سليمان محمودمواضيع أخرى

قراءةٌ نقديّة في بنية العشيرة والقبيلة

سليمان محمود

سليمان محمود

سليمان محمود
سليمان محمود


تقدمة لا بدّ منها

إنّ تناولَ ظاهرة العشيرة والقبيلة والطائفة، في مجتمعنا، وهي الظاهرةُ التي لم تزل تشكل المركبَ الأكثرَ تعقيداً لوجودنا الاجتماعي والثقافي، وهي التحدي الرئيسُ لقضايا نهضتنا.

نستطيعُ القول: هناك فرقٌ بين أن تتماها كلياً مع الظاهرة، أية ظاهرة من ظواهر المجتمع الذي تعيش وتنشط فيه، في سلبها وإيجابها، وبين أن تدرسَ هذه الظاهرة وتتخذّ منها موقفا (عقلانياً)، تراعي فيه خصوصياتِ الواقع الذي أنتجها، وما مدى استجابة هذا الواقع لها ولمفرزاتها، ثم ما هي الجوانبُ السلبية الكامنة فيها، والتي يجبُ الحدّ من فاعليتها، أو محاربتها والعمل على إقصائها مادياً ومعنوياً من جسم المجتمع وتفكير أبنائه، ثم ما هي الجوانبُ الايجابية أيضاً التي يمكن استثمارها في هذه الظاهرة من أجل تنمية المجتمع، وبالتالي تطويره بالضرورة .

ومن هنا نقول أيضاً، انطلاقاً من التحليل الاقتصادي والاجتماعي للظاهرة، إنّ ظاهرةَ العشيرة والقبيلة والطائفة في مجتمعنا عموماً، هي من الظواهر الاجتماعية الأساسية الأكثر حضوراً، التي يتكوّن منها وجودنا الاجتماعي والثقافي، فمجتمعنا تحت ظلّ الظروف الموضوعية والذاتية المُعاشة حالياً وبكل مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ما قبل دولة القانون، هي ظروفُ إنتاج ظاهرة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، بل هي الظاهرة ذاتها التي تعمل على إعادة إنتاج الكثير من معطيات تخلّفنا أيضاً، فمعظم ما نراه من ممارسات في نطاق مجتمعنا يشيرُ ويؤكد على ما جئنا عليه، بالرغم من التحوّلات الكبيرة التي تمّت في بنية هذه المستويات كافة، والتي نجزم تماماً بأنها – أي التحولات – قد لامست في واقع أمرها الشكلَ أكثر من المضمون، فما حدث من تطوّر في بُنى المجتمع المادية والفكرية (القاعدة الخدماتية – التربية والتعليم – الجامعات – الصحة – المؤسسات الثقافية والإعلامية .. الخ)، لم يتسرّب إيجابياً بعد إلى جوهر بنية هذا المجتمع وعقلية أفراده، أي لم يصل بعد إلى مسامات ذهنية وسلوكيات أفراد المجتمع بما يتناسب وطبيعة هذه التحولات السريعة التي تمت في البناء التحتي، الأمر الذي خلق حالةً من الانفصام ما بين شكل المجتمع، الذي يدلّ في الكثير من معطياته الحالية على التمدن والعمران والحداثة بشكل عام، وبين جوهره الذي لم تزل تعشّش فيه عقليةُ الداحس والغبراء، في الكثير من دلالات هذه العقلية بشكل خاص.

 

على العموم يظلّ السؤالُ المشروع الذي يطرحُ نفسه علينا هنا وبعمق، هو : ما العمل؟ .

وهذا بالتالي يتطلبُ منا أن نقفَ عند الجوانب السلبية في بنية المجتمع، ونعملَ على تشريحها وتحديد ظروف إنتاجها ودوافعها ومكوناتها وآلية عملها، وما مدى تأثيرها في المحيط الذي تنشط فيه، ومن ثم العمل على الحدّ من هذا النشاط أو التأثير وقمعه، مثلما نقف عند الجوانب الإيجابية أيضاً في هذه الظاهرة والعمل على تعميقها، خدمةً لتطور المجتمع والظاهرة ذاتها.

 

العشائريّة في المعاجم

بالعودة إلى الجذر اللغويّ للكلمة، فإنّ العشيرةَ تعني:

  • ” اسمٌ لكلّ جماعة من أقارب الرجُل يتكاثرُ بهم “. ” والعشيرةُ: المعاشر قريباً كان أو معارفاً. والمعشرُ: الجماعةُ العظيمة، سُمّيت به لبلوغها الكثرة، فإنّ العشر هو العددُ الكاملُ الكثير الذي لا عدد بعده إلاّ بتراكيبه بما فيه من الآحاد. فالمعشرُ محلّ العشر الذي هو الكثرةُ الكاملة”. (1)
  • ” العشيرةُ: القبيلة. و(العشيرُ) المعاشرُ… و(المعاشر) جماعاتٌ من الناس الواحدُ (معشَر). و(المعاشرة- التعاشر) أي المُخالطة. والاسم( المعشرة). و(عشرهم) من باب ضرب صار: عاشرهم…” (2)

 

كلُّ هذه الاشتقاقات تشيرُ إلى رابطة (علاقة) ودودة بين جمعٍ من الناس يعيشون على أرضٍ معيّنة، ويشتركون معاً في مقتضيات الحياة المختلفة: التعاون على المعيشة ومواجهة التحدّيات المختلفة لدوام البقاء… وكذلك التآنسُ وغير ذلك من ضرورات الحياة..

 

وإذا ما دقّقنا في الأصل السُلالي لهذه الكلمة وجدناه يستندُ إلى اعتقاد أو افتراض وحدة الأصل (الدم) بين أفراد العشيرة الواحدة. فكأنها- بهذا المعنى- أسرةٌ كبيرة العدد ينتمي جميعُ أفرادها إلى أصولٍ واحدة.(3)

ربّما، بل أكيدٌ أنّ هذا الاعتقادَ كان صحيحاً إذا اتّجه إلى بدايات وجود العشيرة. أمّا أنه لا يزالُ صحيحاً أم لا، فلا بدّ من استقراء تاريخ تطوّر المجتمعات. ويمكن أن نصوغَ ذلك في سؤالٍ كالتالي: هل استمرّتِ العشيرةُ- عبر آلاف السنين وضمن ظروف التغيّرات المختلفة- في القدرة على المحافظة على مصداقيّة وحدة الأصل؟ وهل التكوينُ النفسي والاجتماعي لأفراد العشيرة لا يزالُ محتفظاً بمقوّمات تندرجُ في إطار المعنى السابق للعشيرة، (وحدة الأصل… ومن ثمّ وحدة التوجّه والتطلُّع مثلاً..)؟

للإجابة على السؤال الأوّل والذي ينصبّ على المعنى الوراثي البيولوجي والفيزيولوجي نقول: كلُّ مهتمٍّ يعلمُ بما تعرّضَ له المجتمعُ الكرديّ- وفي كردستان كلّها- من الظروف القاسية والقاهرة (حروب- هجرات لأسباب مختلفة..) وكذلك ما حصلَ فيه من احتكاكاتٍ بتجليّاتٍ مختلفة، وما أفرزتْ من آثارَ ونتائج. كلّ ذلك لا يوفّر مصداقيّة الزعم بأنّ العشيرةَ حافظت على هذه الوحدة في الأصل فعليّاً. يعزّزُ هذه النظرةَ أو التنظير ما يجري من تبادل الاتّهامات أحياناً أو اختلافات في تحديد انتماءات أحياناً أخرى… بين ذي الميول العشائريّة الطاغية،(4) فضلاً عن نتائج أبحاث العلم.

 

وإذا ما عدنا إلى السؤال الثاني، فإنّ صعوباتٍ أكبر في التحليل ستواجهنا لمدى تعقيد حياة المجتمع الكرديّ.. ولكن ذلك لا يمنع من تلمّس ملامح في التكوين الكرديّ تتبلورُ منذ أكثر من قرنٍ لمصلحة الشعور القومي الذي فرضَ نفسهُ بقوّةٍ كصيغة أوسعَ وأعمق، وأكثر تلاؤماً مع تطوّر المجتمعات الإنسانيّة المختلفة، ومنها المجتمع الكرديّ وخاصّةً بعد إذ بلغت وسائلُ الاتصال والمواصلات مستوىً اخترقتْ فيه حدودَ الدول الحصينة، مما جعلَ الإطار التقليدي للعشيرة يهترئ، بل يكادُ يطرقُ الاهتراءُ جدارَ الحالة القوميّة بضرباتٍ، يوشكُ أن ينهارَ تحت هذه الضربات، فما بال العشائريّة الأضيق مدىً؟

 

ما الفرقُ بين القبيلة والعشيرة؟

إنّ غيرَ المطّلع على تعريف كلمتَي القبيلة والعشيرة، يعتقدُ أن لا فارقَ في المعنى بين الكلمتين. وقد فرّقَ الدارسون بين المعنيين منعاً من اختلاطات كثيرة قد تحدث في أصول الأنساب. ولا بدّ من تعريف القبيلة والعشيرة للتفريق بين المعنيين قبلَ الدخول في الموضوع.

ما هي القبيلة؟

القبيلةُ هي عبارة عن مجموعة من الأشخاص، ينتسبون جميعهم لأبٍ واحد أو لجدٍّ واحد. يشكّلون كياناً اقتصاديّاً، سياسياً، واجتماعياً فيما بينهم وبين البيئة المحيطة بهم. ويشكّلون عائلاتٍ متفرّعة ولكن ضمن نطاق الأب الواحد، يحثّ تجمّعهم القربى، وتخضعُ هذه العائلاتُ لرئيسٍ وقائدٍ واحد. وهذا النظامُ كان معروفاً لدى شعوبٍ عديدة وعلى وجه الخصوص البدو.

ما هي العشيرة؟

يعودُ أصلُ كلمة العشيرة في المعاجم اللغويّة إلى كلمة (العشرة) ويُقصدُ بها ( آل بيت الرجُل )، بما يشتملُ هذا البيت من أبناءَ وفروع خرجت عن البيت الواحد. الأخوة والأعمام وأيضاً الآباء والأجداد جميعهم. فهي تعني الفروع أو الأصول على وجه التحديد. ويأتي هذا المفهومُ واضحاً في قوله تعالى: ” وانذرْ عشيرتكَ الأقربين ” لنجدَ بأنّ الله تعالى قد أمرَ النبيّ محمد في بداية دعوته بأن يقومَ بدعوة أبناء عشيرته فقط، أي بني هاشم تحديداً.

وقد اختلفَ العلماءُ حولَ تقسيم هذه المجموعات التي تنتمي للأب، وجاء هذا الاختلافُ في اللغة وأيضاً في الأنساب، ويعودُ هذا الاختلافُ نتيجة التطوّر الذي حصل لهذه المجموعات عبر الزمن، بحيث كان لا بدّ من أن يستحدثَ العلماءُ بعضَ المسميّات الحديثة للأصول التي تفرّعت. نجدُ وأنه قبل 200 سنة أصبحت كلمة العشيرة تعني فخذاً، يعود ذلك بسبب تباعد الأنساب فيما بينها، حيث نجد القبائلَ أصبحت شعوباً، وبالتالي العمائرُ أصبحت قبائل.

وقد اهتمّ الكثيرُ من العلماء في هذه التقسيمات والأنساب، لنجدَ في (كتاب النسب) لزبير بن بكّار، حيث قسّمها إلى (الشعب، ثم قبيلة، ثم عِمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة، ثم العشيرة، ثم الأسرة، ثم العِترة). أمّا عالمُ الأنساب محمد بن أسعد فقد جاء على تقسيمها على النحو التالي (الجذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن وفخذ وعشيرة وفصيلة ورهط، ثم أسرة، ثم عِترة، ثم ذريّة).

أمثلةٌ لهذه التسميات بحسب النويري التي وضعها زمنَ الرسول محمد(ص):

(جذم: بنو عدنان/ جمهور: معدّ/ شعب: نزار/ قبيلة: مُضر/ عِمارة: خندف/ بطن: كنانة/ فخذ: قريش/ عشيرة: قُصي/ فصيلة: عبد مناف/ رهط: بنو هاشم)

 

قضايا العشيرة والأثنية والقوم

تأتي قضايا العشيرة، القبيلة، والأثنيّة والأمّة في صدارة القضايا المُعاشة بكثافةٍ في المجتمع الشرق أوسطي منذ بدء التاريخ إلى يومنا الراهن. فكلّما تصاعدتِ المدنيّةُ الدولتيّة، انتشرتْ هكذا قضايا وتعمّقت. فقد كانت الحياةُ الحرّة الطبيعيّة إلى حدٍّ كبير هي السائدةُ في العشيرة قبل تطوّر المدنيّة. وكذلك كانتِ الحالُ بالنسبة للمرأة أيضاً. وكانت أخلاقُ العشيرة متفوّقةً جداً، حيثُ كان الفردُ يُبدي شتى أنواع التضحيات في سبيل قبيلته، مثلما تُبديها العشيرةُ أيضاً في سبيل أفرادها.

ما كان قائماً هو فردٌ ومجتمعٌ حقيقيان. لكن، وعندما أرادت بُنى المدنيّة السطوَ على العشائر واستعبادها، كان العبورُ إلى فترةٍ تشهدُ أعتى وأكبرَ المقاومات وأوسعها نطاقاً في التاريخ هو الذي يتحققُ حينذاك. أي أنّ التناقضَ الرئيسي قد تجسّدَ في العلاقة بين العشيرة المناهضة للاستعباد وبين الدولة. فباتتِ الجبالُ والبوادي أوساطاً للمقاومة، ذلك أنّ الدفاعَ شرطٌ لا استغناءَ عنه من أجل المأكل والتوالد.

يتوجّبُ المعرفة يقيناً أنّ أكثرَ وجوه التاريخ وحشيّةً بعد استعباد المرأة يتمثّلُ في جمع العبيد من العشائر. وقد جهدتِ العشائرُ إلى الخلاص من هذه القضيّة بتحوّلها إلى قبائلَ، وبتصعيد مقاوماتها. إلا أنه غالباً ما طغى تفوّقُ تنظيم قوى المدنيّة وتقنيتها المسلّحة.

وتماشياً مع التنظيمات القبليّة والعشائريّة في العصور الوسطى، فقد ارتقى الشكل التنظيميّ إلى مستوى الملّة- القوم. أي أنه تمّ خطوُ خطوةٍ أخرى على درب التوجّه نحو الأمّة، وأُضيفت أيديولوجيّةُ وتنظيمُ القوم إلى أيديولوجية وتنظيم القبيلة والعشيرة. وهكذا كانتِ الأديانُ التوحيديةُ في الصين والهند والشرق الأوسط قد اكتسبت ضرباً من معاني الدّين القوميّ. فكانتِ الحروبُ الدينية والقومية تسيرُ بالتداخُل، وكانت الأقوامُ الإغريقية والأرمنية والآشورية والعربية والفارسية والكردية تختارُ دينها حسبما يتواءمُ ومصالحَها القوميّة. فكان البعضُ يؤَسلِم ويغدو البعض الآخر مسيحياً. أما القومُ اليهودي، فكان بالأصل قد تكوّن منذ البداية كتركيبةٍ دينية وقومية جديدة. لكن لا الإيديولوجيات القبلية والعشائرية ولا الأديان القومية تميّزت بمهارة حلّ القضايا المُعاشة. فاليهوديةُ كانت قضيّةً قائمة منذ البداية، في حين أنّ الشعوبَ الآشورية والأرمنية والهيلينية التي كانت أوّلُ من ارتدّ عن الوثنية، لم تكن قادرةً بأيّ شكلٍ من الأشكال على تطبيق السلام والأخوة والوحدة التي بحثوا عنها في المسيحية، ولا على تنفيذها ضمن الحياة بشكلٍ تام. بل كان هذا الوضعُ سيمهّدُ السبيلَ أيضاً أمام مستجدّاتٍ وأحداثٍ سيئة عاشوها قروناً عديدة إكراماً للمسيحيّة.

وبالرغم من أنّ الإسلامَ المتصاعدَ على أرضيّةِ مناهضةِ الوثنية قد جلبَ السلامَ والوحدةَ والتفوّقَ للقبائل والعشائر العربية، إلاّ أنه وخلالَ فترةٍ وجيزة وجدَ نفسهُ في معمعان الصراع مع اليهود والمسيحيين. هكذا، وبينما حاولَ دينُ الإسلام حلَّ قسمٍ من القضايا، فقد أتى معه بكومةٍ أخرى من القضايا الكبرى. ونخضّ بالذكر الأقوام الأرمنية والهيلينية والآشورية واليهودية المُنحصرة في بلاد الأناضول، حيث- وكضحيّة للتطورات التي شهدتها باكراً نوعاً ما- كانت ستدخلُ مرحلةً عصيبةً جداً تجاهَ العرب والأتراك والفرس والكرد الذين تعرّفوا على الإسلام. وبإضافة نزاعاتهم المذهبية التي لا تعرفُ الهوادة أو السكون إلى القضايا التي عانوها، فإنّ ذلك كان سيؤدي تدريجياً إلى تصفية أمرهم. وهكذا كان المسيحيون سيشهدون تصفياتٍ في بلاد الأناضول، شبيهةً من حيث الأسلوب ومتزامنةً من حيث التوقيت مع تلك التي عاشها المسلمون في إسبانيا.(5)

 

القبائل والعشائر

هي من أهمّ العناصر الاجتماعية التي غالباً ما تتنامى في مجتمع الزراعة- القرية، وتحتوي العوائلَ أيضاً بين أحشائها، وتتشاطرُ اللغةَ والثقافة. وهي اتّحاداتٌ اجتماعية ضرورية لأجل الإنتاج والدفاع. ذلك أنّ الكلانات والعوائلَ شعرت بالحاجة للتحوّل إلى شكل العشيرة، عندما باتت قاصرةً عن حلّ قضايا الإنتاج والأمن المتصاعدة. كما أنها ليست اتحاداتٍ تعتمدُ على رابطة الدم فحسب، بل هي عناصرُ نواة للمجتمع، وضروريةٌ من أجل تأمين الإنتاج واستتباب الأمن. هذا وتُمثّلُ التقاليدَ المعمّرة آلاف السنين.

أما إعلانها كمؤسساتٍ رجعيّة يتوجّبُ تخطّيها ونسفها بسرعةٍ، فهو من أفظع الإبادات العرقية التي تمارسها الحداثةُ الرأسماليّة. ذلك أنه يستحيلُ تحويلُ البشر إلى يدٍ عاملة سهلة الاستغلال، ما داموا باقيين في ظلّ اتحادات عشائرية وقبلية.

كما أنّ وجودَ القبيلة كان يعني- وبكلمة واحدة فقط- حضورَ العدوّ اللدود لأسياد العبودية والإقطاع. حيث أنّ العشيرةَ لم تكُ تفرضُ العبوديةَ والقنانةَ والعُمّاليةَ على أعضائها.

للعشائر حياتها القريبة من الكوموناليّة. والعشيرةُ هي الشكلُ المجتمعي الذي يزدهرُ فيه المجتمعُ الأخلاقي والسياسي بأقوى أشكاله. بالتالي، فظهورُ العشائر المتواصل كعدوّ لدود للمدنيات الكلاسيكية متعلّقٌ بمزاياها في المجتمع الأخلاقي والسياسي. علاوةً على أنه كان يستحيلُ غزوها وإخضاعها للسيطرة. فإما أنها كانت تُفنى أو تحيا حرّةً أبيّة. ولكن شوهدَ أيضاً أنها عانت التفسّخَ والانحلال مع الزمن. ذلك أنّ العملاءَ المتواطئين من بين صفوفها قد لعبوا أدواراً سلبية على الدوام، مثلما يلاحَظ ذلك ضمن العائلة أيضاً.

ومع ذلك، فالعشائرُ التي يطغى عليها الترحالُ الدائمُ، تُعتبرُ من القوى البنّاءة الحقيقية للتاريخ. فالعبيدُ والأقنان والعمّال لم يحيَوا المقاومة التاريخية للعشيرة ولا حالتها الحرّة أو عصيانها في أيّ وقتٍ من الأوقات، بل باتوا بالأغلب خدَماً صدوقين وأكثر وفاءً لأسيادهم (فيما خلا الحالات الاستثنائية). وربّما لو نُظرَ إلى التاريخ من زاوية صراع مقاومات العشائر وتصدّياتها بدلاً من الصراع الطبقي، لكان سيسودُ التعاطي الأكثر واقعيّةً بكثير بشأنه. هذا ومن أهمّ تحريفات مؤسسي تاريخ المدنيّة هو استصغارُ دورِ العشيرة، والنظر إليها بعينٍ سلبيّة أحياناً، أو عدم إناطتها بأيّ دورٍ كان.

 

تميّزتِ القبائلُ بأهميّة أكبر كضربٍ من فيدراليّة التجمّعات العشائرية، وقد اكتسبتْ وجودَها بنسبةٍ ساحقة تجاهَ اعتداءات المدنيات العبوديّة. فالحاجةُ إلى الاتحاد والمقاومة في مواجهة الفَناء قد ولّدت تنظيمَ القبيلة. إنها شكلُ المجتمع الذي تحقّقَ تنظيمه العسكريّ والسياسي بسرعة. وهي تلقائياً جيشٌ وقوةٌ سياسية. والذهنية المشتركة والوحدة التنظيمية أساسٌ فيها. وتحملُ معها ماضياً عريقاً وثقافة سحيقة. وهي المصدرُ الرئيسيّ لثقافة القوميات. هذا ولا يمكن الاستخفافُ بمساهماتها في الإنتاج. فبُناها الاجتماعية الجماعية تقتضي التعاونَ المُتبادلَ أساساً. والروحُ الكوموناليةُ وطيدةٌ في المجموعات العشائرية والقبليّة، وبالتالي فهي من العناصر البنّاءة للحركات الوطنيّة. ولكن قد تكونُ أكثرَ خطورةً لدى تطوّر العَمالة والتواطؤ فيها.

 

إنّ القبائلَ من أهمّ القوى المحرّكة للتاريخ، بالرغم من كلّ مساعي مؤرّخي المدنيّة في الحطّ من شأنها واعتبارها. حيث ما كان للبشريّة أن تتخلّصَ من التحوّل إلى عِبادٍ وحشدٍ قطيعيّ لولا مقاوماتُ القبائل في سبيل تقاليد الحريّة والديمقراطيّة. وكونها من أهمّ عناصر الحضارة الديمقراطيّة، إنما مرتبطٌ بمزاياها تلك.

تاريخُ الحضارة الديمقراطيّة هو بنسبةٍ كبيرة تاريخُ مقاومة القبائل والعشائر، وتمرّدها تجاهَ اعتداءات وهجمات المدنيّة، وإصرارها على حياة المجتمع الأخلاقي والسياسي في سبيل الحرية والديمقراطية والمساواة.

كما أنّ البُنى القبلية والعشائرية هي التي تضفي اللونَ الأصليّ على التجمّعات. أما إفناءُ الدولة القومية لجميع الثقافات القبلية والعشائرية عن طريق طغيان طابعِ مجموعةٍ أثنيّةٍ معيّنة، فهو إبادةٌ ثقافية بكلّ معنى الكلمة.

لا تبرحُ هذه الإبادة العرقيةُ الكبرى بحقّ المجتمع تشكّلُ التهديدَ الأخطرَ والأهمّ، رغم تراخيها نوعاً ما.

بمقدور القبائلِ والعشائر أداءُ دورها الرئيسي في تكوين الأمة الوطنية، بدلاً من دولة الأمة أو أمّة الدولة، وذلك بوصفها عناصر بنّاءة فيها.

إنّ اعتبارَ العشائر والقبائل ركائزاً أصليّةً للحضارة الديمقراطيّة انطلاقاً من هذه الأسباب والماهيّات أمرٌ مفهومٌ لأقصى درجة.(6)

 

 

العشائرُ والقبائل كظاهرة سوسيولوجيّة ونفسيّة

وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع يجبُ التأكيد أنّ وجودَ العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكسُ مرحلةً تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمرّ بها المجتمعاتُ الإنسانية المختلفة, بكلّ ما تحمله الأخيرةُ من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياساً بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها، ألا وهي الرأسمالية.

 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عمليةُ تحوّل الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقلُ من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحوّلات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيدلوجية, مما سهّل نشأةَ الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية.

 

وعلى هذا الأساس، وحسب درجة تطوّر المجتمعات وظروفها الخاصة، بدأ الاضمحلالُ التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النموّ الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرةُ والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولةُ اشتدّ ساعدُ العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولةُ واشتدّ بنائها ضعفَ الدورُ التأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرةَ للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهرُ السيفَ ضدّ الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلاتُ بين المركز ” الدولة ” وبين ” الأطراف ” التي هي العشائرُ والقبائل وحلفاؤها.

 

 

 

وفي الوقت الذي كان حضورُ العشيرة تاريخياً حضوراً مشروعاً نسبياً باعتبارها تعبّر عن مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتعبيراً عن الضعف الموضوعي لمفهوم الدولة والمواطنة, وكانت لها إسهاماتها الإيجابية في مجريات الأحداث التاريخية التي مرّت بها تلك التجمعات للحفاظ على كيانها وتماسكها الداخلي, ولكن ظهورها اليوم- كما في اليمن والعراق- هو ظهورٌ نكوصيّ تقهقريّ، يفرضُ نفسه بديلاً عن دولة المواطنة ومتسلحة ضدها بشتى صنوف الأسلحة الثقيلة والخفيفة وسلوكيات التمرّد والانحراف والانفصال عن الدولة, ومتجاوزة الدور التقليدي للعشيرة في الحفاظ على الأعراف والدفاع عن الشرف والكرامة والاستجابة للنخوة ونصرة الضعيف وتحولها إلى مليشيات عشائرية تهدد الأمنَ والاستقرارَ الاجتماعي.

 

 

 

إن دراسةَ العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجية ونفسية وما تفرزه من سلوكيات خطيرة ” كالدكة العشائرية ” لا يعني أبداً النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى, فكلنا ننتمي إلى عشائرَ كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وإن إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيلٌ ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية.

 

 

قراءةٌ مختصرة لواقع الكرد المعاش

وإذا حاولنا تحديدَ قراءتنا لواقع حياة المجتمع الكردي المعاش، وخاصةً في سوريا فماذا نلاحظ؟

بلا ريبٍ سنقعُ على الواقع. إنّ التمسّكَ بالحالة العشائريّة ما هو إلاّ سمةٌ للمجتمع الأكثر بدائيّة حضاريّاً. ومن ثمّ فإنّ هذا التمسّكَ لا يتجلّى فعليّاً إلاّ في مناسباتٍ خاصّة وذات طبيعة مختلفة، وأحياناً عدوانيّة أيضاً، مثلاً: حادثة قتل أو تقاتل، أو تصالُح بشأن مشكلات اجتماعيّة وأحياناً اقتصادية. وفي هذا المستوى أيضاً فإنّ تجلّيه يرتبط كمدى بالمكوّنات الأخلاقية والمزاجية للأفراد المنتمين للعشيرة.

وباختصارٍ فإنّ فاعليّةَ الأداء العشائري تكونُ متخلخلةً ما لم تعزّزها مصادرُ قويّة مؤثّرة،(قوى سلطوية مثلاً). وهذا ما يثبتُ ضعفَ المناخ الموضوعي لبقاء واستمرار الحالة العشائرية بمقوّماتها التقليديّة، والتي تجاوزها الزمانُ وبكلّ المقاييس الاجتماعيّة والاقتصادية والفكرية والنفسيّة… إلخ. إذا حرصنا طبعاً أن نكون في سياق التطوّر الحضاري للمجتمعات.. وخاصةً مع بروز مفاهيم ذات آفاق مستقبليّة لم تتبلور تماماً كالنظام العالميّ الجديد أو العولمة.(7)

 

وبالعودة مرةً أخرى إلى قراءة الواقع الذي تنشطُ فيه الدعوةُ إلى العشائريّة، وخاصّةً في مجتمعنا الكرديّ، والكردي السوري خاصةً ماذا نلاحظُ؟

إنّ البيئةَ التي تنطلقُ منها هذه الدعوةُ تشملُ أفراداً يشعرون بصلةٍ ما مع عائلاتٍ ذات موقع ونفوذ من نوعٍ ما في ماضي العشيرة والعشائريّة ( حنين إلى إحياء ذلكَ الماضي العائلي)، وهؤلاء في الأغلب كما أسلافهم يعيشون صلةً ما مع مراكز القوى ( وخاصّة السلطويّة) داخلَ المجتمع أو خارجه. تتجلّى هذه الصلةُ بتبعيّةٍ في العلاقة الخارجيّة، ومحاولة احتواء في العلاقة الداخليّة، ومن ثمّ يستثمرُ هؤلاء (أو ينفّذون) سياسات السُلطات ذات التأثير في إثارة هذه الإشكاليات بشكلٍ مباشَرٍ أو غير مباشر، وذلك بالارتكاز- في القدرة على هذه الإثارة- على ما لدى الأجيال القديمة من رواسب الحياة العشائريّة، والتي تنعشُ طرداً مع انتعاش الحالة الحضاريّة، وذلك بسبب عدم قدرتهم على مواكبة هذا الانتعاش الحضاري، فيلجؤون كنوعٍ من التعويض إلى إنعاش اللحظات العشائرية من ماضيهم، والتي كانت مصدرَ ثراءٍ وحيويّة لحياتهم بمعنىً ما.

وأمّا المصلحةُ المُفترَضة، ورغمَ أنها قد لا تكون حقيقية- لسوء تقديرها- فإنها الخلفيّةُ القوية لمثل هذه الدعوة، وفي هذه الظروف بالذات، حيث السعي لتبلور مفهوم أوسع دلالةً وتأثيراً وهو القوميّة.. التي لا تلقى استحساناً من قوى كثيرة، وخاصّةً تلك المُنتفعة من بقاء الحال كما هو.

 

هل نتجاهل العشائريّة؟

نعتبرها مُلغاة مثلاً؟ بالطبع لا، فالعشائريّةُ حالةٌ اجتماعيّة ماضياً، ولا تزالُ تفاعلاتها مستمرّة، وخاصّةً على المستوى النفسيّ. وبحسب فهمي فإنّ ممارسةَ الحياة العشائريّة في إطار المشاعر والعلاقات الاجتماعيّة العاديّة (قليلة التعقيد) وبصورةٍ عفويّة بدرجةٍ ما تُعتبَرُ صحيحةً.

أمّا أن نلجأ إلى إحياء العشيرة تنظيماً، وتنشيط هذا التنظيم العشائري، فإنه أمرٌ يتنافى مع معطيات التطوّر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحضاري ككُلّ. فضلاً عن خطورتها في إعاقة التقاء أبناء الأمّة على الأهداف العليا. وبالتالي فإنّ مثلَ هذا الإجراء يعيقُ تطوّر المجتمع بوضعه حواجزَ، أو الأصحّ بإبقائه حواجزَ أمامَ هذا التطوّر، باعتباره حالةً كلاسيكية، جهدَ مجتمعنا كغيره لتجاوزها في الفترة الماضية.

 

محاذيرُ العشائريّة وخروجها عن نمطها وهدفها الأساسي

ولعلّ المشكلتين الأكثر أهميّة في هذا الإجراء هما:

  • إنّ قيادة العشيرة ستعودُ إلى أناسٍ لا يتمتّعون بالمؤهلات التي تتناسبُ القيادةَ، كالسويّة الثقافية والتطوّرية… مما لا يستجيبُ لمثل هذه الحالة القيادية بكلّ المقاييس، ما دامت لا تحسنُ قراءةَ الواقع الراهن لحالة التطوّر الحياتي بكلّ أبعاده.
  • إنّ العشائريةَ بنموّها الجديد خاصّةً تتعارضُ مع واقع العمل السياسيّ النضالي ومستلزماته، من وحدة الصفّ الاجتماعي على أساسٍ وطنيّ أو قوميّ أيضاً. وخاصةً وأنّ رموزَ العشائر بشكلٍ دائم- وفي تاريخ الكرد- لم يحسنوا التعاملَ مع القيم القوميّة وتجلّياتها التنظيميّة، بقصدٍ أو غير قصد.(8)

 

وإذا عدنا إلى قراءتنا لأولئك الذين يشجعون الظاهرة العشائرية، فإننا نستطيعُ التمييز فيما بينهم عبر الحالات الآتية بشكلٍ عام:

  • رموزٌ عشائريّة تستمدّ حالتها من إرثٍ عائليّ هو في حالات كثيرة نتيجة موقع مُكتسَب من السُلطات (آغا- باشا- مختار..) ولا تزالُ العلاقةُ في هذه الشريحة متّجهةً نحو المحافظة على صلاتها مع مراكز القوى المختلفة، وإن جاء ذلك على حساب الحالة القومية.
  • الشريحة التي ينضوي فيها الأفراد كبار السنّ، والذين يحنّون دوماً إلى حياة الشباب ومعطياتها الحيوية.
  • شريحة لا ترى من الحياة سوى ما يعود عليهم بالنفع (مالاً- شهرة)، وبالتالي فإنّ المنتمين إليها يتجاوبون مع أيّة دعوة يرون فيها تحقيقاً لشيء من هذه المنافع، ودون الوقوف عند نتائجها السلبية على المجتمع.
  • شريحةٌ فشلت في حياتها بشكلٍ ما، ولكي تستعيدَ بعضَ المكانة لتحقيق توازن نفسي أو مكاسبَ حُرمت منها نتيجة هذا الفشل، فإنها تتكالبُ على هذه الدعوة.
  • وربما شريحةٌ يعاني أفرادها من بعض الشعور بالوحدانية لغموض الانتماء العشائري، أو بعض من ذوي الميول الشاذة (عدوانية- لصوصية) فإنهم يجدون في مثل هذا التجمّع أو التكتّل عوناً لهم في حمايتهم من آثار سلوكهم، وقد خسروا هذه الحماية من القانون.

 

خاتمة

في عجالة كهذه لا يمكنُ تحقيق النتيجة المثاليّة لمثل هذه القراءة، ولكن استطعنا فقط تسليطَ الضوء على قضيّة ذات تأثير هام جداً في تركيبة المجتمع من جهة، وفي النتائج التي حصدَها هذا المجتمع من مختلف حالات تحرّكه تاريخيّاً. وإنّ الأملَ لينتعشُ لدينا في أنّ أقلاماً أخرى، ربما أكثر كفاءةً، ستتناول هذا الموضوع، وموضوعات أخرى لها أهميتها في حياة المجتمع وتطوّره.

 

ختاماً نقول: إن العشيرةَ والقبيلة والطائفة لم تزل قائمة في بنية مجتمعنا، كما أشرنا سابقا، وهي تمارسُ دورها الفاعل أفقياً وعمودياً في نشاط حياة الفرد ومؤسسات المجتمع اليومية، وإن مسألةَ إقصاء هذا النشاط كلياً عن الساحة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية أمرٌ لا يتم بقرار سياسي، أو بمرسوم، أو عن طريق الشعارات والتنظير الأيديولوجي المأزوم غالباً في بنيته الفكرية أمام قوة وحيوية معطيات الواقع المادية والفكرية معا، وخاصة حوامله الاجتماعية.

إن إزاحة أو إقصاء هذه المرجعيات التقليدية تتم بناءً على ما يتحقق من تحوّلات وتغيرات إيجابية عميقة في جملة الظروف الموضوعية والذاتية التي تصيبُ المجتمع المنتج لبنية هذه المرجعيات التقليدية بكل مستوياته، وذلك عبر مجاري وقنوات سيرورة وصيرورة هذا المجتمع، لتساهمَ في خلق بنية مجتمع جديد هو مجتمعُ الحداثة، أو مجتمعُ المدنيّة والمواطنة.

 

الهوامش

  • كتاب “الكليّات ” لأبي البقاء. المجلد3 ص 336 مطبوع وزارة الثقافة.
  • كتاب ” مختار الصحاح ” للرازي. ص 424. إصدار مؤسسة النوري للطباعة- دمشق.
  • مثل هذه النظرية كانت أساس العرقية النازية، والتي أنتجت هتلرَ ومفرزات قيادية، والتي عادت بالوبال على الكون كلّه.
  • هذا يعني عدمَ التشدد (أو اعتماد المرونة) في الدعوة إلى القومية أيضاً، أو أي نمط عرقي مبالغ فيه. أولاً لعدم وجود ما يثبت بشكلٍ قطعي هذا الأمر كحقيقة. وثانياً لأن التطور التكنولوجي وانعكاساته على حياة المجتمعات المختلفة يتجه نحو بناء تجمعات وتكتلات أوسع.
  • كتاب ” مانيفستو الحضارة الديمقراطية- أزمة المدنية وحلّ الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط ل(عبد الله أوجلان)- المجلد الرابع- ص57
  • نفس المرجع السابق- سوسيولوجيا الحرية- المجلد الثالث- ص233
  • هذه الحالة تنطبق على العشائر بنسب مختلفة طبعاً، الكردية وغير الكردية في سوريا وغيرها من البلدان.
  • بالعودة إلى مختلف الانتفاضات والثورات الكردية، يُلاحَظ الدور السلبي للحالة العشائرية في ديمومتها وفعاليتها، على الرغم من أنها- الحالة العشائرية ذاتها- ذات دور بشكلٍ ما في المساهمة في إعلانها وإشعال جذوة النار فيها، وذلك بسبب التناقضات فيما بين هذه العشائر. وبعبارة أخرى لارتهان دورها لأمزجة مسؤوليها غير المؤهلين مع أفراد عشائرهم لوعي الحالة السياسية في المراحل التي تمت فيها هذه الثورات والانتفاضات.

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى