حزب العمال الكردستاني وأيديولوجيا الدولتية القومية
عبد الله أوجلان
عبد الله أوجلان
إنّ المشكلةَ الأساسية المتعلقة بتكوينِ حزب العمال الكردستاني تكمنُ في غموضِه بشأنِ أيديولوجيّته الدولتيةِ القومية. فقد أثَّرَت فيه أطروحاتُ جوزيف ستالين فيما يتعلقُ بالقضيةِ القومية بشكلٍ خاصٍّ ، إذْ يتناولُها على أنها تعني قضيةَ تشييدِ الدولة أساساً. وقد أثَّرت مقاربتُه هذه على عموم النظامِ الاشتراكيِّ وعلى الحركاتِ التحرريةِ الوطنية كافة. كما أنّ قَبولَ لينين أيضاً بهذا الحقّ، وإسقاطَه إياه إلى مستوى بناءِ الدولةِ بوصفِها حقَّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها؛ كان سبباً أوّلياً لوقوعِ كلِّ الأحزابِ الشيوعيةِ والاشتراكيةِ في الغموضِ الأيديولوجيّ. والنموذج الذي اعتمدَه حزب العمال الكردستاني في حلِّ القضيةِ الكرديةِ وبنى عليه انطلاقتَه، كان ذاك الذي طرحَه ستالين وصادقَ عليه لينين، أي نموذج بناءِ الدولة. وانتهاءُ غالبيةِ الحركاتِ التحرريةِ الوطنية التي بلغَت أوجَها في تلك الفترة (ما بين أعوام الخمسينيات والسبعينيات) ببناءِ الدولة، كادَ يجعلُ من هذا النموذجِ خياراً وحيداً. أي أنّ بناءَ دولةٍ منفردةٍ بذاتِها قد غدا مبدأً اشتراكياً مقدساً ومُسَلَّماً به. بمعنى آخر، فأنْ تَكونَ اشتراكياً، كان يعني أنْ تدعمَ حقَّ الشعوبِ والأممِ المسحوقةِ والمستعمَرةِ في بناءِ الدولة. والتفكيرُ المعاكسُ كان دليلاً على التجرُّدِ من كينونةِ الاشتراكية. في حقيقةِ الأمر، كان مبدأُ حقِّ الأممِ في تقريرِ مصيرِها قد طُرِحَ لأولِ مرةٍ بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى من قِبَلِ الرئيسِ الأمريكيِّ آنذاك “ويلسون”. وكان على صِلةٍ قريبةٍ بحملةِ أمريكا في بسطِ هيمنتِها. ولكيلا يتخلّفَ لينين عن مواكبةِ رَكْبِ ويلسون، ولكي يحظى بمؤازرةِ الشعوبِ المستعمَرة والأممِ المسحوقة للاتحادِ السوفييتيّ؛ فقد قام بإضفاءِ طابعٍ أكثر راديكاليةً على نفسِ المبدأ، مختزِلاً إيّاه إلى مستوى بناءِ دولةٍ مستقلة. وهكذا بدأَ سباقٌ في هذه الوِجهةِ بين كِلا النظامَين. وأبرزُ مثالٍ على ذلك هو دعمُ كِلتا القوّتَين للمقاومةِ القوميةِ المبتدئةِ لتوِّها في بلادِ الأناضول. وقد دامَت هذه المقاربةُ لاحقاً بين النظامَين بتصاعدٍ مستمر.
لَم يَكُن هناك موقفٌ صريحٌ في هذا الشأنِ لدى كارل ماركس وفريدريك أنجلز، اللذَين أسَّسا الاشتراكيةَ العلمية. لكنهما لَم يَنتقدا أو يعترضا أيضاً على الدولةِ القوميةِ التي نُظِّرَ لها في الفلسفةِ الهيغليةِ على أنها النموذجُ الأساسيُّ للدولة. لقد كانا مضطرَّين إلى الإقرارِ بأنّ نموذجَ الدولةِ القوميةِ هو شكلُ الدولةِ الجديدُ والطبيعيُّ والضروريُّ من أجلِ العصرِ والحداثة. فعلى سبيلِ المثال، فقد ناصَرا الحلَّ المتمثلَ في بناءِ دولةٍ قوميةٍ مركزيةٍ وطيدةٍ ومتخلصةٍ من الاتحاداتِ الفيدراليةِ المتبعثرةِ فيما يتعلّقُ بقضيةِ الوحدةِ الألمانيةِ التي كانت إحدى أهمِّ القضايا القوميةِ في عصرِهما. وكانا يدافعان عن هذا الحلِّ في وجهِ الفوضويين بصورةٍ خاصة. لكنّ التاريخَ أثبَتَ أحقّيّةَ الفوضويين في هذا المضمار. نخصُّ بالذِّكرِ آراءَ باكونين وكروبوتكين، التي ما تزالُ تحافظُ على أحقيتِها ومِصداقيتِها. فنموذجُ الدولةِ القوميةِ المتينةِ التي تعتمد على البيروقراطيةِ المركزية المفرطة، هو الذي قضى على الاشتراكيةِ العلميةِ وممارسةِ الاشتراكيةِ المشيدة. أو بالأحرى، إنه يتصدرُ الأسبابَ الرئيسيةَ التي أدت إلى تهشُّشِها وتفسُّخِها من الداخل. ذلك أن الدولةَ بوصفِها ديكتاتوريةَ البروليتاريا عموماً، والدولةَ القوميةَ التي تُعَدُّ شكلَها الأشدَّ مركزيةً والمتغلغلَ حتى أدقِّ الأوعيةِ الشّعريةِ لعروقِ المجتمعِ خصوصاً؛ هما السببُ الأساسيُّ للانهيارِ والتحلُّلِ من الداخل. بينما العواملُ الأخرى تلعبُ دوراً ثانوياً. بمعنى آخر، فالسببُ وراء قيامِ الاشتراكيةِ المشيدة، التي كلَّفَت تضحياتٍ جِساماً طيلةَ تاريخِها الذي ناهزَ مئةً وخمسين عاماً، بتعريضِ قِيَمِها للتفسخِ التلقائيّ؛ هو افتقارُ الاشتراكيةِ العلميةِ لنظريتِها الخاصةِ بها بصددِ الدولةِ والديمقراطية.
عندما سما ماركس وأنجلز بالدولةِ القوميةِ الألمانيةِ المُشادةِ في مطلعِ العقدِ السابعِ من القرنِ التاسع عشر، وعندما عرَضاها كنموذجٍ مثاليّ؛ كانا قد اقترفا بذاتَيهما وبعَقلَيهما أفظعَ خطأ بحقِّ الاشتراكيةِ العلميةِ التي صَيَّراها إحدى اليوتوبياتِ المثاليةِ للبشرية. ولو أنهما أخذا الانتقاداتِ التاريخيةَ التي وجَّهَها الفوضويون (بالأخصِّ باكونين وكروبوتكين) على مَحملِ الجدّ، لَكان مصيرُ الاشتراكيةِ العلميةِ مختلفاً وناجحاً بكلِّ تأكيد، ولأَصبحَت القِيَمُ الاشتراكية المُفعمةُ بالحريةِ والديمقراطيةِ والمساواةِ نظاماً بديلاً مُوفَّقاً ومُستَداماً في وجهِ الحداثةِ الرأسمالية. وبشكلٍ عامّ، كانت ستحققُ حينها تطوراً عظيماً في إنشاءِ عناصرِ العصرانيةِ الديمقراطية تجاه عناصرِ الحداثةِ الرأسمالية. ونحن على معرفةٍ بأنّ كارل ماركس وفريدريك أنجلز انتَبَها في أواخرِ حياتَيهما لهذا الخطأِ الأوليّ، وأنهما تعلَّما الكثيرَ من المجتمعِ المشاعيِّ البدائيِّ بصورةٍ خاصة، وأدرَكا عدمَ حتميةِ المرحلةِ الرأسمالية، ونظَرا بعينِ التثمينِ والتقديرِ لاختبارِ أشكالِ الاشتراكيةِ المرتكزةِ إلى المجتمعِ القديم. كان ماركس قد سعى في مؤلَّفِه “رأس المال” إلى إتمامِ تحليلِه بصددِ الدولة. والكلُّ يعلمُ أنّ عمرَه لَم يَكفِه لإنهاءِ ذلك. كما كان أنجلز قد أضفى بُعداً تاريخياً أعمق على الاشتراكيةِ العلميةِ في مأثورِه الشهيرِ “أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة”. ويكمنُ سوءُ الحظِ الأكبر لنظريةِ الاشتراكيةِ العلمية في أنْ يَقومَ برنشتاين بالتعديلِ فيها، بدلاً منهما. فتَجذّرَت الأخطاءُ بدلاً من الحقائق. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ التناوُلَ الليبراليَّ البورجوازيَّ لكلٍّ من برنشتاين بشأنِ الديمقراطية، ولينين وستالين بشأنِ الدولةِ والقضيةِ الوطنية؛ شَكَّلَ أفظعَ انحرافٍ وأَفدحَ خطأٍ في تاريخِ الاشتراكيةِ العلمية. ولَم يقتَصر الأمرُ على ارتكابِ الأخطاءِ والتحريفات، بل وأُنشِئَت أيضاً متجسدةً في هيئةِ الاشتراكيةِ المشيدةِ لتَحلَّ محلَّ الحقائقِ الأساسية.
كانت انتقاداتُ فلاديمير لينين إلى برنشتاين صحيحة. ومفادُها أنّ هذا الأخيرَ قد حوَّلَ حركةَ الديمقراطيةِ الاجتماعيةِ (كانت هذه التسميةُ تُطلَقُ حينها على الأحزابِ الاشتراكية) إلى ذيلٍ مُرفَقٍ بالليبراليةِ البورجوازيةِ وإلى امتدادٍ يساريٍّ لها. وبالأصل، فالمستجداتُ اللاحقة أكدت صحةَ رأيِه هذا. أي أنّ التحريفيةَ البرنشتاينيةَ كانت انحرافاً يمينياً ومَثَّلَت أولَ ضربةٍ جادةٍ لحِقَت بالاشتراكيةِ العلمية. لكن، ثمة خطأٌ ونُقصانٌ بالغَين جداً في أرضيةِ الاشتراكيةِ العلمية، أفضَيا إلى تفاقُمِ تداعياتِ تلك الضربة. ألا وهما غيابُ الديمقراطيةِ المجتمعية، وإحلالُ بناءِ الدولةِ القوميةِ محلَّها. هذا هو النقصُ والخطأُ الفادحَين والأساسيَّين اللذين عظَّمَا من تأثيرِ برنشتاين. فقد كان برنشتاين يسعى إلى تخطي الخطأِ بشأنِ الديكتاتوريةِ وإلى تلافي النقصانِ بشأنِ الديمقراطية، من خلالِ إبعادِ الديمقراطيةِ الاجتماعيةِ عن نظريةِ الديكتاتوريةِ والدولة، وتطويعِ الدولةِ القوميةِ الألمانيةِ صوب الدولةِ الاجتماعية. لكنّ كِلتا مُقاربتَيه كانتا مشحونتَين بالانتهازية. بالمقابل، فالانتقاداتُ الصائبةُ التي وجَّهَها إليه لينين كانت تفتقرُ إلى الحقائقِ الصائبةِ البديلة. فما اقترحَه لينين كبديلٍ للديمقراطيةِ البورجوازيةِ والديمقراطيةِ الاجتماعيةِ البرنشتاينيةِ التي هي امتدادٌ يساريٌّ للأولى، كان ديكتاتوريةَ البروليتاريا والدولةَ الاشتراكية. إذ يتخبطُ لينين هنا في مأزقٍ عقيمٍ لَم يتغلبْ عليه طيلةَ حياتِه. لقد تطلَّبَ موضوعُ ديكتاتوريةِ البروليتاريا والدولةِ الاشتراكيةِ انهماكاً مُضنياً من لينين. وقد بذلَ جهوداً حثيثةً في هذَين الموضوعَين. لكنه ما فتئَ عاجزاً عن بلوغِ الحلِّ الصحيح. إذ لَم تَكُن ديكتاتوريةُ البروليتاريا –التي تطرقَ إليها كارل ماركس بضعةَ مراتٍ فقط على الصعيدِ الاصطلاحيِّ بمناسبةِ كومونةِ باريس (1871)– موضوعاً مدروساً أو معمولاً عليه من الناحيةِ النظرية. بل كانت قد صِيغَت مقارنةٌ فظةٌ مُستَوحاةٌ من البورجوازيةِ بالقول: “ما دامَ للبورجوازيةِ ديكتاتوريتُها، فلِمَ لا يَكُونُ للبروليتاريا أيضاً ديكتاتوريتُها؟”.
انكبَّ لينين بعدَ التجربةِ السوفييتيةِ على الاهتمامِ بنظريةِ الدولةِ الاشتراكيةِ في مستهلِّ عشرينياتِ القرنِ العشرين. معلومٌ أنّ عُمرَه لَم يَفِهِ لإتمامِ ذلك. ومعلومٌ أيضاً أنّ كروبوتكين حينها كان قد اقترحَ شخصياً على لينين مَأسَسَةَ السوفييتاتِ كنموذجٍ ديمقراطيٍّ لتمكينِ استدامتِها. لكنّ لينين لَم يُصْغِ كثيراً إليه. بل وشكَّكَ فيه، ولَم يُعِرْه اهتماماً بسببِ شخصيةِ كروبوتكين الفوضويةِ بصورةٍ خاصة. وما حصل بَعدَ ذلك معلوم. فالأعجوبةُ المسماةُ بديكتاتوريةِ البروليتاريا، والتي يُحكِمُ ستالين قبضتَه عليها، قد ابتَلعَت كلَّ الميولِ الثوريةِ والديمقراطيةِ والاشتراكية. ثم ابتُلِعَ ستالين شخصياً بمؤامرةٍ حاكَتها هذه الأداةُ في آخرِ المآل. كان لينين قد تلفظَ بعبارةٍ مفادُها أنّ الطريقَ إلى الاشتراكيةِ تمرُّ من أوسعِ أشكالِ الديمقراطية. لكنه تمّ القفزُ على هذه العبارة، دون التنظيرِ لها أو رسمِ معالمِ ممارستِها العملية. لقد كانوا أَقنَعوا أنفسَهم باستحالةِ عيشِ البروليتاريا من دونِ ديكتاتوريةٍ أو دولة، لدرجةِ أنهم لَم يتوانَوا حتى عن تعريفِ مصطلحِ الديمقراطيةِ البروليتاريةِ على أنه ديكتاتوريةٌ وشكلُ دولة. أي إنهم اعتَبَروا الديمقراطيةَ شكلاً للديكتاتوريةِ والدولة. وهنا يكمنُ الخطأُ المِعياريّ. فانطلاقاً من التاريخِ نَعلمُ جيداً أنّ الديمقراطيةَ ليست ديكتاتورية ولا شكلاً من أشكالِ الدولة. وعلى النقيض، فهي شكلُ الإدارةِ المجتمعيةِ المضادةِ أو البديلةِ للديكتاتوريةِ والدولة. والمجتمعُ الديمقراطيُّ هو اسمٌ لنظامٍ إداريٍّ تغيبُ فيه الديكتاتوريةُ أو الدولة، أو تَكُونان على وفاقٍ مع المجتمعِ بأقلِّ تقدير. إنّ ما عجزَ الاشتراكيون العلميون (بدءاً من كارل ماركس وحتى لينين) عن تطويرِه، بل وأقاموا ديكتاتوريةَ البروليتاريا والدولةَ الاشتراكيةَ بدلاً منه؛ هو المجتمعُ الديمقراطيُّ أو نظامُ الديمقراطيةِ المجتمعيةِ الذي يفيدُ بالمعنى عينِه. فغيابُ المجتمعِ الديمقراطيِّ أو النظامِ الديمقراطيِّ المجتمعيّ هو الخطأُ الفادحُ في هذا الشأن (بشأن ديكتاتورية البروليتاريا والدولة الاشتراكية)، والذي أفسحَ المجالَ أمام بروزِ التحريفيةِ البرنشتاينية.