أبحاث ودراساتافتتاحية العددصالح بوزانمانشيتملف العدد 56

لماذا يتمرد الكردي؟

صالح بوزان

لماذا يتمرد الكردي؟

صالح بوزان

صالح بوزان
صالح بوزان

لنبدأ بهذا السؤال الذي يطرحه جميع أعداء الكرد وحتى أصدقائهم. فلدى الجميع تصوّر أنّ الكرديّ بطبيعته متمرد.

لماذا يتمرد الكردي؟

لا شكّ أن هذا السؤال ليس سؤالاً فلسفياً أو سيكولوجياً، فقد كشف التاريخ الحديث أنّ شعوب المنطقة التي يعيش معها الكرد، وليس نُخبها السياسية والثقافية فقط، لم تفهم يوماً الإنسان الكردي، ولم تحاول ملامسة معاناته، بل لم تفكر به خارج دائرة العداوة غالباً. يتساءل أحياناً العرب والفرس والترك باستغراب لماذا الكردي سريع التمرد؟ لماذا يقاتل بشراسة دون التفكير بالنتائج؟ لماذا هو عنيد إلى درجة يشبهون عقله بالحائط؟ لماذا لم ينصهر في الإسلام رغم كل ثقل الإسلام السياسي والثقافي عليه عبر قرون، وظل يعتبر عاداته وتقاليده وتراثه فوق الإسلام؟ لماذا لم ينصهر في القومية العربية والفارسية والتركية رغم كل الأساليب البربرية التي استخدمتها حكومات هذه الشعوب لتحقيق هذه الغاية؟

الجواب على كل هذه الأسئلة وغيرها بسيط، وهو أن هذه الشعوب ونخبها السياسية والثقافية لم تفهم الكردي يوماً. ولم تتقارب مع معاناته التاريخية التي سببتها له أنظمة هؤلاء الجيران، بل كانت تنظر إلى الكرد كأفراد وليس كشعب.

لن أعود إلى التاريخ القديم لأستعرض معاناة الكردي من جيرانه. بل سأتحدث عن معاناة شاب كردي بسيط من كردستان إيران هو الشهيد إحسان فتحيان. فهو نموذج للكردي في كل أجزاء كردستان الأربعة. لقد اختزلت معاناة الأمة الكردية في شخصية هذا الشاب، وعبر عنها بكلّ صدق وبساطة. أجاب هذا الشاب على كل تلك الأسئلة بوضوح قبل إعدامه في صبيحة 11/11/2009 حين أقتيد من زنزانته إلى منصة الإعدام ونفذ الحكم به بتهمة ملفقة وهي “محاربة الله ورسوله”.

1

ما من أحد لا يخشى الموت، بما في ذلك المؤمن الذي يتوقع أنه سيدخل الجنة ويعيش فيها خالداً مخلداً مع حورياته. الخوف من الموت صفة مشتركة لكل البشر منذ ما قبل أسطورة كلكامش وحتى الآن. لكن الحديث في موضوعنا يجري عن نوع مختلف من الموت يتمّ اختياره وقبوله بشجاعة، أو لنقل بخوف أقل إذا جاز التعبير. نعرف نوعاً من الموت يسمّى الانتحار. كأن ينتحر العاشق لأنه حُرم من حبيبته، أو الجنرال الذي هُزم في معركة، أو الغني الذي خسر ثروته فجأة في البورصة. وثمة إجماع حول هذا النوع من الموت على أنه تعبير عن اليأس وفقدان الأمل بالمستقبل.

هناك حالة أخرى من الموت أكثر ندرة، وهي أن يختار الإنسان الموت، أو يتقبله كشكل من أشكال التمرد والاحتجاج على واقع لا يستطيع قبوله. هذا النوع من الموت الاختياري ظاهرة إنسانية فريدة، يكون للموت معنى آخر غير المعنى الذي نعرفه ونرتعب منه. إنه الموت الذي يدخل في صلب ظاهرة الشاب إحسان فتحيان المتمرد.

يعيش الإنسان عادة حسب معايير مجتمعه. وفي إطار هذه المعايير يسعى إلى أن يحقّق ذاته ويجسد حريته. ولعل الشباب أكثر من غيرهم يسيرون في هذا الاتجاه بإرادة قوية تصل إلى درجة المغامرة، وكانوا في كل العصور مشاريع بناء وإرادة التطلع نحو الأفضل. لكن عندما يصطدم الشاب بالعوائق الاجتماعية والسياسية والمادية التي تضع الحواجز أمام حريته وخياراته، تتحوّل رغبته في تحقيق هذه الحرية إلى هدف يسعى من خلاله تجاوز تلك العراقيل. وعندئذ يبدأ برسم آفاق أرحب، تصيغ الفضاء الذي يستطيع أن يكتشف فيه وجوده الإنساني وخيار حريته. هذا الهدف ينتج عن حقيقة صادمة وهي أن التعايش مع هذا الواقع غير ممكن. لأنه واقع يجرده من كل عواطفه وأفكاره وتطلعاته الحياتية. فيتمرّد على هذا الواقع بقوة، ويسعى لإزاحته من أمامه وأمام غيره بتغييره. ولكن سرعان ما يكتشف أنّ المسألة ليست بهذه السهولة، وأنّ هذا الواقع الظالم يملك قوّة القانون، وله قُضاته وبوليسه وسجونه. عندئذ يضطر أن يفكر خارج هذا القانون الذي يعتبره قانوناً باطلاً. فالظالم هو الذي صاغ تلك القوانين ضد المظلومين لتعزيز سلطته. وبالتالي يرى المظلوم أن الالتزام بهذا القانون يعني الاستسلام للظلم والخضوع للظالم. من هذه المعادلة يأخذ المتمرد شرعية تمرده على الظالم وعلى قوانينه ومؤسساته.

تبدأ بوادر هذا التمرد عندما يصيغ تطلّعه للحرية على شكل مبادئ وأهداف أولية تمكنه من البحث عن وسائل للقضاء على الظلم.

جاء في رسالة إحسان فتحيان قبل إعدامه ما يلي: “لقد ولدت في كرمنشاه كأحد مواليد البشرية، وبدأت بالحياة فيها وشعرت فيها بالظلم والقمع، ولهذا بحثت كثيراً عن السبل من أجل التخلص من هذا الوضع”. هكذا بدأ هذا الشاب مسيرته. فقبل أن يتمرد على الظلم دخل في حوار داخلي مضنٍ إلى أن وصل إلى نتيجة وحيدة وهي أن لا خيار أمامه سوى التمرد على هذا الظلم. قال في رسالته: “.. ولكن مع الأسف كل السبل كانت مغلقة أمامي، ولهذا اضطررت …”.

في الحقيقة كلما اشتدّ الظلم والاضطهاد على الإنسان، تعمَّقَ هذا الحوار الداخلي ليتجاوز حالته الفردية إلى حالة العقل الجمعي. وبالنتيجة يظهر أمامه طريقان، إمّا أن يستسلم للظلم والاضطهاد ويتعايش معهما، وبالتالي يجد مكاناً له بين قطيع المستسلمين. وإما أن يتمرد ويقول “لا”.

عندما يقارن الإنسان في هذه الحالة بين كلفة الاستسلام وكلفة قول: “لا” يجد أن كلفة الاستسلام باهظة، ومن المستحيل أن تتقبلها النفسية التواقة للعدل والحرية. وهذا ما فعله إحسان فتحيان.

لهذا التمرد خلفية فكرية عميقة تعرّضَ لها كبار المفكرين العالميين. وقد كرس ألبير كامو كتاباً كاملاً حول مسألة التمرّد بعنوان “الإنسان المتمرد”. نقرأ في هذا الكتاب أن العبد عندما يقول لسيده: “لا”، يعني ذلك أنّه وصل إلى درجة أنّ ما يجري لم يعد قابلاً للتحمل. بمعنى آخر، أنّ الأمور استمرّت أكثر ممّا يجب، وأنها كانت مقبولة حتى هذا الحد، ومرفوضة فيما بعده.(1)

صحيح أنّ إحسان فتحيان لم يكن مفكّراً ولا فيلسوفاً. وكان ما يزال طرياً على مختلف الصعد. لكن الإنسان العادي قد يجسد فكرة فلسفية من خلال سلوكه أكثر ممّا قد ينتجها فيلسوف ما. لقد توصل هذا الشاب إلى نتيجة مفادها؛ أنّ ما يقوم به النظام الإيراني ضد بني جلدته خرج عن حدود التحمل، على الأقل عن حدود تحمله وتحمل رفاقه. وكان لا بد أن يخرج من مدينته التي يعشقها ليتمرد على الاضطهاد. لقد برزت المقاومة عنده الوسيلة الوحيدة لإعادة العدل لوجوده ولوجود شعبه. إنّها التحدي الممكن لواقع ما عاد بإمكانه تحمله، وبات هذا التمرّد هو الطريقة الوحيدة إلى الحرية. هكذا جسد إحسان فتحيان في خياره ضمير الإنسان الكردي الذي تُسحق إنسانيته تحت أقدام الأنظمة الاستبدادية. هذه الأنظمة التي تريد دفن الكردي في حفرة اليأس وإجباره للتخلّي نهائياً عن التفكير بخصوصيته القومية، ويتعود مع الزمن على العبودية كمصير محتوم لوجوده. في هذه الحالة تحمل كلمة “لا” المعنى الأعمق لقيمة الحرية كمفهوم إنساني وصرخة مدوية لشعب يريد أن يكون له وجوده الخاص مثل بقية الشعوب.

 

2

نعلم أنّ تاريخ البشرية مليء بمظاهر الظلم منذ العصر العبودي الأول. وبالتوازي مع هذا الظلم فهو تاريخ حافل بالتمرد أيضاً. صحيح أنّ تطور المجتمع البشري قد لفظ الكثير من مظاهر الظلم، لكن في الوقت نفسه أنتج مظاهر جديدة أكثر شناعة. إن الظلم الممارس على الكردي يعود إلى عصور سحيقة. فالأنظمة التي قضمت كردستان تتعامل مع الكردي على أنه مجرد حجر في عمارته. فكما لا يطلب من الحجر أن يختار مكانه في العمارة، لا تقبل هذه الأنظمة أن يكون للكردي خياره، كيف يعيش وعلى أي مستوى تكون العلاقة مع محيطه غير الكردي. فجوهر المسألة ألّا يكون له حق الحرية، ويبقى مثل أيّ عبد يقبل بعبوديته. على هذه القاعدة اُستبيح الدم الكردي بنفس الرخص الذي كان يستباح فيه دم العبيد في اليونان القديمة وفي أمريكا حتى الأمس القريب.

في تاريخ الحركة الكردية الحديثة لم ينتفض الكردي ضد الاضطهاد والتمييز الممارسين عليه لكونه كردياً فقط، بل كان رداً إنسانياً على الذين سعَوا، وما زالوا يسعَون لاجتثاثه من المكان. يريد هؤلاء الطغاة أن ينسى الكردي اسم كردستان، وأن ينسى اسم مدينته وقريته، بل وأيّ اسم يدل على هويته. لقد قاموا بترحيل ذهنه من الجغرافيا ومن ذاته. غيّروا أسماء أمكنة تواجده. وحرموه أن يطلق حتى الأسماء الكردية على أولاده. لقد كان تغريب المكان (حسب تسمية الشاعر سليم بركات) قاسياً على الكردي بنفس مستوى تغريبه عن ذاته.

يدرك الكردي العادي مثل الكردي السياسي والمثقف، أن ما قامت به الأنظمة القاضمة لكردستان من تغيير أسماء المكان، وحرمانه من أن يحمل اسماً كردياً، هو نوع آخر من الحكم عليه بالموت. فالهدف من هكذا عمل هو اجتثاث الكردي من المكان واجتثاث المكان من ذاكرته. وبالتالي القضاء على البقية الباقية من ذاكرته التاريخية. كان لدى جيران الكرد قانوناً واحداً تجاهه، يجب أن ينقرض الكردي.

يقول السجناء: إن أقصى معاناة كانوا يعانونها عندما يتحولون إلى رقم بدل أسمائهم الحقيقية. فالرقم يرمز إلى الأشياء. ولهذا يقول العلماء: إنّ مادة الرياضيات مادة جامدة. والغريب في الأمر أنّ الاستعمار الغربي قلما جرّد الناس في المستعمرات من مكان تواجدهم ومن أسمائهم. عندما نعود إلى الخرائط الفرنسية لسوريا في عهد الانتداب، نجد أنّ جميع المواقع حملت نفس الأسماء التي كانت متعارفة عليها بين الناس عندئذ. ولم تقم بتغيرها كما فعلت الأنظمة القاضمة لكردستان.

فالعلاقة الوجودية مع المكان ظاهرة إنسانية. لا يستطيع الإنسان أن يتصور العيش في فراغ. وبالتالي فهو غير قادر على أن يعيش عندما يُسلب منه المكان. صحيح أنّ الاسم بحدّ ذاته لا يعني الشيء الكثير في الحالات العادية. وهناك بلدان ومدن عريقة تغيّرت أسماؤها مع الزمن. غير أنّ ذلك حدث ضمن مسار تاريخي طويل. أمّا ما تقوم به الأنظمة القاضمة لكردستان فهو عمل يجري عن سابق إصرار، ويهدف إلى إلغاء وجود كيان شعب بكامله. قد يستهجن الإنسان الأوروبي، عندما يسمع من المعارضة السورية وهي تصر على صيغة الأقلية الكردية في سوريا، وأنّهم لاجئون ويتهرّبون من صيغة الشعب الكردي السوري. لكنّ ذلك ليس جهلاً منهم بالمعرفة أو التاريخ، وإنّما استمراراً انتهج اجتثاث الكردي من المكان.

لا تكتفي هذه الأنظمة القاضمة لكردستان بإعدام الكردي، بل تقوم بإعدام تاريخه ولغته وثقافته أيضاً. ما الفرق بين قتل إنسان وتجريده من الحياة وبين القضاء المتعمد على ثقافة ولغة شعب؟ أليس كلا العملين يحملان صفة الجريمة الجماعية؟

قرأنا في الأدب العالمي، لا سيما في الشعر أنّ كبار الكتاب والشعراء أعطَوا مكانة خاصة لاسم المكان الذي ولدوا فيه. وهناك شعراء سمّوا بعض دواوينهم الشعرية بأسماء قراهم أو جبالها أو أنهارها. بكلمة أخرى كان الحنين للموطن مبعث نتاج أدبي رائع.

لا يمكن للإنسان أن يتمرد على الظلم إذا لم يكن لديه انتماء عميق للمكان الذي يحوي تاريخه وثقافته وتراثه. ولا يمكن أن يتمرد إذا لم يكن لديه شعور عميق بالانتماء إلى مجموع المظلومين الذين يعانون ما يعانيه. فشعور الانتماء للمكان وللمجموع هو شعور إنساني خالد، يزيد من قوة الإرادة في التمرّد على الظلم والمقاومة والكفاح البطولي.

3

ما ميّز إحسان فتحيان أنّه وقع في حالة الخيار بين ذاته كفرد وحقه كمجموع. أيهما يختار؟ كان يريد أن يعيش بأمان في المكان الذي اختار له التاريخ، وضمن الكيان الذي هو جزء منه. فكلما نظر إلى حقه هذا وجد شعباً كاملاً يتعرض للانقراض. لقد اتحد الذات بالمجموع في داخله. فثار متمرداً.

ترصُد أوروبا المتحضرة مبالغ طائلة من أجل الحفاظ على حيوان نادر خوفاً من الانقراض. وتمول هذه الدول ومؤسساتها مبالغ كبيرة من أجل الحفاظ على التراث البشري القديم. بينما في الشرق، ترصد الأنظمة الاستبدادية موارد مادية ضخمة لفرض الانقراض على شعوب بكاملها (كما فعلت تركيا العثمانية مع الأرمن والسريان ومازالت تركيا الأتاتوركية تفعل مع الكرد). إنّ شعباً يتمرّد على هذا التفكير العنصري، مهما كان متخلّفاً، يجسد قيماً حضارية أعلى بكثر من هذه الأنظمة الشرقية المستبدة بكل تأكيد.

في تاريخ الشعب الكردي المعاصر يوجد المئات مثل إحسان فتحيان جابهوا الموت كشكل من أشكال التمرد وقالوا “لا” في وجه الطغاة. ففي الأربعينيّات من القرن الماضي انتفض كُرد العراق. وبعد فشل انتفاضتهم نتيجة التحالف بين الإنجليز والحكم الملكي العراقي جرى اعتقال وإعدام مجموعة من الضباط الكرد. جابه هؤلاء الموت بشجاعة منقطعة النظير. ففي كلماتهم قبل الموت ما يلفت الانتباه. قال النقيب مصطفى خوشناو موجهاً كلامه إلى جلاديه: “.. أنا فخور لكوني أعي أن اسمي سيبقى خالداً في ذاكرة أبناء جلدتي، ولن يطويه النسيان، وسيكون بمصاف أسماء أولئك الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل عظمة وسعادة كردستان”. قال الرائد عزت عبد العزيز: “إنّ شجرة الحرية مغمسة بدمي وبدماء رفاقي. عندي أمل بأنها ستزهر قريباً زهور الحرية والسعادة في وطني”.

لقد وقف الإعلام العالمي مشدوهاً أمام خبر المقاتلة الكردية؛ بريفان سامسون في دفاعها عن مدينة كوباني ضد داعش. فعندما انتهت ذخيرتها، أطلقت الرصاصة الأخيرة على نفسها لكيلا تقع أسيرة بيد الدواعش. أي إرادة حديدية كانت تحملها هذه الفتاة التي جاءت من مدينة باطمان من كردستان تركيا لتدافع عن شعبها في كوباني. إن جيران الكرد لا يفهمون أنّ الكردي منذ بداية وعيه يحمل في نفسه آلام تاريخ شعبه. إنه يسمع هذا التاريخ من الأغاني الشعبية التي تغني له الأم منذ الرضاعة، ومن القصص والملاحم الشعبية المثخنة بالجِراح الكردية.

هناك أشكال مختلفة من مقاومة الظلم والاضطهاد في تاريخ البشرية. ولكن عندما يُحرم المظلوم من أي شكل من أشكال التعبير عن رفضه للظلم، ويُجرّد من إنسانيته، يتحول الموت متمرداً عندئذ إلى آخر ما يستطيع أن يقوم به لكيلا يحقّق الظالمون انتصارهم عليه. فأن يموت المقاوم بتهمة هويته دون الاستسلام يعطي لهذه الهوية قانون البقاء. صحيح أنّ الموت يُنهي المقاوم جسدياً، لكن في الوقت نفسه تنتقل فكرة المقاومة إلى داخل نفسية الطاغية، لتمارس هذه المرة عملاً كفاحياً داخل دماغه. لذلك قالت بيريفان إنّ مقاتلي دواعش يرتعبون من المقاتلة الكردية.

إنّ شراسة الطاغية ضد المقاوم تكشف مدى خوفه منه. فعندما يموت المقاوم دون أن يستسلم، يصبح الخوف رفيق الطاغية حتى في نومه، وتراوده هواجس انهيار سلطته. ويقف الطاغية بالذات هذه المرة وجهاً لوجه أمام فكرة الموت.

كشف لنا التاريخ أنّ الطغاة كانوا أكثر جبناً أمام الموت عندما جُردوا من سلطتهم مقارنة مع أولئك الذي تعرّضوا للموت في ظل استبدادهم. وهكذا ازداد الطغاة شراسة كلما قام الشعب الكردي بانتفاضة جديدة.

هناك تحليل بسيط لقساوة الطغاة العرب والفرس والترك ضد الشعب الكردي. فهؤلاء الطغاة يعرفون أنّ أيديهم مغمسة بالدم الكردي بسفالة ونذالة. ولهذا يبقى الهاجس الكردي يطاردهم حتى في حلمهم. إنّهم لن يرتاحوا مادام هناك كردي واحد على الأرض يرفض الاستسلام. وهذا سر مقولة القوميين الترك الذين يكررون حتى الآن أنهم سيقفون ضد دولة كردية حتى وإن كانت في أفريقيا. وهذا أيضاً هو سر اختزال السلطان العثماني الجديد أردوغان في استراتيجيته منع كرد سوريا من الحصول على بعض حقوقهم.

عندما رفض إحسان فتحيان أن يسحب الجلاد الكرسي من تحت قدميه، وقام بهذا العمل بنفسه، لم يكن ذلك مجرد شجاعة قصوى وشهامة، بل يكشف هذا التصرف الفريد أن المقاوم يفضل الموت اختياراً من أجل الحق الذي بسببه يُعدم. لقد وضع الحق فوق مصيره الذاتي، ليكون عمله هذا آخر رسالة يتركها وراءه. تتضمن هذه الرسالة نقطتين؛ النقطة الأولى: موجهة لشعبه بأن حقّه المستلب يستحقّ هذا المصير. والأخرى: موجّهة للطاغية الإيراني بأنّ تمرده عليه حالة إنسانية عميقة أكثر من الدفاع عن حق شعبه. كان قيام إحسان فتحيان بدفع الكرسي من تحت قدميه بنفسه الصرخةَ الأخيرة ليقول للطغاة: “لا”. وكانت صرخة مدوية في ضمير الشعب الكردي لطالما بقي الظلم رابضاً على كاهله.

قد يتساءل البعض لماذا يقوم المناضل بهكذا عمل، مع العلم أنه ليس أقل من غيره حباً للحياة. إنّ تحليل هذه الظاهرة ليس مستعصياً على الفكر البشري. فعندما يُجرّد الإنسان من كل مظاهر إنسانيته، ويعزل عن المجتمع وعن العالم، لا يبقى أمامه سوى هذا الشكل الوحيد لأن يقول “لا” لطغاته. إنه يدرك نهايته. لكنه يريد أن يكون لهذه النهاية معنًى خالدٌ. قانونٌ أقوى من قوانين الطاغية.

نستطيع أن نتصوّر صراعاً حادّاً يجري في هذه الحالة بين الطاغية في شخصية السجّان والمقاوم في شخصية السجين. إنه صراع يجري في مكان وزمان غير متكافئين. فالسجان يملك كل أسباب السيطرة على المسجون. يملك حتى حق اغتصاب الحياة منه. لكنّ المسجون لا يملك سوى حقٍّ واحد؛ وهو التحمل لكيلا ينكر ذاته. كلّما صمد المسجون وأظهر للسجّان أنّه مستعد للموت، شعَرَ السجّان بالإهانة والهزيمة. يريد السجّان أن يرى المسجون مرعوباً مستسلماً يتضرّع له، ويتخلّى عن ذاته. وعندما لا يتحقق له هذا الأمر، فإنّه يشعر بالخُزي وبذلٍ داخلي. ويدرك عندئذ أنه هو المهزوم أمام المسجون، وأن ما يملك الأخير من قيم بشرية هي أمتن بكثير من وسائل تعذيبه. يصل السجان إلى استنتاج أن المقاوم لن يسمح له بأن يجتث ما في داخله مهما استعمل من وسائل وحشية في تعذيبه. وأن ما في داخله له أهمية أكثر من عذابه وموته.

يقول ألبير كامو لماذا يثور الإنسان لو لم يكن هناك في ذاته شيء يستدعي الصيانة؟(2) وهكذا يكشف المقاوم في تقبّله الموت بشجاعة أنّ ما في داخله قضية عادلة لا يستطيع المساومة عليها.

عندما ننظر إلى حال سجناء الكرد في سجن ديار بكر أثناء الحكم العسكري في ثمانينيّات القرن الماضي، وإلى أقوال سجناء الكرد في العراق والذين سبقت الإشارة إلى أقوالهم سنتوصل إلى فكرة جوهريّة، وهي أنّ هؤلاء المقاومين حدثت لديهم حالة صوفية من التوحد مع قضية شعبهم. حالة تتخطّى الانتماء الحزبي والأيديولوجي. لقد توصلوا إلى قناعة أنّ استسلامهم للطغاة وانهيارهم أمام الموت يتجاوز حالتهم الفردية ليصبح استسلاماً وانهياراً لشعب بكامله. وما كان بإمكانهم قبول ذلك بأي وجه من الأوجه.

أن الوصول إلى هذه الحالة لا يتطلب بالضرورة ثقافة عالية. كل ما في الأمر أنّ المقاوم ينتقل من حالة “الأنا” إلى حالة “النحن”.

يقول ألبير كامو: ” الحقيقة أنّ الفرد إذا قبل الموت، ومات في الوقت الموافق لحركة تمرّده، فإنه يدلل بذلك على أنّه يضحي بذاته في سبيل خير يعتبر أنه يتجاوز مصيره الخاص”.(3) والتاريخ البشري مليء بهذه النماذج من المتمردين منذ سبارتاكوس.

يأتي التأكيد على الذات في الفكر الوجودي من خلال ممارسة الحياة بحرية. وإذا لم تتحقق هذه الممارسة فإن الوجود والعدم واحد. وهكذا يتحوّل الموت عند المتمرّد والمقاوم كشكل آخر من استمرار الحياة. وهذا جوهر شعار المقاومين الكرد عندما يقولون: “المقاومةُ حياةٌ”. يريد المقاوم أن يؤكد للطاغية بأن موته بإباء هو ترسيخ لرمزية استمرار كيان إنساني يخشى منه الطاغية، وأن هذه المعاملة القاسية بحقه تدلّ على مدى ارتعاب الطاغية من فكرة تمرّده.

كلما ازداد السجان قسوة تجاه المقاوم اكتشف هذا المقاوم عدالة قضيته. وبالتالي ازداد التصاقاً بها. ورأى في موته مستقبلاً آخر يتجاوز حياته. وهذا ما عبر عنه إحسان فتحيان عندما قال في رسالته: “إذا كان المستبدّون الظالمون بقتلي سيقضون على قضية كردستان والكرد، فذلك خيال أجوف، هم بقتلي بل وبقتل آلاف الشباب من أمثالي لن يستطيعوا إطلاقاً تحقيق هذا الهدف، فكل موت يجلب معه حياةً جديدة”.

قد لا ندين المعتقل الذي ينهار تحت التعذيب الجسدي والنفسي. فالإنسان له حدود للتحمل، وعندما يُمارَس بحقه تعذيب وكأنه حيوان، فمن الطبيعي أن ينهار؛ لأنّه دلالة على أنّ الظالم لم يعد إنساناً. وحتى هذا الانهيار شكل تراجيديّ للإدانة. إن المتعة التي يحصل عليها السجّان من خلال استسلام السجين، هي غريزة حيوانية. ولا عجب هنا أن تنهار أحياناً غريزة الإنسان أمام غريزة الحيوان.

لكن الذي يرفض الاستسلام ويرضى بالموت، هو الذي لا يقبل أن تنهار الغريزة الإنسانية أمام الغريزة الحيوانية. يقول ألبير كامو: “لا يتحرّر العبد إلا برفض يتطابق مع الموت” (4)

يا ترى هل وصلت رسالة إحسان فتحيان إلى جيران الكرد من الفرس والترك والعرب ونخبها السياسية والثقافية، وهل سيفهمون لماذا يتمرّد الكردي؟

——–

1- الإنسان المتمرد لألبير كامو ترجمة نهاد رضا. الطبعة الثالثة 1983. صفحة 18.

2- المصدر السابق. الصفحة 21.

3- المصدر السابق. الصفحة 21.

4- المصدر السابق. الصفحة 182

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى