الثورة والشرق الأوسط

في الثورة والسلطة والهوية والحزب

مظلوم عبدي 

مظلوم عبدي

مظلوم عبدي
مظلوم عبدي

تمهيد عن الثورة والثورة في الشرق الأوسط

إنّنا نعرّف الثورة في إطار المدنية الديمقراطية، وتكمن وظيفة الثورة في إزالة العوائق من أمام المدنية الديمقراطية، ويوجد ضمن المجتمع الإنساني مجتمع أخلاقي سياسي، وهو عبارة عن تراكم خبرات الإنسان منذ القدم وحتى يومنا هذا بشكل طبيعي، وهذا ما قوبل بالتحطيم والإعاقة من قبل الأنظمة السلطوية، وعندما تتمّ إزالة تلك السلطة يقوم المجتمع بتنظيم نفسه بنفسه دون أن تكون له حاجة الى الدولة وسلطتها، ويتطوّر بشكل طبيعي، وتكمن وظيفتنا في إزالة تلك العوائق، وإزالة السلطة، وهذه هي وظيفة الثورة. الثورة في فكرنا لا تعني أن نهدم سلطة أو دولة لنبني بدلاً منها سلطة أخرى، أو دولة أخرى، على العكس من ذلك؛ فالثورة هي بناء نظام اجتماعي طبيعي.

إنّ ظهور الثورات عبر تاريخ الشرق الأوسط شيء طبيعيّ، ومع ذلك تؤدي أسبابها التاريخية، وتراكماتها منذ القدم التي تظهر حقيقة الشرق الأوسط، إنّ الشرق الأوسط حضارة مستقلة، ونستطيع القول: إنّ الشرق الأوسط هو الحضارة الأساس في تاريخ الإنسانية، وتعرّضت هذه الحضارة للتحطيم قبل ألف عام، وخاصّة في المئتي عام المنصرمة مع ظهور الرأسمالية، لذلك لم تستطع شعوب الشرق الأوسط إثبات نفسها، وثورة الشرق الأوسط هي ثورة استرداد تاريخها، وإثبات ثقافتها وهويتها، لأنّ النظام الموجود في الشرق الأوسط ليس من ثقافة هذه الأرض، بل تمّ فرضها من الخارج من قبل الأنظمة الرأسمالية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وشعب الشرق الأوسط لا يقبل بهذا الواقع، لذلك إنّه يثور ضد ذلك، وهذه حقيقة هذه الثورات. ومن جانب آخر فقد تمّ بناء الدولة القومية بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت 60 عاماً، لكن لم تنجح هذه الفلسفة، والشعب يثور ضد هذه الذهنية، ويستمر هذا المشروع القومويّ؛ أي الدولة القومية بصعوبة، ولا تستطيع قيادة المجتمع، وقد فقدت معناها في الواقع، وتدافع عن نفسها كآلة معطلة، وأضحى المجتمع لا يقبل بذلك، وهذا هو السبب الرئيسي لقيام هذه الثورات، فالثورة التي انطلقت من تونس في شخصية بوعزيزي كانت لديها ظروفها الموضوعية مسبّقاً.

تقوم الثورات على أنّها نتاج التاريخ، واللاعب الأساسي فيه هو الشعب، فالشعب هو الذي ينزل إلى الشوارع، ويخاطر بنفسه في سبيل نيل حريته، وهو الذي يدخل السجون، وبالأخص هؤلاء الشباب الذين يقودون هذه الثورات، وفي كثيرٍ من البلدان تقوم المرأة أيضاً بدور فعّال، والذي خلق هذا الجو الثوريّ؛ هو الشعب، والأحزاب السياسية الموجودة منذ سنين لديها تنظيم، وكدح، ويريدون أنّ يستفيدوا من هذه الظروف، فهناك أحزاب علمانية و دينيّة، أي أنهم لا يستطيعون استيعاب الشعب من جميع النواحي، ففي الأصل تعدّ المعارضة هي القوة التي تنزل إلى الشارع، وهذه القوة هي الشبيبة، والمرأة اللتان تمثّلان جوهر المجتمع، وهما أصحاب الثورة الحقيقيين، وبقدر ما تلبّي الأحزاب السياسية مطالب الشباب والثورة فإنّها تأخذ مكانها، وشرعيتها بين الشعب الذين هم أصحاب الثورة.

 

الأحزاب والثورة

هناك أحزاب وشخصيات تتحرّك، وتتقرّب من الثورة فقط من أجل مصالحها السلطوية، كحركة (الأخوان المسلمون) التي انتهزت الفرصة، وركبت الأمواج. ففي جميع البلدان ينبذ الشعب نظام الحاكم، وهنا تلتقي القواسم المشتركة بين هؤلاء الانتهازيين والشعب المستعبد، وبما أنّ الأحزاب لديها تنظيم في الخارج والداخل، فإنّها تستفيد من الثورة لكي تركب الأمواج، وتصل إلى السلطة، ففي مصر كان  كذلك، وتونس وليبيا…

 

الانتهازية والثورة

إنّ الذين تسلّقوا ظهور الثورات، ونجحوا فيها هم مجرد أهداف شخصية سعت لنيل كرسي السلطة، وقد أقنعوا الشعب بأنّهم ينجزون ثورات تاريخية، فالبعض منهم أتى من خلال الانقلابات العسكرية، والبعض قامت معه فئة من الشعب، والبعض الآخر أتى من الفكر القومي الموجود بين شعوب الشرق الأوسط، وقد وعدوا بأنّهم سيحلون المشاكل القومية في الشرق الأوسط، والشعب أيضا ربط آماله بهم. فعلى سبيل المثال كانت الثورة الكبرى ثورة جمال عبدالناصر التي حدثت في 1952، وتم التبرير لتلك الثورة، في الأصل كانت الثورة ضمن الجيش، وحدث الانقلاب ضمن الجيش، وبما أنّها كانت ضد القوى الخارجية، فالشعب المصري، بل  العربي بأجمعه كان معه، وقد كان بدوره ينادي بالوحدة العربية والقومية، لذلك أخذ مكانه بين الشعب العربي. لكنّه لم يحقق شيئاً من مصالح المجتمع، لم يكن هناك تغيير جوهري بحيث يدير المجتمع نفسه بنفسه، ولم يستطع الشعب أن يتطوّر من خلال طاقته الداخلية. لقد أسس سلطة على إرادة الشعب، وأسّس دولة قومية، ولم يحدث أيّ تغيير جوهري، لذلك لم يستطع حلّ مشاكل المجتمع، ولم يحقق الشعارات التي قام على أساسها، وهي الحرية و الديمقراطية. ولم يطوّر أيّ شيء، ولم ينقطع عن القوى العالمية، بل كان يتحرك ضمن شبكة المصالح الخارجية. وفي الداخل لم يقم بحل الطبقية في المجتمع، وإنّما أراد أن يدير المجتمع من خلال فئة معينة، ثمّ يديره من طبقة واحدة، ومع مرور الزمن أصبحت الطبقة مجرد عائلة، وأصبحت النتيجة حكم أقلية صغيرة أمام المجتمع كله، وأصبح يبتعد رويداً رويداً عن حقيقته، في الأصل لم يبتعد عن حقيقته، وإنما ظهرت حقيقته أمام الجميع، فعندما تمكن من تنظيم نفسه، وشكّلَ أساساً له، انكشفت حقيقته، واستمرّت هذه الذهنية إلى يومنا هذا. هذا المسار الذي دخلت فيه جميع أنظمة الشرق الأوسط، ابتداءً من الثورة المصرية، ثم ما فعله البعث في سوريا وفي العراق، وما فعله القذافي، إنهم يمثلون حقيقة واحدة؛ وهي البرجوازية و الفكر القومي، وبهذا الشكل فقد كسبوا الشعب لفترة ما من الناحية القومية، لكن هذا لم يكن في جوهره ثورة حقيقية، و شيئاً جديداً، ولم يكن يمثّلون المجتمع، وإنّما كانوا يدّعون بذلك؛ لأنهم كانت عبارة عن سلطة تحكم المجتمع من خلال طبقة معينة ابتعدت عن المجتمع، واليوم يتكرّر نفس السيناريو، إذا حاول حزب واحد من التحكم بالمجتمع، وجعل السلطة هدفاً له، ومثال على ذلك هناك ثورة إيران، تلك ثورة لم تكن ثورة الخميني فقط، وإنما كانت ثورة الشعب من أجل الحرية والديمقراطية، وفي النتيجة تغيّرت السلطة فقط، وأصبح الحكم من سلطة الشاه إلى سلطة الملالي، ولم يتغير في الجوهر شيء، فقبل الثورة كانت الأيديولوجية الفارسية هي السائدة، وبعد الثورة أصبحت الأيديولوجية الشيعية هي السائدة، وأرادوا أن يطوّروا القومية الشيعية. إنّ النظام الإيراني أصبح أكثر استبداداً من ذي قبل، وفقدت جانبها المعنوي، وأصبح يسيّر المجتمع بالقوة والظلم، وظهرت حقيقة الخميني للجميع؛ أي أنه لم يتغير بعد الثورة، وإنّما هذه هي حقيقته.

إنّهم في البداية يتقربون من المجتمع، وبعد أن ينظموا أنفسهم ويمتلكوا القوة، يشكلون عصاباتهم وطبقتهم، ثمّ يعادون المجتمع، ويخضعونه تحت سيطرته.

الدولة والسلطة والثورة

لدينا تجارب كثيرة في التاريخ عن الدولة والسلطة والثورة، وقد استلهمنا التجارب من تاريخ الشعوب الأخرى أيضاً، فعلى سبيل المثال؛ كثيرا ما يطير الكدح سدىً، إذْ تقوم الثورات ضد الطاغية، ويتمّ تقديم الآلاف من الشهداء، لكن تكون النتيجة كما كانت من قبل، مثلا هذه الأنظمة التي يريدها الشعب أن تسقط قد أتت إلى السلطة عن طريق الثورات، ومنهم من قدّم الشهداء، وكان الشعب معهم أثناء ذلك، لكن في النتيجة أصبحت سلطة، ولم تخدم الشعب أو المجتمع، والآن يريدها الشعب أن تسقط!. مثلاً الثورة الاشتراكية انضم إليها الشعب بالملايين، و قدموا شهداء بالملايين من أجل أهداف كبرى، لكن في النتيجة قاموا بتكرار نفس الممارسات التي ثاروا ضدها، لذلك وصلنا إلى قناعة بأن بناء سلطة بديلاً عن سلطة أو دولة عوضاً عن دولة، فلن تكون لها فائدة، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد بديل، بل يوجد له بديل، وهو بناء مجتمع ديمقراطي إيكولوجي، وهكذا يصل المجتمع إلى حريته، وهذا ما نعتمد عليه في ثورتنا. وقد اكتسبنا تجارب في ذلك، فقد قمنا في البداية باستهداف السلطة من أجل كوردستان حرة، وقدّمنا شهداء بعشرات الآلاف، لكن لا فائدة من ذلك، فقد رأينا أنّه لن نصل إلى هدفنا. إذا كان الشيء الذي نريده هو بناء المجتمع وإزالة العوائق من أمامه. و من جانب آخر إذا كان هدفنا هو إزالة العوائق فيجب أن نبني دفاعنا الذاتي لكي نحمي أنفسنا، عندئذ تكون الحرب، ويكون للنضال معنى. وبمعنى آخر؛ إنّ فرق نضالنا هو أننا نبني البديل، ونسقط النظام معاً. هذه هي نظريتنا وعلى أساسه نناضل.

 

الدولة القومية والثورة

دائماً كانت هناك قوّتان في تاريخ الإنسانية وحضارتها، قوّة تمثّل إرادة المجتمع الديمقراطي الأخلاقي، وقوّة النظام العالمي الدولتي المبني على السلطة والطبقية. والقوّة السلطوية تمثّل قسماً صغيراً من المجتمع، ولا يمثّل المجتمع برمّته. فمع تأسيس الدولة السومرية وحتى الآن تستمرّ تلك السلطوية، فمهما أرادت تلك السلطة أن تغيّر من شكلها ففي النتيجة لا يتغير شيء في المجتمع. إن كانت في الدولة الإقطاعية أو الدولة الاشتراكية أو الدولة الرأسمالية، فلن يتغيّر شيء. فالدولة القومية التي تأسست مع الحداثة الرأسمالية، وتسرّبت إلى دول الشرق الأوسط بشكلها الأكثر قساوة، واستبداداً، ولا تحمل شيئاً في جوهرها. حيث تدعي الدولة القومية أنّها تمثّل المجتمع برمّته؛ مثل حزب البعث ونظام القذافي، لأنّ الدولة القومية لديها مسألة شمولية، لكن في النتيجة؛ الدولة القومية تمثّل قسماً من المجتمع. ومع مرور الزمن تصبح هذه الشريحة صغيرة أكثر فأكثر، حتّى تنحصرَ في العائلة الواحدة، ومعظم أنظمة الشرق الأوسط بهذا الشكل؛ أي حكم العائلة الواحدة. ففي الأصل لا يختلف حكم العائلة الواحدة عن الدولة القومية، لأنّها أحد إفرازاتها، وهناك المئات من الأمثلة في العالم.

إنّ هذه الثورات التي تقوم ستضعف من ذهنية الدولة القومية، لكن إن لم تغيّر في جوهرها من شيء فستكون السلطة بيد حزب واحد يمثّل فئة معينة من المجتمع، وستستمر السلطوية والطبقية، مهما كانت بنية الحزب، فلتكن سواء أكانت اشتراكية أو اجتماعية أو غيرها فلن يتغيّر شيء. إنه لشيء جميل ومفيد في أن يظهر الأكراد كقومية وشعب مستقل، ومن النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنواحي الأخرى، لكن هذا لا يمثل جميع متطلبات الأكراد، لأنّ هناك حزبين يحكمان، والآن هناك خلافات عائلية من أجل الحكم، فهذا لا يمثل المجتمع الذي يعيش هناك برمّته، ونفس سيناريو الدولة القومية الذي ذكرناه آنفاً يمر إقليم كردستان بأطواره، ففي البداية حصلت ثورة باسم جميع الشعب الكردي، ثمّ حكم حزبان هناك، والآن الوضع محصور في العائلة الواحدة!!. فالثورة هناك بحاجة إلى إعادة إصلاح.

إنّ الأنظمة الموجودة الحالية من تونس إلى سوريا كلها بُنيت على طراز الدول الأوربية، وهي طراز الدولة القوميّة، ونتاج الحداثة الرأسمالية، وهذه الأنظمة التي تقود هذه الدول هي إحدى نتاجات هذه الذهنية. هذه الأنظمة التي بنتها الأنظمة العالمية وصلت إلى حد لا تستطيع خدمة العولمة، والقوى العالمية كما حدث في العراق، لذلك كان على القوى العالمية أيضاً أن تنتهز هذه الظروف لتغيّر من الأنظمة، وتحدّدها لخدمة مصالحها حسب المرحلة الجديدة، وقد بدأت القوى العالمية بذلك المشروع من العراق، لكنّها توقفت بعد ذلك، ولم يتمّ استمرارها، أي أن القوى العالمية كانت تريد أن تحدث تغييراً في هذه الأنظمة قبل هذه الثورات، ومع انطلاق شرارة الثورات أتيحت لها الفرصة أكثر، ومن جانب آخر إنّ شعوب الشرق الأوسط قد ملّت من هذه الأنظمة، وهنا أيضاً حصل قاسم مشترك بين تلك القوى والشعوب المضطهدة، لذلك حصل تقارب فيما بينهما، ونرى أنّ هذا شيء طبيعي، وربّما تريد القوى الغربية أن تنتقم من الأنظمة التي حاربت ضدها مثل ليبيا وسوريا. والقوى العالمية الغربية لا تريد أن تخرج منطقة الشرق الأوسط من سيطرتها، لذلك تريد فقط تغيير السلطة حسب مصالحها، ولا تأخذ إرادة الشعوب أساساً لهذه الثورات، فهذه القوى لا تريد أن تنقطع شعوب الشرق الوسط عن سياسات الأنظمة العالمية، وتعيش ضمن حقيقتها الاجتماعية، لذلك تسعى جاهداً أن تقوم ببعض الإصلاحات فقط في السلطة دون المجتمع، وتعيد بناء مصالحها، والأمثلة في تونس ومصر خير دليل على ذلك.

إنّ هذه الثورات ستحدث تغييراً في وضعها، لكن ليس بالشكل والآمال التي يريدونها، لكن تكون أيضاً أداة بيد القوى الغربية أيضاً؛ أي أنّه سيكون هناك إجماع بين هاتين الفكرتين، لكنّ الشعوب ستخطو خطوة إيجابية نحو الحرية والديمقراطية أكثر بكثير من ذي قبل.

 

الثورة ومفهوم إسقاط النظام

إنّ الثورة التي تأخذ إرادة الشعوب أساسا لها؛ يجب عليها إحداث تغيير في بنية النظام، وفي النتيجة هناك شخص يمثّل النظام، وهذا النظام مدعوم من قبل فئة أو طبقة معينة، فلا يتغيّر النظام بتغيير ذلك الشخص، وإنّما يجب تغيير ذهنية تلك الشريحة بأكملها، ومثلما قلنا: – إنّ تغيير النظام ليس كافياً، والتغيير ليس تغيير شخص، وتغيير أركان الدولة، لذلك فإنّ اختلافنا عن تلك الثورات التي تقوم هو أنّنا نريد تغيير النظام السلطوي برمّته، ويقوم بدلاً عنه نظام مجتمعيّ آخر، وبمعنى آخر وجوهري يجب أن يكون هناك نظام المجتمع الديمقراطي بدلاً عن النظام الدولتي السلطوي…

يجب ألّا يكون التغيير في رؤوس السلطة وإداراتها ومؤسساتها، وإنّما تغيير الذهنية السلطوية، مثلاً إنّ هناك سلطة تشريعية، أو ما يقال له: مجلس الشعب، لكن في النتيجة يمثّل حزباً أو حزبين، وفي نفس الوقت إنّ الحزب الأكثر شعبية هو الذي يسيطر على المجتمع، وبالتالي يسيطر على الدولة، والحزب الواحد لا يمثل مصالح المجتمع كله، فمن ناحية أخرى هناك السلطة العسكرية التي تحمي الدولة، والحكومة المتسلطة لا تحمي المجتمع، فهي موجودة لحماية السلطة، لذلك على المجتمع أن يبني مؤسساته بعيداً عن الدولة، وربّما تتواجد الدولة، لكن تكمن وظيفتها في تنسيق عمل المجتمع، وتنظيمه دون حكمه، ولا تكون سلطة فوق رأسها، والمؤسسات التي تُبنى؛ ليكون بناؤها من القاعدة، ولا يأتي الأمر من فوق، فجميع المؤسسات يجب عليها أن تُبنى بذلك الشكل، وتكون قيادات تلك المؤسسات هي المنسّقية المركزية للمجتمع، وتتغير ذهنية المجتمع في الأساس والجوهر.

الثورة والمعارضة السوريّة

لم تكن المعارضة السورية واضحة المعالم في بداية الثورة، حيث لم تكن معروفة ومعلنة عن مواقفها بعد، لذلك لم نتمكن حينها من تجاوز التحليلات العامة، ولم نتمكن من إبداء المواقف الصريحة تجاهها. كما أننا كنا قد وضعنا شرطين اثنين أمام أطياف المعارضة كافة. الشرط الأول: كان ضرورة التحوّل الحقيقي للديمقراطية، وضمان الحريات في سوريا، مع تأكيد تغيير النظام بشكلٍ جذري، وعدم الاكتفاء بتغيير السلطة فحسب، والشرط الثاني: كان حول الحقوق الكردية. فالحقوق الكردية تُعتبر خطّاً أحمر بالنسبة إلينا، ومع تقدم الأيام، وامتداد الثورة من حيث الزمان فإن حقيقة أطياف المعارضة قد ظهرت للعيان بكلّ جلاء، وباتت حقيقتها واضحة لدينا.

نستطيع أن نتحدث عن المعارضة السورية بكلّ اطمئنان. فالمعارضة السورية تنقسم إلى قسمين رئيسيين: الأول هو المعارضة الخارجية، أو التي تعتمد على الخارج، وتنتظر منهم التدخل، وتؤمن بأنّ التغيير في سوريا لن يكون إلّا من خلال التدخّل الخارجي، وهي تؤمن بالعنف، والحلّ العسكري، وهي تعتمد بشكل رئيسي على تركيا، كما أنّها تهدف إلى السلطة بالدرجة الأولى، وتستخدم النزعات الطائفية في هذا السبيل، إنّ هذا الطيف من المعارضة الخارجية منظّم ضمن ما يسمى بالمجلس الوطني في تركيا. أمّا القسم الآخر من المعارضة فهي المعارضة الداخلية التي تستمد قوتها من الشعب، وتؤمن بالسبل الديمقراطية لإجراء التحوّل المطلوب في سوريا. كما أنّها وقفت ضد ثلاث نزعات، وهي التدخُّل الخارجي، والعنف والطائفية. نحن ننظر إليها على أنّها تمثّل المعارضة الحقيقية.

نحنُ لسنا ضد أيّ طيف من أطياف المعارضة في الجوهر، ولن نقف ضد أيّ طيف أو قسم من المعارضة يهدف إلى إجراء التغيير المطلوب في البلاد، ولم نقل بعد قولنا الفصل بحقّ أيّ طيف من أطياف المعارضة مهما كانت، كما أن أبواب التحاور مشرعة أمام أي كان دون استثناء من أطياف المعارضة وتوجهاتها، كما أن أبوابنا مفتوحة أمام المعارضة الداخلية، وكذلك المعارضة الخارجية. لكن لدينا شروطنا، ومبادؤنا لعقد العلاقة مع أي منها، الشرط الأساسي هو القضية الكردية، والشرط الثاني هو بناء نظام ديمقراطي بالسبل السلمية، وبالاعتماد على القوى الشعبية دون الاعتماد على الخارج. لكن في الوقت الراهن نرى أنّ المعارضة الموجودة في أنقرة لا تقبل الاعتراف بالحقوق القومية الكردية، ليس فقط في سوريا وشمالها، وإنما في تركيا أيضاً، انطلاقاً من مصالحها، وبهدف كسب الرضى التركي، كما أنّها تتّهمنا بـ(الإرهابيين) وتندّد بكلّ عمل دفاعي نقوم به تجاه الجيش التركي، وتسميها بـ(العمليات الإرهابية). فهذه المعارضة تتحدّث عن الحرية من جهة، وفي الوقت نفسه تتهجم على النضال الكردي لأجل الحرية، وتستكثر على الشعب الكردي التمتّع بحريته، فمن جهة تزعم بأنّها ضد القمع والاضطهاد والظلم، لكنّها في الوقت ذاته تمدح القمع التركي تجاه شعبنا، وتقف مساندة له، لذلك فمن غير الممكن أن نقبل معارضة بهذا الشكل، معارضة تتبنى المنطق الميكافيلي في النظر إلى الأمور، فهي ترى كلّ السبل والطرق مباحة لأجل إسقاط هذا النظام، ولا يهمها إن تدخلت الدول الخارجية، أو سفكت الدماء في البلاد، أو راح الآلاف من الضحايا من الأبرياء، لذلك لطالما لم تصحح المعارضة الخارجية المنضوية تحت جناح المجلس الوطني مواقفها في هذين النقطتين فلن نقبل بها، طبعاً هذا لا يعني بأنّنا لن نحاورها، فحوارنا سيكون مستمراً، لكننا سنكون ضد مواقفها السلبية.

أما بالنسبة إلى المعارضة الداخلية فنحن نقبلها ونعتبرها قوة ثالثة إلى جانب كلّ من المعارضة الخارجية والسلطة، ونؤمن بأنّ كافة أطياف المعارضة الداخلية من أحزاب يسارية وقومية ديمقراطية، والشخصيات الوطنية إلى جانب الشعب الكردي سيكونون النواة الأساسية لبناء الأمة الديمقراطية، والوحدة الحقيقية بين الشعب الكردي والعربي.

السبب الرئيسي الكامن وراء عدم تقبّل أطياف من المعارضة للهوية الكردية، وعدم الاعتراف بالحقوق القومية والوطنية للشعب الكردي. هو كونهم لا يسيرون وفق حقيقة الشعب السوري وتطلعاته في الحرية، بل يسيرون وفق المصالح والمخططات الخارجية، فقد تحوّلوا إلى نفر لدى القوى الخارجية التي تسعى إلى الاستفادة من الثورة الشعبية السورية لأجل تغيير النظام، فبعض قوى المعارضة تدرك ذلك، وقد استسلمت كلّياً لهذه القوى لكي تحقق أهدافها بالاعتماد على القوى الخارجية. ونعرف بأنّه لا يوجد حلّ للقضية الكردية ضمن أجندة القوى الخارجية والدولية، وهذا ينعكس بشكل مباشر على مواقف قوى المعارضة المرتمية في أحضان الخارج.

إنّ الكثير من قوى المعارضة الخارجية متواجدة في تركيا، وتتبع السياسة التركية تجاه القضية الكردية. ولدينا معلومات مؤكدة بأنّ السلطات التركية قد فرضت على هذه المعارضة أن تتقبل اتفاقية أضنة، والأخيرة قبلتها، وحتى أنّها تمادت أكثر من النظام السوري، وقد رأينا انعكاسات ذلك على أرض الواقع، والدلائل لا تترك الشك في مدى صحة تلك المعلومات، فهذه المعارضة قد قبلت بكافة شروط الدولة التركية، وعلى رأسها اتفاقية أضنة؛ والجميع يعرف بأنّ هذه الاتفاقية معادية للشعب الكردي ونضاله التحرري بالدرجة الأولى، فمعاداة بعض أطياف المعارضة للقضية الكردية هي بهدف نيل الرضى والدعم التركي.

الثورة والهوية

هنالك بعض الجهات والقوى التي تدعو إلى إعلاء الهوية السورية فوق كل الهويات الأخرى، وخاصة على حساب الهوية القومية للشعب الكردي، حيث تتحجّج هذه الأطراف بأنّه ليس الوقت وقتاً للقضية الكردية، وبأنّ المطالب القومية الكردية ستضرّ بالثورة السورية، وأنّ نجاح الثورة السورية مرتبط بتخلي الكرد عن مطالبهم ريثما تنتصر الثورة، وسيكون لكل حادثٍ حديث، وهذه تعبّر عن نظرة قوموية ضيقة، ولا تختلف عن منطق وعقلية البعث، فهو يعبر عن تقرّب شوفينيّ، ليس هنالك أيّ مبرر، ولا يمكننا إيجاد أيّ تبرير لإنكار حقوق القوميات تحت اسم الثورة، لكن العكس صحيح تماماً، فلكي تنتصر الثورة و تتكلّل بالنجاح والانتصار فيجب قبل أيّ شيء أن تكون ثورة عادلة، ثورة ديمقراطية. ففي أيّة ثورة لا مكان للحقوق والهوية الكردية، فهي ليست بثورة ديمقراطية ولا عادلة، وفي أيّة ثورة لا ترى للكرد الحق في الحرية، فإنّ مفهوم الحرية لهذه الثورة سيكون ناقصاً و مشوهاً، لذلك فإنّ هذه الشعارات والأصوات المنادية بضرورة تخلّي الكرد عن حقوقهم ليست سوى أصوات مخادعة تهدف إلى خداع الشعب الكردي، ونحنُ متأكدين بأنّ الشعب الكردي لن ينخدع بهذه الأصوات والنداءات ولن يتقبّلها أبداً.

الثورة والقضية الكرديّة

لقد وقفنا في وجه تطبيق المخططات التركية في المناطق الكردية، ومنعنا من التلاعب بالشارع الكردي، وجعله جنوداً لتحقيق مخططات المعارضة المرتمية في الحضن التركي، إن كان يعني ردعنا لأي كائنٍ كان بسفك الدم الكردي للوصول إلى السلطة، حينها نقول: – نعم سنمنع أيّ طرف وأيّ كائنٍ كان من التلاعب بالشارع الكردي، وسنقف لهم بالمرصاد، قد أفشلنا أهدافهم ومشاريعهم تلك، فنحنُ لن نسمح لأحد بوضع الشعب الكردي تحت خدمة مصالح طيف من المعارضة دون أن تكون له أية مطالب قومية، ودون أن ينادي بحقوقه، ودون أن يرفع رموزه، ودون أن تكون له أيّة إرادة أو دور في تعيين الأهداف التي سيتظاهر لأجلها، وتحت مسمّيات لا علاقة بالشعب الكردي بها، بل هنالك جهات تسعى إلى تحريك الشارع السوري والكردي بأصابع خفية كالدمى التي لا حول لها ولا قوة، حينها نقول: إنّنا لن نسمح بذلك، نعم، نحن لم ولن نسمح بتحريك الشعب الكردي تحت راية الآخرين و تحت شعاراتهم ومطالبهم.

أما بالنسبة إلى الذين يزعمون بأننا لم نسمح للشعب الكردي المشاركة في الثورة السورية، فهذه مزاعم وادّعاءات كاذبة، وليس لها أيّ نصيب من الحقيقة، لكنّ نظرتنا مختلفة عن نظرة أصحاب هذه المزاعم في النظر إلى الثورة. فمنذ انطلاق الثورة السورية، وحتى الآن فإن حركتنا هي الأكثر التي تظاهرت ونظّمت المسيرات والنشاطات الجماهيرية. إنّ شعبنا هو أكثر الشعوب التي ناضلت وسارت وتظاهرت، وما تزال لأجل الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والحياة الكريمة وخاصة جماهير حركتنا التي ناضلت طيلة هذه السنين، ولا تزال تناضل لأجل نيل الحقوق ورفض الظلم والقمع. فنحنُ نولي أهمية كبيرة جداً بضرورة مشاركة الكرد في الثورة الشعبية السورية بلوننا و خصوصياتنا وأصواتنا، مع التوازن بين المطالب العامة للشعب السوري والخاصة بالشعب الكردي، فنحنُ ك أكثر مشاركين في الثورة السورية بهويتنا وألواننا ومطالبنا، ومن الإجحاف غضّ النظر عن رؤية ذلك.

لم نكن ضد رفع العلم السوريّ، وليست لنا معه أية إشكالية، كما أنّنا نقبل بالهوية السورية كهويتنا الوطنية، فنحنُ سوريون، كما أنّنا جزء مهمّ من المجتمع السوريّ، فإن كان الشعب السوري متفقاً على هذا العلم، ويعتبره رمزاً من رموزه فإننا أيضاً سنحترمه، كما أنّنا نرفعه بين الحين والآخر، لكن عندما يفرضون علينا رفع العلم السوري، وعدم رفع الأعلام و الرموز الكردية، فهذا أمر آخر، وبحاجة إلى قراءة مغايرة، فنحنُ نرفع الأعلام السورية والكردية جنباً إلى جنب، لأنّنا شعب كردي، فإنّنا نرفع الأعلام الكردية بشكلٍ أكثف و أكثر، لكن ما لا نقبله هو اعتبار رفع الأعلام الكردية مضراً و خيانةً للثورة، فهذا ما نرفضه رفضاً قاطعاً، نرى مثل هذه المواقف خاطئة واستفزازية، ونستشف منها الأجندة الخارجية؛ وخاصة الأجندة والأيادي التركية، والمعارضة الشوفينية العروبية، لذلك فنحن ضد مثل هذه التقرّبات، ولن نرضخ لأيّة استفزازات من هذا القبيل، فنحنُ نريد أن نشارك كأكراد في الثورة الشعبية السورية برموزنا، وهويتنا وألواننا وخصوصياتنا، وليرفرف العلمان؛ السوري والكردي جنباً إلى جنب، فهذا لن يضعف سوريا، لا بل سيزيده قوة و تماسكا،ً وسيضمن نجاح الثورة.

الأحزاب الكردية ووحدة الصفّ

نرى تشتتاً في رؤى الأحزاب الكردية، وتوزّعاً لها على أطياف المعارضة، فإنّ هذا التشتت والتشرذم ليس بالأمر الإيجابي، وهو يؤثر سلباً على الشارع الكرديّ، وعلى ثقة الجماهير بالحركة السياسية. لذلك نجد الكثير من المستقلين متردّدين في المشاركة، أو عدم المشاركة في الحراك السياسي، كما أنّ هنالك شريحة كبيرة من الشعب لم تقرّر بعد المساهمة في الحراك بسبب تشرذم الحركة السياسية الكردية. صحيح أنّ توحد الأحزاب الكردية لا يعني توحّد الشعب الكردي، لكنّ تشرذم الأحزاب الكردية يؤثر سلباً على الشعب الكردي، و يعيق الوحدة الحقيقية للمجتمع. كما أنّ هذا التشرذم يفتح المجال أمام سعي أقطاب المعارضة، والقوى الخارجية إلى تمرير أجندتها على الشارع الكردي بكلّ سهولة.

السبب الرئيس كما قلنا في جوابنا السابق يعود إلى عدم الاستقلالية. حيث توجد ثقافة سياسية سلبية جداً في الحركة السياسية في شمال سوريا، وهي أنّهم لا يثقون بقواهم الذاتية، ولا يؤمنون بطاقاتهم، وقدراتهم الذاتية، وقد اعتادوا على أن يكونوا مرتبطين بجهة من الجهات دائماً. فالشعب الكردي يناهز ثلاث ملايين، وهم قوة كبيرة جداً، ويمكنها أن تتحوّل إلى أكبر قوة في سوريا عامة، إذا توحّدت حركته السياسية والاجتماعية والثقافية. وبإمكانها أن تكون القوة الأساسية، والمؤثرة على باقي الحركات السورية، وموجهة لها.

لكنّنا نرى أنّه هناك قلق لدى بعض الأحزاب الكردية التي تقول: “يجب علينا أن نحسّن علاقاتنا مع المعارضة الخارجية، فماذا سيحل بنا إذا جاءت واستلمت الحكم بعد سقوط هذا النظام؟ علينا أن نرضيهم لكي يعطوننا حقوقنا” إنّ هذه النفسية غير صحيحة، وخاطئة، ويجب التخلص منها مباشرة، لأنها لا تنفعنا في شيء. مع العلم أنّنا لسنا بحاجة إلى رضى أحد، فالعكس صحيح تماماً، لأنّ الجميع بحاجة إلينا، فإن توحّدنا جميعاً في برنامج سياسيّ واحد، فإن كافة الأطراف ستسارع إلى التواصل معنا، وحملنا على محمل الجدّ، وطلب دعمنا لهم، لذلك أعود و أكرر بأنّنا يجب أن نتخلص من نفسية “الصغر والضعف” وأن نؤمن فعلاً بأنّنا أصحاب قوة كبيرة ومؤثرة جداً، وبأنّ الجميع بحاجة إلى دعم هذه القوة لهم وليس العكس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى