الإخمينيون بين التأثير والتأثر: أثر الحضارة الإيرانية القديمة على الشرق
ولاء عبدالله أبوستيت
الإخمينيون بين التأثير والتأثر:
أثر الحضارة الإيرانية القديمة على الشرق
ولاء عبدالله أبوستيت
مقدمة:
لم تكن فارس القديمة هي نفسها إيران الحالية، التي تسعى لاستعادة أمجاد الدولة الفارسية عبر هيمنتها على الإقليم، واستعادة إمبراطوريتها الزائلة، التي حكمت أغلب دول العالم القديم، ومن منطلقها تتعامل مع أغلب جوارها بنظرة فوقية، باعتبار ألّا أحد من محيطها يضاهيها في التاريخ والحضارة، وبالمقابل تتعامل مع الدول ذات الحضارة والتاريخ التليد بشيء من التقدير والندية، رغم أنّ الحقيقة التاريخية تؤكد أن حضارات دول المنطقة كلها جاءت قبل حضارتها وسبقتها بقرون طويلة، بل إن حضارة فارس بُنيت في الأساس وتغذت على حضارات المنطقة التي مثلت الآباء الشرعيين لدولة إيران، فكانت الحضارة الميدية التي يعتبرها المؤرخون هي الأب الشرعي لإيران، وأول حضارات إيران القديمة فعلياً، إضافة إلى حضارة عيلام أجداد الأحواز وأحد أصول الحضارة في المنطقة التي كانت تعيش فيها أعراق عدة منذ فجر التاريخ.
وما يجري الآن من نظام ولاية الفقيه في إيران يفتح الباب لتذكّر تاريخ حضارة فارس، والتي تُعدّ من بين المرتكزات التي تتحرك في سياقها الآن وفي إطار سعيها الحثيث للسيطرة والتوسع، لكن التبحّر في المراجع التاريخية المختلفة يشير إلى أن دولة فارس التي أثرت في العالم القديم ودوله ذات الحضارة، هي بالأساس تم تشييدها على أنقاض حضارات عدة عاصرتها في المنطقة انقضّت عليها وأبادتها وأنهت وجودها، وهو الأمر الذي يستدعي التمعن في تاريخ الحضارة وتأثيراتها وروافدها المختلفة على الشرق القديم.
وفي هذه الورقة تسعى الدراسة إلى البحث في تأثير الحضارة الإيرانية القديمة على الشرق، ومرتكزاتها وروافدها الحضارية المختلفة، وتتضمن تساؤلات فرعية حول الحضارة وآثارها الثقافية والسياسية، من أين جاء الفرس؟ وما الحضارة التي تأثروا بها؟ دولة الإخمينيين وأثرها في محيطها؟
واتخذتُ في هذا المجال دولة الإخمينيين كسياق للدراسة ومجالاً زمنياً باعتبار أنّ الإخمينيين شيدوا حضارة عالمية وصلت إلى حكم كافة دول العالم القديم ذات التاريخ والحضارة، واستمرت حتى جاء “الإسكندر” لينهي هذه السطوة التي امتدت شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، وسيطرت ليس على الشرق الأدنى فحسب بل وصلت إلى اليونان وناطحت دول المدينة في حروب ضروس، وكذلك امتدت شرقاً وبسطت نفوذها على محيطها فاحتلت ميديا وليديا وبابل، سوريا وفينيقيا، غزة ومصر.
وفي هذا السياق فإن المنهج المتبع في هذه الورقة هو المنهج التاريخي، وفيه ينطلق سياق العمل أيضاً عبر المنهج الوصفي التحليلي لتناول هذه الحقبة التاريخية الممتدة من 550 ق.م وحتى 331 ق.م عند هزيمة الجيش الفارسي الأخيرة أمام جيش الإسكندر، وفرار داريوش أمامه ،ما اعتُبر بمثابة تنازل عن العرش[1].
وتُقسم الدراسة إلى أربعة أقسام
الأول: الحضارة ـ مفهومها وروافدها
الثاني: حضارة فارس؛ من أين جاءت؟
الثالث: دولة الإخمينيين تغزو العالم.
الرابع: تأثير حضارة إيران القديمة على الشرق.
أولًا: الحضارة ـ مفهومها وروافدها
- مفهوم الحضارة
والحضارة مشتقة من التحضر والتمدن، وتعرف بـ: “مجموعة المنجزات الفكرية والاجتماعية والصناعية التي يحققها مجتمع ما في مسيرته لتحقيق التقدم والرقي، ويركز البعض على استخدام المصطلح ثقافياً، بينما يستخدمه آخرون على أنه سيادة العقل في المجتمع”[2].
يعرّفها “ويل ديورانت” صاحب قصة الحضارة بأنها: “نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي، تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، وهي مشروطة وفقاً لقوله بعوامل هي التي تشكلها وتعضض وجودها، وتتضمن: “عوامل جيولوجية، جغرافية، اقتصادية، جنسية، نفسية وثقافية”[3].
ويُرجع معجم “أكسفورد” استخدام الحضارة إلى أواخر القرن الثامن عشر، وتشير التسمية إلى: “فعل أو عملية التحضُّر”.
وبينما يُرجع البعض التسمية إلى ابن خلدون الذي تحدث عن الحضر، وأشار إلى أن الدول في تطورها وارتقائها العمراني تبدأ من مرحلة البداوة وصولاً إلى حالة الحضارة، ثم تبلغ مرحلة الاضمحلال والفناء، ويعقبها عودة الدائرة بنفس المنوال.
وتُعتبر الثقافة هي مرآة الشعوب والتي يتحدد بها تاريخ المجتمعات الحضاري، ومن ثم جمع العلماء ـ خاصة علماء الاجتماع ـ بين الثقافة والحضارة باعتبار أن الأولى تفضي إلى الثانية، فكلما زادت الثقافة في المجتمعات تصاعدت مسيرة التطور الحضاري[4].
أما “أرنولد” فيعرّف الحضارة في 1879 بأنها: أنسنة الإنسان في المجتمع.
أما “باكل” فلا يتطرق إلى الحضارة بمعزل عن الحضارة المصرية باعتبارها أم الحضارات القديمة التي وصلت مرحلة التطور المتدرجة في عصر الأسرات، فيقول في 1857 إنها تشكل مقابلة صارخة مع بربرية الأمم الأخرى في إفريقيا، وأما حضارة أوروبا فيراها تتميز بقدرتها على التطور الذي لم تعرفه هذه الحضارات التي نشأت من التربة[5].
وتعددت التعاريف وصولاً للقرن التاسع عشر حيث أصبحت الحضارة مقولة جوهرية في المناقشات في الأنثروبولوجيا والتاريخ.
والواضح أن الحضارة هي تدرج ثقافي وتطور مجتمع ما على كافة مستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي تمثل مجمل منجز تلك المجتمعات الحضاري، وهو ما يتحدد بمجمل عوامل سبق التطرق إليها وهي أمور يعتبرها “ديورانت” أساسيات لنشأة المدنية، فتتدرج من الحياة البدائية وصولاً للتدرجات في جماعات تشكل قبائل أو تجمعات أسرية أبوية، وصولاً لتكوّن الدول وحضارتها التاريخية، ومثالاً على ذلك فإن الشرق الأدنى حفل بحضارات متعددة؛ من الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية)، إلى الحضارة الآشورية، وحضارة بابل، والميدية، وصولاً لحضارة فارس، ودولة المدينة الأوروبية من أثينا وأسبرطة وغيرها من حضارات الإغريق.
- الأسطورة كأحد روافد الحضارة
مثلت الأسطورة أحد أهم الأبعاد والروافد التي تستقي منها حضارات العالم القديم، وبرزت فيما تواتر عنها من ثقافة وتاريخ وملاحم بطولية سعت كل حضارة إلى تعزيزها في كتابتها لتاريخها.
وفي مجمل الكتابات القديمة برزت الأساطير المختلفة عن أبطال الحضارات المختلفة سواء كانوا حكاماً حقيقيين صُبغوا بهالة قدسية ومنحى أسطوري، أم عبر حكام متخيّلين لا وجود لهم على أرض الواقع فعلياً، أو عبر البطل الشعبي الذي يقف ليواجه طغيان الحاكم الظالم، وقد ظهر ذلك في ملحمة جلجامش الأسطورية، وفي جوانب من حياة حكام كالضحاك (أزدهاق) وأسطورة الحيّتين على ظهره وقصة قتل شابين يومياً ليطعم الحيّتين أدمغتهما على طول الحكاية حتى ظهور كاوا البطل الشعبي الذي أنهى الظلم، وكذا حالة القدسية التي وضعت على بعض ملوك الفرس الحقيقيين أو المتخيّلين من البيشداديين، والذين يذهب أغلب المؤرخين الغربيين إلى أنهم حكام متخيّلون.
وهنا عمدتُ إلى اختيار أمثلة تتماشى مع موضوع البحث الخاص بحالة حضارة إيران القديمة، وكلها تسير في منطلق تبنّي فكرة عدم وجود البيشداديين واعتبارهم حكاماً متخيلين للفرس الذين كانت أولى دولهم هي دولة الإخمينيين، والتي جاءت في ظل ازدهار دولة الميديين (أجداد الكرد الأوائل وأصحاب أول دولة إيرانية قديمة في اعتقاد هيرودوت)، يذكرهم الفردوسي في الشاهنامة، وتكثر بذكرهم الكتابات العربية القديمة، ومن بين ما تذكره المصادر حول حكام هذه الفترة ما ذخر به كتاب الكامل في التاريخ[6]، ومنه نقتصر بعض المرويات[7]:
- بيشداد الأول
ويبدو أنه الذي سُميت على اسمه دولة البيشداديين، ويذهب صاحب الكامل في التاريخ إلى أنه أول من وضع الأحكام والحدود في تاريخ البشرية وكان أول من استخدم الجواري وأول من قطع الشجر وجعله في البناء.
- أوشهنج
جاء أوشهنج الذي قيل إنه ملك الأقاليم السبعة، ومن بعده جاء حكم طهمورث بن ويونجهان (أي خير أهل الأرض)، وقيل إنه أيضاً ملك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجاً، كان عدلاً في ملكه ومشفقاً على رعيته، وقيل إنه أول من اتخذ الصوف والشعر للبس والفرش وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وغيرها، وإنه كتب بالفارسية. وفي أول سنة من ملكه ظهر بيوراسب (أزدهاق) ودعا إلى ملة الصابئين.
- طهمورث
وقال ابن الكلبي إن طهمورث أول ملوك الأرض من بابل، وكان ملكه أربعين سنة وهو أول من كتب بالفارسية وفي حكمه عُرف الصوم لأول مرة، وكان السبب أن أقواماً فقراء لم يكونوا ليجدوا قوتهم فأمسكوا نهاراً وأكلوا ليلاً ما يمسك رمقهم، ثم اعتبروه تقرباً لله حتى جاءت به الشرائع.
- جمشيد
ونقل صاحب الكامل عن علماء الفرس قولهم إنه وبعد ملك طهمورث جاء جمشيد، (جم: القمر، و شيد: الشعاع.. أي شعاع القمر أو ضياؤه) ولقّبوه بذلك لجماله ،وهو أخو طهمورث ملك الأقاليم السبعة، وعقد التاج على رأسه وكان أول من عمل بالسيوف والدروع وسائر الأسلحة والصناعة من الحديد، وصنف الناس أربع طبقات:
- طبقة مقاتلين
- طبقة فقهاء
- طبقة كتاب وصناع
- طبقة حراثين ومنهم اتخذ خدماً.
ووضع خاتماً لكل أمور الحياة، كتب على خاتم البريد والرسل الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم السياسة والانتصاف، وعلى خاتم الحرب الرفق والمداراة.
- بيوراسب، ازدهاق (الضحاك)
تتغير الروايات حوله وحول نسبه هل هو شاه فارسي، أو أنه من بلاد اليمن، أو أنه ميدي بل وآخر حكّام الميديين، وعلى يده أفل نجم الدولة الميدية، ويقال إنه من بني مدن بابل وصور ودمشق، اغتصب الحكم وكان عهده عهد ظلم، حكم الممالك السبعة وكان الجور أساس حكمه حتى قضى عليه كاوا الحداد، واعتبروا يوم مقتله يوم عيد، وحتى الآن يحتفل بعيد نوروز.
- أفريدون
يقال إنه هو نوح وإنه هو الذي قهر الضحاك وسلبه ملكه، على قول علماء الفرس، كما أن منهم من يقول إنه ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه.
ويقولون إنه سمي الصوفي وكان أول من نظر في الطب وكان له ثلاثة بنين (شرم، طوج، إيرج) وخاف أن يختلفوا من بعده فقسم الملك بينهم ثلاثاً: فصارت الروم وناحية العرب لشرم والترك والصين لطوج والعراق والسند والهند والحجاز لإيرج.
وكان هذا الثالث يحبه وأعطاه التاج والسرير وبالتتبع التحليلي يبدو أنه وإذا كان الضحاك هو فعلاً آخر حكام دولة الميديين فيكون هو بالمنطق كورش مؤسس الدولة الإخمينية على ما سنتناوله بالحديث لاحقًا.
ثانيًا: حضارة فارس.. من أين جاءت؟
كثيرة هي الروايات التاريخية حول حضارة فارس ونشأتها، ومتعددة هي المصادر التي تتكئ عليها، ولكن الواضح أن الفرس كانوا قبائل أتت من روسيا واستوطنت فارس هرباً من برودة الطقس الشديدة، وقطنوا في إقليم فارس الذي منه ستكون انطلاقتهم ليعلنوا ميلاد إمبراطورية وصلت لتحكم العالم القديم، ولتقهر حضاراته وتنتهكها في احتلال امتد قروناً، وكانت من آثاره اندثار حضارات بكاملها وغيابها عن الوجود. لكن قبل ذلك يبقى التساؤل حول واقع المنطقة في فترة ما قبل قيام دولة فارس على يد قورش الكبير في 550 ق.م.
والحقيقة أن هذه المنطقة شهدت قبيل الفرس قيام حضارات ودول متقاربة ومتجاورة كانت تتخذ من المواجهة والتوسع على حساب جاراتها مساراً لها، فكانت المملكة الآشورية وعاصمتها نينوى، ثم دولة الميديين التي شهدت صعوداً رهيباً وأنهت بوجودها الدولة الآشورية التي استمرت 520 عاماً، وكذلك الدولة البابلية التي استطاعت أيضاً هزيمة الدولة الآشورية واقتطاع أرضها منها، لتكون بذلك هذه الحضارات المتجاورة التي تعيش فيما بينها بين نزاع ووئام وحرب وإغارة وغيرها من الأمور المتعارف عليها في وقتها. وفي عصر متأخر من ذلك وقبل دولة فارس تأتي الدولة الليدية من بين الدول التي برزت في الأناضول كالحيثيين وغيرهم، والتي سيكون للفرس جولة كبيرة معها لإنهاء وجودها فعلياً.
سبق طبعاً هذه الحضارات الدولة السومرية والأكادية، التي يُنسب لها الفضل في وضع أول أساسيات المدنية القديمة في أرض ما بين النهرين، وفق ما نقله الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون[8]، وبالمقابل كانت هناك دولة “عيلام” في جغرافية الأحواز الحالية، والتي يقال إن العيلاميين هم من شكلوا دولة ما قبل الإخمينيين الفارسية، لتكون أول حضارات ما قبل الدولة الإيرانية، ومن منطلق منطقة الأحواز خرجت دولة العيلاميين التي كانت هي الأخرى بين توسع لخارج جغرافيتها إلى انحسار وعودة لمحيطها، فواجهت الأكاديين وسعت لاحتلال أراضيهم حتى وصلت إلى عاصمة الدولة الأكادية “أور”[9]، كما سعت لضم أراضٍ أخرى حتى بدأ عهد الدولة في الضعف والتراجع مع بروز غيرها من الدول الناشئة لتتلاشى هذه الحضارة ويقضي الإخمينيون عليها، وتبقى آثارها شاهدة على دولة امتدت قروناً طويلة وكان تاريخها مليئاً بالأحداث، ويبقى معبد إنتاش (جغا زنبيل)، الذي وضعته اليونسكوعلى قائمة التراث العالمي في نفس سنة قيام الدولة الإسلامية الإيرانية الحالية شاهداً حياً على هذه الحضارة التي نشأت، وبأبعاد متشابهة مع محيطها، وليبقى حتى اللحظة معلماً شاهداً على هذه الحقبة وتاركاً أسئلة كثيرة تحتاج لإجابات عليها.
- الدولة الآشورية
ظهرت الحضارة الآشورية لتصبح على مدار قرون حضارة مؤثرة في الشرق الأدنى، قامت على أساس القوة والغلبة، وكان أهلها يحيون حياة عسكرية شاقة، يقول “ديورانت” إن الأساس فيها هي القبائل الجبلية التي كانت تهددهم من كافة الجهات، لكن بالمقابل استطاعوا بقوتهم أن يتحولوا من الدفاع إلى الهجوم فانطلقت قواتهم في كافة الاتجاهات لتهاجم (سومر، أكاد، عيلام وبابل، وصولًا إلى فينيقيا ومصر).
ويصف “ويل ديورانت” في قصة الحضارة فترة حكمهم تلك قائلًا: “ظلوا مئتي عام كاملة يسيطرون بقوتهم الوحشية على بلاد الشرق الأدنى، وكان موقف سومر من بابل، وموقف بابل من آشور كموقف كريت من بلاد اليونان وموقف بلاد اليونان من رمة، فقد أنشأت المدينة الأولى حضارة وتعهدتها الثانية وأتمتها وبلغت ذروتها وأضافت إليها من عندها وحمتها، وأسلمتها وهي تحتضر هدية منها إلى البرابرة الظافرين الذين كانوا يحيطون بها، ذلك أن البربرية تحيط على الدوام بالحضارة وتستقر في وسطها من تحتها متحفزة لأن تهاجمها بقوة السلاح أو بالهجرة الجماعية أو بالتوالد غير المحدود”[10].
وهنا يشير إلى دول آشور الأربع[11]والتي شهدت عصوراً من القتل والوحشية والإبادة، حتى أنّ عنف ملوك الشرق يؤرخه العلماء مع الدولة الآشورية التي كانت نوذجاً حياً على ذلك، وهو الأمر الذي دعا “آشور بانيبال” يتباهى بوحشيته هو وجنده في التعامل مع العيلاميين، فيقول بنفسه إنه خرّب من بلاد عيلام “ما طوله مسيرة شهر وخمسة وعشرين يوماً، ونشرتُ الملح والحسك لأجدب الأرض وسقتُ من المغانم إلى آشور أبناء الملوك وأخوات الملوك وأعضاء الأسرة المالكة في عيلام صغيرهم وكبيرهم، كما سقتُ منها كل من كان فيها من الولاة والحكام، والأشراف والصناع وجميع أهلها من الذكور والإناث كباراً كانوا أو صغاراً (…) وأخمدتُ في حقولها صوت الآدميين..”[12].
ومع حالة الانتشار الكبير التي حكم بها الآشوريون أرجاء واسعة من الأرض، وكانت دولتهم في مراحلها المختلفة دولة حربية بامتياز، إلا أنّ النهاية جاءت عبر تحالف الجوار، حيث تحالف البابليون بقيادة “نبوخذ نصر” مع الميديين، وأنهوا الدولة الآشورية التي اختفت من التاريخ بعد موت آشور بانيبال بقرابة أربعة عشر عاماً، ليكون للميديين عظيم الأثر في تدمير دولة آشور وتحطيمها، وكان لهم (الميديين) سياستهم العسكرية التي استقوا جوانب منها من الدولة الآشورية.
- الدولة البابلية
وتبقى دولة بابل وحضارتها أحد أهم الحضارات البارزة في التاريخ القديم، ومن “حمورابي” الذي به تبدأ المرحلة المتأخرة من العصر البابلي القديم[13]، إلى نبوخذ نصر، الذي يرتبط اسمه بالسبي البابلي ومعه انتهت حكم الدولة أيضاً، امتدت قصة حضارة الدولة البابلية التي كان لها دورها في تقدم الطب وإنشاء علم اللغة، حتى أنّه كان لها البدايات مع علوم الفلك وعلم الحساب.
ومع كل ما يدور حول مسألة السبي البابلي وحقيقته؛ لكن ترتبط نهاية فترة الدولة البابلية على يد الإخمينيين ومؤسس دولتهم قورش الكبير، والتي معها أنهى سبي اليهود وخُيّروا بين البقاء أو العودة لديارهم، ليبقى لقورش رمزية كبيرة لدى اليهود على مرّ التاريخ وحتى وقتنا الحالي.
- الدولة الميدية
كان المستشرق الروسي “فلاديمير فيودورفيج مينورسكي” من أوائل من أكد أن الميديين هم أجداد الكرد الحاليين، مستشهداً بشواهد عدة أبرزها المنحى الجغرافي والأنثروبولوجي، ووصفهم “هيرودوت” بالقوة والإقدام والشجاعة، بل إنه أكد أن أصحاب الفضل في القضاء على دولة الآشوريين التي امتدت 520 عاماً هم الميديون، الذين شقوا عليهم عصا الطاعة وحملوا في وجههم السلاح وقاتلوهم لينزعوا عنهم أغلال العبودية للدولة الآشورية، ليصبحوا أحراراً تقتدي بهم بعد ذلك باقي الأمم حتى يستعيدوا استقلالهم عنها[14].
ويعتبر ديورانت في قصة الحضارة أن معرفة أصلهم أمر مُعجز، لافتًا إلى أنهم وهم الذين يُحسب لهم الفضل في تحطيم دولة آشور، كان أول ما وصل لنا من أخبارهم في لوحة تسجّل حملةً بعث بها “شلما نصر الثالث” إلى بلد سُمي (بارسوا) في جبال كردستان في 837 ق.م، ويلوّح أنه كان في ذلك البلد 27 من الملوك يحكمون 27 ولاية قليلة السكان يسمى أهلها (أماداي أو ماداي أو ميديين)[15].
أما هيرودوت فتحدث عن نشأة دولة الميديين على يد الميدي “ديوسيس” الذي وجد أن الميديين يعيشون في قرى متباعدة بلا سلطة مركزية يخضعون لها، ولم يقبل ذلك وبدأ يتحرك بين قومه بالعدل حتى شاع صيته بين الجميع، وبعدها بدأ في تأسيس الدولة الميدية ليكون أول حكامها وحكم 53 سنة، خلفه بعدها ابنه “فراورتيس” الذي لم يقبل بحدود دولته فحسب، فبدأ في مهاجمة جواره، وتحقق له النصر ليستولي على آسيا وكانت البلدان تتهاوى أمامه حتى كانت حربه في النهاية على الآشوريين[16].
وكما كان صعود دولة ميديا سريعاً يأتي كذلك خفوت نجمها وغيابها، وكما يقول ديورانت: “فبعد أن كانت ميديا سيدة فارس، أصبحت فارس سيدة ميديا وأخذت العدة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله”.
ويأتي قورش ـ وهو ابن بنت آخر حكام الدولة الميدية، الضحاك/ أزدهاق، التي كانت على اتفاق مع الفرس ـ لينهي دولة الميديين[17]ويؤسس دولة الإخمينيين التي ستُدخل أغلب دول العالم القديم تحت سلطتها.
ثالثًا: دولة الإخمينيين تغزو العالم
جاء قورش بحكم كان واجهته العدالة رغم سياسته التوسعية الواضحة، فكما قضى على دولة الميديين احتل بابل وأنهى حكم الدولة البابلية لينتهي بذلك سبي اليهود وليخيرهم بين العودة إلى أرضهم أو البقاء في دولته التي بدأت تتوسع، وكانت على موعد مع غزو العالم بأسره.
ومن هنا يبدأ التاريخ الفارسي القديم بإنشاء أول إمبراطورية عالمية على يد قورش، في 550 ق. م، وينقل هيرودوت عن قورش في حديثه لبني قومه لإقناعهم بالانضمام إليه للقضاء على الميديين وإنهاء حكمهم: “يا أبناء فارس أعيروني سمعكم وأصغوا لنصيحتي وستنالون حريتكم، أنا الرجل الذي اختارته الأقدار لتحريركم ويقيني أنكم أنداد للميديين في الحرب كما في كل أمر آخر، الحق ما أقول فهيا ولا تترددوا”[18]، وفي خضم ألَقِه جاءت وفاة قورش في 529 ق.م، ليخلفه على الحكم ابنه “قمبيز” الذي مضى في أحلام التوسع، فواصل سياسة والده لكنه كان أكثر دموية وعنفاً، حتى أنّه اتُّهم بالجنون، وكان يعادي الدول التي يحتلها ولا يلقي بالاً لا لشعوبها ولا لعقائدهم، حتى إنه عندما احتل مصر التي حلم بالسيطرة على خيراتها، وقيل إنه قتل العجل أبيس بما له من قدسية لدى المصريين، بل وأخرج الجثث المحنطة من مدافنها ونبش مقابر الملوك، ودنس المعابد، وكما أنه واجه أي محاولات لمقاومته، حتى إنه أخرج جيشاً كبيراً من جنوده إلى الاستيلاء على معبد الإله آمون في واحة سيوة بالصحراء الغربية، إلا أن جيشه مات في الصحراء وغرق في الرمال، ووصل بقمبيز الجنون إلى أنه كان يقول إنه سيظل هكذا مع المصريين حتى يتخلصوا من أوهامهم، ولم يبالِ بكل ما يقال عن لعنات الفراعنة وغيرها حتى أصابته حالات صرع اعتبر المصريون أنها انتقام الإله منه، كما أنّه عاد من مصر فجأة إلى بلاده بعد أن علم أن مغتصباً استولى على عرش فارس، وادعى أنه شقيقه الذي قتله بعد وفاة أبيه ليستأثر بالسلطة، وفي الطريق يُقتل قمبيز في نفس المكان الذي طعن فيه العجل أبيس، وتقول روايات أنه انتحر[19]، وكان حكم الفرس لمصر بمثابة الحلم الذي تحقق لقمبيز عبر ثلاث خيانات، من خيانة اليهود وجعلهم أرض فلسطين منطلقاً للانقضاض على مصر، إلى خيانة رئيس فرقة من الجنود المرتزقة في الجيش المصري وكان إغريقياً (فانيس)، إضافة إلى خيانة البدو في سيناء عبر فانيس ليطلعوا جيش الفرس على مسالك الطريق فلا تكون سيناء بذلك مقبرة الغزاة كما كانت من قبل، بل سهلت وفتحت الباب لغزو مصر التي في خضم هذه المواجهة مات حاكمها أمازيس، ليتولى ابنه ابسماتيك الثالث الحكم[20].
واستمر حكم الإخمينيين لأهم دول العالم القديم، وخلال حكم “دارا الأول” واصل الزحف بجيوشه فوصل إلى جنوبي روسيا مجتازاً مضيق البسفور ونهر الدانوب إلى الفولجا، ويصل إلى وادي نهر السند، ثم تأتي حملته التاريخية إلى بلاد اليونان فاجتاز بحر إيجا، لكنه لاقى هزيمة كبيرة في سهل مراثون ليعود لأول مرة مهزوماً كسيراً إلى فارس، وتبقى بذلك اليونان عصية على دولة الفرس حتى مجيء الإسكندر الأكبر في 233 ق.م، ويبدأ في حرب الفرس وإزاحتهم عن البلدان التي احتلوها بدءاً من مصر.
رابعًا: تأثير حضارة إيران القديمة على الشرق
لم يسجل التاريخ القديم أن دولة بلغت قبل مجيء الإسكندر، ما بلغته دولة فارس التي بلغت أعظم اتساعها لتحكم دول العالم القديم وتؤثر فيه تأثيراً غير مسبوق، لكن مع ذلك فإنها كانت بالأساس قد بدأت على ضفاف منطقة نابضة بالحضارات والثقافات التي تلاقحت فيما بينها، لكن ومع ذلك كان لفارس لا سيما خلال حكم دارا الأول تأثير كبير وواسع على العالم القديم، وعلى يدهم انتشرت الزرادشتية بتعاليمها وفلسفتها، وذلك رغم الاختلافات الواضحة حول ديانة الدولة الإخمينية، وحول منشأ الزرادشتية وغيرها من الأمور الإشكالية، خاصة أن كتاب زرادشت “أفستا” تناول تعاليم كان لها تأثيرها على العالم وقتها، بل إن فلسفته وصلت بتأثيرها إلى دولة المدينة في اليونان، وأثرت في فلاسفتها.
أيضاً برع الفرس في تشييد الطرق وشيدوا طرقاً عظيمة تربط بين الحواضر، لكنهم في المقابل تخلوا عن الصناعة وتركوها للشعوب الأخرى التي كانت تقوم بها، وبالمقابل تحصل الدولة الفارسية على ما يتم صناعته عبر الطرق التي تم تشييدها للأغراض الحربية بالأساس، وذلك في إطار الجبايات التي كانت تأخذها من الأمم التي احتلها.
وفي الوقت الذي استطاعت فارس استخدام وإنشاء الطرق البرية بحرفية واضحة، لم تصل إلى مثل ذلك في الملاحة، وبالمقابل كانت تتجاوز هذه الأزمة باستغلال أساطيل الفينيقيين إما عبر الاتفاق أو الاستيلاء وذلك كان أيضاً بغرض استخدامها في الأغراض الحربية، ليس هذا فحسب بل نسبوا لنفسهم حفر قناة كان حكام مصر بدؤوا فيها لتصل البحر المتوسط بالأحمر عبر ربط البحر الأحمر بالنيل، بل إنهم أيضاً نسبوا لأنفسهم الطواف حول إفريقيا عبر مضيق جبل طارق، وهذا ما قام به حكام مصر القديمة أيضاً. كما قيل إن الفن الفارسي في أغلبه مستعار من الخارج وإن “شكله الخارجي من ليلديا وأعمدته الحجرية الرفيعة منقولة من مثيلتها الآشورية وبهو الأعمدة الضخمة والنقوش القليلة البروز تشهد بأنها قد أوحت بها أبهاء مصر ونقوشها، وتيجان الأعمدة التي على صورة الحيوان عدوى تسربت إليهم من نينوى وبابل، أما الذي جعل فن العمارة الفارسي قائماً بذاته مختلفاً عن غيره، فهو اجتماع هذه العناصر كلها والمواءمة بينها وهو الذوق الاستقراطي الذي رقق العمد المصرية المهولة وكتل أرض الجزيرة الثقيلة، فأحالها بريقاً ورشاقة وتناسباً وتناغماً”[21].
وإن كان ما سبق يعبر عن شيء؛ فهو يعبر عن تأثر فارس وحضارتها بالحضارات المحيطة بها أكثر من تأثيرها فيها، هذا إضافة إلى إصباغها بصبغتها الخاصة التي جاءت تالية على كل هذه الحضارات التي جاءت أولاً، والمراد قوله هنا أن أحفاد الفرس لو نظروا إلى التاريخ برؤية عقلانية متجردة عن أوهام الفردانية وتعظيم الذات، ووصلت إلى أن في الاتفاق ائتلافاً بدلاً من سياسة الدم والعنف التي لم تكن من دولة في الشرق القديم لتبرع فيه كما برعت دولة الفرس الإخمينية، حتى أنّهم تجاوزوا في مراحل مشهد الدم الذي تركته الدولة الآشورية، وذلك على أمل من سلام ووئام للشرق الذي كان بؤرة الحدث منذ فجر التاريخ وما يزال.
[1] – هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني، بيروت، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، ط1، 2014، ص ص 59، 60، 61.
[2] عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مج2، ص549.
[3] ويل ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: د.زكي نجيب محمود، تونس، مركز الجامعة العربية، مج1، ج1، ص 5، 6، 7
[4] السيد حنفي عوض، فجر الثقافة في تاريخ الشعوب، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2015، ص117.
[5] طوني بينت وآخرون، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة: سعيد الغانمي، بيروت، المركز العربي للترجمة، 2010، ص 300.
[6] اتخذت عمل ابن الأثير الكامل في التاريخ مرجع أساسي في استخلاص عدد من ملوك الفرس في فترة البيشداديين لأسباب منها تشابه المراجع في هذا السياق والأحاديث المتواترة بشأنها بما فيها فارس نامه لابن البلخي والتي يوصف فيها ملوك فارس ويقسمهم بين اربع طبقات: البيشداديون والكيانية (الاخمينيون) والاشكانيون والساسانيون.
[7] ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، مج 1، ط1، 1987.
[8] جوستاف لوبون، حضارة بابل وآشور، ترجمة: محمود خيرت المحامي، بيروت- بغداد، دار الرافدين، ب ت.
[9] – للمزيد_ علي ظريف الأعظمي، تاريخ الدولة الفارسية في العراق، لندن، مؤسسة هنداوي، ط2، 2017.
[10] – ويل ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، مج 1، ج2،، ص264.
[11] – جوستاف لوبون، حضارة بابل وآشور، مرجع سابق، ص72.
[12] – ويل ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، ص 270.
[13] هورست ملينكل، حمورابي البابلي وعصره، ترجمة: محمد وحيد خياطة، دمشق، دار المنارة، 1990، ص 17، 18.
[14] – تاريخ هيردوت، مرجع سابق، ص 77.
[15] – ويل ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، مج1، ج2، ص399.
[16] – ناريخ هيردوت، مرجع سابق، ص 78، 80.
[17] المرجع السابق نفسه، ص91.
[18] – المرجع السابق نفسه، ص 92.
[19] – ويل ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، ص 406 .
[20] عبدالرحمن الرافعي، تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة، لندن، مؤسسة هنداوي،ط2، 2020، ص 300.
[21] ويل ديورانت، قصة الحضارة مرجع سابق، ص 453.