضي تطوَّرت على يد “مُحمَّد زاهد كوتكو”،
الذي وضع أسس النَّقشبنديّة التُّركيّة ودمَجَها مع القومويّة التُّركيّة.
2 – المرحلة الثّانية، وتبدأ من سبعينات حتّى نهاية تسعينات القرن العشرين، حيث لعب “نجم الدّين أربكان”
دوراً بارزاً في بلورة رؤية مختلفة عن “زاهد” من خلال تركيز جهده على التّأثير في الأوساط السِّياسيّة وخلق
حاضنة شعبيّة واسعة، وطرح فلسفة جديدة لإدارة الدّولة والمجتمع.
3 – المرحلة الثّالثة، بدأت بظهور “حزب العدالة والتَّنمية” ووصوله إلى السُّلطة.
ويؤكِّد المفكّر والفيلسوف “أوجلان” أنَّ كُلّاً من بريطانيا وإسرائيل وألمانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة،
عملت منذ بداية السَّبعينات على خلق تيّار دينيّ سياسيّ داخل تركيّ، يتواءم مع سياساتها ومصالحها في
المنطقة، فكانت مرحلة “العدالة والتّنمية” النِّهاية والذروة التي سعوا من خلالها لتسويق نموذج ما يُسمّى
بـ”الإسلام المعتدل”.
سعى حزب العدالة والتَّنمية ذو الجذور النَّقشبنديّة إلى إنشاء تحالفات إقليميّة مع نظرائه في التوجّه والانتماء
في بلدان أخرى. ويرى العديد من الباحثين أنَّ قيادة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ في جنوب كردستان
المتمثّلة بمشيخة “البارزانيّ” للطريقة النَّقشبنديّة، بنت تحالفاتها مع أردوغان وحزبه وفق التوجُّه الدّينيّ الواحد
لديهما، وثانيهما العامل الاقتصاديّ، حيث تُعَدُّ تركيّا الرِّئة الاقتصاديّة لإقليم جنوب كردستان للوصول إلى
الأسواق العالميّة، إلى جانب غزو الشَّركات التُّركيّة لأسواق الإقليم.
في حين يجد الباحث “حسين جمّو” أنَّ النَّقشبنديّة خدمت الدّولة التُّركيّة، فيما كانت آثارها السّلبيّة كبيرة جدّاً
على الشَّعب الكُرديّ، وأسَّست لحالة هجينة من الاغتراب عن القوميّة الكُرديّة والاعتداد بالانتماء إلى القوميّة
التُّركيّة “هكذا اكتمل وضع النَّقشبنديّة في خدمة الدّولة التُّركيّة، عبر شيوخ كرد سخّروا أنفسهم للقوميّة
التُّركيّة، وكذلك عبر ترقية النَّقشبنديّين الأتراك والأرناؤوط، وسحب مراكز النَّقشبنديّة من الأرياف الكُرديّة
إلى المدن التُّركيّة الكبرى، مع الحرص على تحويلها إلى سوق للانتخابات والتأسيس للاغتراب القوميّ تحت
شعار “كُلُّنا مسلمون”.
الطَّريقة النَّقشبنديّة وولادة الإسلام السِّياسيّ في تركيّا:
إنَّ هزيمة العثمانيّين في العديد من المعارك مع الدّول الغربيّة المتطوِّرة فكريّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً؛ ساهم في
اندلاع حركات احتجاج وتمرّدات داخل الإمبراطوريّة، وأخرى دعت إلى الإصلاح الدّينيّ والتجديد. خسارة
العثمانيّين أجبرتهم على حَلِّ سلك “الإنكشاريّة”، وإغلاق تكيّات الطَّريقة “البكتاشيّة”، التي حظيت بانتشار لا
بأس به ضمن الإمبراطوريّة، فاستغلَّتها النَّقشبنديّة في التمدّد أكثر، لتُبديَ مقارباتٍ أكثر موضوعيّة من
البيروقراطيّة العثمانيّة، الباحثة عن جهة دينيّة تشرعن لها سلطتها، فوجدت في النَّقشبنديّة خير مُعينٍ لها.
استفادت النَّقشبنديّة من تطهير الإمبراطوريّة من “البكتاشية”، كذلك شروعها في حملة إصلاح شاملة ضمن
صفوف الطَّريقة، أعطاها زخماً وأهميّة، وأسَّست إيديولوجية دينيّة خاصَّة بها، فأرسل تلامذته إلى مختلف
أرجاء الإمبراطوريّة وكذلك إلى دول إسلاميّة أخرى، فأسَّس مدارس للطريقة في معظم مناطق
الإمبراطوريّة، لتغدوَ ذات تأثير كبير على المجتمع والسّياسة العثمانيّة، والعديد من الحركات الدّينيّة استلهمت
أفكارها من تعاليم الحركة، بل إن بعضها تبنّت فلسفتها وإيديولوجيّتها في بناء حركاتها السِّياسيّة.
تذكر دراسة لمعهد “هدسون” بعنوان “الطَّريقة النَّقشبنديّة الخالديّة والإسلام السِّياسيّ في تركيّا”، أنَّ “إحدى
الزَّوايا المعروفة في إسطنبول “إسكندر باشا”؛ ساهمت في إنشاء حركة “رؤية الأمة/ Milli Görüş” وهي
الحركة الوطنيّة التي تَمَّ إنشاؤها في منتصف السّتينات وأنتجت الأحزاب السِّياسيّة المختلفة في تركيّا، وكان
يقودها “نجم الدّين أربكان” بالإضافة إلى حركات مثل “النَّورسيّة/ Nurcu” و”المنزليّة/ Menzil” (بما في
ذلك جماعة فتح الله غولن) وتجمّعات “السليمانجي/ Süleymancı” و”الإشكجشي/ Işıkçı” وغيرها،
جمعيها تنتمي إلى النِّظام الخالديّ “النَّقشبنديّة” نفسه”.
وتؤكِّد الدَّراسة أنَّ فترة ولادة الجمهوريّة التُّركيّة شهدت افتتاح المدارس ذات الطابع العلمانيّ الغربيّ، لتَحُلَّ
محلَّ المدارس والتكايا والطرائق الدّينيّة، وليتراجع دور الشّيوخ ورجال الدّين، وخاصَّة شيوخ الطَّريقة
النَّقشبنديّة، وتشير إلى أنَّه صدر في عام 1924 “قانون مختصّ بتوحيد التَّعليم والذي أطلق عليه اسم
(Tevhid-i tedrisat kanunu)، وبموجبه ألغيت جميع المدارس التي تقدّم التَّعليم الدّينيّ”. وتمضي الدِّراسة
بالقول “بعد عام 1925 وتمرّد الشّيخ سعيد في كردستان الذي كان يقوده شيخ الطَّريقة النَّقشبنديّة، تَمَّ إصدار
قانون في نوفمبر/ تشرين الثّاني 1925 تَمَّ بموجبه إغلاق جميع التكايا والطرق والنُزُل الدّينيّة، وبهذا انتهى
الاعتراف القانونيّ بجميع الجماعات والطرق الدّينيّة. وتبع ذلك في عام 1927 القرار بالانتقال إلى حروف
الأبجديّة اللّاتينية في الكتابة للغة التُّركيّة، وهو ما زاد في تقليص نفوذ رجال الدّين على الدّولة ولا سيّما في
مجال التَّعليم. وهذا كُلّه لم يكن صدفة، فأتاتورك وأتباعه سعوا صراحة إلى تحييد نظم “الأخويّات” الدّينيّة،
وعزل أعضائها عن مناطق التَّأثير”.
حظر الطرق الصوفيّة في تركيّا وشَلِّ تأثيرها في الدّولة والمجتمع؛ دفعها للانزواء والعمل سُرّاً، وتركَّزَ عملها
ونشاطها في مناطق كردستان، وهو ما يُفسِّر تأخُّر الانطلاقة الفكريّة والتنويريّة فيها، حيث تحكَّمت تلك
الأوساط والتيّارات الدّينيّة بالحياة السِّياسيّة وفرضت نمطيّتها على العلاقات الاجتماعيّة، حتّى أنَّها كانت ترسم
لهم طرق المأكل والمشرب، جميع الأمور الحياتيّة كانت مرتبطة بشيوخ الطَّريقة ولا يستطيع أحد الخروج
عنها أو التمرُّدَ عليها. والجمهوريّة التُّركيّة غضَّت الطَّرف عنها؛ يقيناً منها أنَّها تساهم في إبقاء الشَّعب الكُرديّ
متخلّفاً عن ركب الحضارة. فلم تفتتح المدارس العلمانيّة في مناطق كردستان إلا في أوقات متأخِّرة، ما أبقاها
دائرة في فلك الطرق الصوفيّة وتعاليمها.
وتوضّح دراسة معهد “هدسون” أنَّ إغلاق المدارس الدّينيّة في تركيّا الجمهوريّة، دفع شيوخ الطَّريقة
النَّقشبنديّة إلى إرسال “طلّابها للخارج، طلباً لتحصيلهم التَّعليم الدّينيّ”، وأنَّ “الرَّحلات التَّعليميّة الدّينيّة
تركَّزت في المراكز الإسلاميّة مثل القاهرة وبغداد ودمشق والمدينة المنوَّرة”. وتشير الدّراسة إلى أنَّ “جزءاً
كبيراً من هؤلاء الطلّاب قام بإعادة توريد للفكر السَّلفيّ أو فكر جماعة الإخوان المسلمين لدى عودتهم إلى
تركيّا. وبشكل لا يضاهي ما كان عليه الحال في العالم العربيّ؛ أخذت وجهات نظر المتشدّدين المحافظين
طريقها إلى المجتمع التُّركيّ، ووجدت تعبيراً لها عبر المشهد السِّياسيّ”.
أفكار الطلبة الدّارسين في جامعة الأزهر وغيرها، انسجمت مع أفكار النَّقشبنديّة، من حيث ظهور الأفكار
السَّلفية المتشدِّدة، حيث تأثَّر هؤلاء بأفكار مؤسِّس الفكر السَّلفيّ في مصر “مُحمَّد أحمد الفقي”، وكذلك بأفكار
“عبد الرزّاق العفيفي”، تلك الأفكار التي أسَّست للفكر التكفيريّ للإخوان المسلمين، حيث يعتبرون الدّيمقراطيّة
“كفراً”، وأنَّه “لا يجوز أن يستعير أيُّ شيء من المناهج الغربيّة”. تلك الأفكار مَهَّدَت لولادة حركات الإسلام
السِّياسيّ في تركيّا، وبقوّة.
تُعَدُّ الولادة الأولى للإسلام السِّياسيّ في تركيّا مرتبطة بشكل قويّ ووثيق مع الطَّريقة النَّقشبنديّة، ولعبت أدواراً
بارزة في رسم مسار التطوّرات السِّياسيّة في تركيّا، خاصَّةً بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة وتشكيل
الجمهوريّة التُّركيّة، واستُخدمت أداةً لوضع الدّين في خدمة الدّولة، حتّى غدت في فترة لاحقة “دين الدّولة”
الرَّسميّ، ولو بشكل غير معلن.
وتحظى دراسة هذه الفترة من تاريخ الطَّريقة النَّقشبنديّة في تاريخ تركيّا، بأهميّة بالغة، خصوصاً بعد أن غدت
الطَّريقة بمثابة حزب سياسيّ له أتباعه ومريدوه.
تؤكِّد المصادر التّاريخيّة أنَّ الطرائق والمذاهب الدّينيّة لعبت دوراً مُهمّاً في السِّياسة والمجتمع التُّركيّ منذ
العهد العثمانيّ. فانتشرت الطرق الصوفيّة الإسلاميّة في جميع أرجاء الإمبراطوريّة العثمانيّة، إلا أنَّ النَّقشبنديّة
حظيت بالانتشار الأكبر في تركيّا، حتّى شكَّلت نظاماً خاصّاً بها، لها مرجعياتها الدّينيّة والسِّياسيّة ومراتب،
وجماعات باطنيّة تنتمي إليها سُرّاً، ولا تعلن مذهبها السِّياسيّ، مثل حركة “نور” التي أسَّسها “سعيد النَّورسيّ/
بديع الزَّمان”، ولاحقاً حركة “الخدمة” التي أسَّسها الدّاعية “فتح الله غولان”، وقبله “حزب الرَّفاه الإسلاميّ”
الذي أسَّسه “نجم الدّين أربكان”، ويُعدَّه البعض الأب الرّوحيّ للإسلام السِّياسيّ وللطَّريقة النَّقشبنديّة في تركيّا.
ساهمت الطرق الصوفيّة، ومنها النَّقشبنديّة في ترسيخ أسس الأنظمة الإقطاعيّة في الشَّرق، وخاصَّة ضمن
مناطق سيطرة الإمبراطوريّة العثمانيّة، نظراً لتبنيها المذهب “السُنّيّ” المتوافق مع النَّقشبنديّة. إلا أنَّ رياح
التنوير الغربيّ التي هبَّت على الإمبراطوريّة وانتشار مبادئ العلمانيّة الغربيّة، في أواخر القرن التّاسع عشر
وأوائل القرن العشرين، ومن ثُمَّ انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتَبنّي أتاتورك للمنهج العلمانيّ الغربيّ في
بناء الجمهوريّة التُّركيّة؛ قوَّضَ إلى حَدٍّ كبير من تأثير نفوذ وعمل النَّقشبنديّة في المجتمع التُّركيّ، وهذا
الانقلاب كانت له ارتداداته في المناطق الخارجة عن السَّيطرة العثمانيّة، مثل كردستان وبعض الدّول العربيّة.
تولَّدَ في تركيّا صراعٌ بين الحركات الدّينيّة السَّلفيّة المتأثِّرة بأفكار الإخوان المسلمين والطَّريقة النَّقشبنديّة،
والتي تحوَّلت خلال تطوّرها إلى حركة دينيّة – سياسيّة، وبين التيّارات اليساريّة الاشتراكيّة والشّيوعيّة، وهو
ما استغلَّته الأنظمة المتعاقبة على السُّلطة في تركيّا، لتقف مع الإسلام السِّياسيّ خشية تمدُّد نفوذ الحركات
اليساريّة، ووصولها لسُدَّةِ الحكم وإلحاق تركيّا بالاتّحاد السّوفييتي. هذه الفكرة سادت أوساط الحكم التُّركيّ في
الخمسينات. وعمدت الدّولة إلى مهادنة التيّارات الإسلاميّة إلى أن وقع الانقلاب العسكريّ في 12 سبتمبر/
أيلول سنة 1980 ضُدَّ المَدِّ اليساريّ الثَّوريّ في كردستان وتركيّا، ما دفع النُّخبة الحاكمة والقومويّة إلى
إطلاق يد الإسلامويّين، حتّى انصهرت القومويّة التُّركيّة مع الإسلام السِّياسيّ و”السُنّيّ” تحديداً، لتشكّلَ
أيديولوجيّة الدّولة و”دينها الجديد”، فيما تراجع الاهتمام بالحركة النَّقشبنديّة، وظَلَّت في الأرياف وضمن
حلقات الذِّكر والموالد والحفلات الدّينيّة، وفقدت الكثير من ميّزاتها السِّياسيّة كحركة.
لعب مسجد “إسكندر باشا” دوراً كبيراً في تقوية نفوذ النَّقشبنديّة الخالديّة في تركيّا، خاصَّةً في أواسط
الخمسينات وتسلّم الدّاعية الداغستانيّ الأصل “مُحمَّد زاهد كوتكو” إدارته.
تنبَّهَ “مُحمَّد زاهد” إلى ضرورة تغلغل النَّقشبنديّة في صفوف هيئات ومؤسَّسات الدّولة، مستفيداً من البيئة
الدّيمقراطيّة الجديدة والتعدّديّة الحزبية، فحثَّ تلامذته على التحرّر من “العبوديّة الاقتصاديّة” للغرب عن
طريق تطوير الصّناعة المحلّيّة، وعارض القيم الثَّقافيّة الغربيّة كُلّيّاً. ضمن هذه الأجواء؛ تمكَّنَ أتباعه من
الدُّخول في هيئات الدّولة ومؤسَّساتها كالبلديّات، وأثَّروا بشكل كبير في سياساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
خاتمة:
تُعَدُّ النَّقشبنديّة جزءاً لا يُستهان به من تاريخ الحركات الدّينيّة والصوفيّة في البلاد الإسلاميّة، ولعبت أدواراً
هامّة في تكوين الثَّقافة الدّينيّة الجمعيّة لمجتمعاتها، إلى جانب تحوّلها إلى حركات سياسيّة. ولكن لم تتمكّن من
تجاوز حالة الانغلاق على نفسها، وهو ما استغلَّها مشايخها في فرض طاعتهم على الرَّعيّة تحت شعارات
دينيّة وفتاوى تُجيزُ لهم ما هو محرَّمٌ على غيرهم، فتشكّلت مع مرور الزَّمن طبقة من الشّيوخ تحكّمت بالطريقة
ووجّهتها كما تقتضي مصالحها، حتّى أنَّها فرضت نظام “التَّوريث” رغم أنَّ مؤسِّسَها “مولانا خالد” عارضَ
الفكرة.
تبقى النَّقشبنديّة، رغم النَّقد الموجَّه لها جزءاً من هُويّة المنطقة الثّقافيّة، ولا يمكن غضّ النَّظر عن تأثيرها في
أوساط عديدة حتّى اليوم.
المراجع
__________________________________
1 – الكاتب التُّركيّ “فؤاد كوبرولي” في كتابه “قيام الدَّولة العثمانيّة”.
2 – مقال للكاتب الصحفي التُّركيّ “مُحمَّد علي بيرانت” في صحيفة “2000”.
3 – الكاتب التُّركيّ أكرم إيشن في مؤلّفه “عثمان بابا ولايت نامه سي”.
4 – دراسة للباحث الكُرديّ “حسين جمّو” بعنوان “النَّقشبنديّة الكُرديّة في ظِلِّ الجمهوريّة.. من “كردستان للكُرد” إلى “كُلُّنا مسلمون” نشرها المركز الكُرديّ للدّراسات.
5 – الكاتب السيّد “فريد أسَسَرد” القياديّ في الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ ومدير مركز كردستان للدّراسات الإستراتيجيّة في السُّليمانيّة، كتابه (الجذور التّاريخيّة لأصول العقائد البارزانيّة).
6 – المستشرق البريطانيّ “سبنسر ترمنغهام” في كتابه “الفرق الصوفيّة في الإسلام”.
7 – حديث المفكّر الكُرديّ عبد الله أوجلان في لقاء مع محامييه عام 2006.
8 – دراسة لمعهد “هدسون” الأمريكيّ بعنوان “الطَّريقة النَّقشبنديّة الخالديّة والإسلام السِّياسيّ في تركيّا”.