أبحاث ودراساتسردار هوشو

في مفهومَي الثورتين الغربية والشرقية

سردار هوشو

سردار هوشو

تمهيد

أصبح مصطلح الثورة يتكرّر كثيراً في الآونة الأخيرة، وفي كل مكان؛ في الشارع، على وسائل الإعلام، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ، ويمكن أن نقول عن لفظة ثورة: إنّها في هذه الأيام من أكثر الألفاظ شيوعاً وتداولاً، لكن هل كل ما يحدث من حركات وتمرّدات ومظاهرات ونشاطات يمكن أن يرمز له بثورة؟ لهذا السبب لا بدّ لنا من أن نتعرف، أو نشرح مفهوم مصطلح الثورة، ونتبيّن أشكالها ودوافعها، ومسبّباتها، فضلاً عن المقارنة بما حدث من ثورات في العالم الغربي، وما حدث ويحدث في الشرق الأوسط، نعيش حالياً في عالم يمرّ بتحدّيات كبيرة، تتّسم بالتمرد على الأوضاع القائمة في الدول، ابتداءً من أمريكا الجنوبيّة، مروراً بكاتلونيا، وصولاً إلى الشرق الأوسط؛ حيث موطن هذا الاحتجاجات والتمردات. فهل هي حركات ثورية أم مجرد فورات عارمة من الغضب؟ وهل مآلها الفشل؟ ونذكر من الثورات العالمية التي تركت طابعاً، وأحدثت تغييراً ما يلي الثورة الفرنسية 1789م – الثورة الإنجليزية 1649م – الثورة الأمريكية 1776م – الثورة الروسية 1917م الثورة الصينية 1949م.

السؤال الأهم؛ هل كلّ هذه الاحتجاجات التي تشهدها المنطقة هي ثورية الطابع؟ أم أنّها لا تخرج عن كونها احتجاجات شعبية لا أكثر؟

تعريف الثورة

  • يقول أرسطو في كتابه (السياسة) عند تعريف الثورة، أنّ جميع أنماط الحكم معرّضة للثورة والانقلاب، وذلك بما فيها من نمطَي الحكم الأساسيين (الأوليغارشية والديموقراطية)، وهذا ما يسمّى بنظام الحكم المتوازن، سواء نظام الحكم الدستوري أو نظام الحكم الأرستقراطي، في حين وجد أرسطو أنّ الأوليغارشية والديموقراطية هما من عناصر تحقيق العدالة، لكنّ كليهما لم يسلما من خطر الثورة، عندما لا يلبي النظام الحاكم جميع متطلبات الشعب، ومن الممكن تقسيم الثورة إلى نوعين؛ الأول يؤدي إلى تغيير الدستور القائم، فيستبدل نظام الحكم بشكل كامل، والثاني يهدف إلى تغيير الحكام مع البقاء على نظام الحكم القائم، إذاً فإنّ تعريف الثورة هو: (اندفاع من الشعب بالمطالبة بتغيير الأوضاع السياسية أو الاجتماعية تغييراً جذريّاً)
  • قديما كان ينظر إلى الثورة على أنّها قوّة مدمّرة، حيث عرّفها الإغريق بأنها: (إمكانية تدهور المعتقدات الأخلاقية والدينية والأساسية للمجتمع) كما اعتقد أفلاطون أنّ مدونة المعتقدات الثابتة، من الممكن أن تمنع الثورة، إلّا أنّ أرسطو وصل إلى نتيجة؛ وهي؛ إن كانت القيم الأساسية ضعيفة في الدولة يكون المجتمع عرضة للثورة. وهذه النتيجة التي وصل إليها أرسطو تفسّر سبب قيام الثورات في الشرق الأوسط حالياً، والربيع العربي. فالحقيقة أنّ الحكومات المتسلّطة على هذه البلدان وصلت ببلادها وشعوبها إلى الهشاشة المميتة، وفقدان للقيم الأساسية ليس فقط ضعفها.
  • وحسب كارل ماركس في القرن التاسع عشر، فإنّ الثورة هي بمثابة تحقيق المصير الإنسانيّ، ورأى أنّ القادة الثوريين هم القادة الضروريون لتحقيق وتنفيذ جميع الإصلاحات اللازمة في الدولة.
  • الثورة في مفهوم المفكر عبدالله أوجلان وبشكل مختصر هي؛ لا تعني تغيير الحدود السياسية، وهدم الدولة، أو بناء دولة جديدة، إنّما تعني بناء المجتمع والإنسان.

وهناك من يعرّف الثورة بأنّها من العوامل التي تمكّن المجتمع من تحقيق إمكاناته، وهي حقّ للمجتمع في الدفاع عن نفسه ضدّ أيّ مسيء لها، وهذا بدوره يؤدّي إلى خلق نظام جديد يهتمّ باحتياجات الأفراد ومطالبهم.

في النتيجة فإنّ معنى الثورة كمصطلح يعني الخروج عن الوضع الراهن، وليس دائماً نتيجة الثورات نحو الأفضل، فلربّما تكون النتيجة إلى وضع أسوأ، والثورة من حيث المفهوم التقليدي لها مع انطلاق الثورة الفرنسية هو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقّفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة، أمّا الماركسيون فقد طوروا هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال التي سمّوهم البروليتاريا، وبالنسبة للمفهوم الحديث للثورة؛ فهي التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته؛ (كالقوة المسلحة) أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات، ولتنفيذ برنامج المنجزات الثورية غير الاعتيادية، والمفهوم الشائع أو الدارج للثورة هو الانتفاض في وجه النظام الظالم.

وقد تكون الثورة شعبيّة مثل الثورة الفرنسية سنة 1789، وثورات أوربا الشرقية سنة 1989، وثورة أوكرانيا التي عرفت بالثورة البرتقالية سنة 2004 أو تكون ثورة عسكرية، وهي التي تسمّى انقلاباً مثل الانقلابات التي سادت أمريكيا اللاتينية في خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين، أو حركة مقاومة ضدّ مستعمر؛ مثل الثورة الجزائرية من 1954 حتى 1962م، ومثل حركة حزب العمال الكردستاني التي بدأت بنضال سياسيّ سلميّ، ثمّ تحوّلت إلى كفاح مسلّح لنيل الحقوق المشروعة لشعب تعنتت الحكومات التركية المتتالية في الاعتراف به وبوجوده حتّى.

فالثورة تتضمّن المطالبة بتغيير النظام الحاكم القائم واستبداله بنظام جديد، ومن حيث الناظر في تاريخ الثورات الكبرى التي حدثت في فرنسا وروسيا يجد أنّ هذه الثورات لم تقتصر فقط على تغيير نظام الحكم، بل شمل هذا التغيير جميع الجوانب في الدولة؛ سواء السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بالإضافة إلى القيم الثقافية لتلك المجتمعات، فقديماً كان ينظر إلى الثورة على أنّها مدمّرة كما مرّ معنا من تعريف الإغريق لها، فمثلاً حين قامت الثورة الفرنسية واعتمدت على فلسفة تغيير جذرية في كافة النواحي، واستطاع العقلاء والفلاسفة في فرنسا أمثال؛ (فولتير وديدرو وهوبز ومارتن وروسو وغيرهم) توجيهها، لتحصد أفضل النتائج قام قيصر روسيا؛ بوليس الأول بتوجيه جيشه إلى إيطاليا؛ لمحاربة الجيش الثوري الفرنسي، ثمّ خلفه القيصر الإسكندر الأوّل، والذي قام بدوره بتشكيل تحالف رجعيّ مع كل ملوك أوربا آنذاك؛ لمحاربة الثورة الفرنسية؛ كونها تحمل أفكاراً هدّامة حسب وجهة نظره، وقد استطاع صدّ هجمات نابليون بونابرت على بلاده، لكنّ حكمه وقع في تناقض مع ذاته، فالنخبة من الضباط الروس الذين ذهبوا في بعثات عسكرية إلى أوربا، وأقاموا في باريس، عادوا بأفكار الثورة الفرنسية، وساهموا بنشرها، وكانت هذه الأفكار مضادّة لتوجهات القيصر، وفي الواقع إنّ هذه الأفكار كانت السبب في إسقاط السلالة القيصرية (سلالة آل رومانوف) على يد الاشتراكيّين الشيوعيّين أو البلاشفة لاحقاً سنة 1917، حين أجبر القيصر نقولا الثاني التخلّي عن العرش في الخامس عشر من آذار، ونفس الحال حدث مع الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف التي انهارت، وسقطت أيضاً على يد أولئك الذين جاؤوا بأفكار الثورة الفرنسيّة؛ متمثّلين بحركة الاتحاد والترقي، وأطاحوا بسلالة آل عثمان، لكنّ الفرق بين الروس الجدد والعثمانيين الجدد بالنسبة للتأثر بالأفكار الغربية، فإنّ البلاشفة لم يتحوّلوا إلى التبعية للغرب، بل نهضوا بدولتهم، وشكّلوا الاتحاد السوفييتيّ، ونجحوا بأن يجعلوا من دولتهم دولةً عظمى، تهابها كلّ الدول في العالم، أمّا الأتراك فقد سقطوا في التبعيّة، وخضعوا وأخضعوا شعوب الدولة العثمانية لدول الاستعمار الغربيّ، ومازالت هذه البلدان تعيش ويلات التبعية والاستغلال الغربي لمواردها ومقدراتها، ووصول حكّام تابعين للخارج، لا نابعين من داخل شعوبهم، ولم ينالوا رضى شعوبهم عنهم، إنما فرضوا أنفسهم على رأس هذه الشعوب، ولم يلبّوا تطلعات شعوبهم، بل كانوا ينفّذون ما تمليه عليهم التبعية للخارج؛ للسطو على مقدرات وثروات الشعوب والمنطقة، ما أدّى إلى انفجار الوضع. فقد تصدّى بعض المفكرين لمصطلح الربيع العربي الذي ظهر إلى السطح، حيث وصفت بعض الحركات التي عرفتها دول الشرق الأوسط بمفهوم الثورة، (فهل ما تعيشه هذه الدول يعتبر حدثاً ثوريّاً أم أنّ الثورة خاصيّة غربيّة؟ وهل توافرت شروط الثورة في البلدان المسلمة أم أنّ هذه البلدان تفتقر إلى الخصائص الثورية؟) بحسب؛ (إيريك هوبز باوم).

لقد قدمت الثورة الفرنسية للعالم أهم المفردات الخاصة بالسياسة الليبرالية والحرية والديموقراطية الراديكالية كما قدمت فرنسا القانون الدستوري لأكثر الدول واخترقت مبادئ الثورة الفرنسية الحضارات القديمة التي كانت تأبى الأفكار الأوربية ، يقول (هوبز باوم): “إنّ الثورة الفرنسية كانت ستموت من غير آراء الفلاسفة” إلّا أنّه مع ذلك يحمّل الفلاسفة مسؤولية الثورة، ذلك لأنّهم ربّما أسرعوا في الانتقال من مرحلة النظام القديم إلى استبداله بسرعة بنظام جديد، ويرى بعض المفكرين أنّ الثورة الفرنسية دامت لأكثر من عشرة قرون على الأقل.

فالنماذج الأكثر للثورات كانت آثارها محدودة زمانيّاً، ومرتبطة بتغيير أسماء الحكّام، دون وضع أسس ثابتة مفصلة لمفهوم الشرعيّة، فقد غيّرت الأنظمة السياسية، لكنّها لم تغيّر من العقيدة السياسية والثقافية والفكرية للمجتمع ذاته، من هنا فنحن أمام قضية أكبر بكثير من تغيير أدوات الحكم ومؤسسات الدولة واستبدال القائمين عليها في لعبة تبديل كراسٍ سياسية، طالما سمعنا بها، وسئمنا نتائجها فالأجدر في التقدير هو التركيز على مفهوم (ثورة الفكر) الذي يجب أن يسبق مفهوم الثورة، بل إنّ المجتمعات قد تستعيض به عن الثورة التي غالباً ما تكون تكلفتها السياسية والاقتصادية والإنسانية كبيرة مقارنة بالتطور الفكريّ الذي كثيراً ما يصحبه تغيير وتطور سلوكي للمواطنين.

ففي النموذج الأوربي (مارتن لوثر) 1517، فهو غير مفهوم الشرعية السياسية، وممارسة العقيدة في القارة الأوربية، وفتح المجال أمام ثورة ثقافية وفكرية وعقائديّة، كانت كفيلة بتغيير سيرة الذات الأوربية بالكامل، وإحداث ثورة اجتماعيّة معاصرة، أي الدفع بعناصر فكريّة جديدة، غير مألوفة، ومتعارضة مع واقع محدّد، ربّما بدفع المثقفين، ومن خلفهم المجتمع، بل ومؤسسات الدولة إلى مراجعة المفاهيم الفكرية للواقع على خلفيّة المتغيرات، حتى لا يكون المجتمع في حالة ازدواجيّة، وصراع بين مفاهيمه القابلة للتغيير من ناحية، والتطور المنشود من ناحية أخرى بما يحسم قضية الحفاظ على الهوية، والتأقلم مع الحاضر، فالمجتمعات كثيراً ما تحتاج إلى ثورة فكريّة للخروج من البحيرة الفكرية الراكدة دون تغيير حدودها والثورة الفكرية لا تعني الانفصال عن الماضي، بما يوحيه من الثوابت العقائدية والثقافية والتاريخية بل عملية تجديد أو إحلال للمفاهيم القابلة للتغيير.

يقول ماركس: بغية نشوء مثل هذه النظرية الثورية إلى العالم لا بدّ أولاً, من مستوى معين لنضج التناقضات الاجتماعية والطبقية الموضوعية, ولا بدّ كذلك من مقدّمات فكريّة – نظريّة معيّنة ذات أهميّة موضوعيّة أيضاً وثانياً, لا بدّ من دخول التطلّعات الثوريّة المتموضعة عفوياً للجماهير الشعبيّة في تحالف مع التفكير الثوريّ المتطوّر القادر على التحليل النظريّ الإبداعيّ للعمليّة الثوريّة وقواها المحرّكة وآفاقها، ولا بدّ على وجه الخصوص من دخولها في تحالف مع الفلسفة التي تضع مبادئ ومنهجيّة التحليل النظريّ للعمليّة الثوريّة.

لقد اندلعت الثورات العربية في أواخر العام 2010 جرّاء إحراق محمد بوعزيزي نفسه، ممّا أدّى إلى الإطاحة بالرئيس التونسيّ؛ زين العابدين بن علي، واستمرت وانتقلت من دولة إلى أخرى، فتساقط حكّام هذه الدول تِباعاً، كما تتساقط أحجار الدومينو، حيث انتقلت إلى مصر، وأطاحت بالرئيس؛ محمد حسني مبارك، ثمّ إلى ليبيا، وتسبّبت في مقتل القذافي، والإطاحة بكلّ حكمه ومؤسساته، ثمّ إلى اليمن التي أجبرت الرئيس علي عبد الله صالح على التنحّي ثمّ انتقلت هنا وهناك، وجاءت إلى سوريا، ربّما حتى الآن لم تحقّق ثورات الربيع العربي ما كان يُرتجى منها، أو من مفهوم الثورة، وخاصة في سوريا، حيث لعبت التوجّهات الإسلامية المتشدّدة والنظام السوري، والأجندات الخارجية دوراً سلبيّاً للثورة الحقيقية، لقد أدّت هذه الاحتجاجات والثورات إلى انتشار الفكر الثوريّ الشعبيّ في بقية الدول والأقطار العربيّة، وهذا جانب إيجابي في الحقيقة لفكر يحمّل شعوباً، وليس أشخاصاً، حيث أنتجت احتجاجات المطالبة بالإصلاح، وتغيير حكومات بقيّة الدول العربيّة، فالأردن والبحرين والمغرب والجزائر، وكان شعار هذه الثورات موحّداً وهو: (الشعب يريد إسقاط النظام)، وإن دلّ على شيء فهذا هو السبب الرئيس لإثارة هذه الثورات، حيث عانت شعوبنا قروناً عديدة من بطش وفتك هذه الأنظمة، فالمشاكل الاقتصادية حدّث ولا حرج، والمشاكل السياسية والاجتماعية وتطبيق أنظمة وضعيّة وغيرها، ممّا أدّى بهذا الحراك الشعبي وتعطّش الشعوب لإسقاط هذه الأنظمة، وتراكم عبر سنوات عديدة، كلّها عوامل تراكمت في الوعي الجمعيّ لمنطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية التي وجدت نفسها تجابه نفس الشروط والمصير، فما كان إلّا أن انفجرت الموجة الثانية أواخر القرن العشرين بشعارات تعبّر عن درجات نسبيّة من الذكاء والخبرة والوعي بماهية هذا النظام المراد إسقاطه، وحجم التحدّيات المنتظرة من (تسقط فحسب) في السودان، يرحلون جميعا في الجزائر، وصولاً إلى كلهم، يعني كلهم في لبنان، وأريد وطناً في العراق…

كانت من مفرزات هذه الثورات أو ما يسمى بثورات الربيع العربي:

  • انكسار حاجز دام سنوات طويلة بين الحكام وشعوبهم، لقد حكمت هذه الأنظمة الدكتاتورية التي أقيمت في مجتمعاتنا بعد قرار التقسيم المقيت (اتفاقية سايكس بيكو) وأعلنوا استقلالاً شكليّاً واسميّاً في هذه الدول، لكنّ الهيمنة والتبعية السياسية والاقتصادية للدول الاستعمارية بقيت مستمرّة، فحكم هؤلاء الحكّام سنوات طويلة جبراً، وتجبّراً، ورغماً عن الشعوب، فبطشوا وفتكوا ونكّلوا بشعوبهم، فكانت الطريقة الوحيدة لتثبيت حكمهم على شعوبهم بزرع الخوف في نفوسهم، واستخدموا في سبيل ذلك طرقاً قمعيّة عديدة؛ منها تسليط أجهزة الاستخبارات وأمن الدولة على أعناق الشعوب، فحتى لشدة تخويف الشعوب كان المواطن لا يستطيع التكلم، أو الشكوى من الواقع المرير، والمعاناة المستمرّة من الظلم والتسلّط والابتزاز.
  • تغيير وعكس الصورة في الواقع لقد نجحت الشعوب من خلال الربيع العربي من قبل الحكام عبرة لغيرهم من الحكام أصبح الشغل الشاغل لهؤلاء الحكّام، وتفكيرهم صار ما هو المصير؟ أيكون كمصير زين العابدين أو مبارك أو القذافي أو عبد الله صالح أو البشير؟
  • ثقافة جديدة في مجتمعاتنا، فكانت من نتاج هذه الثورات؛ تبلور مفهوم جديد وثقافة جديدة في مجتمعاتنا، ألا وهي؛ مفهوم إعادة ثقة الشعوب بنفوسهم ومقدرتهم على التعبير، إنّه لَعامل مهم في تاريخ الثورات، وتاريخ أيّ شعب يطالب وينادي بتغيير الواقع.
  • سقوط الأقنعة: من أهم النقاط الأمور التي أنتجها الربيع العربي هي؛ إزالة الأقنعة في قلوب الشعوب، لا سيما؛ ثورة الشام. ذلك بإسقاط أقنعة دامت سنوات وعقود سواء كانت هذه الأقنعة على نطاق الأشخاص أو الأفراد أو الحكومات.

إذا تأملنا في التطورات والشعارات المطروحة، تبيّن أنها عبارة عن إحياء للمشروع الحداثيّ المتعسّر، ورغبة في علمنة الحياة العامة، وإعادة صياغة مفاهيم الفرد والمجتمع والدولة، وتنظيم العلاقة بينهم على أساس من التعاقد والتنافسية والكفاءة، أي نزع السلطة من الشخصنة وعلاقات القرابة والقبلية والطائفية، وعند هذه النقطة قد نفهم أبعاد ومغزى الثورة الأخلاقية التي يخوضها الشباب العربي ضد التمييز والروابط الاجتماعية التقليدية مثل: الأسرة – منظومة الزواج، والمؤسسة الدينية، وبذات السياق مسألة الحرّيّات الفردية وقضايا الجنسانية، وعليه يؤدّي كلّ تحرّر في هذه المسائل بنفس المقدرات إلى انتاج تحرّر سياسيّ، ومن هذا المنطلق يمكن استيعاب تمسّك الثوريين الجدّي بمسألة تثوير الحرية، وإثارة كلّ القضايا المتعلقة بالجندرة والتحيّز الجنسيّ والتخلّي عن مبدأ أولويات النضال، أي العمل على تفكيك ما لم يتمّ تفكيكه، وإحلاله من البنى الاجتماعية التقليدية، ثمّ إعادة حياتنا في جسم اجتماعيّ سياسيّ أكثر تشاركية ومساواة وحرية.

لقد عرفت البلاد العربية عدداً هامّاً من الانتفاضات الشعبية الكبرى منذ منتصف القرن الماضي، وتحديداً منذ نشأة ما يسمى بالدولة الوطنية، وخاصة خلال الثمانينيّات في مصر وسوريا وتونس والجزائر، لكنّها انتفاضات لم تتمكن رغم حجمها، وأهمّيتها من تغيير النظام السياسي القائم، بما هو نظام موحّد البنية.

لقد حافظَ النظام الرسميّ العربيّ على نفسه موحّداً فيما يتعلّق بمنظومته القمعيّة، وفعله الاستبداديّ، منذ الخمسينات لم تتحرّك فيه السلطة العربيّة إلّا داخليّاً، عن طريق الانقلابات التي يجدّد بها الاستبداد جلده مثلما حدث عبر كلّ أنواع الانقلابات والحركات التصحيحية، وفي الاغتيالات السياسية في مصر وسوريا وتونس وموريتانيا والعراق والسودان، حيث يتحرّك النظام الرسمي وفق هذا المنطق، حيث يتمّ تغيير النظام من الداخل عبر الدوائر المحيطة، لا من خارجها، وهو ما يضمن للقوى الدولية الراعية لهذا التغيير تواصل النسق السياسي الذي وضع للمنطقة منذ اتفاقيات؛ (سايكس بيكو وأخواتها) حيث يضمن هذا الشكل السياسيّ للقوى المهيمنة على المنطقة السيطرة التامة على موارد البلاد العربية، وعلى مقدّراتها وقرارها السياسيّ.

إنّ نجاح الثورة وفشلها لا يمكن أن يُقاس بنتائجها السياسية المباشرة، وحدها أنّ حقيقة المجتمعات العربية أظهرت أنّها تمتلك إمكانية وقدرة العمل الثوريّ تعد نجاحاً بحدّ ذاته، ويمكن للثورات العربية أن تنتهي إلى فشل سياسيّ مبدئيّ، لكنّها بالتأكيد سوف تلهم الأفكار الإصلاحية على المدَيَين؛ المتوسط والبعيد، وذلك على غرار ما حدث مع الثورات الأوربية لعام 1848م التي غيّرت الخريطة الجيوسياسية لأوربا ومهّدت الطريق لإجراء إصلاحات اجتماعيّة وسياسيّة كبرى خلال نصف القرن الذي تلاه، إنّ معظم ثورات الربيع العربي جاءت عفويّة تلقائيّة نتجت عن السخط الشعبيّ.

وكانت تطمح إلى الانخراط في العالم البرجوازيّ، وذلك من خلال إشراك المواطنين في الحياة السياسيّة، كما في أوربا وأمريكيا الشمالية، فالثورة الأمريكية ثورة سياسية 1967م، لأنّها أدّت إلى دستور وضعه الشعب، والذي لا تستطيع الحكومة إحداث أيّ تغيير فيه.

الثورة الفرنسيّة: ثورة اجتماعيّة، لأنّها كانت تطمح إلى وضع حدّ للتمييز الطبقي، ولأنّها أدخلت مفهوم خوف الإنسان المأخوذ من فلسفة حقبة الأنوار.

مقياس نجاح الثورات

  • ثورات الربيع العربي كانت ثورات عفوية بسيطة شعبية افتقدت إلى برنامج سياسيّ، ومن ذلك نستنتج النجاح الحقيقي الذي قامت به هذه الثورات الشعبيّة، حيث أنّ تاريخ أيّ ثورة غير مرتبط بتاريخ انتهائها، فقد يكون هناك تاريخ ابتداء للثورة، لكن تاريخ انتهاء الثورة قد يكون غير محدد.
  • تبرز أهمية الثورة في ديناميتها التفاعلية، وتحرير الطاقات الإبداعية الخلّاقة التي تساهم في صنع مجتمع بديل، وذاتية جديدة للفرد من خلال التعاون والتواصل الذي يفضي إلى بناء مشترك عام يتلاءم ويتكاتف حوله الطرفان حيث رفعت الجماهير شعار؛ (الشعب يريد إسقاط النظام) ودشّنت بالفعل منعطفاً تاريخيّاً لشعوب المنطقة العربية على الرغم من التجريد الذي ينطوي عليه الشعار؛ إلّا أنّه كشفت عن أن هذا النظام ليس الزعيم أو ليس القومية التي تترأسّه، لكنّه متغلغل حتى في إمكانيات لا متناهية الصغر في المجتمع.
  • من جهة أخرى تنامي الوعي بمدى تعقّد وتبعيّة السلطة، وتشابكاتها الإقليمية والدولية، فقدان الحرّيّة وساعات الخصوصية بدعوة محاربة الإرهاب، والتهديد بالفوضى مقابل الاستقرار، ثم استخدام العنف والقمع المفرط، واتّباع سياسات الاقتراض والتقشّف إلى قرصنة مؤسّسات النظام الرأسمالي العالمي لصندوق النقد الدوليّ.

الثورة الحقيقية

تشكّل الارهاصات الكبيرة التي سمّيت فيما بعد بالربيع العربيّ أوّل الأشكال الثوريّة الحقيقيّة في البلدان العربيّة، لأنّها نجحت في زعزعة النظام الرسميّ، وضرب رأسه، إنّها المرة الأولى التي يشهد فيها النظام السياسيّ العربيّ تغييراً جوهريّاً لا يرتبط بأجندات النظام الدولي، ورغبته في التغيير.

صحيح أنّ الثورات المضادّة نجحت في إخماد الوهج الثوريّ، وفي الانقلاب عليه في عدّة مواطِن، لكن ما حدث لا يتعلّق إلّا بالموجة الثورية الأولى التي تمثّل اللحظة الانفجارية للعقل الثوريّ. إلّا إنّ الثورات العربية لا تزال في بدايتها، ولم تبدأ بعد، ما دامت شروط اندلاعها وتجدّدها لا تزال قائمة، بل يمكن القول: إنّ ردود الفعل العنيفة على الموجة الأولى هي التي ستشحن الموجات الثوريّة القادمة بالوعي الثوري الجديد للناس عن الموجة الأولى.

السمة العامة للثورات هي إيجاد حقوق جديدة للشعب، وإلغاء قيود قديمة، ويجري هذا مع الانحياز إلى ناحية الفقراء، بحيث توضع الحدود لمنع الثراء الفاحش كما يحمي الفقراء من الفقر الفاحش، تعمّ الثورات جميعها روح اشتراكيّة بل تقاليد اشتراكية.

أسباب الثورات

الثورة هي انتفاض طبقة لا تطيق القيود المفروضة عليها، وهي تستعين بالشعب بعد أن تبسط له قضيتها العادلة، وهو ينضم إليها فتكون الثورة الشعبية، وضدّه القيود والاضطهاد والضغط الذي يبعث إحدى الطبقات على الثورة، تتعدّد ألوانه، ففي أيّام الملك الإنكليزي (جون) كانت الضرائب الباهظة هي التي دفعت النبلاء إلى أن يجبروا هذا الملك على ألّا يفرض ضريبة إلّا بعد استشارتهم في مجلسهم التي أصبحت بذرة البرلمان الحاضر.

وفي الثورة الفرنسية نجد الضرائب الباهظة التي لا توزّع بالعدل، وإنّما تخصّ بها الطبقة المتوسطة، وتعفى منها النبلاء والكهنة – هذا إن تعنّت الملك ورفضه إيجاد برلمان – وإلى فساد القضاء، فما حدث إحساسٌ عامٌّ في الأمة بأنّ الحكومة ليست لخدمة الملك والكهنة والنبلاء فقط، وفي ثورة 1848 نجد أنّ العمال ونفس عمال المصانع يواجهون حالات جديدة لم يواجهها أسلافهم، وهي الإنتاج بالآلات بدلاً عن الأيدي العاملة، فيطلبون التغيير في أجورهم ومركزهم الاجتماعيّ، بما يطابق دورهم في الإنتاج، لكنّهم يجدون الرفض، فيثورون. ومنذ ثوراتهم هذه بدأت البرلمانات تعرف أحزاب عمّالية، وبدأت النقابات تتألّف لصون حقوقهم ومصالحهم.

  • أسباب طويلة الأجل من رواج إيديولوجيّة سياسيّة اجتماعيّة على خلاف مع النظام الحاكم شعور الناس بأنّ النظام السياسي لم يعد يلبّي توقّعاتهم، والرغبة في بناء سمات جديدة ممارسات الحكّام الاستبدادية، والفقر، وعدم المساواة.
  • إحساس الناس بالظلم والغبن من السلطة الحاكمة، والسعي للوصول إلى السلطة وتغيير النظام.

وهناك كذلك عوامل قصيرة المدى محركة على خلاف احتجاجات واسعة النطاق، يعجز الممسكون بنظام الحكم والسلطة عن احتوائها، مع انشقاق من أفراد القوات المسلحة. وأخيراً يجري إعادة تأسيس نظام جديد في حال نجاح قائد ثوريّ في توطيد أركان سلطته (الشخص الأول)

السمة الأولى: أشكال الاحتجاجات تتغيّر عبر الوقت باعتبارها نتاج تغييرات أوسع في الهياكل الاقتصادية والسياسية، أحداث الشغب في مجتمع ما قبل الثورة الصناعية خلّف محلّها الإضرابات والمظاهرات السياسية في العالم الحديث.

السمة الثانية: الاحتجاجات الجماعيّة سواء كانت سلمية أو عنفيّة تتميّز بطابعها المستعر، ولا تقتصر على سنوات محدّدة كما حدث في الثورة الفرنسية 1789م والثورة الروسية 1917م.

إنّ كلّ الثورات الناجحة تتميّز بتحالفات عريضة في بدايتها، بينما تلتحم شرائح اجتماعية تعاني من مظالم عميقة الجذور مع المعارضة ضدّ النظام القائم، وتفشل الاحتجاجات الجماهيرية عندما تعجز عن توحيد صفوفها تجاه أهدافها الجوهرية، فالكثير من انتفاضات الربيع العربي قد فشلت، باستثناء ما حدث في تونس، وما لبثت أن انزلقت إلى مستنقع الحرب الأهلية، كما حدث في ليبيا، ولم تنجح بتحييد الجيش كما في مصر، إنّ الغضب يتباين في سماته من منطقة إلى أخرى، ففي الاحتجاجات الممتدّة من لبنان إلى العراق، وزيمبابوي وتشيلي، يتّجه سخط الشعوب تجاه الفساد المستشري في تلك الدول، وتلعب حالة الاقتصاد العالمي دوراً هامّاً كذلك في المناطق التي يعاني فيها الجوّ الاقتصادي في حالة ركود، وتكون الزيادات الطفيفة بالأسعار عاملا مثيراً للجماهير أكثر من كونها مجرّد منغّصات، ذلك أنّها ما تلبث أن تتحوّل إلى احتجاجات، مثل قضية الضرائب في لبنان، وزيادة أسعار تذاكر المترو في تشيلي.

لا بدّ لنا من القول تعدّ الثورة وسيلةَ الناس للحصول على مطالبهم من الحكومة الحاليّة، ويشيدون غالباً في ذلك نخبة نفوذهم، ونوجّه أراءهم، لكن تبقى الثورة رهان قد تنجح في تغيير النظام، وبالتالي الدخول في مرحلة جديدة، وقد تفشل وتكون النتيجة العودة إلى الوراء، لذا تبقى الثورة الخيار الأخير للشعوب للوصول إلى مطالبهم من الحكومة غالباً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى