تمهيد
التراث الثقافي في أيّ مجتمع كان ومهما كان هو شاهد حيّ على الدور الحضاريّ والثقافي لجميع شعوب العالم ودولها، كما أنه يُجسد الهوية التاريخية للشعوب والمجتمعات.
وكانت الشعوب على مرّ التاريخ تسعى دوماً لحفاظ على تراثها الثقافي إلّا أنّ بعض الثقافات كانت ضحية أفكارٍ دينية أو فكرية متطرفة، وكانت تلك الأفكار وماتزال تسعى إلى انصهار وإبادة ثقافات أخرى لإحياء ما تسعى إليه من أفكار متطرفة، والتراث الثقافي كان عرضة دائما لمخاطر الزوال، لذا كانت الشعوب وما تزال تناضل في سبيل الحفاظ على إرثها الثقافي.
إلا إن هنالك أسباب عديدة للانصهار الثقافي منها تعود على الشعوب نفسها من التخلف الاقتصادي والفكري ومنها تعود إلى سياسيات الدول القومية العنصرية (كتركيا وإسرائيل على سبيل المثال) ومنها تعود إلى الأفكار الجهادية (كداعش والنصرة) والدينية المتطرفة.
ورغم أهمية التراث الثقافي وما يعنيه في حياة المجتمعات إلا أنّه ليست هنالك ضوابط وقوانين دولية جادة للحفاظ على التراث الثقافي للشعوب، كون هذا التراث يمثّل جزءاً حقيقياً من التراث الثقافي العالمي.
مادّة الكاتب
إنّ التراث الثقافي بشقّيه المادّي والّلامادي، أينما كان يشكّل شاهداً حيّاً على الدور الحضاري والثقافي لشعوبٍ ودول، غالباً ما كانوا امتداداً لأجيال سابقة ومراحل متعاقبة, بالإضافة إلى الرباط الوثيق ما بين التراث والهوية الثقافية أو الذاكرة الجمعية لتلك الشعوب والمجتمعات والدول, ومن هنا نجد أن التراث الثقافي يجسّد بصدق الهوية التاريخية لأيّة أمّة أو شعب، وهو الشاهد الحيّ على عمق وقدم حضارات تلك الشعوب ورمزاً لتواصلهم التاريخي.
وخلال مراحل التاريخ، سعت معظم هذه المجتمعات، لاسيما المتقدمة منها، إلى الحفاظ على إرثها الثقافي، على الرغم من تعرّضها لأخطار وتحديات مختلفة وصلت أحياناً بحق بعضها إلى مرحلة التطهير الثقافي أو الإبادة الثقافية, كما حصل للهنود الحمر على يد الأوربيين الذين استوطنوا في أمريكا، إذ أجبروهم وهم السكان الأصليين على التخلي عن عاداتهم وثقافتهم ودياناتهم، ليتحوّلوا إلى مسيحيين ومزارعين أشبه بالبيض، أو كما فعل القياصرة الروس بحق اليهود في روسيا من خلال إكراههم على ترك دينهم ولغتهم وعاداتهم.
هذه المجتمعات وغيرها الكثير التي تمتد بتاريخها إلى آلاف السنين، واجهت جملة من المخاطر التي هددت بقاءها واستمرارها كشاهد على حضاراتها الإنسانية وذلك بمراحلها المختلفة, وغالبا ما كانت الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة تأتي في مقدمة هذه المخاطر التي تهدّد بنسف التراث.
لم يعد خافياً على أحد – ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين – ما يتعرض له التراث الإنساني في بلدان العالم الثالث – لاسيما البلدان الإسلامية – من طمس وتشويه وتحريف وتخريب وتدمير.
وتتعدّد الأسباب فمنها الجهل والفقر المنتشر في هذه المناطق، ومنها تنامي المدّ الجهادي وظهور الجماعات المتشددة (كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية داعش وغيرها) بالإضافة إلى أسباب أخرى متعلّقة بالحسابات السياسية لبعض الدول كإسرائيل أو تركيا التي تتحسسّ من الأقليات التي تعيش معها.
فأما الحركات الجهادية التي تتبنّى أفكاراً دينية متطرِّفة، فقد سعت جاهدة ضمن مناطق تواجدها وسيطرتها، للنَيل من التراث الإنساني – لاسيما اللامادّي منه -وفرض إيديولوجية خاصة بها تتماشى مع أهدافها وأفكارها الراديكالية, بالإضافة إلى محاولاتها المجدية في طمس التاريخ والثروات الأثرية، وكلّ مقومات الهوية الحضارية التي اكتسبتها الشعوب الأصيلة لتلك المناطق على مر السنين.
لم تأتلِ هذه الجماعات جهداً في تدمير التراث المادي أيضاً (كالمعابد والكنائس وبعض المساجد والأضرحة والمقامات العائدة لطوائف معينة) بحجّة أنّ تلك المعالم مخالفة للشريعة الإسلامية وأنّها تدعو إلى الشرك وأنها تشكل أوثاناً.
حيث قامت القاعدة وحركة طالبان بتحطيم التماثيل البوذية الضخمة في باميان في أفغانستان، وكذلك فعل تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة في كلّ من سوريا والعراق، حينما قامت بتدمير وتخريب الكثير من المواقع والمعالم والمدن التاريخية و الأثرية والمتاحف كمدينة تدمر التي تعتبر بمثابة متحف مفتوح، وكذلك مدينة موصل القديمة، التي تضمّ بين ثناياها عواصم آشورية قديمة كنينوى ونمرود وآشور وخورس آباد وغيرها من معالم الموصل القديمة؛ كالجامع النوري ومنارته الحدباء.
علماً أنّ هذه الجماعات نفسها كانت تسعى قدر المستطاع من الاستفادة من المردود المادي الضخم الذي كانت تجنيه من تعاملها مع الآثار، وكانت تسخّر الأموال الناجمة عنها في تمويل أنشطتها العسكرية كشراء الأسلحة والمعدات، وكذلك شراء الآليات، بالإضافة إلى تجنيد المقاتلين والجهاديين هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت هذه الجماعات تسعى بنفس الوقت إلى إضعاف السلطة في الدول التي كان تنتشر فيها من خلال ضرب الاقتصاد السياحي الأثري فيها, حيث أنّ هنالك الكثير من الدول التي تعمل على الترويج لتراثها الثقافي لِما لها من دور فعّال في تحسين الاقتصاد الوطني، حيث تساهم عائداتها في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
أما بالنسبة لبعض الدول كإسرائيل وتركيا فلم تختلف التجاوزات والانتهاكات التي ترتكبها عن تلك التي قامت بها تلك التنظيمات المتشدّدة بحق التراث الثقافي والإنساني للشعوب الأصيلة التي فرضت الظروف عليها بأن تحكم من قبل هذه الدول في إحدى الأيام.
فإسرائيل منذ نشأتها في العام 1948 عملت من أجل إنقاذ نفسها أو اثبات أحقيتها في الأرض التي أعلنت كيانها عليها – على ممارسة سياسات التشويه والتحريف بحقّ التاريخ و التراث الإنساني في فلسطين، وحتى هذه اللحظة تعمل على صهر ومحو الهوية الثقافية الفلسطينية وفرض هويتها الخاصة من خلال تهويد المناطق والقرى والمدن وحتى الشوارع ونهب وتدمير المواقع الإسلامية والمسيحية المقدسة وفرض اللغة والثقافة العبرية، مع العلم أن إسرائيل والفلسطينيين تربطهما علاقة عرقية وتاريخية قديمة.
تركيا بدورها والتي تتغنّى بالأمجاد العثمانية دوماً رغم تاريخها الحديث، وعلى الرغم من أنّها الدولة المغتصبة لأراض وثقافات غنية متجذرة في المنطقة سبقت قدومها بآلاف السنين، لم توفِّر لحظة واحدة في هدم تلك الحضارات والثقافات لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث عملت من ناحية على نسب الكثير من تلك الثقافات القديمة إلى أجدادها الطورانيين، ناهيك عن تشويهها الحقائق التاريخية لاسيما تلك التي لا تتوافق مع مصالحها السياسية، إلى جانب تدمير عشرات المدن والمواقع التاريخية والأثرية وتهجير السكان الأصليين من مدنهم وقراهم في محاولة لصهرهم ثقافياً كما حصل للأرمن وللكُرد في تركيا.
على الرغم من السعي الممنهج لبعض الجماعات أو الدول في تشويه وإضعاف وتدمير القيم والممارسات العائدة لأقليات أو مجموعات معينة لا تنتمي إليها، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى حد جرائم الإبادة الثقافية، إلّا أنّه لا يوجد في القانون الدولي أي نص صريح يجرِّم هذه الأعمال أو يضع حدّاً لها ،رغم إعلان اليونيسكو بشأن التنوع الثقافي واعتباره تراثاً مشتركاً وسعيها الدائم من أجل حماية هذا التنوع وصونه.
لاشك أنّ التراث الثقافي أينما كان يمثّل جزءاً من التراث الثقافي العالمي، وحمايته واجب أخلاقي وإنساني على الجميع، وهي مسؤولية الجميع دون استثناء، وذلك في وجه كلّ أشكال التشويه والتخريب والنهب والتدمير التي قد تطاله من قبل المسيئين والمستفيدين, باعتبار أنّ أيّ تعدٍّ على التراث هو بمثابة التعدّي على الذاكرة الجمعيّة للإنسانيّة، وبالتالي هذه التعدي من شأنه أن يقلّص من فرص تحقيق المصالحة بين الثقافات المختلفة ويضعف من إمكانية تعزيز الشعور بالهوية.