أحمد مصطفىمقالات

العيش المشترك تاريخياً داخل جغرافية كردستان!

أحمد مصطفى

بير رستم (أحمد مصطفى)

سنحاول من خلال هذا البحث- الوقوف على أحد خصائص الشعب الكردي والذي ربما يميزه عن عموم شعوب المنطقة ونقصد خاصية التسامح وروح التعايش السلمي ومحبة الآخرين، ليس انطلاقاً من تعصب قومي أو محاولة في “شيطنة الآخرين”، بل انطلاقاً من حقائق تاريخية ومقدّمات ثقافية جعل من الكرد يتميزون عن بقية شعوب المنطقة ببعض الخصائص الثقافية والاجتماعية، طبعاً لا نقول بأن تلك الخصائص لا تتوفر البتة في الآخرين، لكن ربما الكرد امتازوا بها وذلك بدرجة عالية في مسألة القبول بالآخر جاراً ينعم بالسلام داخل جغرافيات كردستان مع وجود بعض الحالات الاستثنائية والتي فُرضت أو أفتعلت بيد الآخرين وكان الكرد “جنود وبيادق” في معارك أولئك ضد خصومهم السياسيين _دينياً أو أقوامياً- لكن بالمحصلة فإننا إن نظرنا لجغرافية كردستان ووجود عدد من المكونات الأخرى داخلها مثل التركمان والآشوريين والأرمن والعرب واليهود في مرحلة ما وغيرهم من المكونات، لوجدنا أنّهم ينعمون بالسلام وذلك من الأغلبية الكردية الساحقة، طبعاً تبقى قضية التقلّص والتمدد الجغرافي للأقاليم قضية أخرى حيث نحن هنا نتحدث عن جغرافيات سياسية تعرف ببلاد الكرد أو كردستان مع وجود بعض الجزر داخلها من مكونات أخرى، لكن وقبل الخوض في موضوعنا الأساس لهذا البحث، نود الوقوف على جغرافية كردستان.

بخصوص كردستان يقول الكاتب زبير بلال إسماعيل في مقالة له بعنوان؛ “كردستان… متى ظهر هذا الاسم؟” منشورة في موقع (رأي اليوم) يقول فيها؛ “لمعرفة فترة تبلور ملامح وحدود انتشار الكرد ومنازلهم، لا بد لنا من العودة الى العهد الميدي. لا شك أن الدولة الميدية الصغيرة التي ظهرت في بعض البقاع المحيطة ببحيرة أورميا في أيام سرجون الأشوري (722- 705 ق.م) وضعت الملامح الأولى للوطن الكردي، فقد تأسست هذه الدولة على يد (ديوكو) الميدي ثم توسّعت في أيام ابنه (خشاترينا) المعاصر للملك الآشوري سنحاريب (705 – 681 ق.م) فامتدت رقعتها من همدان الى شرق نهاوند وحتى جنوب إيران. ثم قتل خشاترينا في سنة 653 ق.م فوقعت بلاد ميديا تحت حكم الاسكيثيين حتى سنة 625 ق.م ثم جاء ابنه كي اخسار (كى خسرو) الذي حكم بين (625 – 584 ق.م) فحرّر البلاد من احتلالهم، واستولى على جميع بلاد مناى (البلاد المحيطة ببحيرة أورميا)، وقضى على الدولة الآشورية بالتعاون مع الكلدان في سنة (612 ق.م) ثم على دولة أورارتو (البلاد الممتدة بين بحيرتي اورميا و وان) وكانت دولة أورارتو قد تأسست بين سنة (883 – 859 ق.م) على يد الملك الأورارتى (الخلدى) سردور الأول. ومَدّ الأورارتيون نفوذهم إلى حدود الدولة الآشورية حتى أصبحت المقاطعات الآشورية الشمالية الممتدة من شمال سوريا إلى نهر (خاليس= قزل) تحت نفوذهم في فترات ضعف الآشوريين”(1).

ويضيف “وكانت منطقة مصاصر (برادوست الحالية) ضمن نفوذهم وفيها مقرهم الرئيسي (خلديا) في سنة (590 ق .م) وأصبحت اكبتانا (همدان الحالية) عاصمة لمملكته المتحدة، ثم اندفع كي خسرو إلى الغرب نحو مملكة (ليديا) فالتحم مع قوّاتها في حرب طاحنة استغرقت خمس سنوات (590 – 585 ق .م) لكن دون نتيجة حاسمة. ثم تزوج استياكس ابن كي خسرو ابنة ملك ليديا (آسيا الصغرى) . وفي سنة (584 ق.م) تسلم استياكس العرش الميدي واتفقت الدولتان الميدية والليدية على أن يكون نهر الخالص (خاليس= قزل ايرمق) هو الحد بينهما، وباستثناء مملكة ليديا قسمت آسيا الصغرى والإمبراطورية الآشورية بين الميديين والبابليين (الكلدان) فأخذ الميديون القسم الشمالي بما فيه بلاد اّشور، وأخذ البابليون سوريا وفلسطين وجنوب وادي الرافدين وبلاد عيلام. ويذكر أن الميدين لكي يحتفظوا بمنفذ لتجارتهم من بوابة زاكروس (طريق خانقين) نحو البحر الأبيض المتوسط جعلوا نصيبهم من الإمبراطورية الآشورية القسم الشرقي من حوض دجلة، ثم سقطت الدولة الميدية في عام (550 – 549 ق.م) حيث دخلت ميديا ضمن ممتلكات الدولة الإخمينية وبذلك تكون الدولة الميدية قد عاشت حوالي 175 سنة”(2).

أما بخصوص مصطلح كردستان فيقول المصدر السابق: “ومهما يكن فإن مدلول لفظ كردستان وخاصة بعد سقوط الدولة الميدية لم يكن يعني جميع بلاد الكرد، ففي عهد الدولة اليونانية (331 – 248 ق.م) والفرثية (248 ق.م– 226 م) والساسانية (226 – 627م) والرومانية، لم تكن بلاد الكرد تذكر باسم خاص شامل لجميع أجزائها بل إنّ كردستان الوسطى منه معروفة باسم (أرمينيا)، كما أنه في صدر الاسلام في خلافة عمر بن الخطاب (رض) كان قسم كبير من الوطن الكردي جزءاً من إقليم أذربيجان وكان القسم الأوسط منه معروفا باسم (الجزيرة)، وبقيت هذه التقسيمات الإدارية نفسها بعد تحوير بسيط متّبع في عهد الأمويين والعباسيين، حتى أصبحت البلاد الكردية من الوجهة الإدارية تشمل معظم المقاطعات التالية (الجزيرة، ومنطقة حلوان في العراق) وملطية وتوقات وسيواس في بلاد الروم، ووان وبرذعة وتبريز وأردبيل ومراغة في إقليم أرمينيا، وموقان (موكان) أي (كورة الموغ وبين أدربيل ونهر الرس) في إقليم إيران، وسلطانية وهمدان وقرمبيسن (كرمانشاه) وأربيل وشهرزور في إقليم الجبال، ومهما يكن فإنّه لم تكن هناك وحدة إدارية تحت اسم (كردستان) قبل العهد السلجوقي، وإنّ لفظة كردستان أطلقها السلاجقة على البلاد الواقعة في غربي إقليم الجبال التي كانت تابعة لمقاطعة مستقلة سميت بكردستان”(3).

ويقول الكاتب أيضاً؛ “تقع أرض الكرد (كردستان) في الشرق الاوسط من آسيا الصغرى، وهي تؤلف من الناحية التاريخية والموضوعية أرضاً واحدة، فإنّه بالوسع أن نرسم الحدود بشكل تقريبي كما يلي: يبدأ خط مستقيم عند قمة أرارات في الشمال الشرقي ينحدر جنوباً الى الجزء الجنوبي من زاكروس وبشتكوه، ومن تلك النقطة نرسم خطّاً مستقيماً الى الموصل في العراق، ثمّ خطّاً مستقيماً نحو الغرب يمتد من الموصل الى المنطقة التركية من لواء الإسكندرون، ومن تلك يمتد خط نحو الشمال الشرقي حتى أرضروم في تركيا، ثم من أرضروم يمتد الخط نحو الشرق الى قمة آرارات. إنّ المساحة الكلية لكردستان تبلغ زهاء (409,650) . وقدرها بعض الأوساط الكردية (المعهد الكردي في باريس عام 1949) بـ (500 الف كم 2). وقدّرها (لـ. راميو في كتابه الأكراد، باريس 1949) بـ (530 الف كم2). وهناك (194,400 كم2) من المساحة المذكورة في تركيا و(950, 124 كم2) في إيران و(72,000كم2) في العراق و(18,300 كم2) في سوريا. ويبلغ طول كردستان من الشمال الى الجنوب ألف كيلومتر. أما معدل العرض فهو 200 كم في الجزء الجنوبي، ثم يتزايد شمالاً حتى يبلغ 7500كم، وكلمة كردستان لا تستعمل رسميّاً إلا في إيران حيث تطلق على إقليم (سنه) من كردستان الإيرانية، ولو أن كردستان هي القسم الغربي من إيران ويقطنها الكرد، لكن المنطقة التي يقطنها السنه من الاقليم الغربي هي التي تسمى بكردستان، وإنّ عامة الناس يطلقون اسم كردستان على بلدة (سنه). إنّ كردستان تسمى في إيران (الغرب) وفي العراق (الشمال) وفي تركيا (الأناضول الشرقي والجنوب الشرقي)”(4).

وهكذا فإنّ مساحة كردستان الشاسعة من جهة، والبالغة بحدود خمسمئة ألف كيلو متر مربع، وكذلك دخول شعوب المنطقة في حروب ومعارك عديدة، إن كانت دينية أو اقتصادية وأخيراً الهجرات وحياة الترحل والبدو وذلك قبل حياة التمدن والاستقرار، جعلت أن تتواجد مكونات أخرى مختلفة داخل هذه الجغرافية التي تعرف اليوم بـ”كردستان” وإن لم يقم كيان سياسي باسمها، لكن وكما نعلم فقد باتت واحدة من الجغرافيات المتداولة سياسياً وإعلامياً ويسكنها أغلبية ساحقة من الكرد مع وجود -وكما قلنا- جزر أقلوية من أعراق وقوميات أخرى تواجدت إمّا نتيجة الهجرات والتنقل أو الحروب والمعارك التي جعلت من بعض الجغرافيات تتمدد داخل جغرافيات أخرى، وكذلك بحكم بعض السياسات والحكومات التي كانت تستعين ببعض المكونات المقربة منها؛ مثل التواجد التركماني في كركوك بفعل اعتماد الدولة العثمانية على العنصر التركي-التركماني وجلبهم من أواسط آسيا وبعدهم جاء المكون العربي الذي وطّنهم حكومة البعث الصدامية بهدف التغيير الديموغرافي، وذلك على غرار ما يحصل اليوم في منطقة عفرين من قبل الدولة التركية بعد احتلالها في 18 آذار عام 2018م حيث وللأسف مارست ومازالت تمارس هذه الحكومات ممارسات تجعل المناطق الكردية جزء من ولاءاتها، وذلك من خلال تغيير مكونات المنطقة بأخرى موالية لها سياسياً وثقافياً!

لكن ورغم كل تلك السياسات العنصرية، وكذلك الحروب والنزاعات التي نشبت بين دول وإمبراطوريات المنطقة إلّا أنّ كردستان وفي أيام السلم والاستقرار كانت تمتاز بما يسمى اليوم بـ”العيش المشترك” بين مكوناتها، وكمثال على ذلك يمكن أن نأخذ مدينة كركوك مثالاً في العصر الحديث – وحتى القديم – حيث ورغم كل سياسات البعث والنظام العراقي السابق؛ “نظام صدام حسين الدموي” وسياسات التنكيل بالكرد، إلّا أنّ المدينة وحتى بعد تحريرها على يد القوات الكردية وذلك إبّان الانتفاضة عام 1991م ثم سقوط النظام العراقي البائد على يد قوات التحالف الدولي عام 2003م، إلّا أنّ المدينة لم تشهد أيّ عمليات انتقام من جانب الكرد ضد المكوّنيين الرئيسيين الآخرين في المدينة، ونقصد التركمان والعرب، بل ما زالت مكوناتها تتعايش أخوياً، وإن كانت هناك دول إقليمية وكذلك المركز بغداد، يحاولون تأليب مكوناتها ضد الكرد وإقليم كردستان وخاصةً بعد عملية الاستفتاء واستيلاء بغداد مع الحشد الشعبي عليها، وتقول إحدى الدراسات بخصوص مدينة كركوك وهي بعنوان؛ (الوضع القانوني لمدينة كركوك في ظل العراق الفيدرالي) ومنشورة في موقع “حكومة إقليم كوردستان” ما يلي:

“تعتبر مدينة كركوك من المدن المهمة والحيوية في العراق تبعاً لعوامل متعددة، لعلّ من أهمها الثروة الطبيعية التي تكمن في باطنها من البترول والغاز الطبيعي وخصوبة أراضيها الزراعية، وكذلك لقدم تاريخ المدينة التي تدل عليها شواهد الآثار وما تناقلته الكتب عن تاريخها من بين المدن العراقية، هذا بالإضافة إلى موقعها الجغرافي والتجاري المتميز فضلاً عن مميزات التسامح والتعايش والوئام بين الأديان والمذاهب المختلفة والأعراق من الكرد والعرب والتركمان والآشوريين والأرمن، كما ضمّت المدينة تعايش المسلمين والمسيحيين واليهود جنباً إلى جنب حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تاريخ تهجير اليهود من العراق بعد ظهور مشكلة فلسطين وقيام الحكومة العراقية بإسقاط الجنسية عنهم. وهذا التعايش والوئام جنباً إلى جنب بين القوميات والأديان ظل قائماً رغم محاولات الأنظمة السياسية في العراق اتباع نهج سياسة التمييز والتطهير العرقي وبخاصة سياسة التبعيث في عهدَي حكم البعث بفعل النظرة الشوفينية لقادة النظامين من العرب في الفترة الأولى عام 1963 ومن الفترة الثانية 1968- وحتى تاريخ سقوط النظام في 9 نيسان 2003 وتحرّر العراق من الاستبداد وحكم الطاغية بفعل دعم قوات التحالف للقوى الوطنية العراقية وللشعب العراقي”(5).

طبعاً كركوك ليست هي الاستثناء في واقع كردستان، بل هناك مناطق عديدة في الجغرافية الكردستانية تشهد على التعايش المشترك بين مكوناتها الدينية والأقوامية العرقية ومنها وعلى سبيل المثال منطقة الجزيرة في سوريا – قامشلو- حيث عَرفت المدينة وما زالت تعرف عدداً من المكونات المختلفة إلى جانب المكون الأساسي؛ أي الكرد، حيث ومن المكونات الأخرى لدينا الأخوة الآشوريين والعرب قومياً، وهناك الإسلام والمسيحية والإيزيدية، كما كان هناك اليهود أيضاً، لكن الصراع العربي الإسرائيلي والحكومات العربية القومية، وسحب الجنسيات من هؤلاء، وتعرّضهم للقمع مع تقديم إسرائيل وحكومات غربية امتيازات لهم، دفعهم للهجرة والاستيطان في إسرائيل/فلسطين. ما نودّ التأكيد عليه؛ بأنّه ليس فقط كركوك أو قامشلو تستفردان بالعيش المشترك والأخوي بين مكونات عرقية ودينية متنوعة إلى جانب المكون الكردي الأساس للمنطقة، بل إنّ جغرافية كردستان فيها تنوّع ثقافي ديني قومي ومكوناتها تاريخياً لم تتعرّض للظلم والقمع على يد المكوّن الرئيسي؛ الكرد إلا في بعض المنعطفات التاريخية، كما حصل مع الأخوة الأرمن، وذلك خلال الفترة الأخيرة من انهيار الخلافة العثمانية وولادة “الدولة التركية الحديثة” على يد (مصطفى كمال أتاتورك) حيث – وللأسف – تمّ استخدام بعض الكرد ضد الأرمن في مجازر الدولة التركية، وكان هؤلاء يستخدمون كمسلمين – ونقصد أولئك الكرد المخدوعين – وليسوا كرداً وذلك حينما خدعتهم القيادات العثمانية والتركية؛ بأن عدوهم المشترك هم الأرمن “الكفار” وبأنّهم على دين واحد مع الكرد، وبالتالي يجب المشاركة معاً في التخلص من أعداء الدين الإسلامي، ولذلك يمكننا القول: ألّا تبعات حقيقية على الكرد، بل على أولئك المسلمين من أصول كردية.

وهكذا فإن التسامح الكردي وكما يقول الكاتب والصديق صالح بوزان في مقالة له بعنوان: (العفو الرئاسي والتسامح الكردي)؛ “يعتبر .. أحد خصائص البنية النفسية للشعب الكردي” ليضيف ” وبالرغم من أنّ هذه الخاصية هي قيمة إنسانية عالية، إلّا أنّها جلبت للأكراد كوارث ومصائب كثيرة عبر التاريخ، ولا سيما في التاريخ المعاصر، فقد استغلّ الحكام المعاصرون في البلدان التي يغتصبون فيها الحق الكردي هذه الخاصية بذكاء لتمرير مظالمهم المتكررة، فبمجرد أن يعلن أحد هؤلاء الحكام عن موقف إيجابي تجاه الأكراد، يسارع هؤلاء إلى نسيان تلك المظالم، ويدفنون قتلاهم في ضمائرهم لتهيئة نفوسهم لمرحلة جديدة”(6). نعم وللأسف فقد تمّ استغلال هذه الخاصية والسلوك الإنساني النبيل من قبل الآخرين للنيل من شعبنا، ورأيناه في عدد من المحطات التاريخية، كما مؤخراً في كل من كركوك وعفرين حيث وفي الأولى ورغم أن ظروف الحرب وفّرت المناخات والأجواء للكرد للانتقام من العرب – الذين جلبهم صدام حسين – وبالتالي ترحيلهم لمناطقهم الأصلية، إلّا أنّهم تعاملوا بتسامح وربما بضعف وخطأ سياسي كبير حيث وعندما سنحت الظروف لهؤلاء – مع استثناءات- فقد مارسوا كل الموبقات ضد الكرد مع دخول الحشد الشعبي للمدينة، وذلك إبّان استفتاء إقليم كردستان على الاستقلال، وكذلك وجدناها – وما نزال – في عفرين حيث أنّ الحرب كانت قد أجبرت الكثير من العوائل العربية على الاستقرار في المنطقة هرباً من براميل النظام أو سيوف داعش، لكن وعندما تمّ احتلال المنطقة من قبل مرتزقة تركيا وجيشها، فإنهم وقفوا مع أولئك المعتدين وارتكبوا معهم الكثير من الانتهاكات في قتل ونهب ممتلكات المواطنين الكرد؛ سكان المنطقة الأصليين.

واعتماداً على ما سبق بخصوص موقف الكرد من المكونات الأخرى فإننا يمكننا قراءة التجربة السياسية الجديدة في شمال شرق سوريا أو ما يعرف بـ”شرق الفرات” ومناطق الإدارة الذاتية -روجآفا- حيث حينها سنقف وبجلاء تام على حقيقة التسامح والعيش المشترك بين مكوناتها وللتأكيد أكثر يمكن الاستشهاد بما رأينا جميعاً؛ بأن المناطق التي كانت تشهد المعارك والحروب قد كانت المكونات المختلفة تفضل اللجوء إلى المناطق الخاضعة لقوات الحماية الشعبية – حتى قبل أن تتشكل قوات سوريا الديمقراطية – وليس إلى المناطق الخاضعة للنظام أو للمعارضة السورية الخاضعة لتركيا، ناهيكم عن “داعش” وباقي المجاميع السلفية الجهادية والتكفيرية، وهذه بحد ذاتها تأكيد على خاصية التسامح الأخوي لدى الشعب الكردي، بل إن المشروع السياسي للمنطقة وانطلاقاً من قراءات وأفكار أوجلان، بات يشكل أحد الحلول والأطروحات المستقبلية لسوريا والمنطقة عموماً وذلك من خلال مبدأ “أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية” ويقول السيد ألدار خليل في هذا الخصوص؛ “إن ثورة روج وانطلاقاً من رؤى أوجلان انتهجت الخط الثالث وتمكنت من الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة من خلال بناء الإدارة الذاتية وتمكين الشعب من إدارة نفسه بنفسه” ويضيف؛ “إن نضالنا وحربنا ضد مرتزقة داعش دفع القوى العالمية لدعمنا ومساندتنا، وفي النتيجة وكما نرى فإن الكردي والعربي والتركماني والسرياني والشركسي وجميع المكونات يحاربون معاً ضد الإرهاب وفي جميع المناطق سواء في الرقة أو منبج أو كرى سبي أو الشدادي، يعني أن أفكار أوجلان حول وحدة وأخوة الشعوب تطبق عملياً في شمال سوريا”(7).

إذاً يمكننا التأكيد بأن مسألة “العيش المشترك” ليس إدعاءً كردياً لتجميل صورة أمة وشعب، بل كان سلوكاً وأخلاقاً اجتماعية على مرّ التاريخ والعصور لتكون بالأخير مشروعاً سياسياً لأحد أهم القوى والأطراف الكردستانية وهو حزب العمال الكردستاني اعتماداً على قراءات وفكر السيد عبدالله أوجلان زعيم المنظومة السياسية العمالية والمعتقل في السجون التركية منذ عقدين من الزمن، طبعاً المشروع السياسي القائم على مبدأ “أخوة الشعوب” ليس جديداً على شعبنا وإن كان الجديد فيه هو بلورته كمشروع سياسي بديل عن المشاريع السياسية الأخرى؛ القومية والدينية حيث رأينا بأن على مختلف المراحل التاريخية السابقة وبكل جغرافيات كردستان فقد حملت الأحزاب والقوى السياسية الكردية شعارات تنادي بالأخوة، منها مثلاً “الأخوة العربية الكردية” لدى أطياف الحركة السياسية الكردية في سوريا، بل كان خطاب الرئيس بارزاني في لقائه مع “المكونات الأقلاوية” في إقليم كردستان وقبل الاستفتاء بيومين واضحاً وذلك عندما قال؛ بأن “دولة كردستان القادمة لن تكون قومية، بل فيدرالية ديمقراطية لكل مكوناتها المجتمعية”. وهكذا فإن قضية الديمقراطية والتسامح والعيش المشترك هي واحدة من أهم السمات الأساسية لشعبنا وعلى طول الحقب التاريخية المختلفة، مما جعلت كردستان وتاريخياً تصبح حوضاً ثقافياً لمختلف ثقافات المنطقة وشعوبها!

والسؤال الذي يمكن أن يتبادر لذهن الكثيرين هو؛ ما هي العوامل والأسباب التي جعلت من الكرد شعباً يتميّز بهذا السلوك الأخلاقي النبيل وذلك بخصوص قضية القبول بالآخر؟ بقناعتي وللإجابة عليه فقد نحتاج إلى بحوث ودراسات أخرى للوقوف على المسألة، لكن وبإيجاز يمكن حصر هذه الخاصية في السلوك الفردي والمجتمعي لدى الكرد بعوامل ومحددات أساسية وأهمها هي:

– التراث الفكري والثقافي؛ الديني والشعبي لدى الكرد والقائم على التسامح والمحبة والأخوة حيث إن عدنا لكل من الإيزيدية والزرادشتية وكذلك للتراث والملاحم والحكايات الشعبية في التراث الكردي لوجدنا بأنها في أغلبها تدعو إلى المحبة والتسامح، وذلك بعكس بعض الثقافات الأخرى التي تدعو للغزو والنهب والسلب وقتل الآخر.

– غياب الدولة الكردية ووقوع الكرد لفترات طويلة تحت الاحتلال جعل من الشخصية الكردية شخصية مرتبكة خائفة وضعيفة غير قادرة عسكرياً – بالعنف – للتصدي للأعداء، فكان لا بد من إيجاد طريقة أخرى لتكون قادرة على الحفاظ على النوع والاستمرار بالعيش، فكانت الدعوة لثقافة المحبة حيث دائماً -أو على الأقل غالباً- الضعيف هو من يدعو إلى التسامح والتصالح وذلك بعكس القوي القادر على فرض إراداته على الآخرين.

– جغرافية كردستان نفسها والتنوع الحيوي الطبيعي بين سهول ووديان وجبال ومناطق تضم أنواعاً مختلفة من الكائنات والحيوات الطبيعية من نباتات وحيوانات، جعل في العمق النفسي ووعي الإنسان الكردي؛ بأن الحياة تعتمد على التنوع والاختلاف والتشارك وذلك على العكس من الأجواء والبيئات الصحراوية التي ميزتها الأساسية هو الصراع مع الآخر لأجل البقاء حيث تجد بأن القبيلة تغزو القبيلة الأخرى للاستيلاء على واحاتها وسبل رزقها، وعندما تستنفد خيراتها ويصيبها الخراب بفعل الرعي والاستهلاك يتم البحث عن واحات أخرى.

– التعدد الثقافي واللغوي في المجتمع الكردي، كون ونتيجة وقوع كردستان جغرافياً وسياسياً بين مناطق مختلفة ثقافياً حضارياً وذلك بفعل التقسيم والاحتلال أصبح الكرد على تماس مباشر مع ثقافات متعددة مثل التركية العثمانية والعربية الإسلامية والفارسية الإيرانية وكذلك الآشورية بشكل أقل بحيث جعل ذاك التماس والتعدد اللغوي والحضاري قضية التنوع واحدة من سمات واقع كردستان مجتمعياً وثقافياً وبقناعتي فإن هذه أيضاً قد خلقت أرضية قوية في سلوكية الفرد الكردي للقبول -وإن كان على مضض- بالآخر.

وبالأخير يمكننا القول؛ بأن دائماً هناك لحظة أو مرحلة تاريخية تحمل في داخلها حالة ولادة جديدة حيث رأينا ذلك في ولادة الدولة العربية الإسلامية مع ظروف تاريخية محددة بالبيئة الاجتماعية لقريش فكان مشروع محمد والإسلام ورأينا ذلك أيضاً من خلال المشروع الماركسي اللينيني مع ما عرف بالثورات الاشتراكية والاتحاد السوفيتي ليتسيّد الروس على نصف جغرافية أوروبا، فهل نقول قد حانت لحظة الولادة الكردية من خلال مشروع “أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية”.. ربما تكون الإجابة على ذاك السؤال في بطون السنوات القادمة.

…………………………………..

الهوامش:

(1)- مقالة للكاتب زبير بلال إسماعيل بعنوان؛ “كردستان… متى ظهر هذا الأسم؟” منشورة في موقع (رأي اليوم).

(2)- المصدر السابق.

(3)- المصدر السابق.

(4)- المصدر السابق.

(5)- دراسة بعنوان؛ (الوضع القانوني لمدينة كركوك في ظل العراق الفيدرالي) منشورة في موقع “حكومة إقليم كوردستان”.

(6)- مقالة للكاتب والصديق صالح بوزان بعنوان؛ (العفو الرئاسي والتسامح الكردي) منشورة في “موقع الحوار المتمدن” العدد 1159 عام 2005.

(7)- مقالة للسيد آلدار خليل بعنوان؛ (آلدار خليل: أفكار أوجلان حول أخوة الشعوب تطبق في شمال سوري) منشورة في موقع خبر24.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى