الثورة والشرق الأوسطعواس علي

أزمة الدولة ما بعد الثورة

عوّاس علي 

عوّاس علي

عواس خليل
عواس علي

تمهيد

بداية لابد من التنويه: إنّ أكثر الدراسات السياسية والأبحاث تقدّم بطريقة منهجيّة, موجهة إلى أشخاص منهجيين, على الرغم من أنّ الدراسات والأبحاث السياسية يجب أن توجّه إلى الشعب الذي يصعب عليه أن يفقه العبارات الفلسفية المستنبطة من قواميس السياسة والفلسفة.

في هذا البحث حاولت الابتعاد عن المعاني والجمل المقولبة والتي يعجز عن فهمها الأكاديميون من خارج عوالم السياسة.

ربّما كان لمقولة “من السهل الاستيلاء على السلطة، ولكن من الصعب الحفاظ عليها “الكثير من الحقيقة التي تدفع عناصر السلطة إلى اتخاذ التدابير المناسبة للحفاظ عليها.”

أسهل تعريف للسلطة؛ السلطة: هي مجموعة الأشخاص التي تشغل وتتحكّم في مركز إصدار القرارات, الناهية أو الآمرة، بدءًا من أصغر خلية في الدولة إلى رأس الهرم فيها.

إنّ أصعب ما يواجه رجالات الدولة أو الإدارة؛ هو كيفية الحفاظ على هذه السلطة, فيندفع هؤلاء للبحث عن السبل للحفاظ عليها, إما بإرضاء الشعب أو باللجوء إلى القوة المبطّنة.

 

الحفاظ على السلطة

إنّ الحفاظ على السلطة قد يأتي من مسربين لا ثالث لهما: أوّل هذين المسربين:

1-   الحفاظ على السلطة بطريقة شرعية أو قانونية, والشرعية دائماً تأتي من إرضاء الشعب الذي يشكّل ركناً أساسيّاً من أركان الدولة, قبوله بسلطة هذه الإدارة، وتمسّكه بها من خلال تحقيقها لمصالح الشعب على مستوى الأفراد, بغضّ النظر عن نوع النظام الذي تحكم به هذه السلطة, ففي نهاية الأمر لا يهمّ الشعب نوع الحكم بالقدر الذي تحقّق مصالحه, فالشعب الكويتي لا يهمّه نوع النظام أو الحكم طالما يحصل على جميع متطلباته, باستثناء الطامحين بالسلطة, وهذه حقيقة يجب عدم إنكارها, وكذلك الشعب الكوبي الذي يعاني من الجوع لا تهمّه الفلسفة الماركسية بالقدر الذي أصبحت عبئاً عليه.

2-   الحفاظ على السلطة عن طريق العنف, وهو ما يدعى بالدكتاتورية, وغالبا ما تلجأ اليه السلطة الفاقدة شرعيتها من قبل الشعب, وتفقد السلطة شرعيتها عندما تعجز عن تلبية متطلبات الشعب, بدء من حرية التعبير إلى الخبز, دائماً وأبداً حرية التعبير والرأي تتمحور حول ما يحقّق مصالح الشعب, فالمطالبون بحرية تعاطي المخدرات لا يمكن أن يحقّقوا مصالح الشعب, من حيث أنّ جميع مصالح الشعب تصبّ فيما هو نافع للشعب.

 

ظهور السلطة

إذا كان الشعب والإقليم ركناً من أركان الدولة, فكذلك القانون الدولي اعتبر السلطة ركناً من الاركان  التي تقوم عليه الدولة.

كان أوّل ظهور للسلطة, في مظهرها السياسي ظهورها في رحم الدولة، وتطوّرت فيما ظهرت عليه وفق مظاهرها التي لازالت تحافظ عليه مع ظهور الدولة القومية في أوروبا.

اختلف فقهاء القانون الدولي العام والباحثين حول أصول نشأة السلطة، فمنهم من ذهب إلى أنّ أصل نشوء السلطة هو الإله, إذ ليس للإنسان أيّ دور في نشأتها، بل الدور يعود إلى قدرات الإله, فهو مَن أمر أفراد معينين بتسلطهم على باقي الأفراد, ومنها ظهرت الدولة.

وبعضهم ذهب إلى أنّ القوى هي أصل نشأة السلطة, وذلك عن طريق ظهور بعض الأشخاص الأقوياء كالفرسان, والمحاربين الذين يمتازون بالقوى, والشجاعة, فاستولوا على زمام الأمور في الجماعة بقوّتهم وخبرتهم.

وهناك مَن أرجع أصول نشأة السلطة إلى طبيعة الإنسان, فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي, ولا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين, ولا بدّ له مِن حاجته إلى العيش الجماعي, وفق نظرية القطيع, فتمّ اختيار بعض الأفراد الشجعان لتولّي مهمّة السلطة والقيادة, ومنها تمّ ظهور السلطة في القيادة فالدولة.

وهناك نظرية العقد الاجتماعي: التي وضع اسمها هوبز، وصاغها جان جاك روسو, والتي قيل عنها إنّها نظرية شرعنة السلطة المطلقة التي قادها لويس الرابع عشر في فرنسا.

والمتمعّن في هذه النظريات الأربع ربما يجد نظرية القوى هي الأقرب إلى المنطق والواقع العلمي, ولكننا لا نستطيع أن نعزل هذه النظريات عن بعضها البعض, فالنظرية الطبيعية هي أولى النظريات التي انبثقت عنها  السلطة فالدولة, إذ أنّ طبيعة الإنسان, هي أولى الظروف الملائمة التي تمخّضت عنها نظرية القطيع والعيش الجماعي في درء الخطر, وتحقيق المكاسب.

نظرية القوى هي الأخرى, النظرية التي ساهمت في ظهور السلطة، فلولا الطبيعة الاجتماعية للإنسان لما كان هناك ما ندعوه بالسلطة على الجماعة التي نشأت استناداً إلى الطبيعة الفيزيولوجية المتفاوتة للإنسان من حيث إمكانياته القوى المتباينة بين شخص وآخر.

 

النظرية الإلهية

إذاً حسب الواقع لا نستطيع أن نعزل تلك النظريات عن بعضها البعض، ويعتبر بعضها مكمّلاً البعض, وعلى رأسها  النظرية الإلهية التي ترسو تحت جناحَي نظرية القوى, فمهما كانت هذه النظرية بعيدة عن تلك النظريات نجدها في حقيقتها تقوم على النظرية الاجتماعية والقوى المعنوية (الفكرية). فإنّ تطوّر الفكر والوعي بين البشر الذين راحوا يبحثون عن أصل الطبيعة, للوقف في وجه مخاطرها, دفعهم إلى البحث عن القوى والتمسك بها، والانصياع لها، بدءًا من الشمس والنار فالأصنام التي ظهرت لدى الجماعات كانت رمزا للقوى، أرادوا وقبل أن يُحكموا  من قبل تلك الاصنام تيمّناً بقوتها وجبروتها، فاعتبرت رمزاً للقوة, وسرعان ما تحولت تلك الأصنام إلى آلهة يستمدون القوى منها, وكان لتلك آلهة أشخاص محدودين, وحدهم يحق لهم أن يستمدّوا القوى منها, متمثلين في الفرسان, فأصبح هؤلاء الفرسان وكلاء عن تلك الآلهة, وتحولوا إلى أنصاف آلهة يستحوذون على السلطة و يحكمون باسمها.

الشيء الغامض حتى اليوم, أن كان هؤلاء الذين كانوا يحكمون باسم الآلهة هم على دراية بحقيقة تلك الآلهة؟ على الأغلب كانوا على دراية بحقيقة تلك الآلهة، لكنهم أرادوا أن يتخذوها ذريعة لحكمهم, واستمداد قوتهم منها, أمام الشعب لشرعنة حكمهم, وخير مثال على ذلك ما قاله هامان لفرعون (على هامان يا فرعون) وربما من المفيد سرد تلك القصة التي تتحدث عن فلاحٍ من الغيط جاء بذيل ثوره الذي بُتر وهو يحاول أن يستنهض ثوره الموحل, فجاء بذيل الثور وطلب من هامان أن يخبر الفرعون بطلبه بإعادة ذيل الثور للثور, فأخبر هامان الفلاح  بأنّ اليوم غير مخصص للذيول, وبعد أن انصرف الفلاح دخل هامان على الفرعون ضاحكاً وأخبره بطلب الفلاح, فقال له الفرعون: لماذا لم تدخله لأعيد له ذيل ثوره, فضحك هامان وقال مقولته (على هامان يا فرعون) أي أنّ معظم هؤلاء كانوا على دراية بحقيقة ذريعة ألوهيتهم وأصنامهم.

أي أنّ قوّتهم الجسدية كمحاربين أشداء تمخضّت عنها نظرية القوى الإلهية, لاستمداد الشرعية من تلك الآلهة لمباركة قوّتهم, وربما خيرُ مثال على ذلك نظرية القوى عند قطيع الحيوانات, فالقطيع يقوده الحيوان الأقوى بين القطيع ويتربّع على رأس السلطة, ولا ننسى القوى المادية في العصر الحديث “الثروة” التي تخوّل أصحابها بالاستيلاء على السلطة, وخير مثال على ذلك؛ رئيس الولايات المتحدة الأميركية “ترامب” فالكل يعلم بأنّ الذي شرّع  لتولي ترامب السلطة, ليس خبرته السياسية ولا علمه, ولا حنكته, فما دفع به إلى السلطة هو ثراؤه الفاحش.

ثم تأتي نظرية العقد الاجتماعي التي واكبت ظهور الوعي, والفكر الحر لدى الإنسان, مرتكزة على نظرية القوى, فلو تمعّنّا في التاريخ نجد أنّ معظم الأباطرة والملوك تربّعوا على رأس السلطة بالقِوى المباركة من الآلهة, وبعد ازدياد الوعي لدى الإنسان وظهور بعض المفكّرين الطامحين بالحريات الفردية, راحَ هؤلاء السلطويون يبحثون عن مصوغ قانوني يُشرعن لهم تربّعهم فوق عرش السلطة, في مواجهة الطامحين في الحريات الفردية, والعامة, وحرية الرأي ضمن تحقيق المصلحة العامة للشعب.

 

مناهضة السلطة

ظهر الصراع بين  الفكر الذي يمثّل مصالح الشعب ويدعو إلى المصلحة العامة، والفكر الذي يتمسّك بالسلطة الفردية, وربّما أقدم تلك الأفكار المناهضة للسلطة الفريدة على الإطلاق ظهرت في بلاد سومر, الثورة القانونية “ثورة أوركاجينا” 2400 ق. م،  ثمّ أفكار الفقيه والمشرّع اليوناني في أثينا 600 ق. م, إلى جانب هؤلاء المفكرين ظهر مفكّرون موالون للسلطة قاموا بوضع قوانين تخدم الشرعية لسلطة الشمولية المطلقة.

ظهرت هذه القوانين المشرعنة للسلطة الشمولية من بين الطبقة المستفيدة من السلطة, من بين الكهنة ورجال الدين والعلماء المقربين من السلطة, على رأسهم “هوبز” و”جان جاك روسو” في نظرية العقد الاجتماعي, التي بموجبها تم شرعنت السلطة الفردية المطلقة، وكذلك “ماركس ” في دكتاتورية البروليتاريا المتمثلة في دكتاتورية الدولة ورأسماليتها.

وخير مثال لهؤلاء في عصرنا الحالي هم الإعلاميون، ومن لفّ لفيفهم الذين يسوّقون للدكتاتوريات الفردية، والأحزاب السياسية الشمولية.

إنّ معظم النظريات السابقة تحدثت عن ظهور الدولة الأم والسلطة الأم “الدولة الكلاسيكية” لكن هناك نوع آخر من الدول, والسلطات اللاحقة للدولة الأم, ظهرت وانبثقت ضمن النظريات التي تحدّثنا عنها، منها الدولة التي حصلت على استقلالها من دولة أخرى, باستخدام القوى ما يدعى بالكفاح المسلح في بدايات القرن العشرين كفيتنام والهند…إلخ.

وكذلك الدول المنفصلة عن الدولة الأم بعد تفكّكها وانهيارها, كدويلات الاتحاد السوفيتي التي نالت استقلالها بانفصالها عن الدولة الأم, وكذلك الدول الاتحادية التي تشكّلت من اتّحاد عدد من الدول كالإمارات المتحدة.

 

الدولة والسلطة

والسؤال: مَن الأسبق بالظهور؟ الدولة أم السلطة, فحقيقة الجواب على هذا السؤال يتطلب الرجوع إلى تاريخ تطور البشرية, ولا نحتاج إلى العناء حتى نتوصل إلى حقيقة مفادها بأنّ السلطة سبقت ظهور الدولة، فظهور السلطة ظهر مع بداية ظهور المجموعات البشرية التي اعتمدت على الصيد.

سنتفرّد بدراسة السلطة, كمجموعة من الأشخاص, وكيف تظهر هذه المجموعة, وتتحكم بهذه السلطة.

بعضها ظهر من خلال طموح بعض الأشخاص في تشكيل الدولة, وهذا الطموح يرتكز على وجود فراغ سلطوي في زمان ومكان تتوفّر فيه مقومات الدولة, وعلى الأغلب يظهر في أقاليم وجدت من خلال تفكّك بعض الدول والإمبراطوريات, كالإمبراطورية العثمانية, وبعضها جاء من خلال بعض الشعوب المستعمرة من قبل دول تمتلك القوى التي تخولها باستعمار شعوب ضعيفة, كالفيتنام والهند وأنغولا, وبداية تشكيل الدولة مهما كانت ظروف ظهورها, يقوم على توفر أركانها (الشعب ـ الإقليم ـ السلطة) وما يدعى بأطراف الحوكمة في الدولة.

       الشعب: لا بدّ من وجوده كجذر تتفرّع عنه الأركان الأخرى, وهو الإقليم والسلطة.

       الاقليم: هو المساحة التي يعيش فيها الشعب، وتحدّدها السيطرة التي يفرضها هذا الشعب على هذه  البقعة من الأرض، وما ندعوه بالسيادة لاحقاً.

سندرس نوعين من هذه الدول وسلطاتها, أوّلها؛ سلطة الدولة المتشكّلة نتيجة وجود فراغ سلطوي. وثانيها, سلطة الدولة التي تشكلت نتيجة انتزاع استقلالها بالكفاح المسلّح، أي؛ بالقوى.

بعض الشعوب أو الأمم وجدت نفسها تعيش في فراغ سلطويّ, كالدول المستعمرة من قبل بعض الإمبراطوريات المنهارة, بعد انهيار تلك الإمبراطوريات وجدت نفسها تعيش في فراغ سلطوي, فكيف يتمّ تشكيل تلك السلطة, ربما الطريقة المثلى؛ تقوم بداية على إيجاد النهج الأمثل الذي يجب أن تسير عليه السلطة, واختيار النهج هو اختيار تحديد القوانين التي تحكم هذا النهج, والمتمثّل في الدستور؛ الدستور الذي تتفرّع عنه جميع القوانين والمبادئ التي تحدّد كيفية الطريقة التي تحكم بها السلطة، وتحدّد نوع النظام الذي تحكم وفقه السلطة.

 

كيفية صياغة الدستور

هناك عدة طرق لصياغة الدستور وذلك وفق  الدولة الناشئة.

طريقة انتخاب لجنة لصياغة الدستور: يتمّ انتخاب الشعب لجنة دستورية من بين أشخاص مرشّحين لهذه المهمة تحت إشراف لجنة مهمّتها الإشراف على انتخابات اللجنة الدستوريّة، وتحديد عدد أعضاء اللجنة مسبقاً من قبل لجنة الإشراف, ويتم اختيار الأعضاء من بين المرشّحين الحاصلين على أكبر عدد من الأصوات, وبعد تعيين الأعضاء الفائزين في الانتخاب تباشر اللجنة عملها في صياغة الدستور, ويتمّ التعامل مع المواد التي تمّت صياغتها من قبل اللجنة على أنّها مسودة, حسب ما ترتئيه اللجنة المنتخبة, فتقوم بطرح مسودة الدستور للاستفتاء العام، وبعدها تتحوّل المسودة الدستورية إلى دستور تباشر اللجنة عملها حسب المواد الواردة في متنه, أو تقوم اللجنة بصياغة المواد الدستورية، وتتجاوز موضوع المسودة، وتباشر عملها مباشرة وفق المواد الواردة في متنه.

فتتابع عملها بالإشراف على المرشّحين لعضوية البرلمان, حسب عدد المقاعد التي حدّدها الدستور, وذلك حسب الدوائر الانتخابية, ويمكن أن يرد عدد الدوائر الانتخابية في متن الدستور أو التعليمات اللاحقة للدستور, يمكن اعتبار الدولة دائرة انتخابية واحدة, وبالتالي يتمّ التصويت من قبل جميع المواطنين على المرشحين، ويتمّ اختيار الأعضاء من بين الحاصلين على أعلى الأصوات, أو تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية يتم تحديد عدد المقاعد لكلّ دائرة انتخابية، على الاغلب حسب عدد سكان كلّ دائرة, ويتمّ التصويت على المرشحين المتنافسين على مقاعد الدائرة من قبل المواطنين المقيمين ضمن الدائرة الانتخابية, ولا يحقّ للمواطن المقيم في دائرة انتخابية الإدلاء بصوته في دائرة أخرى.

 

طريقة تعيين لجنة لصياغة الدستور

غالباً ما تستخدم هذه الطريقة في الدول التي تحصل على استقلالها عن طريق الكفاح المسلح, ويتمّ اختيار أشخاص مختصّين من قبل قادة الثورة تدعى؛ “لجنة صياغة الدستور” وتكمن سلبية هذه الطريقة في وقوع اللجنة التي يتمّ اختيارها تحت تأثير قادة الثورة, وحققوا النصر “القوى العسكرية” بعد اختيار اللجنة تقوم اللجنة المختارة بصياغة الدستور، وعلى الأغلب يتمّ عرضه على قادة الثورة الذين كانوا قد رسموا مسبقاً الخطوط العريضة للدستور وفق ما يتلاءم والأيديولوجية التي اختاروها مسبقاً للثورة المسلّحة التي قادوها, غالباً تتمّ قيادة الثورة المسلحة, تحت رعاية حزب, مؤدلج, وتنتهي مهمة اللجنة بعد صياغة الدستور مباشرة, وتنحلّ تلقائياً من ذاتها.

وتأتي الخطوة الثانية بعد أن تنتهي اللجنة الدستورية من صياغة الدستور، وعرضه على القادة يتم القيام بإجراءات تشكيل السلطات وفق ما يحدّده الدستور، وعلى الأغلب يتم اختيار أعضاء هذه السلطات من عناصر لعبت دوراً في الثورة تحت راية حزب معين, أو حركة, وأغلبهم من العسكريين الذين يرفضون التنازل عن السلطة، ويودّون قيادة الدولة وفق أيديولوجيتهم, وهنا لابدّ من أن نذكر أنّ القادة العسكريين لا يلبثون أن يتحوّلوا إلى دكتاتورين, ومن الصعب أن ينهج هذه النوع من السلطات نهج الدولة القانونية, وإن كانت تتظاهر بذلك من خلال المسميات التي تطلقها على أنظمتها ونهجها, وغالباً ما ينتهي بها المطاف إلى سلطة دكتاتورية شمولية كما ظهر في الاتحاد السوفيتي وكوبا وكوريا والصين تحت راية الأحزاب الشيوعية.

وفي كافة الأحوال لا يحق لأعضاء اللجنة الدستورية ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان, أقلّها للدورة التي تلي صياغة الدستور.

النوع الثاني: السلطة التي تنبثق من جراء وجود فراغ سلطوي بعد انهيار الدول المستعمرة، أو تفكك بعض الدول المركّبة.

يظهر هذا النوع من السلطة عادة من بين الشخصيات التي كانت تحتلّ مراكز مرموقة لدى الدول المستعمرة, فيحيطون أنفسهم بهالة عسكرية من المقرّبين لهم من قبيلتهم, كشيوخ العشائر في دول الخليج العربي, أو القادة العسكريين في المغرب العربي أو القادة العسكرين في الدول الناشئة عن انهيار الاتحاد السوفيتي, كرئيس روسيا.

وأكثر هذه السلطات تتّخذ لذاتها دستوراً يتوافق مع مصالحها الذاتية والقبلية, دساتيرَ منهجية دينية جاهزة, يتم صياغة هذه الدساتير من قبل شخصيات دينية مقرّبة للقوى المستولية على السلطة, كالدول التي ظهرت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو القادة العسكريين في الدول الناشئة عن انهيار الاتحاد السوفيتي، وغالباً ما يصيغ هؤلاء القادة لذاتهم دساتير عسكرية تسمح لها بالهيمنة على السلطة.

أكثر هذه الدول نهجت نهج الشيوعية أو الملكية واختارت أنظمة تتوافق مع مطامحها السياسية.

فالنهج الشيوعي؛ الذي استبدل دكتاتورية الشخصيات السلطوية الحاكمة, بدكتاتورية الدولة, التي أثبتت التجارب بتحول سلطتها إلى سلطة شمولية, لا تقل ظلماً واضطهاداً عن الدكتاتوريات السلطوية الفردية, وكذلك الأنظمة الملكية لا تقلّ شمولية عن الأحزاب المؤدلجة, وإن كانت بعض هذه الأنظمة مازالت تحافظ على سلطتها عن طريق إرضاء شعوبها بالإغداق عليها بما جادت عليهم الطبيعة من ثروات, لكنّ الحقيقة تبقى شاسعة بين أفراد السلطة الملكية وعامّة الشعب, وهؤلاء لا يتوانون عن إكرام القوات العسكرية التي يحمون بها سلطتهم. ففي نهاية المطاف تعرّضت, وستتعرض هذه الأنظمة السلطوية لفشل ذريع، وعلى الأغلب يمكن فشلها في محورين ضعيفين, أبقيا على هشاشة السلطة في القاعدة، وابتعاد الشعب عنها.

 

الشمولية

1 ـ الشمولية الفكرية

 2 ـ الشمولية السلطوية

الشمولية الفكرية: تكمن الشمولية في بدايتها في الأحزاب التي يتمّ تشكيلها تحت نهج أيديولوجيات ضيقة كالأيديولوجيات الدينية, أو الطبقية التي تفرض على المجتمع أن يتطبّع بطبعها الأيديولوجي, فالأيديولوجيات التي لا تقبل الآخر الذي لا يتطبّع بنهجها, وتضييق الخناق على المجتمع، وربّما إن تابعنا المجازر التي تمخّضت عن الأنظمة الشيوعية وخير مثال, “كيمل سونغ”  قائد ثورة كوريا، وستالين وكذلك الأيديولوجيات الإسلاميّة، وما تمخّض عنها من مذابح ومجازر, وإنكارها حقّ الغير الذي لا يتوافق مع أيديولوجياتها, وغالباً هذه الأحزاب تضيّق الخناق على الحريات الشخصية, والحريات العامة للشعب, وتتمنهج بمقولة (الشعب هو الأفراد الذين يؤمنون بأيديولوجيتنا) وكل مَن لا يؤمن بأيديولوجيتنا لا يعتبر من الشعب.

تحاول هذه الأحزاب أن تجعل من أفراد المجتمع نسخاً متشابهة ذوي فكر واحد وعقيدة واحدة، ويتحوّل قادة هذه الثورات إلى آلهة مصغرة على الأرض, ويتمّ صناعة مظهر واحد لجميع الشعب, ويصبح من واجب الشعب النظر عبر منظار السلطة, والتفكير وفق منهاج السلطة, وتبادر هذه السلطة إلى تشكيل جيش تحت قيادة عسكريين مقرّبين للسلطة يأتمرون بأوامرها, تحت مسمّى حماية الوطن, وفي الحقيقة هذا الجيش همّه الوحيد هو حماية السلطة، وما يلبث أن يتحول هذا الجيش من جيش وطنيّ إلى جيش عقائدي يدافع عن السلطة وعقائدها, وخير مثال على ذلك الجيش السوري.

 

ركائز السلطة الشمولية

أوّلاً ـ الفكر الشمولي الأوحد: يتمحور في إيجاد السبل التي ترسّخ دكتاتورية السلطة وشموليتها من خلال:

1ـ إيجاد نظام فكري شامل يبدأ من أدنى مراحل الدراسة، وينتقل إلى أعلى المستويات, وبموجب هذا الفكر يتمّ خلق نسخ متشابهة من المجتمع، وأغلبها ضمن إدارة الحزب الواحد والأيديولوجية الواحدة.

2ـ إيجاد أشخاص مستفيدين من الفكر الشمولي يقومون بخلق أرضية لهذا الفكر, ويتبلور في الإعلام والصحافة والكُتاب, وليس بالغريب تسمية هذه الفئة بالسلطة الرابعة, ومهمة هذا الفئة هي رسم نهج تفكيريّ أوحد لأفراد المجتمع, بدءاً من الأطفال والشباب, ومهمّته الأساسية فتح المنافذ على كلّ ما هو إيجابي وإغلاق المنافذ على كلّ ما هو سلبي تقوم به السلطة.

3ـ إيجاد عدوّ مفترض للثورة ومنطلقاتها يتمحور حول تهديد الوطن في شخصية السلطة, وشحن جميع طاقات المجتمع وقدراته في مواجهة هذا العدو المفترض, وسنّ قوانين تحكم على كلّ من يعارض هذه السلطة بالعمالة لصالح العدو المفترض.

4ـ إيجاد رقابة فكرية على أفراد المجتمع حول كلّ ما هو معارض لفكر السلطة, وغالباً ما يتمّ عن طريق تشكيل أعداد متنوعة من الفروع الأمنية يترأسها أفراد من الأشخاص المقربين للسلطة, و يتم تشكيلها تحت بند حماية المواطن والوطن واتباع أسلوب التخوين وخدمة عدو الوطن، وينتهي المطاف بكل من يحمل فكر معارض للسلطة إلى السجن أو التصفية.

ثانياًـ الشمولية السلطوية: وتتمحور حول الاستيلاء على جميع مؤسسات الدولة من قبل أفراد الثورة وقيادتها وفق نهج الفكر الشمولي, وأكثر الأحيان تكون قيادة هذه المؤسسات قيادات حزبية, أو عسكرية تمّ تعينها من قبل القيادات الحزبية الأعلى, وتبدأ من الإدارات الثلاثة أو السلطات الثلاثة: (التنفيذية والتشريعية والقضائية).

1-   السلطة التنفيذية: وتلتزم بجميع القوانين التي تمّت صياغتها في الدستور بموجب الفكر الشمولي, وغالباً تسعى هذه السلطة إلى إرضاء رأس الهرم الذي يتربّع على السلطة, وغالبا أفراد هذه السلطة من النوع غير المختص “تكنوقراط” لسهولة التحكّم بقراراتهم من قبل رأس الهرم, وتكون هذه السلطة بداية ظهور الفساد السلطوي, كونها محصّنة من رأس الهرم.

2-   السلطة التشريعية: ويتمّ اختيار أعضائها من قبل الشعب وفق قوائم تحتوي على عدد من أعضاء الحزب الواحد, وأعضاء يتم اختيارهم من قبل الموالين للسلطة تحت مسمّى “المستغلين” كما شاهدنا في سوريا, تبيّن لاحقاً أنّ أكثر الأعضاء الذين تمّ ترشيحهم لمجلس الشعب تحت مسمّى مرشّحين مستغلين, هم من الأشخاص الحزبية المبطّنة الموالية للسلطة, وهؤلاء الأعضاء ملزمون بسنّ القوانين التي تتوافق مع رأس الهرم، أو وفق مبادئ الحزب الواحد.

3-   السلطة القضائية: يترأسها رأس الهرم، ويتمّ تعيين أعضائها من القضاة الموالين، والمطبّعين بفكر الحزب الواحد, ويخضع هؤلاء الأعضاء لرقابة صارمة من قبل رؤساء الفروع الأمنية, وحتى قراراتهم تخضع للرقابة. وهنا لابدّ من التنويه إلى دور الفرد في تلك السلطة, والذي تحوّل لاحقاً إلى مجموعات “شركات”.

كما أنّ الفرد القائد, أو مجموعة من القادة, يلعبون دورهم في وضع الخطوط العريضة للثورة، أو الكفاح المسلّح للتحرير, كذلك يلعبون دورهم في وضع الخطوط العريضة للدستور الذي تنهج الدولة على نهجه, فمنهم من يسعى إلى تحقيق مصالح خاصة ترتبط ارتباطاً مباشراً بمصالحه الخاصة, وتحقيق  مكاسب تاريخية, وبطولية لشخصيته, وعلى الأغلب البطولات العائلية، والأمثلة كثيرة على ذلك, فمعظم القادة في الشرق سعَوا إلى تحقيق مصالحهم الشخصية, من خلال تولّيهم السلطة, وعكس الآخر الذي سعى إلى تحقيق مصالح أمّته أو قومتيه, فهتلر الذي كان يطمح إلى تحقيق مستقبل زاهر للأمّة الألمانية على مدى طويل, والحروب التي خاضها ربما كان لا يهدف إلى تحقيق مصالحه الشخصية, وإن كان تاريخه يُشير إلى تحقيق مكاسب تاريخية بطولية لشخصية العريف, وكذلك “هوشمين وجهاب” في حركة التحرر الفيتنامية, حيث تنازل العسكر للمؤسسات المدنية في إدارة الدولة, بدون أي إكراه, فالقادة العسكرين فضّلوا مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية, ومنهم كذلك الشيخ زايد الذي امتاز بكرمه لأفراد قبيلته, وانعكس ذلك على ازدهار دويلته على مستوى العالم, وإن كان النظام السياسي المتّبع هو نظام سياسي ملكي, أو أميري قبلي, على عكس ما نراه في إقليم كردستان وعائلة البرزاني التي حوّلت كلّ الثروات في الإقليم إلى استثمارات وأرباح ورؤوس أموال شخصية لأفراد القبيلة, وفتح شركات استثمارية خاصة تعود ملكيتها لأفراد القبيلة, فالشعارات والأسماء التي تطلقها على نفسها الدول, غالباً ما تتناقض مع الواقع, فالدول التي تسمّي نظامها باعته الأسماء الديمقراطية والحرية, لا تعرف من الديمقراطية سوى الاسم فقط، وقد يتّخذ من اسم الديمقراطية ستاراً تستباح خلفه الحريات العامة والخاصة والديمقراطية.

وإلى جانب الشخصيات المذكور أعلاه, هناك شخصيات تسعى إلى تحقيق مصالح البشرية, وتقدّمها على مصلحتها الشخصية, وترفض كلّ أنواع السلطة الفردية وهؤلاء يتحوّلون إلى شخصيات ثورية متصوّفة تنكر ذاتها من أجل ذات البشرية كلّها, ومنهم “كيفارا” على عكس الشخصيات الأخرى التي تنتهز فرصة الاستيلاء على السلطة لتحقيق مصالحها الفردية, وجمع ثروات هائلة لأسرها والتنازل عن كلّ ما هو وطني و يخدم الشعب, تبيع الأخضر واليابس في سبيل تحقيق مصالحها الخاصة.

وما لاشكّ أنّ الأخلاق الفردية الموروثة من المجتمع تلعب دوراً مهمّاً في ذلك, ومقولة: “الشعب الذي تسوده الأخلاق لا تحكمه الدكتاتورية” لها دورها ونصيبها, إذ أنّ الأفراد الذين يظهرون من بين الشعب ويستولون على السلطة، هم من بين أفراد المجتمع, يحملون ثقافة هذا المجتمع بكلّ معانيه وقيمه” الثقافة الاجتماعيّة: أسلوب التفكير والتعامل مع الآخرين” وهم منبثقون من بينه, إذ أنّ كلّ فرد يخضع إلى رقابة المجتمع وفق القيم والأخلاق التي تعتبر من ثقافة المجتمع (الانثربولوجيا) فهذه الثقافة تعتبر رقابة اجتماعية على الفرد، وهي العين التي ترقب تصرفاته وحركاته، وبعض الفلاسفة اعتبرها سلطة ملزمة للفرد يخضع لرقابتها الدائمة، وكلّ من يخرج عنها يعتبر شاذّاً ومعرّضاً للنبذ من قبل المجتمع, فالشاذّون عن المجتمع ليس لديهم القدرة على حكم شعب خلوق مهما كان دكتاتوراً, وعادة لا تسود الأخلاق إلّا في المجتمعات التي تمتلك الوعي والفكر ما يكفي لقبولها بالأخلاق بدل القانون الذي يتعارض مع الأخلاق اجتماعيّاً من حيث الالتزام الطوعي والالتزام الجبري, وربما الأخلاق وحدها لا تأتي إلّا من وعي وفكر متطوّر, إذ أنّ الوعي العلمي وحده لا يكفي، فكثير من العلماء الذين لا يمتلكون الأخلاق قد يدمّرون المجتمع بعلمهم إذا كانوا يفتقدون للأخلاق, لذلك تأتي الأخلاق قبل العلم والمعرفة والوعي, إذْ أنّ العلم بدون أخلاق يعتبر وحشية، كما هي الحرية بدون وعي تعتبر حالة فوضوية, ولا نخطئ إذا قلنا كما هم الأفراد بفرديتهم الدكتاتورية السلطوية, هناك مجموعات من البشر على شاكلتهم تمتاز هذه المجموعات بدكتاتورية وسلطوية, وأكثرها من الشركات خاصة، ففي العصر الحالي الذي تحوّلت فيه الدول إلى دول تسير في ظل الشركات العملاقة, وكلّ ما يدار من حروب هو بأوامر وقرارات من الشركات العملاقة التي تبحث عن مواد أوّلية، وأسواق لتصريف منتجاتها كما هو الحال مع روسيا التي تحارب بعناصر يعود تمويلها إلى شركات عملاقة.

 

أزمة الدولة الحديثة

الأزمة الخارجية: إنّ معظم الدول التي تنشأ حديثاً تتعرّض لضغوط خارجية من قبل أقطاب العالم, المتمثل بالدول العظمى “روسيا وأميركا” فكلّنا يعلم أنّ العالم منقسم إلى معسكرين؛ غربي وشرقي, الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, والشرقي بقيادة روسيا؛ وريثة الاتحاد السوفيتي, والدولتان العظيمتان لا تقبلان بظهور دولة ثالثة مطلقاً, حتى من بين الدول التي تعتبر دولاً حليفة لأحد هاتين الدولتين, ولا تتوانى هاتان الدولتان عن تدمير كلّ دولة تفكر بأن تصبح قوّة تجارية عظمى تنافس إحدى هاتين الدولتين, وخير ما نراه هو الصراع الدائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران, وكذلك الصين, وكوريا, وتركيا, وهاتان الدولتان لا ترغبان في ظهور أيّة دولة أو قوى جديدة في العالم, لذلك كلّ دولة أو دويلة ترغب في التكوين, أو الظهور فإنّها تتعرّض لضغوط من أحد القطبين وحلفائه, على الأغلب تظهر الدول الجديدة على إثر الصراعات الدولية, لكنّ هذه الدول الحديثة تبقى معرّضة لصراع الدول العظمى المتمثلة في احتساب المكاسب والخسائر المتوقعة على إثر ظهور الدولة الجديدة, وكلّ طرف من الدولتين العظميين ترجّح كفّة الأرباح والخسائر, وخير مثال على ذلك ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في التنازل عن جزء من الأراضي التي تقع تحت سيطرة “قسد” حليفتها التي تعتبرها حليفاً استراتيجيّاً بحربها ضد داعش, لصالح تركيا, بعد احتساب الأرباح والخسائر, وكذلك تنازل روسيا عن عفرين لصالح تركيا بعد ترجيح كفّة الأرباح التي ستجنيها من تركيا, والكلّ يعلم أنّ هاتَين الدولتَين لا تخوضان الحرب المباشرة وجهاً لوجه, بل تلجآن إلى الحرب بالوكالة, لذلك كلّ دولة أو كيان يظهر للعالم الجديد معرّض للضغط من قبل أحد هاتين الدولتين أو الاثنين معاً, وغالباً ما تتعرض هذه الدويلات أو الكيانات للحرب بالوكالة من قبل هاتين الدولتين, وربما تتّفق هاتان الدولتان حول ظهور كيان جديد مقابل الحدّ من ازدياد قوى بعض الدول التي تتمادى في قوّتها.

وهنا نرى أن ظهور الدولة الجديدة يقف على توافق مصالح هاتَين الدولتين العظميين, ولابدّ من ذكر مقولة الرئيس الأمريكي في أحد خطاباته: “لسنا بحاجة إلى ظهور قوى جديدة تصبح عائقاً في طريقنا”.

إذاً لابد للدولة الجديدة من تجاوز محنة الضغط الخارجي من هاتين الدولتين.

 

الأزمة الداخلية: إنّ صعوبة التحول من نظام حكم العسكر إلى نظام الحكم المدني أكبر صعوبة تواجه الدولة الجديدة الناشئة عن طريق الثورات سواء منها حركات التحرر أو الانقلابات, أو الصراعات الدولية أنّ معظم الدول الحديثة تنشأ عن طريق تحرّكات عسكريّة تستفيد من الصراعات الدولية أو الداخلية كما في الدول الناشئة عن انهيار الاتحاد السوفيتي, فهذه الدولة تجد صعوبة التحول من دولة يقودها العسكر إلى دولة تقودها المؤسسات المدنية, وتكمن تلك الصعوبة في العقلية العسكرية للعسكر الذي يرى في نفسه المؤسّس والمحرّر للدولة، ويجد في نفسه المضحّي وصاحب الحق في قيادة الدولة ورعايتها وبالتالي يعاني من صعوبة التنازل عن سلطته العسكرية للمؤسسات المدنية, فتنتهج الدولة الجديدة ما تمّ ذكره سابقاً في تحوّل الدولة الى دولة دكتاتورية شمولية, وقد تحتاج المؤسسات المدنية متمثلة بالشعب إلى ثورة, ضدّ العسكر لانتزاع السلطة واخضاعها للمؤسسات المدنية, وإن كان بعض القوى العسكرية تنازلت طوعاً للمؤسسات المدنية كما تمّ ذكره في التجربة الفيتنامية.

 

الضغوط الاقتصادية

سرعان ما تجد الدولة الحديثة نفسها أمام صراع اقتصاديّ, وتعاني من صعوبة تأمين متطلبات الشعب, بدءاً من الغذاء، وانتهاء بالأمن المجتمعيّ.

غالباً ما تقوم الدولة الجديدة على أنقاض الحرب والصراع العسكريّ الذي يدمّر البنى التحتية للدولة الأمّ, فتقع في مصيدة تأمين الغذاء للشعب الذي ما يهمّه في نهاية الأمر أن يتمّ تأمين الغذاء له, من حليب الأطفال إلى الخبز, وأكثر ما تعانيه من جراء ذلك الدول الحديثة ذات الاقتصاد غير المتكامل, وخاصة في الجانب الزراعي, الذي يعتبر المصدر الرئيسي  للغذاء, فتعاني الدولة الحديثة من صعوبة إرساء قواعد استقرار الأمن بين الشعب. سألت أنديرا غاندي في مذكراتها والدَها جواهر نهرو, ماذا يحدث في الحرب؟ أجابها: ينهار الاقتصاد, قالت: وماذا ينهار بعد الاقتصاد؟ أجابها تنهار الأخلاق، فالشعب الجائع لا يمكن أن يشعر بالاستقرار, فأكثر الشعب لا يلتفت إلى الأمور السياسية, ولا يهمّه أمرها، وجلّ اهتمامه ينصبّ على تأمين متطلبات الحياة, وسبل العيش.

وكذلك تجد نفسها بمعزل عن المجتمع الدولي في التعامل التجاري، ويصعب عليها الحصول على ما تحتاجه من دول المجتمع الدولي, ومعاناتها من عدم الاعتراف الدوليّ بوجودها, وإرساء قواعد المعاملات التجارية الدولية، وغالباً ما تحتاج الدول الحديثة إلى دول داعمة لها, تمدّ يد العون لها حتى تستقيم أمورها الاقتصادية وتتجاوز محنتها، والاعتراف بوجودها، حتى وإن كان على نطاق ضيّق من قبل بعض دول الجوار, وربّما يتبادر إلى ذهننا سؤال مفاده حول المنظمات الإغاثية الدولية؟ وللعلم أن معظم المنظمات الإغاثية الدولية هي منظمات موجّهة, يتم توجيهها من دول معينة ومحدّدة, ولا تستطيع هذه المنظمات التحرك إلّا بمباركة إحدى الدول العظمى.

وغالباً ما تواجه هذه الظروف بتشكيل خلية لإدارة الأزمة التي تمرّ بها الدولة, ومهمّة هذه الخلية أن تكون إلى جانب الشعب, وتكون واضحة وشفّافة تجاه الشعب, وتقوم بتوعية الشعب، وإرشاده إلى الطرق السليمة في مواجهة الأزمة وتجاوزها.

السلطة في الدولة الحديثة: إمّا أن تنهج النهج الشمولي الديكتاتوري, مروراً بالمراحل التي تحدّثنا عنها سابقاً, أو تنهج نهج الدولة القانونية المدنية التي تدار من قبل المؤسسات المدنية.

 

ما تؤول إليه السلطة الشمولية في نهاية المطاف

       افتعال الأزمات الخارجية, في مواجهة الأزمات الداخلية التي ما تلبث أن تلِجها السلطة الشمولية.

       الحروب الخارجية والتجويع: إنّ أكثر الحروب التي تخوضها الدول غايتها إشغال الشعب ولفت انتباهه الى الحرب بدل السعي وراء المطالب الداخلية, وخير مثال على ذلك ما يقوم به الحكّام العرب ومطالبتهم الدائمة في تحرير فلسطين، ومنها وصية أحد الحكام العرب لصديقه: “إذا أردت أن تحكم ويستقرّ حكمك, فليكن أوّل مطالبك؛ تحرير فلسطين” والحرب التي خاضها صدام حسين، والتي حصدت آلاف الأرواح مع إيران كان الهدف منها حماية العروبة، وتحرير أراضيها تحوّلت إلى حرب ضد العرب ذاتهم عندما احتلّ الكويت. إنّ معظم الحروب غايتها دعم استمرار السلطة واستقرارها وترسيخ دعائم الدكتاتورية, وتأتي بعدها سياسة التجويع: فالشخص الذي ينام حالماً برغيف الخبز والمواصلات لا يستطيع أن يفكر بأحوال الوطن، وأسباب جوعه ومأساته, وخير مثال على ذلك ما تقوم به السلطات التركية.

       اتّباع سياسة القمع في مواجهة الحراك الذي تتنبّأ به السلطة, ولابدّ من إيجاد الأسباب التي تشرعن القمع, وأكثرها أسباب مفتعلة من قبل الأجهزة الأمنية المرتبطة بالسلطة مباشرة, وأكثر هذه الفروع والمراكز الأمنية هي مراكز سرّيّة يترأسها رجل تمّ اختياره من بين الأوفياء للسلطة, وأقرب مثال هو الانقلاب المزعوم في تركيا، والذي تمّ بموجبه القضاء على جميع الشخصيات التي كانت أسماؤها لدى الفروع الأمنية مسبّقاً, وكانت التهمة موجودة مسبقاً, وتم اختيار العدو مسبقا؛ فتح الله كولان.

هذا بالنسبة للأمن الداخلي من أجل الحفاظ على السلطة, لكنّ الحفاظ على السلطة يتطلّب ضماناً أمنيّاً من الدول العظمى، فكلّ سلطة لا تستند إلى شرعية لابدّ من داعم خارجي لها يحميها ويوطّد دعائمها.

 

الشمولية الاقتصادية

يلعب الاقتصاد دوراً كبيراً في إرساء السلطة، والدول التي تمسك بزمام الاقتصاد تحاول دائماً أن تستخدمه في سبيل إرساء قواعد السلطة الفردية, ما يدعى برأسمالية الدولة.

وأكثر الدول التي تتمسّك بركائز الاقتصاد على الأغلب تنتهج النظام الاشتراكي, والذي ثبت بشكل قاطع فشله الذريع من خلال التجربة، من قبل معظم الدول ذات النظام الاشتراكي من حيث الاقتصاد (القطاع العام).

رأسمالية الدولة كان السبب الرئيسي في انهيار هذه الأنظمة، والأسباب الرئيسية تعود إلى:

1-   فقدان القطاع الإنتاجي العام إلى روح المنافسة, السبب الرئيسي في تطوّر الإنتاج من حيث النوع والكم, السيارة السوفياتية تفتقد للجمالية من حيث التصميم، لذلك لا تجد لها مكانا في المنافسة بين الأسواق العالمية.

2-   التبذير الزائد والإهمال من قبل العاملين، وعدم الاقتصاد في تكلفة الإنتاج من قبل القائمين عليه، كونه في النهاية تعود الأرباح أو الخسائر على الدولة، ويكفي أن نعلم أن الشركة السورية لمياه عين الفيجة أظهرت خسائر فادحة.

3-   البيروقراطية: اتّباع النظام المعقّد في إجراءات تطوير الإنتاج، واستبدال وسائل الإنتاج بوسائل إنتاج حديثة أكثر تطوّراً، واللامبالاة من قبل الإدارة خير مثال على أنّ بعض المعامل يتوقف عملها بسبب الروتين المتّبع من أجل استبدال قطعة تالفة.

4-   جهل أكثر الإدارات في إدارة المشاريع، ويعود ذلك إلى تعيين أكثر الإداريين من قبل السلطة الشمولية، بعيدة عن الإداريين التكنوقراط؛ أصحاب الخبرات في الإدارة والكفاءات العلمية, بعض الإداريين القائمين على ادارة معمل الفوسفات هم من حملة شهادة الهندسة في الطيران، وتمّ تعينهم بناءً على مكانتهم الحزبية, وخير مثال على ذلك ما قام به وزير النفط والثروة المعدنية في سوريا حين رفع سعر لتر المازوت من 7 الى 21 ليرة ليحقّق أرباحاً فائضة للميزانية, متناسياً الخسائر التي ستتراكم من جرّاء توقف مشاريع زراعية, وظهر الغباء في عدم احتساب ارتفاع أجور النقل وأسعار الخبز, وفي اليوم التالي تم تدارك الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة, وكذلك إصدار الرئيس السوري قراراً باستبدال المركبات الأقل من 3 طن محركاتها من الديزل الى البنزين قبل أن تقوم الحكومة بتأمين تلك المحركات, وكلّ ما تشير إليه تلك القرارات الرعناء والتخبط الإداري إلى الجهل في الإدارة وقلة الخبرة الإدارية.

5-   اللجوء إلى فرض القوانين العرفية: تلجأ السلطة الشمولية إلى فرض الأحكام العرفية التي تخوّلها الاعتقال التعسفي في مواجهة الشعب الذي ما يلبث أن يتململ من الأوضاع العامة التي آلت إليها السلطة الشمولية, فيتم قمع وزجّ كل من يفكر, مجرّد تفكير بالإطاحة بالسلطة, ومناهضة الفساد والأحكام التعسّفية الصادرة بحق الأفراد المعارضين لها.

 

ما يجب أن يتضمّنه دستور الدول الحديثة

       النظام البرلماني: ربّما يعدّ النظام البرلماني الأنسب والأقرب للدول الحديثة كونه يعطي حقّ الرقابة العامة للبرلمان على جميع الإدارات في الدولة, ويجب أن يشتمل البرلمان على العناصر التي تتمتع بالأخلاق والتكنوقراط بعيداً عن الالتزامات الحزبية المؤدلجة، والتعصّبات القبلية والقومية والدينية، وإن كان عدد هؤلاء قليلاً بين مجتمع يفتقد إلى الثقافة الاجتماعية الصحيحة التي ترجح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

       تقسيم المدّة الزمنية لدورة البرلمان إلى دورتين؛ كلّ دورة مدّتها سنتان تشمل إعادة انتخاب نصف الأعضاء فقط، وهذا ما يجعل البرلمان يحتفظ  بأعضاء ذي خبرة إدارية لا يعانون من صعوبة تفهّم المهام الموكلة إليهم، ويتيح المجال لنصف الأعضاء الجدد بالتدرّب والتمرّس على أيادي الأعضاء القدماء ذوي الخبرة في ممارسة المهام الموكلة إليهم, وهكذا لن يفتقر البرلمان على أعضاء يفتقدون الخبرة والممارسة العملية، وتصبح لدينا دورة انتخابية كلّ سنتين لنصف الأعضاء, ومن الإيجابي عدم السماح لأعضاء البرلمان تولّي عضوية البرلمان إلّا لدورة واحدة، ويطبق ذلك على رئيس  الدولة إذ لا يسمح له بتولي منصب رئاسة الدولة إلا لدورة واحدة.

       عدد الدورات: ربما من الإيجابي ترك عدد الدورات التي يحقّ لأعضاء السلطة التنفيذية تولّي المناصب فيها مفتوحة, طالما هناك رقابة صارمة عليها من قبل البرلمان للاستفادة من الخبرات التي يجنونها من خلال عملهم كرؤساء لإداراتهم, وتحديد مدّة زمنية يقوم البرلمان فيها بتكليف عضو بتشكيل السلطة التنفيذية، وعادة ما تكون أربع أو خمس سنوات.

       استبعاد الأحزاب السياسية من الترشّح بأسمائها ككتل, خاصة الأحزاب التي تنتهج أيديولوجية معينة, تحاول هذه الأحزاب أن تؤدلج المجتمع بأيديولوجيتها، ممّا يجعلها تبتعد عن مراعاة المصلحة العامة للمجتمع، فتطغى المحسوبية على المجتمع.

       فرض قوانين صارمة على جميع السلطات في الدولة بدءاً من البرلمان والسلطة التنفيذية، وانتهاءً بمجلس القضاء الأعلى, وإتاحة مجال محاكمتهم أمام محاكم شبه شعبية علنيّة.

       اختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى من بين القضاة الذين يشهد لهم المجتمع بالنزاهة والأخلاق العالية، وأن يحوز مجلس القضاء الأعلى على ثقة البرلمان، أقلّها 80% من أصوات أعضاء المجلس، ولا يتمّ عزل أيّ عضو من مجلس القضاء إلّا بناءً على قرار صادر عن لجنة نزيهة يتمّ اختيارها من بين أعضاء اللجنة القانونية في البرلمان.

       احترام حق الشعب في تملّكه وصيانة ممتلكاته الخاصة، ومنع الاعتداء عليها, وتملكها إلّا بموجب قرار قضائي، وتعويض عادل يحدّده أصحاب الخبرة,  لضرورة أو حاجة ماسّة لخدمة المصلحة العامة.

       تشجيع الاستثمار: عن طريق التقليل من الإجراءات القانونية المفروضة على المستثمرين في سبيل الحصول على تراخيص المشاريع التنموية والحماية القانونية للمستثمرين.

       عزل الجيش أو القوى العسكرية عن أجهزة الدولة، وحصر مهامها في الدفاع عن الحدود الخارجية للدولة فقط، ومنعها من التدخل في الشؤون الداخلية للدولة.

       استبعاد القادة العسكرين من إدارة المؤسسات المدنية, وحصر مهامهم في القوى العسكرية في الجيش.

       التشجيع على الاختراع، والبحث العلمي وفتح مراكز خاصة لذلك وتقديم الإمكانات والخدمات للمخترعين والباحثين، ومساندتهم في اختراعاتهم وأبحاثهم.

       إسناد تأمين الأمن المجتمعي إلى مؤسّسات مدنية مهمّتها تأمين الأمن المجتمعي، ومكافحة الجريمة، وملاحقة المجرمين، وإبدال الإصلاح بدل العقوبة, مع العلم أنّ تحقيق الأمن المجتمعي يبدأ من الطرقات، وينتهي بمكافحة الأمراض والتربية الصحيحة والحفاظ على النظافة العامة, فالمدينة التي تتعرم الزبالة في شوارعها تعرض ساكنيها للأمراض والأوبئة, وانعدام الإنارة العامة في الشوارع تشجّع على ارتكاب الجريمة.

       إتاحة المجال لحرية الرأي والتعبير دون خوف من التعرض للاعتقال التعسفي, بداية من الصحافة والإعلام الناقد، والحيادية التامة، وجعلها مؤسسة رقابة على كافة دوائر الدولة, والابتعاد عن التخوّف من رقابة الصحافة وانتقاداتها للإدارات والمؤسسات.

       احترام القوانين الصادرة والسهر على حسن تطبيقها خاصة القرارات القضائية وتوابعها.

       رفع سوية التعليم وذلك من خلال منح المعلمين والمدرسين مكانة خاصة في المجتمع، واختيارهم من بين المعلمين الأكفّاء، ومنحهم أعلى المرتبات، وتأمين جميع متطلّباتهم الحياتية التي تفتح لهم مجال التفرغ للتعليم والبحث العلمي وفق معايير الدول المتقدمة.

       القطّاع الزراعي: لابد من التذكير بأهمية القطاع الزراعي؛ المصدر الرئيسي للغذاء، وتقديم الدعم اللازم من أجل زيادة الإنتاج, وخير مثال على ذلك التجربة الصينية.

       احترام القوانين الصادرة، والإشراف على حسن تطبيقها من قبل الجهات العامة، وفرض عقوبات صارمة على كلّ من لا يلتزم بتنفيذها، وتطبيقها.

الهدف الأوّل والأخير من إدارات الدولة والسلطات خدمة المجتمع، والسعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة، من خلال استثمار الطبيعة لتحقيق حاجات المجتمع والرفاهية, وربّما هذا الهدف يصعب تحقيقه في زمن لا يمكن للضعيف أن يعيش في كنفه, فلابدّ من تأمين وسائل الدفاع الذاتية التي تمكّن المجتمع من الدفاع عن ذاته, وهذا يتطلب تأمين الأسلحة، وخاصّة في دولة تعيش في رقعة الشرق الأوسط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى