أبحاث ودراساتافتتاحية العددجميل رشيدمانشيتملف العدد 56

القضيّة الكُرديّة في خِضمِّ الحرب الباردة بين الشَّرق والغرب.. التّحالفات والانقسامات

جميل رشيد 

القضيّة الكُرديّة في خِضمِّ الحرب الباردة بين الشَّرق والغرب.. التّحالفات والانقسامات

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد

لا تزال القضيّة الكُرديّة تحتلُّ مكانةً بارزةً في اهتمام القوى الدّوليّة والإقليميّة، والمراكز البحثيّة المتخصّصة بالتّاريخ والجغرافيا والعلوم السِّياسيّة والاجتماعيّة، نظراً للتّداخل الكبير بين القضيّة الكُرديّة، كقضيّة تحرر وطنيّ لشعب يناضل من أجل حقوقه المشروعة، وقضايا التحرّر الوطنيّة في المنطقة والعالم، ليس لجهة التّلاحم الكفاحيّ فقط؛ بل لجهة التأثيرات المتبادَلة بينها، فضلاً عن تقاطعها، وأحياناً كثيرة تضادها مع مصالح الدّول الغربيّة، التي سعت دائماً إلى استخدام القضيّة الكُرديّة ورقةً تساوم عليها وبها في تثبيت مصالحها في منطقة الشَّرق الأوسط.

المرحلة التي تلت الحرب العالميّة الثّانية، وبعد أن تجلّى بشكل واضح شكل الخرائط السِّياسيّة والجغرافيّة التي رُسِمَت في “يالطا” ومن قبل عدّة مراكز قوى عالميّة؛ قسَّمت بموجبها مناطق النّفوذ بين الدّول المنتصِرة في الحرب، ولعلّ أبرزها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد السُّوفياتي، ووقوع أوروبا الشَّرقيّة تحت السَّيطرة السُّوفييتية، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع الدّوليّ؛ أبرز سماتها الحرب الباردة بين القطبين الرَّأسماليّ والاشتراكيّ.

إنَّ أخطر مرحلة مرّت بها القضيّة الكُرديّة، كانت مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، حيث حالة الستاتيك السِّياسيّ التي حافظت عليها القوى العالميّة، وضعتها في الثَّلاجة، ولم تُبدِ أيَّ اهتمام يُذكر بحلولها، بل تركتها على غاربها للدّول التي تقاسمت جغرافيّة كردستان فيما بينها، وقوّضت محاولات الحركات الكُرديّة في كسر حالة الموت السَّريريّ التي فرضتها تلك الدّول عليها. بل زادت من أعبائها أكثر، بأن عاشت بين دُفَّتيها حالة الانقسام بين المعسكرين الاشتراكيّ والرَّأسماليّ، بكُلِّ تناقضاتها السِّياسيّة والفكريّة والإيديولوجيّة.

ففي حين كانت ثورات حركات التحرّر الوطنيّة العالميّة تحقّق انتصارات باهرة في عدّة بلدان، بعد أن تلقّت الدَّعم والمساندة من المعسكر الاشتراكيّ، ضمن إطار منظومة حلف “وارسو” والأمميّة الثّالثة “الكومنتيرن”، وتصل بالتّالي إلى استقلالها الاقتصاديّ والسِّياسيّ النّاجز، مرّت القضيّة الكُرديّة بمرحلة من الضياع في البوصلة السِّياسيّة والإيديولوجيّة والفكريّة، خاصّة بعد انهيار تجربة جمهوريّة “كردستان/ مهاباد” في شرقيّ كردستان، وإخماد سلسلة الانتفاضات والثّورات الكُرديّة في باكور/ شمال كردستان، ومن ثُمَّ اندلاع ثورة سبتمبر/ أيلول في جنوب كردستان عام 1961 التي قادها الملا مصطفى البارزاني، واندلاع صراع دمويّ بين الحكومة المركزيّة العراقيّة المتمثلة بحزب البعث والكُرد، وصولاً إلى توقيع اتّفاقيّة الحكم الذّاتيّ في 11 مارس/ آذار عام 1970، ومن ثُمَّ اتّفاقيّة الجزائر المشؤومة في 5 مارس/ آذار 1975 بين شاه إيران ونائب الرَّئيس العراقيّ آنذاك صدّام حسين، والقضاء على تجربة الحكم الذّاتيّ وإغراق كردستان بالدم والمجازر.

إنَّ دراسة هذه المرحلة بإسقاطاتها وتداعياتها، ودور القوى العالميّة في تحديد مسارات القضيّة الكُرديّة، وكذلك الطبيعة التكوينيّة للحركات الكُرديّة، وعدم قدرتها على فهم معادلة الصراع الدّوليّة، وبالتّالي انسجامها معها، وتثبيت حلول القضيّة الكُرديّة، لها أهميّة بارزة في فهم تعقيداتها، والوصول إلى طرح الحلول الأكثر نجاعةً للقضيّة الكُرديّة.

سنحاول دراسة تلك المرحلة، وتحديد موقع القضيّة الكُرديّة في لوحة الصراع العالميّ، وتبيين كيف ضحّت القوى العالميّة بالقضيّة الكُرديّة على مذبح مصالحها مع الدّول المحتلّة لكردستان، وكذلك عدم قدرة الحركات الوطنيّة الكُرديّة في كسر حالة الجمود التي فرضتها القوى الإقليميّة والدّوليّة على القضيّة الكُرديّة، وطرح أفكارٍ عصريّة تنسجم مع المعادلة الدّوليّة الجديدة التي تشكّلت في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية.

تجربة جمهوريّة كردستان/ مهاباد.. النشأة والانهيار

تأسَّست جمهوريّة كردستان في 22 يناير/ كانون الثّاني عام 1946، على يد عدد من السِّياسيّين الكُرد في شرق كردستان بقيادة “قاضي محمّد” الذي اختير رئيساً للجمهوريّة.

إنَّ قراءة الظروف الدّوليّة والإقليميّة التي ولدت فيها الجمهوريّة، ضمن لوحة الصراع الدّوليّ آنذاك، تُسهّل في فهم تداعياتها وحجم التأثير الدّوليّ في القضيّة الكُرديّة وحلّها وتشابك الخيوط حولها، وكيف أنَّها أضفت عليها مزيداً من التعقيد، ليتبيّن أنَّها أيضاً خاضعة لسياسة المحاور الدّوليّة، التي ما انفكّت تتقاذفها ذات اليمين والشّمال، وحتّى عصرنا الرّاهن.

التّنافس الحاصل بين الاتّحاد السُّوفياتي والولايات المتّحدة الأمريكيّة وبريطانيا وفرنسا حول مناطق النّفوذ في الشَّرق الأوسط، خاصّة بعد توقيع اتّفاقيّة يالطا بين الاتّحاد السُّوفياتي بزعامة ستالين وبريطانيا بزعامة ونستون تشرتشل والرَّئيس الأمريكيّ تيودور روزفلت في مدينة يالطا السُّوفياتيّة على البحر الأسود في 11 فبراير/ شباط عام 1945، وغياب الرَّئيس الفرنسي شارل ديغول عنها، لخلافات شخصيّة بينه وبين تشرتشل. كان الهدف الرَّئيسيّ من المؤتمر كيفيّة تقسيم ألمانيا ومحاكمة أعضاء الحزب النّازيّ.

إلا أنَّ المسألة الأهمّ التي ولدت مع المؤتمر، وبعد تعاظم الدّور السُّوفييتي في أوروبا الشَّرقيّة والعالم عموماً، أنَّها دشّنت لمرحلة جديدة من الصراع الدّوليّ بين القطبين الدّوليّين، المعسكر الاشتراكيّ بقيادة الاتّحاد السُّوفياتي تحت مظلّة حلف “وارسو”، والمعسكر الرَّأسماليّ الغربيّ بزعامة أمريكا وتحت مظلّة حلف شمال الأطلسيّ “النّاتو”، وبدء مرحلة الحرب الباردة، التي كانت سِمَتُها الأساسيّة رفع القدرات التسليحيّة لكلا الطرفين، والبدء بالصراع على مناطق نفوذ جديدة في العالم.

كانت إيران التي يحكمها الشّاه محمّد رضا بهلوي، تتبع للمعسكر الغربيّ، والشَّركات النّفطيّة الغربيّة تتغلغل في قطّاع النّفط الإيرانيّ، وخاصّة الشَّركات البريطانيّة التي كانت قد دخلت في منافسة حقيقيّة مع نظيراتها الأمريكيّة حول الاستحواذ على عقود الاستثمار فيها. هذا التّنافس وصل إلى درجة دفعت حكومة رئيس الوزراء الإيرانيّ محمّد مصدق إلى تأميم النّفط الإيرانيّ وإخراج الشَّركات الأجنبيّة من إيران، ما دفع بالاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة الـ(CIA) إلى تنفيذ انقلاب عليه، وصولاً إلى إعدامه.

جميع تلك الظروف الدّاخليّة والإقليميّة، دفعت ستالين إلى دعم إنشاء جمهوريّة كُرديّة في شرق كردستان، بالتّزامن مع تأسيسه جمهوريّة أذريّة في أذربيجان الخاضعة لإيران أيضاً. كذلك تشكّلت قناعة لدى ستالين حول علاقة شاه إيران رضا بهلوي (الذي فَرَّ من إيران وحَلَّ محلّه ابنه محمّد رضا بهلوي) بأدولف هتلر، واعتبر أنَّ إيران هي الخاصرة الرَّخوة للاتّحاد السُّوفياتي، والتي يمكن أن تتسلّل منها الدّول الغربيّة لتهدّده، فقرّر الدُّخول فيها عسكريّاً، وإنشاء جمهوريتي كردستان وأذربيجان الدّيمقراطيّتين.

إنَّ تصاعد النّفوذ على إيران الغنيّة بالنَّفط والتي تشكّل بوّابة نحو الشَّرق الأوسط، دفعت ستالين إلى دعم إنشاء الجمهوريّة الكُرديّة، من طرف واحد، دون أن تنالَ أيَّ اعتراف رسميّ من قبل أيّ دولة غربيّة أو شرقيّة، ولم تكن لدى القيادة السُّوفياتية أيّ توجّهات جدّيّة ومبدئيّة لحلِّ القضيّة الكُرديّة ضمن إطار حقّ تقرير المصير للشُّعوب، حيث طرح الرَّئيس الأمريكيّ ويلسون مبادئه الأربعة عشر بعد الحرب العالميّة الثّانية، والتي نصّت على حق الشعوب لتقرير مصيرها بنفسها، وأكَّدَته عصبة الأمم المتّحدة، وفيما بعد ميثاق الأمم المتّحدة بعد الحرب العالميّة الثّانية.

كذلك عارضت الجمهوريّة التركيّة الأتاتوركيّة، إنشاء الدّولة الكُرديّة، وسعت بكُلّ ما تملك من إمكاناتها كدولة لها نفوذ لدى الدّول الغربيّة إلى إجهاضها، من خلال التّوافق مع شاه إيران ودفعه إلى محاربتها، إثر إخمادها آخر انتفاضة كُرديّة ضُدّها في ديرسم عام 1937.

لم تتمكّن الجمهوريّة من النهوض والاعتماد على إمكانات الشَّعب الكُرديّ في تطويرها وبناء مؤسَّسات الدّولة وإداراتها التي تتمتّع بكيان مستقلٍّ، حتَّى أنَّها اعتمدت العملة الرّوسيّة في التّعامل “الرّوبل الرّوسيّ” ولم يكن لديها القدرة على سكِّ عملة خاصّة بها. فهي لتلك الأسباب وغيرها لم تكن قادرة على مواجهة التحدّيات التي تواجهها من الحكومة الإيرانيّة ومحيطها الإقليميّ، فتواجد الجيش الأحمر السُّوفييتي في أراضي الجمهوريّة، منحها نوعاً من القوّة والثَّبات، إلى أنَّها لم تمنحها الفرصة الكافية لبناء مؤسَّساتها الدّفاعيّة والأمنيّة القادرة على حماية جمهوريّتها الفتيّة.

سرعان ما انسحب منها الجيش الأحمر السُّوفييتي بعد أحد عشر شهراً، نتيجة توافقات بين ستالين وشاه إيران، ما أدّى إلى انهيار الجمهوريّة، إثر هجوم الجيش الإيرانيّ عليها بكُلِّ قوّته، وارتكابه مجازر بحقّ الكُرد، واعتقال قادة الجمهوريّة وعلى رأسهم رئيس الجمهوريّة قاضي محمّد، ومن ثُمَّ إعدامهم في ساحة “جار جرا” التي أعلن فيها عن الجمهوريّة أيضاً.

لعلَّ الأسباب التي دفعت ستالين إلى سحب دعمه من الجمهوريّة، هي إحدى نقاط الضعف التي لا تزال القضيّة الكُرديّة تعاني منها حتّى يومنا هذا. فرغم أنَّ ثورات التحرّر الوطنيّة كانت حينها تلقى دعماً من الكتلة الاشتراكيّة، نرى أنَّ الاتّحاد السُّوفياتي أسهم في إغراق كردستان في بحار من الدِّماء، وقضى على حلم الشَّعب الكُرديّ في تقرير مصيره، وأبعاد ذلك الانسحاب لا يَقُلُّ تدميراً على مستقبل القضيّة الكُرديّة عن اتّفاقيّة لوزان التي تنازل فيها الغرب (بريطانيا وفرنسا) لتركيّا الأتاتوركيّة عن كردستان، مقابل تحويل تركيّا إلى قاعدة متقدّمة للغرب في الشَّرق الأوسط.

ولا نبالغ إنْ قلنا إنَّ الصراع الدّوليّ على الشَّرق الأوسط، يبدأ من كردستان وينتهي فيها. كما أنَّ انتهازيّة الدّول تظهر وجهَها القبيح تجاه القضيّة الكُرديّة، فتقايضها بمصالحها وتتنازل عن مبادئها التي تتبجّح بها ليل نهار. فرغم أنَّ الاتّحاد السُّوفياتي كان في أوج ازدهاره وينشر أفكاره الاشتراكيّة والأمميّة حول العالم، إلا أنَّه تعامل وفق منطق الدّول الرَّأسماليّة مع الكُرد وقضيّتهم، ولم يُبدِ أي مقاربة مبدئيّة منها.

ردَّةُ الفعل الغربيّة على خطوة الاتّحاد السُّوفياتي إنشاء جمهوريّة كردستان، تمثّلت بتقديم مزيد من الدَّعم لحكومة شاه إيران في قمع الجمهوريّة، حيث اتُّهمت الجمهوريّة من قبل بريطانيا وفرنسا بأنَّها تابعة للاتّحاد السُّوفياتي، وأنَّ الكُرد يميلون إلى الأفكار الاشتراكيّة، واعتبرتها أنَّها تشكِّلُ خطراً مستقبليّاً على مصالحها في المنطقة، لتغضَّ الطرف عن قضيّة شعب يواجه الإمحاء والإنكار من قبل الدّول المقتسمة لجغرافيّة وطنه فيما بينها.

كما أنَّ شاه إيران ضغط على الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي كانت لها علاقات جيدة معه، والأخيرة ضغطت على الاتّحاد السُّوفياتي، ليسحب دعمه من جمهوريّة كردستان، ليبدأ شاه إيران في شَنِّ هجوم واسع عليها.

إنَّ سقوط الجمهوريّة شكَّلَ نكسةً كبيرة لدى الكُرد، مقابل تقوية نفوذ شاه إيران في إطلاق يده لينكّل بالشَّعب الكُرديّ، وهو ما لاقى ارتياحاً لدى تركيّا والعراق وحتّى سوريّا أيضاً.

مرّة أخرى تغدو القضيّة الكُرديّة ضحيّة التوافقات بين القوى العظمى وتقاسمها لمصالحها، فستالين ضحّى بجمهوريّة كردستان مقابل توافقات مع الأمريكان في أوروبا الشَّرقية وتقسيم ألمانيا بينهما، وكذلك الوعود التي أطلقتها له الولايات المتّحدة بحصوله على قسم من نفط إيران.

ويعتبر الكاتب الدّكتور “ضرغام الدبّاغ” في بحثه عن أسباب سقوط جمهوريّة كردستان/ مهاباد أنَّ “الغرب الرَّأسماليّ ينظر لإنشاء الجمهوريّة من زاوية لا علاقة لها بالشَّعب الكُرديّ وبحقوقه، ولا حتّى الشَّعب الإيرانيّ، فالغرب ينظر للقضيّة من زاوية اقتصاديّة، يحتمل فيها فقدان مصالح له ليس في إيران فحسب، بل في المنطقة بأسرها. فهو يعتبر أنَّه في حال تفكّك إيران؛ فإنَّها ستتحوّل إلى كيانات صغيرة يصعُب الهيمنة عليها كما يفعلها الآن الفرس”.

وفق هذه القاعدة الأساسيّة لدى الدّول الغربيّة، فهي لا تدعم نشوء دولة كُرديّة، وتفاضلها مع علاقاتها بالدّول المقتسمة لجغرافيّة كردستان، حيث تصاعد الاهتمام بإيران أكثر بعد انقلاب مصدّق ودخولها في الفلك الأمريكيّ.

انطلاق ثورة سبتمبر/ أيلول في جنوب كردستان عام 1961

بعد سقوط جمهوريّة كردستان/ مهاباد عام 1947، توجَّهَ الملا مصطفى البارزاني، والذي كان أحد المشاركين في تأسيس الجمهوريّة، مع أكثر من /500/ من مقاتليه إلى الاتّحاد السُّوفياتي، كلاجئ.

مرّتْ القضيّة الكُرديّة بعد تجربة الجمهوريّة في موت شبه سريريّ، لجهة فقدان الكُرد الثّقة بالقوى الدّوليّة في حَلِّ قضيّتهم، خاصّة بعد تصاعد الحرب الباردة بين القطبين الاشتراكيّ والرَّأسماليّ، واعتماد كُلّ طرف إستراتيجيّات وتكتيكات تعكس مصالحهما كدول، ليغدو الصراع الدّوليّ تنافساً على الثّروات ومناطق النّفوذ، خاصّة بعد صعود الولايات المتّحدة الأمريكيّة كقوّة تقود المعسكر الغربيّ الرَّأسماليّ، بعد أفول نجم كُلّ من بريطانيا وفرنسا، خاصّة في الشَّرق الأوسط.

إنَّ إنشاء حلف بغداد “منظمة الحلف المركزيّ Central Treaty Organization – CENTO” أو ما عرف في بادئ الأمر باسم “منظّمة حلف الشَّرق الأوسط Middle East Treaty Organization – METO” الذي أنشئ عام 1955 للوقوف بوجه المدِّ الشّيوعيّ في الشَّرق الأوسط خلال الخمسينيات، وكان يتكوّن من العراق وتركيّا وإيران وباكستان والمملكة المتّحدة (بريطانيا).

سعت بريطانيا من خلال حلف بغداد إلى ربط دول الحلف بسياساتها في منطقة الشَّرق الأوسط وإلى فرض هيمنتها على الدّول الأخرى خارجه، بعد أن شكَّلَ نظام نوري السَّعيد في العراق قاعدة أساسيّة لها للقضاء على أيِّ توجُّهٍ تحرّريٍّ في المنطقة.

غير أنَّ قيام الثّورة المصريّة في يوليو/ تمّوز عام 1952 والقضاء على النِّظام الملكيّ المصريّ، ومن ثُمَّ تأميم قناة السّويس والعدوان الثّلاثيّ الذي شَنَّتهُ كُلّ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، ووقوف الاتّحاد السُّوفياتي إلى جانب مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ساهم في نقل تأثيرات المدِّ القوميّ الناصري خارج مصر، فتأسَّست حركة الضبّاط الأحرار في العراق، والتي ساهمت في انقلاب/ ثورة 14 يوليو/ تمّوز 1958 بقيادة الضّابط النّاصريّ عبد الكريم قاسم والذي انقلب فيها على النِّظام الملكيّ وأعلن قيام الجمهوريّة العراقيّة وحَلّ حلف بغداد، ورفض التبعيّة لبريطانيا.

ضمن الشُّروط والظروف الجديدة التي خلقتها الثّورة المصريّة والعراقيّة في المنطقة؛ أطلّت تركيّا برأسها كرأس حربة متقدّم للمعسكر الغربيّ في منطقة الشَّرق الأوسط، عندما انضمّت إلى حلف شمال الأطلسيّ (النّاتو) عام 1952، وساهمت في تقويض الحركات والثّورات الشَّعبيّة في المنطقة، لتهدّد الدّول السّاعية إلى التحرّر من السَّيطرة الاستعماريّة وإطلاق مشاريع تنمية خاصّة بها، مثلما هدّدت سوريّا عام 1958 عندما أعلنت عن الوحدة مع مصر، فحشدت جيشها على الحدود مع سوريّا، مهدّدة بشّنِّ عدوانٍ واسعٍ عليها، ولتستخدم قوة حلف (النّاتو) في تهديد المنطقة برمّتها.

كما أنَّ الإعلان عن دولة إسرائيل عام 1948، واعتراف تركيّا بها؛ ساهم هو الآخر في اندلاع صراعٍ عميقٍ في المنطقة، أجّجته القوى الغربيّة، لتدخل المنطقة في دوّامة من الحروب والأزمات استمرّت حتى اليوم.

وجدت الحركة الوطنيّة التحرّريّة الكُرديّة الفرصة مناسبة في العراق للمطالبة بحَلِّ القضيّة الكُرديّة، فتوجَّهَ الملا مصطفى البارزاني من الاتّحاد السُّوفياتي إلى مصر ومنها إلى العراق، ليعقد اتّفاقاً مع الرَّئيس العراقيّ عبد الكريم قاسم في وضع إستراتيجيّة لحَلِّ القضيّة الكُرديّة في العراق، ضمن إطار من التّوافق بين الحكومة المركزيّة والحركة الكُرديّة التي كان يقودها آنذاك الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ في العراق.

إنَّ الادّعاء بأنَّ حَلّ القضيّة الكُرديّة يزيد من الانقسامات في المنطقة، ويُعرّض أمن الدّول التي تتقاسم كردستان فيما بينها للخطر، ما هي إلا دعاوى باطلة، يُراد منها عرقلة حَلّ القضيّة الكُرديّة. على العكس تماماً؛ فإنَّ ترك القضيّة معلّقة دون حَلٍّ، يجعل تلك الدّول ضعيفة ومهزوزة، وغير قادرة على إنجاز مهام الاستقلال السِّياسيّ والاقتصاديّ النّاجز، وتحقيق تنمية مُستدامة لشعوبها، وبالتّالي دولاً غير مستقرّة، وهو ما أثبتته تجارب السّتينات والسبعينات من القرن الماضي، وصولاً إلى أيامنا هذه.

ويصف الدّكتور عصمت شريف وانلي في مذكّراته أنَّ “تحقيق أيّ نوع من الدّيمقراطيّة في البلدان التي تستعمر كردستان، مرتبط بشكل وثيق بحَلِّ القضيّة الكُرديّة، ومنح الكُرد حقوقهم المشروعة وفق المواثيق والعهود الدّوليّة”.

إنَّ تصاعد التيّار القومويّ الشُّوفينيّ ضمن العراق ممثّلاً بصعود حزب البعث، وانقلابه على نظام عبد الكريم قاسم، ومن ثُمَّ قتله عبد الرّحمن عارف، والضغوط التي مارسها على شقيقه الرَّئيس عبد السّلام عارف في تغيير وجه العراق، أدّى إلى استئناف المعارك بين الثّورة الكُرديّة والحكومة المركزيّة العراقيّة في عام 1963، والتي تزامنت مع انقلاب حزب البعث في سوريّا واستلامه السُّلطة في 8 مارس/ آذار من العام نفسه، ورفعه شعار “محاربة إسرائيل الثّانية في شمال العراق”، أي الثّورة الكُرديّة. فأرسل الجيش لواء عسكريّاً بقيادة اللّواء “فهد الشَّاعر”، ليقف مع الجيش العراقيّ لقمع الثّورة الكُرديّة.

ويذكر الكاتب السُّوريّ البعثيّ ” عبد الكريم ناصيف” في روايته المُسمّاة “الحلقة المُفرَغة”، أنَّ “القوّات السُّوريّة توجَّهت لنُصرة الشَّعب العراقيّ الشَّقيق ومنع قيام إسرائيل الثّانية في شمال العراق”. هذه الذّهنيّة التي سادت بين النُّخب الثَّقافيّة والسِّياسيّة في كُلّ من سوريّا والعراق وتركيّا وإيران، ألهبت المشاعر القوميّة العنصريّة ضُدَّ الكُرد وقضيّتهم، وخلقت شرخاً وبوناً واسعاً بين الشُّعوب التركيّة والعربيّة والفارسيّة والكُرديّة، وكان من آثارها أن مورست ضُدَّ الكُرديّ في تلك البلدان سياسة التمييز والإقصاء حتّى على المستوى الاقتصاديّ أيضاً.

الصراع العربيّ الإسرائيليّ، بدوره انعكس بشكل مباشر على واقع الشَّعب الكُرديّ وقضيّته، من خلال اتّهام الكُرد بالتّعامل مع إسرائيل ونعتهم بشتّى الصفات السيئة والتي تقلّل من وطنيّة الكُرديّ، رغم مشاركة الكُرد في بناء تلك الأوطان والدّفاع عنها في حروبها الوطنيّة التحرّريّة، مثل حرب التحرّر الوطنيّة التركيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، وكذلك مشاركة الكُرد في حرب الاستقلال السُوريّة التي اندلعت بعد وقوعها تحت الانتداب الفرنسيّ، حيث أُطلِقَت الشَّرارة الأولى للثّورة ضُدَّ الفرنسيّين من جبال الكُرد (عفرين) على يد “إيبو محو شاشو” الذي تحالف مع ثورات إبراهيم هنانو (الكُرديّ الأصل) وصالح العلي في جبال العلويين. كما تبوّأ الكُرد مناصب عديدة في الدّولة السُّوريّة الحديثة، كرئاسة الجمهوريّة ورئاسة الوزراء والإدارات والمؤسَّسات الأخرى.

هذا الأمر كان يسري على العراق أيضاً، فمشاركة الكُرد في ثورة رشيد علي الكيلاني ضُدَّ الإنكليز، أثبتت ولاء الكُرد للوطن العراقيّ ونبذهم كُلّ المشاريع التقسيميّة والانفصاليّة، وحصر مطالبهم ضمن الحكم الذّاتيّ والحقوق القوميّة للشَّعب الكُرديّ ضمن عراقٍ موحّدٍ.

إلا أنَّ الحكومات العراقيّة المتعاقبة على السُّلطة، تنكَّرت لحقوق الشَّعب الكُرديّ، وواجهت مطالبه بالحديد والنّار. فبعد الاتّفاق مع حكومة عبد الكريم قاسم على منح الكُرد حقوقهم ضمن جمهوريّة العراق الموحّدة؛ طغت النَّزعة القوميّة الشُّوفينيّة على أوساط الحكم في العراق، ومارست ضغوطاً كبيرة على “قاسم”، دفعته للّجوء إلى العنف وقوّة الجيش في التّعامل مع المطالب الكُرديّة، وهو ما ولّد عنفاً ثوريّاً مضادّاً له، أفضت إلى اندلاع ثورة سبتمبر/ أيلول عام 1961.

إنّ رعاية الدّول الغربيّة الرَّأسماليّة لحكومات وأنظمة المنطقة، وكذلك دخول الاتّحاد السُّوفياتي إلى المنطقة عبر البوّابة المصريّة والسُّوريّة؛ دفعها إلى دعم حكومات الدّول التي تتقاسم جغرافيّة كردستان، وإنكارها لحقوق الشَّعب الكُرديّ، لتغدو القضيّة الكُرديّة ضحيّة صراعات الدّول العظمى في المنطقة.

ويذكر ضابط الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة “ويربر كرين إيفلاند” في مذكّراته، والذي عمل في منطقة الشَّرق الأوسط طيلة أربعين عاماً، من عام 1940 حتّى عام 1980، أنَّ الدّول العربيّة تحالفت ضُدَّ الثّورة الكُرديّة في جنوب كردستان، واعتبرتها خطراً لا يَقُلُّ عن إسرائيل على مستقبلها، خاصّة بعد وصول حزب البعث إلى السُّلطة في كُلٍّ من العراق وسوريّا.

تقلَّص النُّفوذ البريطانيّ والفرنسيّ في منطقة الشَّرق الأوسط، بعد نيل الدّول العربيّة استقلالها السِّياسيّ، لكنّها دخلت تحت الهيمنة الأمريكيّة بشكل غير مباشر، عبر إقامتها تحالفات وعلاقات عسكريّة واقتصاديّة واسعة معها، ما أطلق يدها في ترسيخ أنظمتها الملكيّة والدّستوريّة والجمهوريّة، على حدٍّ سواء.

التجربة البعثيّة في كُلٍّ من العراق وسوريّا، وقبلها النّاصريّة في مصر، واستنساخها تجربة الدّولة التركيّة القومويّة في رفض وجود أيّ قوميّة أو شعب آخر ضمن حدود دولها التي رسمت الدّول الغربيّة لها خرائط وأعلام خاصّة بها، اعتبرتْ أنَّ أيَّ مساسٍ بها يعتبر خيانة قوميّة ووطنيّة، وأنَّ كُلّ من يتواجد ضمن حدودها هو – بالضرورة – تركيٌّ أو عربيٌّ أو فارسيٌّ، وإن كان لا ينتمي إلى قوميّتها، فاعتمدت سياسة الصهر القوميّ أساساً في بناء دولها، واتّبعت سياسات عنصريّة بحقّ الشَّعب الكُرديّ، همّشت لغته وثقافته وألغت جميع خصائصه القوميّة الخاصّة به.

انعكس هذا الرَّفض في تصاعد الثّورة الكُرديّة في جنوب كردستان، وحقّقت انتصارات كبيرة، حيث ألحقت خسائر كبيرة بالجيش العراقيّ، رغم الدَّعم الذي تلقّاه العراق من عدّة دول عربيّة، وفي مقدّمتها سوريّا. هذا الصراع الدّمويّ، كان تعبيراً مباشراً عن الصراع الدّائر في المنطقة، حيث وقف الاتّحاد السُّوفياتي إلى جانب كُلٍّ من سوريّا والعراق ودعمهما بالأسلحة والعتاد المتطوّر، لمواجهة ما أطلقت عليه حينها اسم “مكافحة الحركة الرَّجعيّة الكُرديّة في شمال العراق”، وفق ما ذكره الدّكتور عصمت شريف وانلي في مذكّراته، وكذلك الكاتب الكُرديّ أيّوب البارزانيّ في كتابه “حركة التحرّر الكُرديّة بقيادة البارزانيّين”.

فالاتّحاد السُّوفياتي الذي دخل في معاهدات “الصداقة” مع كُلّ من سوريّا والعراق، أيَّدَ السِّياسات التي مارسها النِّظامين السُّوريّ والعراقيّ ضُدَّ الكُرد. ويذكر العديد من السّاسة الكُرد في العراق أنَّ الطائرات السُّوفيتيّة من طراز “أنطونوف وتوبوليف وميغ” شاركت الطيران العراقيّ في قصف مواقع البيشمركه الكُرد في جنوب كردستان، مبرّرة ذلك بأنَّ الحكومة “التّقدميّة” في العراق تواجه حركة انفصاليّة ورجعيّة في شمال العراق.

التوجُّهات السُوفيتيّة في التّعامل مع القضيّة الكُرديّة، من حيث النتائج، لا تَقلُّ ضرراً عن السِّياسات الغربيّة الرَّأسماليّة في تغييب القضيّة الكُرديّة وتعقيد حلّها. فرغم انقسام الحركات الكُرديّة بين الموالين للمعسكر الغربيّ والشَّرقيّ، وتبنّي العديد منها النظريّة الاشتراكيّة واليساريّة في نضالها، إلا أنَّ هذا لم يُغيّر من مواقف الدّول الاشتراكيّة منها، ولتبدي مقاربات عادلة من القضيّة الكُرديّة، بل أخضعتها لمنطق حساباتها في الرِّبح والخسارة مع الدّول التي تحتلُّ كردستان. ففاضلت بينها وبين استمرار علاقاتها مع كُلّ من سوريّا والعراق، لتنحاز إليهما، وتبتعد عن المبادئ والقيم التي طالما نادت بها.

إنَّ وصول الثَّورة الكُرديّة في العراق إلى مرحلة باتت تهدّد فيها الحكومة العراقيّة؛ دفعت الأخيرة إلى تغيير مواقفها منها والقبول بإجراء مفاوضات مع مجلس قيادة الثّورة التي كان يرأسها الملا مصطفى البارزاني.

اتّفاقيّةُ الحكم الذّاتيّ في جنوب كردستان

إنَّ الظروف الإقليميّة والدّوليّة التي عُقِدَت فيها الاتّفاقيّة بين قيادة مجلس الثّورة الكُرديّة والحكومة العراقيّة، كانت في غاية الحساسيّة والدقّة. فبعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967، وتراجع المدّ القوميّ العربيّ، وعدم قدرة الدّول العربيّة تحقيق أيّ انتصار يذكر على إسرائيل، بل على العكس، خسرت الدّول العربيّة، مثل مصر والأردن وسوريّا، وكذلك فلسطين، قسماً كبيراً من أراضيها، حيث احتلّت إسرائيل أراضي سيناء والضفة الشَّرقية لنهر الأردن، وكذلك أراضي الضفّة الغربيّة وقطّاع غزّة في فلسطين، وأراضي الجولان السُّوريّ.

هذا الانكسار العربيّ العسكري والسِّياسيّ والمجتمعيّ في المواجهة مع إسرائيل؛ عكس يأساً وتراجعاً في الشِّعارات القومويّة التي حملتها دول المواجهة، أو ما تُسمّى “دول الطوق” حول إسرائيل، لتنتهج خطاباً سياسيّاً مغايراً – مهزوماً إن صَحَّ التعبير – لما قبل نكسة حزيران، وجد أصدق تعبيراته في الانهزامات التي عاشها الجيش العراقيّ أمام الثّورة الكُرديّة في جنوب كردستان، لتذعن في النِّهاية، ومع حلول عام 1968، ووصول حزب البعث إلى سُدَّةِ الحكم في العراق عبر الثُّنائي “أحمد حسن البكر وصدّام حسين” وممثّلاً بما كان يُسمّى حينها “مجلس قيادة الثّورة”، وقبوله بدء المفاوضات مع قيادة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ ومجلس قيادة الثَّورة الكُرديّة.

أسفرت المفاوضات إلى توصّل الجانبين الكُرديّ والعراقيّ إلى التوقيع على اتّفاقيّة الحكم الذّاتيّ، أو ما بات يُعرف بصدور “بيان 11 مارس/ آذار عام 1970”.

وقَّعَ على الاتّفاقيّة من الجانب الكُرديّ الزَّعيم الكُرديّ “الملا مصطفى البارزاني”، ومن الجانب العراقيّ نائب الرَّئيس العراقيّ آنذاك “صدّام حسين”.

وبموجب الاتّفاقيّة؛ والتي نصّت المادّة الأولى من الدّستور فيما بأن أُطلق اسم “جمهوريّة العراق” على الدّولة، وليس “الجمهوريّة العربيّة العراقيّة”، وأنَّها تتألّف من قوميّتين، عربيّة وكُرديّة، وتعتبر اللّغة الكُرديّة هي اللّغة الثّانية في المناطق العربيّة، والأولى في المناطق الكُرديّة. وأنشئت منطقة حكم ذاتيّ، ضمّت ثلاث محافظات كُرديّة، هي “أربيل، السُّليمانيّة، ودهوك” والمناطق المتاخمة لها ذات الأغلبيّة الكُرديّة. لكن لم يَتُمّ التوصّل إلى حلٍّ حاسم بشأن قضيّة محافظة كركوك الغنيّة بالنَّفط، وبقيت عالقة بانتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميّات المختلفة في مدينة كركوك، وكذلك لم تُضَمّ منطقة “شنكال/ سنجار” الإيزيديّة إلى منطقة الحكم الذّاتيّ.

تضمّنت الاتّفاقيّة تمثيلاً للكرد في الهيئات الحكوميّة، على أن تنفَّذ الاتّفاقيّة بالتّدريج وخلال أربع سنوات.

ازدهرت المنطقة الكُرديّة، وعاد السكّان المهجّرون إلى مدنهم وقراهم، وافتتحت جامعة السُّليمانيّة التي تَمَّ التدريس فيها باللّغتين الكُرديّة والعربيّة، على أن يُستكمل تنفيذ بنود الاتّفاقيّة الأخرى في وقت لاحق.

غير أنَّ الشَّيطان يكمن في التّفاصيل وطريقة وأسلوب تنفيذ الاتّفاقيّات، فحاولت الحكومة المركزيّة العراقيّة التنصُّل من التزاماتها، خاصّة عندما “أعلن الزَّعيم الكُرديّ الملا مصطفى البارزاني رسميّاً حقَّ الكُرد في نفط كركوك. واعتبرت الحكومة العراقيّة إصرار الكُرد بشأن كُرديّة كركوك كإعلان حرب، وهذا ما دفع الحكومة العراقيّة في مارس/ آذار 1974 إلى إعلان الحكم الذّاتيّ للكرد من جانب واحد فقط ووفق شروطها، دون موافقة الكُرد الذين اعتبروا الاتّفاقيّة الجديدة بعيدةً كُلّ البُعد عن اتّفاقيّات سنة 1970، حيث لم تعتبر إعلان 1974 مدينة كركوك وخانقين وجبل شنكال/ سنجار من المناطق الواقعة ضمن مناطق الحكم الذّاتيّ للكرد وأطلقت تسمية محافظة التأميم على كركوك”. وفق ما ذكره الكاتب جرجيس فتح الله في كتابه “يقظة الكُرد”.

من جانبها شرعت الحكومة العراقيّة في اتّباع سياسة التعريب في منطقتي كركوك وخانقين الغنيّتين بالنَّفط، فانهارت اتّفاقيّة الحكم الذّاتيّ، لتندلع الحرب مرّة أخرى في عام 1974.

اتّفاقيّة الجزائر في 5 مارس/ آذار 1975

كانت الثّورة الكُرديّة تتلقّى دعماً من شاه إيران محمّد رضا بهلوي، في الوقت الذي كانت الخلافات على أشُدِّها بين العراق وإيران حول أحقيّة أيّ منهما بالسّيادة على شطّ العرب في مدينة الفاو على الخليج العربيّ.

تمكّنت الحكومة الجزائريّة من خلال وزير داخليّتها آنذاك “عبد العزيز بو تفليقة” من ردمِ الهُوّة بين الحكومة العراقيّة وشاه إيران، والتوصّل إلى اتّفاق لرسم الحدود بينهما في شطّ العرب، حيث تنازل العراق عن السّيادة عليه، مقابل قطع شاه إيران الدَّعم عن الثّورة الكُرديّة، وقد وقّعت تلك الاتّفاقيّة بين العراق وإيران في مدينة الجزائر العاصمة.

ما أن قطع شاه إيران المساعدات والدَّعم عن الثّورة الكُرديّة؛ حتّى بدأ الجيش العراقيّ بشَنِّ حملة عسكريّة واسعة على مناطق الحكم الذّاتيّ، وارتكب أبشع المجازر في مدنها وقراها، ما أدّى إلى سقوط الثَّورة وتعرُّض قرى ومدن كردستان إلى الحرق والدّمار وتشريد أهاليها، وتوجيه ضربة قاصمة لقوّات البيشمركه.

إنَّ لكُلٍّ من الحكومة العراقّة والشَّعب الكُرديّ فهم ومعان مختلفة تجاه اتّفاقيّة الجزائر، التي قضت على حلم الحكم الذّاتيّ الكُرديّ، مقابل انتعاش موجة القومويّة العربيّة البعثيّة داخل العراق، وشعورها بالنَّشوة في تحقيق نصر تاريخيّ لها ولـ”الأمّة العربيّة”، ما أدى تصاعد الخطاب الإنكاريّ العصبويّ العروبيّ البعثيّ، وإغراق كردستان في بحار من الدّماء.

لقد وجد الكُرد أنفسهم مرّةً أخرى ضحايا التّوافقات السِّياسيّة بين القوى الإقليميّة والدّوليّة في منطقة الشَّرق الأوسط، فلم تحرّك أيّ من القوى المهيمنة في المنطقة والعالم، لا من المعسكر الغربيّ الرَّأسماليّ ولا الشَّرقي الاشتراكيّ، ساكناً حيال المجازر التي ارتكبها الجيش العراقيّ في كردستان، بل تلقّت الحكومة العراقيّة البعثيّة كُلَّ الدَّعم والمساندة من الدّول الغربيّة والاشتراكيّة، وتنصّلت الولايات المتّحدة الأمريكيّة من كُلِّ تعهّداتها ووعودها بدعم الثَّورة الكُرديّة، بل قطعت ذاك الدَّعم الذي كان يَمُرُّ عبر شاه إيران، وفق ما يذكر ضابط الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة “ويربر كرين إيفلاند” في مذكّراته.

وَقْعُ اتّفاقيّة الجزائر على نفوس الشَّعب الكُرديّ، كان شبيهاً بنكسة حزيران على الشَّعب العربيّ، فشكّلت انكساراً نفسيّاً وسياسيّاً، تخطّى هزيمة ثورة ناضلت طيلة عقود من الزَّمن. فرغم أنَّ الثّورة تمكَّنت من تثبيت الوجود الكُرديّ في العراق، دستوريّاً، ونالت حقوقاً مشروعة اعترف بها الجانب العراقيّ أيضاً. لكن سرعان ما تلاشى الحُلُمُ الكُرديّ على وقع النَّزعات القومويّة لحزب البعث في العراق، وإنكاره لكُلِّ التزاماته وعهوده التي أبرمها مع الجانب الكُرديّ. رغم أنَّ الكُرد حافظوا على روح اتّفاقيّة 11 مارس/ آذار 1970، ولم يتمادوا في مطالبهم. حتّى أنَّ النزاع على كركوك وخانقين وشنكال، لم تأخذ الحكومة العراقيّة بالإحصائيّات والبيانات التي أجرتها في عام 1968.

يذكر الرَّئيس العراقيّ الرّاحل ورئيس حزب الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ جلال الطالبانيّ في إحدى مقابلاته؛ أنَّه كان من المُفترض أن تأخذ اتّفاقيّة الحكم الذّاتيّ بالإحصاء الذي أجرته الحكومة العراقيّة عام 1968، بخصوص كركوك وخانقين وشنكال، حيث كان حينها عدد سكّان مدينة كركوك حوالي /800/ ألف نسمة، منهم نحو /600/ ألف من الكُرد، والباقي من العرب والتُّركمان وباقي المكوّنات، وهذا شرط كافٍ لتحديد هُويّة المنطقة وتبعيّتها لمنطقة الحكم الذّاتيّ، إلا أنَّ الحكومة العراقيّة رفضت الأخذ بذاك الإحصاء، وعمدت بعد هزيمة الثَّورة الكُرديّة إلى إجراء تغيير ديمغرافيّ في المدينتين، عبر استقدام العرب من الجنوب وتوطينهم في المدينة، إلى جانب مدِّهم بكُلّ أسباب القوّة الماديّة والعسكريّة لتثبيت وجودهم فيها. أي أنَّ مقاربات الحكومة العراقيّة من قضيّة كركوك وخانقين وأيضاً شنكال كانت قومويّة تستند إلى فكر ونظريّة البعث في جعل كُلِّ من يعيش في العراق “قوميّاً عربيّاً”، وهو ما أثبتت الأيّام ضحالتها وتناقضها مع حقائق التّاريخ والجغرافيا.

إنَّ الأبعاد الكارثيّة لسقوط ثورة جنوب كردستان، ألقت بظلالها على الكُرد في الأجزاء الأخرى من كردستان، فعاش غرب كردستان انقسامات عديدة بين أحزابها وحركاتها، في ظلِّ انكفاء الشّارع السِّياسيّ والشَّعبيّ عن العمل السِّياسيّ. وسادت حالة من اليأس والتشاؤم بعدم إمكانيّة حصول الكُرد على حقوقهم، بعدما انهار الحكم الذّاتيّ الكُرديّ في جنوب كردستان، وأنَّه مرّةً أخرى خذلتهم القوى العظمى مثلما تَمَّ في تجربة جمهوريّة كردستان/ مهاباد، وأنَّه لا أصدقاء لدى الكُرد غير جبالهم، فهي الأوفى والأصدق لهم.

الخاتمةُ

رُبَّما الإلمام بجميع تفاصيل الخيبات والانتصارات الكُرديّة في العصر الحديث، يتطلّب الغور أكثر في أعماق التّاريخ، وفهم كُنْهِ تلك المؤامرات الدّوليّة والإقليميّة التي تدور حول القضيّة الكُرديّة، منذ اتّفاقيّة زوهاب/ قصر شيرين بين شاه إيران والسُّلطان العثمانيّ عام 1936، وما تلاها من حروب دارت رحاها على جغرافيّة الكُرد، إضافة إلى عوامل جيوسياسيّة وذاتيّة، حالت دون وصول الكُرد إلى حقوقهم المشروعة، كما نصّت عليها المواثيق والعهود الدّوليّة.

غير أنَّ التطوّرات المتلاحقة بعد الثّمانينات، ووصول الحرب الباردة بين المعسكرين الرَّأسماليّ والاشتراكي إلى ذروتها، وولادة حركات وأحزاب سياسيّة كُرديّة استرشدت بالنظريّة العلميّة، تمكّنت من تجاوز الآفاق القوميّة الضيّقة، وتحقّق قفزات كبيرة في الفكر والإيديولوجيا والممارسة العمليّة لهما. كما تجرّأت، ولأوّل مرّة، في توجيه النَّقد إلى الغرب والشَّرق، على ضوء المُقاربات الانتهازيّة والبراغماتيّة التي أبداها كُلّ قطب من القضيّة الكُرديّة.

إنَّ بداية عهد البيروسترويكا في الاتّحاد السُّوفياتي، وانهيار جدار برلين والكتلة الشَّرقيّة في أوروبا في النّصف الثّاني من العقد الثّامن من القرن المنصرم، وصولاً إلى انهيار الاتّحاد السُّوفياتي أيضاً في أوّل التسعينيّات، حمل معه انهيارات وتحوّلات عديدة في الفكر اليساريّ والحركات الاشتراكيّة، مقابل انتعاش الفكر الرَّأسماليّ في عدد من الدّول التي كانت حتّى الأمس القريب تعتبر نفسها دولاً اشتراكيّة.

هذا الواقع وجد تعبيراته في الشّارع الكُرديّ أيضاً، عبر انحياز عدد من الحركات والأحزاب الكُرديّة وابتعادها عن الفكر الاشتراكيّ التحرّري، وارتمائها في الحضن الغربيّ، مُدَّعية أنَّها انسجمت مع التطوّرات العالميّة وفهمت المعادلات السِّياسيّة للصراع الدّوليّ على القضيّة الكُرديّة، غير مدركة أنَّها مرّة أخرى ستقع ضحيّة ترتيبات مصالح الدّول في المنطقة، إن لم تعتمد على قوّتها الذّاتيّة في تحقيق انتصارات وقفزات هامّة على صعيد حَلِّ القضيّة الكُرديّة.

لا شَكَّ أنَّ القضيّة الكُرديّة تشكّل جزءاً لا يُستهان به من قضايا منطقة الشَّرق الأوسط والصراع عليها، وحلَّها مرتبطٌ بشكل وثيق بقضايا شعوب الشَّرق الأوسط في التحرّر والدّيمقراطيّة وإنهاء النّزاعات والصراعات القومويّة والإثنيّة والدّينيّة والمذهبيّة.

المراجع

1 – بحث للكاتب الدّكتور “ضرغام الدبّاغ” عن أسباب سقوط جمهوريّة كردستان/ مهاباد.

2 – مذكّرات الدّكتور عصمت شريف وانلي.

3 – رواية الكاتب السُّوريّ البعثيّ ” عبد الكريم ناصيف” المُسمّاة “الحلقة المُفرَغة”.

4 – مذكّرات ضابط الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة “ويربر كرين إيفلاند”.

5 – الكاتب الكُرديّ أيّوب البارزانيّ في كتابه “حركة التحرّر الكُرديّة بقيادة البارزانيّين”.

6 – كتاب “يقظة الكُرد” للكاتب جرجيس فتح الله.

7 – مقابلة مع الرَّئيس العراقيّ الرّاحل ورئيس حزب الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ جلال الطالبانيّ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى