جميل رشيدكتاب الموقع

المشروع الاوراسي .. هل هو بديل لنظام العولمة وما مكانة تركيا فيه؟

 

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

تمهيد:

ترك سقوط الاتّحاد السوفياتيّ نهاية عام 1991، فراغاً إستراتيجيّاً في العالم، خاصّة في الدّول الواقعة ضمن جغرافيّته وبدرجة أقلّ في محيطه. تأثيرات أخذت أشكالاً عدّة، تمثّلت بانهيار أنظمة سياسيّة وإعادة تشكيلها وفق منظومات فكريّة وإيديولوجيّة مختلفة، انساقت فيما بعد مع النّماذج الغربيّة في الإدارة والاقتصاد والسياسة، لتنتقل إلى عصر ما بعد الاشتراكيّة؛ أي العولمة ببعدها الدّوليّ والإقليميّ.

تصدّر نظام القطب الواحد لقيادة العالم، ممثّلاً بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، وساد معه مفهوم “العولمة”، الذي حمل في طيّاته جملة متناقضات متصارعة، رغم فرضها قيماً إضافيّة على أنماط التفكير والعمل والإدارة، عزّزتها فيما بعد بتدشين الثّورة التّقنيّة الرّقميّة، وإقحامها في عمليّة الصراع مع القوى والأطراف الرّافضة لزعامتها، ومن ثمّ الانتقال إلى إدارة العالم وفق منظومة افتراضيّة “الإنترنت”، مترافقاً مع انتشار عسكريّ في معظم بقاع العالم الاستراتيجيّة وتحكّمها بأهمّ المعابر والممرّات المائيّة والبحار والمحيطات، وتهميش دور وفعّالية القوى الأخرى، لتتسيّد العالم كقوّة منفردة، بلا منازع.

الإسناد النظريّ والفكريّ لتحوّل الولايات المتّحدة إلى قوّة مطلقة في العالم، غذّته أفكار واضعي الاستراتيجيّة الأمريكيّة ومفكّريها. فجملة الأفكار التي طرحها “صاموئيل هنتنغتون” في كتابه “صراع الحضارات”، وكذلك “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التّاريخ الإنسان الأخير”، وكلاهما يتّفقان حول نقطة مركزيّة؛ “سيادة أمريكا على العالم”، منطلقين من فكرة “أطلسيّة – نسبة إلى مفاهيم وأهداف حلف شمال الأطلسيّ”.

إلّا أنّه بالمقابل؛ وكما علّمنا التّاريخ، أنّه لم تمرّ فترات طويلة سادت فيه قوّة واحدة بمفردها المشهد السياسيّ والعسكريّ في العالم، حتّى أثناء سيطرة الإمبراطوريّات البائدة (الرّومانيّة، مثالاً)، حتّى انبثق من رحمها أو في جوارها قطبيّة ثانية أو حتّى ثالثة. طبيعة الصراعات في العالم (صراع الأضداد)، وجدليّة التّاريخ؛ تفترض وجود قطبيّة معاكسة، تحقّق معها في ذات الوقت التطوّر، رغم ما يكتنفه من مآس تنعكس على البشر عبر حروب دمويّة ونشر للفوضى، قد تطول أو تقصر حسب ديناميّات القوى الحاملة للتغيير واتّساقها مع الحركة الانسيابيّة للتّاريخ البشريّ.

ذهب العديد من الباحثين الاستراتيجيّين ودارسي حركة تطوّر التّاريخ، إلى أنّه وبعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وفرط عقد الكتلة الاشتراكيّة، انفردت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بقيادة العالم، منطلقين من فكرة ديمومة النظام الرّأسماليّ وقابليّته على التجدّد والتطوير وملاءمته لكافّة مراحل التّاريخ.

غير أنّ هذه الفكرة بدّدتها الوقائع التالية المتولّدة بُعيد انقشاع أجواء التوتّر وحالة الفراغ والفوضى التي سادت العالم بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، فطُرِحت فكرة “الأوراسيّة”، كمشروع تكامليّ يجمع عدّة قارات ضمن إطار أكثر تعويماً من نظام العولمة المفروض، وكتعبير عن قطبيّة جديدة تسعى لقيادة العالم ما بعد العولمة.

تعدّدت الآراء حول جوهر “المشروع الأوراسيّ”، حيث يؤكّد البعض أنّ المشروع في جوهره إعادة للهيمنة الرّوسيّة على العالم، بعد أن استعادت روسيّا دورها العالميّ في مرحلة ما بعد انهيار السوفياتيّ مروراً بالمرحلة “اليلتسينيّة”، ووصولاً إلى المرحلة “البوتينيّة”، وإعادة روسيّا إلى المشهد العالميّ، وبقوّة.

سنحاول في بحثنا هذا معرفة المشروع الأوراسيّ وبنيته واستطالاته الفكريّة والثّقافيّة، وإسقاطاته السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة على خرائط الجغرافيا السياسيّة للدّول المشكّلة للمشروع، وهل هو تحالف ضدّ التّحالفات التي تقودها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، محاولين تبيين مدى إمكانيّة أن يرى المشروع النور، في ضوء المتغيّرات الحاصلة في بقاع العالم، والأهمّ من كلّ ذلك، التركيّز على الحيّز الذي تحتلّه تركيّا في “الخارطة الأوراسيّة”.

الإطار الجغرافيّ للمشروع الأوراسيّ:

حدّد واضعو نظريّة المشروع الأوراسيّ الحدود الجغرافيّة لمشروعهم، فقصدوا به المنطقة القاريّة المتّصلة عبر قارتي آسيا وأوروبا، فالكلمة تتألّف من شطرين “أور – أوروبا” و”اسيا – آسيا”، ويحدّها من الشرق المحيط الهاديّ، ومن الغرب المحيط الأطلسيّ، ومن الشّمال المحيط القطبيّ الشّماليّ، وجنوباً البحر الأبيض المتوسّط وقارة أفريقيا والمحيط الهنديّ، بمساحة تصل إلى 55 مليون كم2.

 

ويمثّل نحو 36.2 % من مساحة اليابسة على كوكب الأرض، وتضمّ ما يقارب من /93/ دولة، في حين يبلغ عدد السكّان في “إقليم أوراسيا” حوالي /5/ مليارات نسمة، أي حوالي 71 % من إجمالي عدد سكّان العالم، إذ يتمركز في آسيا حوالي /4.2/ مليار نسمة، ويقيم في أوروبا حوالي /740/ مليون نسمة.

جدل نظريّ حول التّعريف السياسيّ للمشروع:

اختلفت الآراء حول التعريف السياسيّ لمفهوم وحدود أوراسيا، فمنهم من اعتبر أنّ العمق التّاريخيّ لدول الاتّحاد السوفياتيّ السّابقة تشكّل بمجموعها دول أوراسيا، فيما ذهبت العديد من الدّراسات الأكاديميّة إلى إطلاق “أوراسيا” على رابطة الدّول المستقلّة عن الاتّحاد السوفياتيّ، والتي أطلقت عليها أدبيّاتها السياسيّة اسم “أوراسيا ما بعد الاتّحاد السوفياتيّ”.

غير أنّ بعض المراكز البحثيّة العالميّة ركّزت على التّعريف السياسيّ للمشروع، منها مؤسّسة “ستراتفور”، التي اعتبرت أنّ المشروع ما هو إلا العمق الجيوسياسي لروسيّا.

ظلّت كلّ التعريفات قاصرة وغير قادرة على تقديم إطار مكتمل لجوهر وماهيّة المشروع، وبقيت خاضعة لأفكار واضعيها، دون أن تسلم من الانتقادات المتعدّدة، خاصّة إنّ بعض التعريفات اقتصرت على حصر المشروع ضمن الدّول المستقلّة عن الاتّحاد السوفياتيّ، والتي حقّقت انتقالاً سياسيّاً واقتصاديّاً إلى عالم الرّأسماليّة من بوّابة النيو ليبراليّة الاقتصاديّة، حتّى أنّ بعضها انضمّ إلى حلف الشمال الأطلسيّ (الناتو)، وابتعد عن مجرّد التفكير بالمشروع.

أوّل من وضع المفهوم الجيوسياسيّ للكتلة الأوراسيّة هو العالم الجغرافيّ الإنكليزيّ “هالفورد ماكيندر” (1861 – 1947) الذي أصدر سنة (1904) كتاباً هامّاً عن البعد الجيوسياسيّ للعلاقات الدّوليّة. وفي مؤلّفه “نظرية الأرض الداخلية” (Heartland Theory)، والذي سنأتي إليه لاحقاً. اعتبر “ماكيندر” أنّ السيطرة على العالم لا تقتصر على السيطرة على البحار كما كانت تفعله المملكة المتّحدة، التي عرفت باسم امبراطوريّة البحار، وإنّما تقتضي السيطرة على الدّاخل الآسيويّ الأوروبيّ الممتدّ من بحر الصّين حتّى المحيط الأطلسيّ، وهو ما أطلق عليه تسمية “الكتلة الأوراسيّة”، معتبراً أنّ قلب هذه الكتلة، تاريخيّاً، هو روسيّا، لأنّها الدّولة الوحيدة في العالم الممتدّة فوق قارتي (آسيا وأوروبا).

ظهر مصطلح “أوراسيا” بشكل مكثّف من قبل المراكز البحثيّة والأكاديميّة ورجال السياسة في الآونة الأخيرة، حيث طرح الوزير البرتغاليّ السابق “برونو ماسياس” رؤية جديدة للعلاقات الدّوليّة، معتبراً أنّ مستقبل النظام الدّوليّ ستحدّده الصراعات بين القوى الكبرى للسيطرة على جغرافيّة أوراسيا. ولخّص تلك الرؤية في كتابه الذي أطلق عليه اسم “فجر أوراسيا”، مدّعياً أنّ “الطريق نحو “نظام عالميّ جديد” يتحدّد عبر تجلّيات التّنافس الدّائر بن روسيّا والصّين والولايات المتّحدة والهند للهيمنة على الإقليم الذي يُعدُّ “قلب العالم”.

فيما يركّز “روبرت كابان”، الأستاذ في الأكاديميّة البحريّة الأمريكيّة في كتابه “عودة عالم ماركو بولو: الحرب والاستراتيجيّة والمصالح الأمريكيّة في القرن الحادي والعشرين” على مركزيّة “أوراسيا” في “المرحلة الانتقاليّة التي يمرّ بها النظام الدّوليّ الرّاهن”. ويتوقّع “كابان” أن تتّجه أوروبا التي تنعم بنوع من السّلام والاستقرار منذ الحرب الباردة، نحو تبنّي مفهوم “أوراسيا” من خلال تصاعد “الشعبويّة والتيّارات اليمينيّة” والتوتّرات المرافقة لها. ويستنتج من تحليله أنّه لا يمكن لأوروبا أن تقود العالم أو حتّى قيادة نفسها، دون قوى كبرى، فهي ستنتقل من الوصاية الأمريكيّة إلى الوصاية “الأوراسيّة”.

وممّا يُساهم في التبعيّة الأوروبيّة لقوّة كُبرى؛ المساعي الأمريكيّة والبريطانيّة في إبقاء أوروبا “الاتّحاد الأوروبيّ” في حالة ضعف، وانسحاب بريطانيا من الاتّحاد زاد من احتمالات انهياره ويهدّد بفرط عقد معاهدات “ماستريخت” و”شينغن” وما إلى ذلك من اتّفاقيّات تجمع دول الاتّحاد تحت سقفها.

يتعرّض “الأوراسيّون” إلى انتقادات عديدة من جانب عدّة أوساط مناوئة لهم. فهناك بعض المتشكّكين بالمشروع الأوراسيّ، رغم أنّهم يُقرّون ببعض مسلّمات وأطروحات “الأوراسيّين”، إنّما يعتبرون “فكرة تأسيس إئتلاف “أخويّ” من الشعوب السّلافيّة والعرق الأصفر والتُرك والفرس على أراضي ما يسمّى “أوراسيا”؛ إنّما هي مجرد فكرة جميلة، ولكنّها طوباويّة وغير قابلة للتنفيذ.

فيما يعتقد الكاتب “زياد الحافظ” في مقال له نُشِر في صحيفة “السّفير”، أنّ أهمّ مقوّمات المشروع الأوراسيّ هما، “القوّة الاقتصاديّة الصّينية بما فيها اليد العاملة الوفيرة والرّساميل الوافرة”، والثاني “القوّة العسكريّة الرّوسيّة”. وفي رأيه أنّ توافر العاملين، يشكّل عامل توازن أو حتّى كسر للتّوازن مع الغرب وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

كما أنّ قوّتي كلّ من الهند وباكستان، ومن ثمّ إيران وتركيّا اللّتان بدأتا تتمدّدان في منطقة الشرق الأوسط، فإنّه تتضافر عوامل عديدة تساهم في نجاح المشروع الأوراسيّ، من وجهة نظر أنصاره.

مقوّمات المشروع الأوراسيّ:

اعتمد منظّرو الفكر والمشروع الأوراسيّ في بنائهم النظريّ على عدد من العوامل، اعتبروها تاريخيّة وجغرافيّة، وأخرى إثنيّة، وذات جذور عميقة تمتدّ إلى الثّقافة المشتركة وحتّى الأصول العرقيّة التي تميّزت بها شعوبهم، ويمكننا ذكر بعض تلك العوامل:

1 – الثّقافة الأرثوذكسيّة – السّلافيّة: يذهب أصحاب هذا التيّار إلى أنّ الخصوصيّة الثّقافيّة التي تميّزت بها الشّعوب الناطقة باللّغة “السّلافيّة” والمعتنقة للمذهب الأرثوذكسيّ، إنّما يشكّلون ما يمكن تسميته بـ”الثّقافة الأوراسيّة” التي تجمع بين شعوب الكتلة الأوراسيّة، وهي مغايرة للثّقافة الغربيّة السّائدة في القارة الأوروبيّة، وكذلك الثّقافة الآسيويّة لدول قارة آسيا. فيما يرى البعض أنّ هذه النزعة إنّما تمثّل في حقيقتها الطموحات والرؤية الرّوسيّة، حيث أنّ اللّغة الرّوسيّة هي جزء من اللّغة السّلافيّة، إلى جانب تمسّك روسيّا بالمذهب الأرثوذكسيّ.

2 – التصوّر القاريّ لأوراسيا: يعتبر بعض المنظّرين للمشروع الأوراسيّ، أنّ أوراسيا بحدّ ذاتها تشكّل قارة، مستندين إلى فكرة التكامل والامتداد الجغرافيّ بين دولها في أوروبا وآسيا، وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الفصل جغرافيّاً بين دولها، معتبرين أنّ الحدود الرّاهنة ما هي إلا حدود مصطنعة وتعارض الأسس الجغرافيّة. وأنصار هذه الرؤية يدحضون فكرة أنّ المشروع الأوراسيّ يقتصر على إعادة السيطرة على دول الاتّحاد السوفياتيّ السّابق، بل يعتبرون أنّ مشروعهم يتجاوزه ويعبّر عن حقيقة تاريخيّة ورغبة لدى شعوب الكتلة الأوراسيّة في إبراز دورها على الصعيد العالميّ.

3 – قلب اليابس (Heartland): يستند هذا المفهوم إلى الرؤى النظريّة لـ“هالفورد ماكيندر”، الجغرافيّ البريطانيّ الشهير، ويعتبره البعض من مؤسّسي “الجغرافيا السياسيّة”. وطرح نظريّته في عام 1904، معتبراً أنّ “القارّات الثلاث (آسيا، إفريقيا، وأوروبا) تشكل ما وصفه بـ”جزيرة العالم” بسبب اتّصالها الجغرافيّ، مؤكّداً أنّ “قلب اليابس” يقع في منتصف هذه الجزيرة، محدّداً حدود هذا الإقليم من نهر الفولغا إلى نهر يانجتي، وهو أطول الأنهار في آسيا، ويمرّ من الصّين، وكذلك من جبال هيمالايا إلى القطب الشّماليّ. ويشدّد “ماكيندر” على أهميّة هذه المنطقة أو الإقليم في الهيمنة على العالم. ووسّع “ماكيندر” من مساحة أوراسيا” مضيفاً إليها كلّ من السهول الأوروبيّة غرب جبال الأورال وشبه الجزيرة العربيّة والهند والصّين.

4 – التيلوروكراتيا والتالاستوكراتيا وحضورهما القويّ في المشروع الأوراسيّ: إنّ أول من طرح مفهوم “التيلوروكراتيا/ قوّة البرّ” و”التالاستوكراتيا/ قوّة البحر” هو المؤرّخ العسكريّ والمفكّر الجيوستراتيجيّ الأمريكيّ “ألفريد ماهان”، معتبراً أنّ روسيّا تتميّز بالقوّة على البرّ، فيما أمريكا وأوروبا تسيطران على معظم البحار والمحيطات. وهذه نزعة بريطانيّة قديمة، حيث عُرِفَ عنها اسم “إمبراطوريّة البحار”. وهذا ما يفسّر انتشار قطع البحرية الأمريكيّة في جميع البحار في العالم، بدءاً من المحيط الأطلسيّ والهادي والهنديّ وحتّى الخليج العربيّ والبحر الأبيض المتوسّط والأحمر وبحر الصّين، كما أقامت قواعد عسكرية بحريّة لها في الموانئ العالميّة، مثل “قاعدتي “سوبيك وكوبيك” في الفيليبين، وقاعدتها في جزيرة “ديلاغارسيا” في المحيط الهنديّ. ولعبت تلك القواعد البحريّة وكذلك البوارج وحاملات الطائرات الأمريكيّة، دوراً أساسيّاً في كافّة الحروب التي خاضتها أمريكا بعد الحرب العالميّة الثانية، كحربَي الخليج الأولى والثانية، وهي القوّة الضاربة بيدها التي تهدّد بها دول العالم أجمع، من هنا تأتي أهميّة القوّة البحريّة التي احتفظت بها أمريكا للتحكّم بالممرّات الملاحيّة الجيواستراتيجيّة وعزّزت من قوّتها البحريّة، فيما احتفظت روسيّا بقوّتها البرّيّة في كلّ من جبال الأورال ودول الاتّحاد السوفياتيّ السّابقة، وكذلك محاولاتها في السيطرة على أفغانستان في أواخر سبعينات القرن الماضي، وما محاولاتها الرّاهنة في السيطرة على الموانئ السّوريّة، إلا توجّهاً جديداً لديها في إحداث موقع قدم لها في المياه الدّافئة، والشروع بتعزيز قوّتها البحريّة، من خلال بناء الأساطيل البحريّة والبوارج وحاملات الطائرات والغوّاصات، في مسعى لتكامل المشروع الأوراسيّ. ويعتقد واضعو الاستراتيجيّة الأوراسيّة، أنّه دون تعزيز القوّة البحريّة، لا يمكن أن يُكتب للمشروع النجاح.

5 – أهميّة دول الأطراف في المشروع الأوراسيّ: يؤكّد العديد من علماء السياسة، ومنهم العالم الأمريكيّ “نيكولاس سبايكمان” أهميّة ما سمّاها “الأراضي الطّرفيّة” أي الدّول المحيطة بالإقليم الأوراسيّ، في نشأة وتطوّر المشروع الأوراسيّ وترسيخ أسسه، من خلال نظريّة ما تسمّى “المركز والأطراف”، وخاصّة التي تتشارك معها في السّواحل. ويعتبر “سبايكمان” أنّها – أي دول الأطراف – تشكّل “هلالاً داخليّاً” وهي بمثابة “منطقة عازلة” بين قوّة البرّ أو اليابسة / قوة التيلوروكراتيا” و”قوّة البحر/ التالاستوكراتيا”.

6 – جغرافيّة الاتصال (Connectography): يذهب العديد من المفكّرين المهتمّين بالنظريّة الأوراسيّة إلى حدّ وضع مقوّمات جغرافيّة وأخرى تاريخيّة، تلغي الكثير من الفوارق والتمايزات بين الدّول والشّعوب، مثل البروفيسور “باراج خانا”، المحاضر بالجامعة الوطنية في سنغافورة، حيث توقّع إلغاء الحواجز والحدود الفاصلة بين الدّول الواقعة ضمن المنطقة أو الإقليم الأوراسيّ، نظراً لشبكات المواصلات والسكك الحديديّة وخطوط نقل النفط والغاز الطبيعيّ، إضافة إلى التشارك في شبكات الكهرباء والإنترنت، والتي من شأنها زيادة الاندماج بين شعوب الإقليم.

وباعتبار أنّ الصّين هي جزءٌ مهمٌّ من المشروع – بل يذهب الكثير من المحلّلين أنّ الصّين هي مركزه – سعت إلى بناء شبكات من الطرق والجسور داخل الصّين، وكذلك بينها وبين دول الجوار، مثل باكستان، شبكات هي غاية في روعة التصميم الهندسيّ والبناء العمرانيّ المتميّز، والذي يفوق أمريكا وأوروبا، إضافة إلى تحضيرها لإطلاق الجيل الخامس من الإنترنت المسمّى “G – 5″، وعلى إثره اندلعت حرب منافسة تجاريّة بينها وبين الولايات المتّحدة.

هذه العوامل بمجملها تشكّل محفّزات قويّة نحو وضع المشروع الأوراسي حيّز التنفيذ، والبدء بخطوات عمليّة فعّالة، من شأنها أن تفتح أبواب المواجهة والصراع مع الغرب وخاصّة الولايات المتّحدة.

منظرو الفكر الأوراسيّ الروس ورؤية “دوغين” التحديثيّة:

الفكرة “الأوراسيّة” ليست وليدة عقد أو عقدين من الزمن كما يتصوّر البعض، إنّما تمتدّ بجذورها إلى ما قبل انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، فيما البعض يعتقد أنّها بديل له. إلا أنّ العديد من المفكّرين الرّوس يضعون تصوّرات توحي بأنّ “الأوراسيّة” هي نظريّة روسيّة بالمطلق، حتّى قبل انهيار الاتّحاد السوفياتيّ. وظهر في الآونة الأخيرة ما يسمّون بـ”الأوراسيّون الجُدُد” – على غرار المحافظين الجُدُد في الولايات المتّحدة وأنصار الاعتقاد المسيحيّ – ويتبنّون “النظرية العرقيّة” في الترويج لمشروعهم. فيعتقدون أنّ شعوب السهوب الأوراسيّة تضمّ شعوباً مختلفة، منها الشعوب التركيّة والتتار وكازاخستان ومنغوليا. ومن أنصار هذا التيّار هو المفكّر الرّوسيّ “لييف قيموليف”. ويذهب هو وأتباعه إلى الفصل بين روسيّا والغرب، معتقداً أنّ الأولى ليست “جزءاً طبيعيّاً من أوروبا”، ليتمادى في رؤيته ويصل حدود العنصريّة، إنّ صحَّ التعبير، ليطلق صفة “سوبر إثنوس / الشعب الخارق” على الشعب الرّوسيّ، معتبراً أنّ روسيّا أقرب ثقافيّاً إلى آسيا منها إلى أوروبا.

إلا أنّ الحركة التجديديّة الأقوى للمشروع الأوراسيّ، كانت على يد المفكّر الاستراتيجيّ الرّوسيّ “ألكسندر دوغين”، والذي يعتبر المستشار الأوّل للرئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين الآن، حيث فصّل رؤيته للمشروع في كتابه المعنون باسم “أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيّا الجيوبوليتيكيّ”

يطرح “دوغين” في مؤلّفه فكرة إنشاء “الإمبراطوريّة الأوراسيّة”، ويحثّ روسيّا على ضرورة الانفتاح على المياه الدّافئة، من منطلق جيوبوليتيكيّ، ولو تعدّدت التسميات ما بين “حليف، صديق، حامٍ، ووو..”.

كتاب “دوغين” هذا اعتمد منذ 31 مايو/ أيار 2001 مقرّراً دراسيّاً معتَمداً لدى أكاديميّة الأركان العامّة الرّوسيّة، فيما أقرّت وزارة العدل الرّوسيّة “أوراسيا” مصطلحاً رسميّاً مسجّلاً لديها.

ولا يحبّذ “دوغين” فكرة الاعتماد على القوّة العسكريّة “الخشنة” في بناء المشروع، بل يفضّل عقد تحالفات اقتصاديّة وسياسيّة، والاعتماد على الدّبلوماسيّة الهادئة والمَرِنَة وبناء السّلام والتخفيف من التوتّرات والنزاعات العسكريّة، كأسلوب حضاريّ معاد للتوجّهات الأطلسيّة التي يتبنّاها حلف شمال الأطلسيّ “الناتو”.

ويشير إلى تجربة الاتّحاد السوفياتيّ الفاشلة في أفغانستان، وما خلّفته من آثار تدميريّة على الوضع الجيوبوليتيكيّ لروسيّا، وتراجع المشروع الأوراسيّ، نظراً للثقة التي فقدتها في حرب أفغانستان، وانعكاسها على دول الجوار.

الانتقال من الدّولة العاديّة إلى ما فوق الدّولة / أي الإمبراطوريّة، في نظر “دوغين” يجب أن يتمّ دفعة واحدة، على غرار ما أنشئت الإمبراطوريّات في التّاريخ، وليس على مراحل، مستنداً في ذلك إلى قوّة ووعي الشعب الرّوسيّ. وفي عدّة مناسبات يطلق “دوغين” مصطلح “الإمبراطوريّة الرّوسيّة” بدلاً من “الأوراسيّة”، ما يؤكّد النّزعة الرّوسيّة في الهيمنة على العالم. في حين يعتقد أنّ دول العالم أجمع ستنعم بالاستقلال والحرّيّة أمام غطرسة الدّول الأطلسيّة، وخاصّة تلك التي تقع ضمن الإمبراطوريّة الأوراسيّة. ويحاول “دوغين” دمج عناصر عديدة في بنية مشروعه، من خلال الدّعوة إلى أن تكون “الإمبراطوريّة الأوراسيّة / الرّوسيّة” لا تلهث وراء المصالح الاقتصاديّة فقط أي أن تكون “لا ماديّة”، وكذلك تحترم كافّة العقائد والدّيانات أي “لا إلحاديّة”، كما أنّه يؤمن بـ”النيو ليبراليّة الاقتصاديّة” بتركيزه ألا تعتمد إمبراطوريّته المنشودة على “الاقتصاد المركزيّ”.

يقسّم “دوغين” مناطق “أوراسيا” في كتابه إلى عدّة أقاليم، حسب أهميّتها وضرورتها لحماية الأمن القوميّ الرّوسيّ، فهو ينطلق من فكرة أنّ الصّين وباعتبارها جارة لروسيّا؛ إنّما تشكّل خطورة كبيرة، في امتدادها نحو منغوليا ومنشوريا، ومن الضرورة بمكان ضمّ الصّين إلى المشروع الأوراسيّ وإقامة ما يُطلق عليه اسم “التّحالف الكبير” معها. كما يدعو إلى تقاسم ما سمّاها “غنائم الإمبراطوريّة الإسلاميّة في الجنوب ودول آسيا الوسطى” بما يتلاءم مع الظروف الموضوعيّة لنشأة الإمبراطوريّة الأوراسيّة. ويقصد بغنائم “الإمبراطوريّة الإسلامية” محور القوقاز وجمهوريّات آسيا الوسطى وتيرانا، وصولاً إلى ما أطلق عليها “الإمبراطوريّة الإيرانيّة” وأرمينيا، معتبراً أنّ المركز يتمثّل في محور (موسكو، طهران، يريفان)، بحيث تشكّل ضغطاً إقليميّاً على تركيّا، تضطرّ معه الأخيرة إلى الاتّجاه نحو الشّمال والشّرق. ويطرح في النهاية فكرة تقسيم “أذربيجان” بين كلّ من إيران وروسيّا وأرمينيا، لنزع أيّ محاولة لعرقلة المشروع الأوراسيّ.

أفكار “دوغين” تنسجم مع تطلّعات الصّين في السيطرة على طريق الحرير، وهو مشروع “الطريق والحزام الواحد” الذي يعيد إحياء طريق الحرير القديمة التي ربطت الصّين باليونان قبل العصر الميلاديّ. وطريق الحرير كان ربّما أول تجلّيات “عَولَمةٍ” ضمن تكنولوجيّات محدودة جدّاً في التّواصل والمواصلات في عصره، إلاّ أنّها كانت حقيقة مُعاشة، وبقوّة. ومشروع “الحزام والطريق الواحد” الصّينيّ، يهدف إلى توثيق التّرابط بين الدّول على قاعدة الاستفادة للجميع وليس على قاعدة اللّعبة “الصفريّة” حيث القويّ يفرض شروطه على الأضعف ويخلق عدم التّوازن وعدم الاستقرار. ويهدف إعادة إحياء هذه الطريق إلى ربط الدّول التي يمرّ بها بمعاهدات اقتصادية وإقامة مشاريع اقتصاديّة عملاقة فيها، وهي لا تتعارض مع معاهدة “شنغهاي” التي تضمّ ستّ دول (الصّين، روسيّا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان)، وكذلك مع دول مجموعة “البريكس” التي تضمّ كلاً من: (البرازيل، روسيّا، الهند، الصّين، وجنوب أفريقيا).

كلّ المدافعين عن هذه التكتّلات الاقتصاديّة والسياسيّة بما فيها أنصار المشروع الأوراسيّ، يسعون إلى وضع أسس نظام عالميّ جديد بديلاً للنظام الرّاهن الذي تقوده الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا.

المشروع الأوراسيّ وصراعه مع نظام العولمة:

يؤكّد أنصار الفكر الأوراسيّ “أن الحضارة الغربيّة راكدة متعثّرة ولا تمثّل الحضارة البشريّة المشتركة، بل هي تقود البشريّة إلى طريق مسدود”. ووفق تصوّرهم “أنّ كلّ محاولات التجديد والتحديث وفق السيناريوهات الأوروبيّة الغربيّة؛ كانت وستبقى مدمّرة فتّاكة بالنسبة للشّعوب الأوروبيّة والآسيويّة”.

في مواجهة التوسّع الغربيّ والفكرة الأطلسية؛ يطرح الأوراسيّون مشروع إئتلاف للشّعوب الأوراسيّة؛ بوصفه ضمانة للأمن الجماعيّ لروسيّا وباقي دول أوراسيا. وبهذا يمثّل المشروع الأوراسيّ إيديولوجيّة للتكامل الجديد في المجال ما بعد السوفيتي، خصوصاً في آسيا الوسطى والمركزيّة، ولتطوير علاقات روسيّا مع إيران وتركيّا.

ويعتقد الأوراسيّون إلى حدّ اليقين بأنّ الفوضى السائدة في العالم، إنّما مردّها الضعف الذي يعتري بُنية نظام العولمة الغربيّ الذي تقوده الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وأنّ إقليم أوراسيا هو الأقوى والأجدر بقيادة العالم، ليدحضوا بذلك الأفكار التي طرحها كلّ من “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التّاريخ والإنسان الأخير”، من خلال الاعتقاد بأنّ النظام العالميّ قد وصل إلى نهايته من خلال الأحاديّة القطبيّة بقيادة الولايات المتّحدة، وأنّها رسّخت من قيمها الحضاريّة والفكريّة والإيديولوجيّة في بنية المجتمعات والشعوب كقيم أبديّة وخالدة، من خلال أساليبها وأدواتها في إدارة الاقتصاد والسياسة والفكر والتعليم والثّقافة المشتركة، حتّى غدا العالم قرية كونيّة.

كذلك يعارض أنصار الفكر الأوراسيّ ما طرحه المفكر الأمريكيّ “صموئيل هنتنغتون” في كتابه “صراع الحضارات”، مؤكّدين أنّ البشرية تسير نحو التكامل وليس التّصادم كما وصفها “هنتنغتون”، وأنّ الشعوب تحقّق انضمامها إلى المشروع الأوراسيّ كحاجة وضرورة حيويّة لبقائها ومقاومتها لكلّ أشكال التحديّات الوجوديّة لها.

ويذهب بعض المفكّرين الأوراسيّون أنّ الصراع العالميّ الرّاهن لا يقتصر على زيادة النّفوذ للدّول العظمى، بل سمته الأساسيّة الصراع بين المشروع الأوراسيّ ونظام العولمة الغربيّ.

وفي هذا الصدد أشار عالم الاقتصاد الأردنيّ “طلال أبو غزالة” في مقابلة له مع تلفزيون “روسيّا اليوم RT” في شهر مارس/ آذار 2020، أنّ الصراع العالميّ سيتركّز بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين، معتبراً أنّ أمريكا قد فشلت في قيادة العالم، والصّين بحكم قوّتها الاقتصاديّة ومكانتها الجغرافيّة وعلاقاتها مع دول المحيط الأوراسيّ ودول أخرى، مؤهّلة لأن تقود العالم، ووصف الوضع العالميّ الرّاهن بأنّ العالم “بلا رأس”.

استدرك كبار المخطّطين الاستراتيجيّين الأمريكيّين خطورة ما تذهب إليه كلّ من روسيّا والصّين في استحواذهما على قيادة العالم، وإنشاء مراكز ومحاور قوى في عدّة بقاع من العالم. فلقد حذّر ثعلب الاستراتيجيّة الأمريكيّة “هنري كيسنجر” من خطورة التمدّد الصّيني، فقال في مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية في مايو/ أيّار عام 2018 بأنّه “يتوجّب على الولايات المتّحدة الأمريكيّة بناء تحالفات مع روسيّا، لقطع الطريق أمام الصّين الساعية للسيطرة على العالم” عبر إحياء المشروع الأوراسيّ وطريق الحرير، للحيلولة دون فقدان أمريكا هيمنتها على العالم”.

مكانة تركيّا في المشروع الأوراسيّ

يتطلّع الأوراسيّون إلى دور كبير لتركيّا في إطار بناء مشروعهم، ويعتبرون أنّ لتركيّا أهميّة استراتيجيّة فيه، بحكم موقعها الجغرافيّ وتاريخها وقُدُراتها في التأثير على شعوب الشرق من خلال “الرّابطة الإسلاميّة” والتّمازج بين شعوبها ثقافيّاً وحضاريّاً، وأنّها تشكّل عقدة المواصلات البرّيّة والبحريّة، يمكنها التحكّم بقوّة “التيلوروكراتيا والتالاستوكراتيا”؛ كونها تُطلُّ على عدّة بحار وتقع في مياهها الإقليميّة عدّة ممرّات بحريّة ومضائق.

ولدت الفكرة الأوراسيّة في تركيّا في البداية في أوساط اليسار التركيّ، ممثّلاً بحزب العمّال التركيّ (TIP) تحت قيادة رئيسه “دوغو برينجك”، وقبلها في فترة السبعينات، وإن لم تكن الفكرة متبلورة بشكل واضح، إلا أنّ الأمين العام للحزب آنذاك “بهيجة بوران” طرحت الفكرة وبشكل مواربٍ، تحت شعارات اشتراكيّة تدعو فيها إلى التّكامل مع الاتّحاد السوفياتيّ السّابق. رغم أنّها ألّفت كتاباً حينها تحت عنوان “تركيّا الحلقة الأضعف في السلسلة الامبريالية”، داعيةً فيه إلى إطلاق ثورة في تركيّا، وأنّ الظروف مواتية لها، على غرار طرح روزا لوكسمبورغ بضرورة إطلاق ثورة في ألمانيا، فيما عارض لينين هذا الطرح وادّعى أنّ الظروف مناسبة أكثر في روسيّا القيصريّة، وشرح وجهة نظره في ما يسمّى بـ”موضوعات نيسان” التي كتبها في القطار في رحلته من النمسا إلى روسيّا، والتي جُمعت فيما بعد إلى كتاب “ما العمل..؟”.

ظهر مصطلح “أوراسيا” في تركيّا وبشكل قويّ، بعد تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ نهاية عام 1991، واعتبر الرّئيس التركيّ في ذلك الوقت، سليمان ديميريل أنّ “العالم التركيّ هو من البحر الأدرياتيكيّ إلى سور الصّين العظيم” كأصدق تعبير عن النزعة التوسّعيّة لدى تركيّا، الفكرة التي تلقّفها “الأوراسيّون” الأتراك والرّوس حينها.

لكن بعد أن توضّحت ملامح النظام العالميّ الجديد الذي أنشأته أمريكا، وفي ظلّ تراجع آمال وطموحات القومويّين واليساريين الأتراك في إعادة إحياء أحلام الإمبراطوريّة العثمانيّة البائدة، انبروا يستخدمون مصطلح “أوراسيا” بكثرة بدلاً من مصطلح “العالم التركيّ”، كنوع من الإقرار بتطلّعات تركيّا المستقبليّة الاستراتيجيّة، وكنوع من الإيديولوجية الجديدة التي اعتنقها العديد من المفكّرين والسياسيّين الأتراك، ليعيدوا خلط المفاهيم والأفكار ويلقّحونها بالأفكار القومويّة التركيّة الكماليّة والدّينيّة، والتي ولّدت العديد من الحركات والقوى السياسيّة، أبرزها حزب العدالة والتنمية، على قاعدة إدغام الدّين بالسياسة والقومويّة التركيّة.

توسّعت الفكرة الأوراسيّة في تركيّا عبر جهاز حزب العمّال التركيّ المسمّى “أودينلك” وعدد من المؤسّسات التّابعة والقريبة منه. وانتشرت فيما بعد في أوساط القومويّين اليمينيّين أيضاً وكذلك الوسط وبعض الدّوائر الدّينيّة المحافظة، والقادة العسكريّين الكبار في صفوف المؤسّسة العسكريّة التركيّة، وخاصّة رئاسة الأركان والاستخبارات، وبعض المؤسّسات الفكريّة مثل مؤسّسة “يسيفي” ومركز “أسام / المركز الأوروبيّ الآسيويّ للبحوث الاستراتيجيّة” و”منهاج حوار أوراسيا “، وغيرها من المؤسّسات أو الحركات التي تهتمّ بمبادئ أوراسيا.

نشرت صحيفة “آيدنلك” التركيّة الناطقة باسم “حزب الوطن/ حزب العمّال التركيّ” تقريراً وافياً في سبتمبر/ أيلول 2019، كتبه الدّكتور “محمّد برينجك” نجل “دوغو برينجك” أطلق فيه كاتبه عمّا سمّاه “مشروع أوراسيا للشرق الأوسط وشمال إفريقيا” واصفاً أنّه البديل الرّوسيّ لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” الأمريكيّ الذي أطلقته وزيرة الخارجية الأسبق كوندوليزا رايس في تل أبيب عام 2005.

الفكرة الأوراسيّة واندماجها مع التوجّهات القومويّة المتشدّدة لدى قادة حزب العمّال التركيّ/ الوطن، حوّلته من حزب ماركسيّ ماويّ، إلى حزب قومويّ متشدّد، وبحكم عقيدته الأوراسيّة بات مقرّباً من تحالف اليمين الذي يقوده كلّ من الرّئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية ذو التوجّه الإسلامويّ الإخوانيّ، وكذلك حزب “الحركة القوميّة التركيّة” التي يقودها المتطرّف القومويّ “دولت باهجلي”، التّحالف الذي يميل أكثر إلى الإيمان بالمشروع الأوراسيّ.

ينطلق “برينجك”، وهو من أبرز ممثّلي “التيّار الأوراسيّ”، من فكرة أوراسيا مقابل فكّ ارتباط تركيّا بحلف شمال الأطلسيّ، وأنّه يجب ألا تخضع تركيّا للهيمنة الأمريكيّة الأحاديّة، بل عليها أن تعدّد خياراتها في التّحالفات الاستراتيجيّة، إلى جانب أنّه تربطه صداقة شخصيّة مع “ألكسندر دوغين”. هذه الرؤى وجدت تعبيراتها السياسيّة في استدارات أردوغان نحو روسيّا في الفترة الأخيرة، والمناكفة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول الاتّحاد الأوروبيّ.

يعوّل القومويّون الأتراك كثيراً على المشروع الأوراسيّ في إعادة هيبة الدّولة التركيّة وأمجادها العثمانيّة، وحلّ تناقضاتها مع دول الجوار، بعد أن فشلت إستراتيجيّتها في “تصفير المشاكل مع دول الجوار”، وإعادة ترسيم حدودها، بعد تعديل بنود اتّفاقيّة “لوزان”.

ويتكهّن الدّكتور “محمّد برينجك” بأنّ المشروع الأوراسيّ “لم يكتمل بعد”، وهو بحاجة إلى مراجعة وإدخال تعديلات وإضافات عديدة، نظراً للتطوّرات العاصفة التي يشهدها العالم، وخاصّة المنطقة أو الإقليم الأوراسيّ، معتقداً أنّ الهدف من المشروع هو “ملء الفراغ الناجم عن فشل المشروع الأمريكيّ وميل الولايات المتّحدة إلى الانسحاب من المنطقة تحت وطأة هذا الفشل، وذلك على طريق التخلّص من الهيمنة الأمريكيّة الأحاديّة وإقامة نظام دوليّ متعدّد الأقطاب وأكثر عدلاً”. ويذهب “برينجك” إلى حدّ اعتبار أمريكا وهيمنتها على دول الشرق بمثابة “استعمار”، ويحدّد أهداف المشروع في منطقة الشرق الأوسط: “على مستوى الإقليم، يهدف المشروع إلى “تحرّر شعوبه التّام من الاستعمار” ووضع حدّ للتأثير الأمريكيّ الهدّام، وتحقيق توازن في المصالح الجيوسياسيّة، وإقامة تحالفات إقليميّة على قاعدة التّعايش بين الصيغ التقليديّة للإسلام”.

أولى تجلّيات انعكاس المشروع الأوراسيّ في كلّ من تركيّا وإيران ظهرت في ثلاثي أستانه “روسيا، تركيّا، وإيران” من خلال وثيقة روسيّة سرّيّة، يتماهى فيها المفكّرون الرّوس مع فكرة أنّ الثلاثيّ يشكّل نواة “الإطار الأوراسيّ الاستراتيجيّ”، نحو بناء نظام عالميّ جديد متعدّد الأقطاب، مع الحفاظ على الهُويّات الثّقافيّة لكلّ شعب. فيما يراهن مفكّرون روس وأتراك وإيرانيّون آخرون على تعدّد العقائد الدّينيّة للدّول الثلاث، الأرثوذكسيّة الرّوسيّة والسنّيّة التي تمثّلها تركيّا، والشيعيّة الإيرانيّة، من أن تلعب دوراً روحيّاً في إحداث التّقارب الرّوحيّ والثّقافيّ بين شعوب المنطقة الأوراسيّة، في مواجهة البديل الرّوحيّ في العالم المسيحيّ للغرب، والذي يتعرّض للتفكّك والانحلال.

ويَرسُمُ واضعو الاستراتيجيّة الأوراسيّة دوراً لتركيّا، شبيهاً إلى حدٍّ ما، بالدّور الذي أناطت بها الولايات المتّحدة والغرب عموماً، في لعب دور ما أطلقوا عليه تسمية “الإسلام المعتدل”. فيعتقدون أنّ مكانة تركيّا في العالم الإسلامي السنّيّ، تؤهّلها للمساهمة في خفض التوتّرات في الشرق وتمهّد الأرضيّة للمشاركة والقبول بالمشروع الأوراسيّ، بما تشكّل تحدّياً كبيراً لنظام العولمة الأمريكيّ.

إرهاصات المشروع الأوراسيّ في تركيّا:

انتشر الفكر الأوراسيّ في تركيّا بشكل كبير وازداد عدد أنصاره، خاصّة في أوساط الدّولة والأحزاب السياسيّة، حتّى امتدّ إلى صفوف منظّمات المجتمع المدنيّ وكبار قادة الجيش والشخصيّات الأكاديميّة والجامعيّة ورجال الدّين، وغدت جزءاً من الثّقافة الشعبيّة العامّة في البلاد، يتغنّون به في الاحتفالات الرّسميّة ومواسم الانتخابات، إلى أن أصبح دُعاة الفكر الأوراسيّ قوّة يُحسب لها الحساب.

معروف عن تركيّا أنّ تنظيمات الدّولة العميقة هي من تُسيّر البلاد وتتحكّم بمعظم مفاصل الحُكمِ وتُديرُ مؤسّسات الدّولة، وأهمّها تنظيمات “الغلاديو”، وهي شبكة استخبارات تابعة لحلف الناتو.

تعدّدت أشكال وتنظيمات “الغلاديو” في تركيّا، وظهر منها على شكل عصابات “أرغنكون” و” JITEM” و”الكونتر كريلا” في مواجهة حركة التحرّر الوطنيّة الكردستانيّة، و”حزب الله الكرديّ” المسؤول عن تصفية وقتل أكثر من “17” ألف ضحية معظمهم من الشخصيّات السياسيّة والأكاديميّة والإعلاميّة في كردستان وتركيّا، وأخيرها وليس آخرها منظّمة “HUDA PAR””. وأكثر المؤسّسات التي توغّلت وبَنَت فيها شبكاتها الاستخباراتيّة؛ كانت المؤسّسة العسكريّة ممثّلة بهيئة الأركان. ومنذ نشأة الجمهوريّة التركيّة ظلّت المؤسّسة العسكريّة مُمسكة بزمام ودُفّةِ الحكم في تركيّا، إلا أن اندمجت إلى حدّ بعيد مع شبكات “الغلاديو” بعد انضمام تركيّا إلى حلف الناتو عام 1952. وروّجت لمقولة بأنّ “المؤسّسة العسكريّة حامية الدّولة العلمانيّة المبنيّة على الثّقافة والقيم الكماليّة” ثّقافة عامّة نشرها “الغلاديو” في تركيّا، وأبرزت دورها خاصّة في الأوقات العصيبة التي يتهدّد فيها كيان الدّولة، وعلى إثرها قادت ثلاث انقلابات متتالية.

تغلغل مناصرو الفكر الأوراسيّ، وبكلّ قوّة، في تشكيلات الدّولة العميقة، وتبنّوا أهدافها وطرق عملها. فدخول حزب الوطن (العمّال سابقاً) ضمن تنظيمات الدّولة العميقة، وكذلك حزب الحركة القوميّة اليمينيّ المتطرّف، ودعوتهما إلى المشروع الأوراسيّ، لم يأتِ من فراغ، كما أنّ “الأوراسيّون الأتراك” سيطروا على بعض المفاصل الهامّة في الدّولة، مثل المؤسّسات الإعلاميّة والبنوك والمؤسّسات البحثيّة والاستراتيجيّة التي تسوّق للفكر الأوراسيّ، إلى أن دخل مصطلح “الأوراسيّة” في لغة الخطاب الرّسميّ التركيّ، وكأنّه جزء لا يتجزّأ من الثّقافة الأساسيّة في تركيّا.

ويؤكّد متابعون للشأن التركيّ أنّ الفكر الأوراسيّ لاقى رواجاً كبيراً في الأوساط الأكاديميّة والإعلاميّة، فقد نشرت خلال خمس أو ستّ سنوات العديد من الكتب والمجلّات والمقالات التي تهتمّ بالفكر الأوراسيّ، وأكثر ما جذب اهتمامهم هم القومويّون الكماليّون وكذلك العثمانيّون الجُدُد المنظّمون ضمن صفوف حزب العدالة والتنمية.

ويرى باحثون أنّ اللّهاث التركيّ وراء الانضمام إلى المشروع الأوراسيّ، إنّما جاء على خلفيّة فشلها في التّحالف مع أوروبا والانضمام بشكل رسميّ إلى الاتّحاد الأوروبيّ، نظراً لمخالفتها لمعايير الاتّحاد، خاصّة في مجال حقوق الإنسان واحترامها لحرّيّة الرأي والتعبير، وأنّها ذات طابع شرقيّ، إضافة إلى مسألة الخلاف في المعتقد الدّينيّ. وما يخشى منه البعض أن تنقل تركيّا عِلَلَها تلك إلى المشروع الأوراسيّ، وأن تبقى بعيدةً عن القيم التي ينادي بها أنصاره داخل تركيّا، بل على العكس قد تصبح معرقلاً للمشروع، أكثر منها قوّة نجاح، ويجدون أنّ تركيّا فقط تحاول أن تجد لها موطئ قدم في المشروع، كقوّة إقليمية تمدّ نفوذها وسيطرتها وتعيد أمجاد السلطنة العثمانيّة.

تزايد استخدام مصطلح “أوراسيا” في تركيّا، واستخدم أوّل مرة عام 1979، حيث أطلق على سباق للماراثون على جسر إسطنبول وسُمّيَ “ماراثون أوراسيا”. كما افتتح مركز “حزب أوراسيا” الرّوسيّ في تركيّا، فيما أطلق الاسم على العديد من شركات الغزل والنسيج والفنادق والمستشفيات والإذاعات.

انخرطت تركيّا أكثر فأكثر في المشروع الأوراسيّ، لتبنيَ عليها أحلامها الإمبراطوريّة، ودخلت في شراكات اقتصاديّة وسياسيّة متعدّدة الجوانب مع روسيّا قائدة المشروع، خاصّة بعد دخولهما على خطّ الأزمة السّوريّة.

إثر إسقاط تركيّا للطائرة الرّوسيّة عام 2015، وصلت معها العلاقات بين البلدين إلى القطيعة الكاملة، تَبِعها مقتل السّفير الرّوسيّ في أنقرة، ليبادر بعدها الرّئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان إلى تصفير مشاكله مع روسيّا، ويعقد صفقة مصالحة مع الرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين في قمّة جمعتهما في سانت بطرسبورغ بعد الانقلاب العسكريّ المزعوم في تركيّا عام 2016.

ضمن إطار الاستراتيجيّة الأوراسيّة التي يسعى الرّئيس الرّوسيّ بوتين للعمل عليها، تمكّن من استمالة تركيّا ورئيسها، بالتّعاون مع القوى المؤمنة بالمشروع الأوراسيّ ضمن تركيّا، ومنهم أردوغان ذاته.

تطوّرت العلاقات بين البلدين، لتدخل مرحلة التّعاون المشترك في إطار نقل الطّاقة وتوزيعها في أوروبا، فوقّع البلدان اتّفاقيّة “السيل التركيّ” لنقل الغاز الرّوسيّ إلى أوروبا، بعد أن تمكّنت أمريكا من قطع الأنبوب المارّ من أوكرانيا بسبب النّزاع على جزيرة القرم. كما شملت الاتّفاقات الثنائيّة بين البلدين التّعاون في سوريّا ضمن إطار تفاهمات “أستانه” الثلاثيّة الأطراف.

المشروع التركيّ لإنشاء نفق في البحر الأسود، أطلق عليه اسم “نفق أوراسيا”، وهو ما يوحي بزيادة التّواصل البرّيّ والبحريّ بين دول الإقليم الأوراسيّ، حيث أنّ مضيق البوسفور لم يعد وحده يفي بمتطلّبات الحركة الاقتصاديّة والتجارية المتبادلة الكثيفة والنشطة بين دول أوروبا الأوراسيّة ونظيراتها الآسيويّة. ويعتبر البوسفور ونفق أوراسيا إحدى مقوّمات المشروع الأوراسيّ وأحد أبرز المشاريع الاستراتيجيّة في منطقة أوراسيا، وفق وصف “صالح يلماز”، عضو الهيئة التدريسيّة في جامعة “يلدرم بايزيد” بالعاصمة التركيّة أنقرة. (في تصريح لوكالة أنباء الأناضول التركيّة).

وحسب المسؤولين الأتراك؛ فإنّ مشروع قناة إسطنبول و”نفق أوراسيا” ذو قيمة حيويّة واستراتيجيّة، ليس فقط بالنسبة لأوروبا بل لمنطقة أوراسيا بأكملها، فهو يصل الصّين ومنطقة حوض بحر قزوين والبحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى بأوروبا عبر تركيّا.

ويؤكد العديد من الخبراء الأتراك، أنّ المشروع وضع في إطار ربطه بمشروع “حزام واحد، طريق واحد”، أو ما يُعرف بمبادرة “الحزام والطريق الصّينيّة”، التي تقوم على أنقاض طريق الحرير القديم لربط الصّين بالعالم. وهو ما يفسّر دعم الصّين للمشروعين، لضمان وصولها إلى الأسواق الأوروبيّة، كذلك نال المشروعان دعم روسيّا أيضاً.

إنّ الموقع الهام لتركيّا في خارطة المشروع الأوراسيّ الجغرافية والسياسيّة والاقتصاديّة، من وجهة الأتراك وبعض مفكّري النظريّة الأوراسيّة، لا ينفي البتّة وجود تباينات بينها وبين روسيّا والصّين، حاملتَي راية المشروع. ويذهب بعض الباحثين المختصّين بالشأن التركيّ إلى أنّ الإيديولوجيّة التركيّة وانحيازها إلى بناء مشروعها المتمثّل بـ”النيو عثمانيّة” في المنطقة، يتعارض في نقاط مهمّة مع الاستراتيجيّة الأوراسيّة وتوجّهات القوى الدّاعمة له، وهو ما يدعو للاعتقاد بأن تصبح الخنجر في خاصرة المشروع الأوراسيّ. وعليه؛ تنبّه الرّوس، وفي مقدّمتهم الرّئيس بوتين، للخطورة التي تحملها تركيّا في انضمامها إلى المشروع، فأبدوا مقاربات حذرة تجاهها، من خلال فتح قنوات اتّصال مشروطة معها، تُبعدها عن التأثيرات الأطلسيّة، وفي ذات الوقت تدفعها إلى فكّ ارتباطاتها الاستراتيجيّة معه.

دراسة التّاريخ السياسيّ التركيّ الحديث، يضعنا أمام جملة حقائق التي لا يمكن تجاهلها، لجهة ارتباطات تركيّا الوثيقة بالدّول الغربيّة منذ نشأة الجمهوريّة التركيّة عام 1923 على يد أتاتورك، والانقلاب على المفاهيم والقيم الشرقيّة، وتكريس أنماط الحياة والثّقافة الغربيّة بكلّ تنوّعاتها وأشكالها في تركيّا، ومن ثمّ الاندماج مع التوجّهات العسكريّة والاقتصاديّة الغربية، إلى حدّ يصعب معه الانفكاك منها بسهولة. كما أنّ الدّور التركيّ قد لعب رأس حربة متقدّم ضدّ الاتّحاد السوفياتيّ السابق، عبر استخدام الأراضي التركيّة لفرض طوق حديديّ عليه، جعل من تركيّا تحتلّ مركزاً هامّاً في الحسابات والتّوازنات الاستراتيجيّة الغربيّة ضدّ التأثير السوفيّتي سابقاً، وإمكانيّة لعبها ذات الدّور لإجهاض المشروع الأوراسيّ، والتي لا تزال ممكنة.

كما أنّ نفوذ الدّول الغربيّة وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وألمانيا في بنية الدّولة التركيّة ومؤسّساتها، عميقة، وتتجاوز أنظمة الحكم القائمة حالياً، وبالتالي فكّ الارتباط في أطره الاستراتيجيّة صعبٌ إن لم يكن ضرباً من المستحيل، وهذا يحيل تركيّا إلى أن تغدو في التّحالف المضاد للأطلسيّة، وهي في هذه الحالة غير قادرة على توفير مستلزمات ومقوّمات تحدّيها، وإن كانت مقرونة بالدّعم العسكريّ الرّوسيّ والاقتصاديّ الصّينيّ، ومثال صفقة صواريخ الـ”إس – 400″ أظهرت بجلاء أنّ تركيّا لا يمكنها أن تغرّد خارج السرب الأطلسيّ بأيّ حال من الأحوال.

خاتمة

تفيد حركة التّاريخ المعتمدة على قانون البقاء للأفضل والأقوى، بأنّ الكيانات والإمبراطوريات المتشكّلة عبر عصوره المختلفة، ومن ثمّ انهيارها، إنّما تعبر في جانب مهمّ منها عن رغبة الشّعوب والمجتمعات في التغيير ونبذ القديم البالي غير المتوافق مع تطلّعاتها ورغباتها في مبادئ الحرّيّة والإدارة والاقتصاد والسياسة والثّقافة. وظهرت ردود فعلها على الأنماط السائدة على شكل ثورات، أطاحت بالبُنى التي باتت تقليديّة ومعيقة ورجعيّة وغير متوائمة مع مسيرة تطوّرها.

جملة من الأسئلة تطرحها الشّعوب في لا وعيها البديهيّ، متعلّقة بشكل إدارة العالم وكيفيّة إنهاء الأزمات التي تراكمت بفعل الصراعات بين القوى الكبرى، والرّغبة في إرساء أسس نظام دوليّ يسوده السّلام ويتّسم بالعلاقات الندّيّة، ويحافظ على الطبيعة والبيئة ويحدُّ من التعديّات الجائرة لها، ويكفل بتنظيم العلاقات بين الدّول وينهي الحروب والنّزاعات القوميّة والدّينيّة.

ضمن هذا التصوّر للمنظومة القيميّة والإنسانيّة، هل بإمكان المشروع الأوراسيّ أن يصبح بديلاً أكثر حضارة من نظام العولمة الرّاهن، والذي يمكن وصفه باللا نظام، وفي ظلّ الصراعات المتأجّجة في معظم بقاع العالم، وهل القوى الحاملة للمشروع، ستستغني عن طموحاتها، كدول قوميّة، في وضع المشروع في خدمة استراتيجيّاتها، كما عمل الاتّحاد السوفياتيّ سابقاً، عندما سخّر الجمهوريّات المكوّنة له، وحتّى دول حلف “وارسو” لخدمة الدّولة الرّوسيّة؟

مازال من المبكّر التكهّن بمدى إمكانيّة نجاح المشروع، فما يفرّق دول “أوراسيا” أكثر ممّا يجمعها، رغم توفّر بعض المقوّمات المؤهّلة لولادته.

 

 

المراجع

1 – صاموئيل هنتنغتون ……………………………….. صراع الحضارات.

2 – فرانسيس فوكوياما ……………………… “نهاية التّاريخ الإنسان الأخير.

3 – هالفورد ماكيندر…….. نظرية الأرض الداخلية” (Heartland Theory).

4 – برونو ماسياس …………………………………………… فجر أوراسيا.

5 – روبرت كابان ……..عودة عالم ماركو بولو: الحرب والاستراتيجيّة والمصالح الأمريكيّة في القرن الحادي والعشرين.

6 – زياد الحافظ …………………………………… مقالة في صحيفة السفير.

7 – ألفريد ماهان ……………………………. التيلوروكراتيا والتالاستوكراتيا.

8 – نيكولاس سبايكمان ………………………………….. الأراضي الطّرفيّة.

9 – باراج خانا ………… محاضرة عن المشروع الأوراسيّ/ جامعة سنغافورة.

10 – ألكسندر دوغين ……… أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيّا الجيوبوليتيكي.

11 – طلال أبو غزالة… مع تلفزيون “روسيّا اليوم RT” في مارس/آذار 2020.

12 – هنري كيسنجر …. مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسيّة، مايو/ أيّار 2018.

13 – بهيجة بوران ……………. تركيّا الحلقة الأضعف في السلسلة الامبرياليّة.

14 – فلاديمير إيليتش لينين ……………………. موضوعات نيسان/ ما العمل.

15 – تقرير صحيفة “آيدنلك” التركية …………………. سبتمبر/ أيلول 2019.

16 – تصريح “صالح يلماز” عضو الهيئة التدريسيّة في جامعة “يلدرم بايزيد” بأنقرة، لوكالة أنباء الأناضول.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى