بولات جان
الفَوضى السياسيّة والأحزابُ العاطلةُ
يكاد الشرق يتأرجح بين نقيضين؛ بين الاستبداد والدّيكتاتوريّة، الفوضى واللا استقرار. فإمّا أن تكون يدٌ فولاذيّة قابضة على تلافيف الشرق وتمنع عنه أيّة بادرة للتحرّك بحرّيّة واستقلاليّة، وَالتَّمَتُّع بالتعدّديّة والتعبير عن التنوّع والاختلاف والدّيمقراطيّة، أو أن تتخبّط في مستنقع من الفوضى والاضطرابات والأزمات الضارية هنا وهناك، وانعدام الأمن والاستقرار وتعدّد المراكز وتنافر الأصوات والاتّجاهات المتصارعة التي تأخذ بالمجتمع هنا وهناك، بين مدٍّ وجزرٍ، وبالتالي انغلاق آفاق الحلّ والوفاق في البلاد.
في الشرق، شرق التنوّع والاختلاف، لا يمكن إدارته سياسيّاً إلا بمنطق “الوحدة ضمن التعدّديّة أو “الوحدة والاختلاف” أو “وحدة التنوّع”. ولكن طالما كانت القبضة الحديديّة هي المسيطرة والسائدة على كلّ تنوّع وتعدّديّة في الشرق، فإنّ ذلك يغدو ضرباً من المستحيل.
يتذّرع دُعاةُ المركزيّة والاستبداد بضرورة إنهاء الفوضى وحالة انعدام الأمن والاستقرار، وذلك بفرض الدّيكتاتوريّة. فها هو الحَجَّاجُ وصدّام ومبارك والأسد والقذّافي وأتاتورك وغيرهم، يتذّرعون بحالة اللا استقرار والفوضى السياسيّة الموجودة، فيفرضون أنظمة قمعيّة واستبداديّة أحاديّة التفكير والتعامل والتنميط على البلدان التي يحكمونها.
الشعوب التي تعيش لسنوات طويلة تحت حكم الأنظمة الدّيكتاتوريّة؛ تخسر الكثير من الجوانب الإيجابيّة وتُضمَر طاقاتها الخلّاقة في الإبداع والتعامل الدّيمقراطيّ والمساواة والاحترام المتبادل مع المختلف معهم. لذا فما إنْ تتمّ الإطاحة بالأنظمة الدّيكتاتوريّة؛ حتّى تغرق تلك الشعوب في بحرٍ من الفوضى والمشاكل وانسداد الآفاق. نفس الأمر حصل في عراق ما بعد صدّام، وكذلك سوريّا في السنوات الأخيرة، ولبنان منذ عقود من الزمن، وليبيا بعد سقوط القذّافيّ واليمن.. أي أنّ الفوضى ضاربة شرقاً وغرباً في هذه البلدان.
الأحزاب والحركات السياسيّة التي كانت مغيّبة تماماً في الأنظمة والدّول الدّيكتاتوريّة تكون خاملة عملياً و ثرثارة نظريّاً وضعيفة في الأداء وغير متمكّنة من العمل الفعّال والسريع. كما أنّ نتيجة العقليّة الدّيكتاتوريّة والفساد الإداريّ؛ فإنّ الأحزاب المختلفة في هذه البلدان لا تمتلك ثقافة العمل المشترك واحترام الآخر واتّخاذ المصلحة العامّة فوق مصالحها الحزبيّة الضيّقة.
العطالة السياسيّة وبقاء الأحزاب في إطار النظريّات والدّعاية والمعارضة، تدفعها إلى الأنانيّة والآفاق الضيّقة. وفي حال الإطاحة بالأنظمة المستبِدّة أو إرخاء سيطرتها؛ فإنّ هذه الأحزاب تدخل في صراعات عقيمة و تحدث انشقاقات عديدة وتظهر أحزاب وتشكيلات أخرى، مثل الفطر في الليالي العاصفة، وفي كلّ يوم نسمع بحزب أو تشكيلة جديدة أو انشقاق حزب ما إلى عدّة أحزاب.. إلخ.
المشكلة تكمن في حصر السياسة في آليّة الأحزاب فقط، مع العلم بأنّه ليست الأحزاب وحدها مكلّفة أو محتكِرة للعمل السياسيّ. فالأحزاب هي آليّة أو شكل من أشكال ممارسة السياسة وليست الشكل والآليّة الوحيدة. ثانياً، العمل الحزبيّ لا يعني بالضرورة العمل السياسيّ، فهنالك أناس يمارسون نشاطاتهم الحزبيّة، دون أن يخوضوا في أيّ مجال سياسيّ، ولكن الاعتقاد الخاطئ في الشرق يدفع المرء إلى الاعتقاد بأنّ كلّ نشاط حزبيّ هو بالضرورة نشاط سياسيّ، كما أنّه ليس كلّ نشاط سياسيّ هو بالضرورة نشاط حزبيّ. كان الأجدر بمفكّري وساسة الشرق قبل كلّ شيء أن يصحّحوا ويصوّبوا هذا الاعتقاد الخاطئ لأنفسهم أوّلاً، وللمجتمع ككلّ.
صرعة (تشكيل الأحزاب) أمرٌ آخر مستفحل في الشرق. لذا نجد حالة من التخبّط واللا مسؤوليّة في موضوع تشكيل والإعلان عن الأحزاب، دون أن يكون لها برامج واضحة ومشاريع إستراتيجيّة وأفكارٌ خاصَّةٌ بِها، أو جمهورٌ مُعَيَّنٌ تمثّله. فعلى سبيل المثال هنالك أحزاب في بلد ما، عدّة أحزاب تشترك في نفس العقيدة والتوجّه الفكريّ والطبقيّ والوطنيّ، وبالكاد يستطيع المرء أن يبحث بالمجهر عن الفروقات بينها، إلا أنّها “زيادة عدد”، كما يقول المثل الشائع. وهذه الفوضى تخلق بطبيعة الحال حالة من التشويش و الضبابية على الناس، و تعميق الفوضى العمياء، كما أنّها في الوقت نفسه تخلق حالة الأحزاب الزائدة، مثلها مثل الزائدة الدّوديّة في جسم الإنسان، فإنّ وجودها وعدمها لا يغيّر شيئاً ولا يؤثّر. وهي بالتالي تخلق صورة لأحزاب عاطلة لا تقوم بدورها الحيويّ في المجالات التي تشغلها. على سبيل المثال: هل هنالك حاجة حقيقيّة لوجود أكثر من 50 حزباً كرديّاً في شمال سوريّا فقط؟ ومن الطريف أيضاً بأنّ معظم هذه الأحزاب تحمل أسماءً متشابهة، وبالكاد وعن طريق فاصلة أو نقطة أو شخطة، يتمّ التمييز بينها، وغالباً لا توجد فروقات سوى باسم الرّئيس أو السكرتير، ذات الحالة موجودة بين الأحزاب التركيّة، وخاصّة اليساريّة منها.
ففي المجتمعات يمكن أن يمارس الناس فرادى النشاط السياسيّ أو متابعة الشأن العام، كأفراد، وبالتأكيد سيكون لهم تأثيرهم وقيمتهم، ولكن هذا التأثير سيكون أكبر وأكثر في حال الاشتراك مع الآخرين. والأحزاب أو التنظيمات هي التي تجمع في صفوفها هؤلاء الأفراد النشطاء المشتركين في النشاط وطرح الآراء والعمل على الأهداف المشتركة. كما أنّ وجودها – أي هذه التنظيمات – تسهّل الأمور أمام الجماهير، ليختاروا الاتّجاه الأنسب لهم، إمّا للاشتراك أو للتصويت لهم أو معارضتهم. كما أنّ هذه التنظيمات تلعب دور البوتقة التي تتوحّد فيها جهود ومساعي الأفراد وتوجّهها ضمن قنوات سليمة، حتّى تصل إلى التأثير القويّ وتعطي النتيجة المرجوّة. لذا، فإنّ وجود هذه الأحزاب والتنظيمات مَهمَّةٌ ومَطلبٌ حيويّ. ولكن في حال العطالة السياسيّة وفوضى تراكم الأحزاب وازدحامها وتشظّيها دون أيّ دواعٍ اجتماعيّة وسياسيّة وإستراتيجيّة، فإنّها تتحوّل إلى ثقب أسود تمتصّ جهود الأفراد وتخسرها أو تصرفها بلا أيّة فائدة. كما أنّها تتحوّل إلى عناصر تسدّ الآفاق أمام حدوث أيّ تطوّر، بدلاً من أن تكون سبباً في فتحها. كما أنّها تؤدّي إلى نفور وعزوف الناس عن ممارسة النشاط السياسيّ وتشكيل الرأي العام، والانكفاء إلى الشكوى والتباكي، بدلاً من العمل في سبيل التغيير والبناء.
وجود الأحزاب والتنظيمات السياسيّة المختلفة في البلاد هي حالة صحيّة وجيّدة، كما أنّ التنوّع والتعدّديّة هي شرط لاستمرار الحياة السياسيّة، لأنّها تضفي الجماليّة والحيويّة والقوّة على الحياة والسياسة. لكن الأحزاب الفطريّة وحالة التخبّط والزيادة المضطّردة لها، تكون سبباً في تشتيت الجهود والتشويش على الجمهور، وفقدان الالتزام السياسيّ وضياع الخيارات الصحيحة أمام الناس. كلّ هذه الأسباب تؤدّي – في أغلب الحالات – إلى ظهور حزب كاسح يكسح السّاحة السياسيّة ويتنمّر على باقي الأحزاب الفطريّة، ويحقّق انتصاراً سياسيّاً، وبالتالي يتوعّد بتخليص الناس من حالة الفوضى واللااستقرار الموجود، وفرض الأمن السياسيّ والاقتصاديّ والمعيشيّ، وبالتالي فرض نوع جديد من الدّيكتاتوريّة التي يضطر الناس إلى تقبلها و تفضيلها على الفوضى و الأزمة و الصراعات.
حالة الفوضى والتشتّت السياسيّ والحزبيّ في تركيّا أدّت إلى ظهور حزب أردوغان الذي تحوّل إلى الاستبداد والدّيكتاتوريّة والتفرّد بكلّ السلطات تقريباً. ونفس الأمر سبق ظهور وتسلّط البعث على الحكم والسلطة في كلّ من العراق وسوريّا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تشتّت الأحزاب الدّيمقراطيّة الوطنيّة واليساريّة والبرجوازيّة في إيران، التي أدّت جميعها إلى سيطرة الملالي على الحكم وفرض الدّيكتاتوريّة على البلاد. ذات الأمر حدث في الفترة التي تلت انتصار الثّورة المصريّة على مبارك، حتّى وصلت الأمور إلى رجوع العسكر من جديد والانقلاب على الحياة السياسيّة. كما أنّ تشتّت الأحزاب السياسيّة في لبنان أدّى إلى تعطيل الحياة لشهور طويلة، وبالتالي سيطرة حزب الله على القرار الإستراتيجيّ في البلاد.
نفهم من كلّ ذلك، أنّ الفوضى السياسيّة وتشتّت الأحزاب وحالة اللا استقرار، تشكّل الحاضنة التي تفرّخ الدّيكتاتوريّة والاستبداد والعقليّة المركزيّة في الشرق. والحال هذه؛ فإنّ الشرق ينتقل من فوضى الدّيكتاتوريّة إلى ديكتاتوريّة الفوضى. و كل منهما يوّلد الآخر و يقضي عليه ليولده مجدداً، و هكذا دواليك.